قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
اصناف
لكن في بغداد الجديدة نواحي تبشر بالخير، الأولى في الباب الشرقي على طريق الكرادة، تشقها جادة عريضة ذات اتجاهين، للذاهبة من السيارات والعربات وللآتية، وبين الطريقين جنينة مستطيلة ستغرس فيها الأشجار. فمتى كملت هذه الجادة ببيوت حديثة الهندسة وبستانها المقطع المستطيل، وكمل بناء الشوارع إلى جانبيها، تضحي الناحية مما يحق لبغداد أن تفاخر به.
وفي شمال الرصافة إلى جانب النهر ناحية أخرى جديدة هي الفيصلية، تزينها روضة عمومية، وهناك كذلك العيواضية التي ظهر من عمارها وتخطيطها حتى اليوم ما ينبئ بما سيكون من جمالها المدني. إن في هذه النواحي الدليل على أن أمانة العاصمة عازمة على إثبات وجودها، وتعزيز أسباب الصحة والراحة والجمال في المدينة.
بقي أن أشير إلى مظهر من التجديد أوحت به الوطنية العراقية العربية، فقد بدأت أمانة العاصمة تطلق أسماء عربية على الأسواق والجادات، وأن وطنيتها في هذا الأمر لتستوحي ربة الشهرة في جميع منازلها، العباسية والأموية، السنية والشيعية، الأدبية والدينية والسياسية. أجل، إن اختيار أمانة العاصمة يشف عن ذوق شامل دقيق، وعن حكمة بليغة، مثل ذلك الجادة التي نشأت إلى جانب النهر، من باب شرقي إلى الكرادة، والتي ستصبح المتنزه الأول في بغداد، فقد أطلق عليها اسم أبي النواس، وأحسن من هذا في لباقة الاختيار الاسم الذي أطلق على سوق الصرافين، وهو اسم الشارع العربي اليهودي السموأل، فحبذا الشعر والشعور في حياة هذا الشارع، وحبذا الوفاء، على أن أمانة العاصمة أرادت من الاسم، على ما أظن، ما يرمز إليه عنصر صاحبه.
هي دعابة مستحبة، وإن كانت من الحكومة، بل هي في الحكومات شيء جديد، وإنك لتجد خارج السور مثالا آخر منها. هناك، شمالي البلاط الملكي، إلى جانب طريق الأعظمية، في بستان كبير من النخيل، شيدت كلية آل البيت، منذ عشر سنوات؛ لتدريس العلوم الإسلامية، ففتحت أبوابها للطلاب نحو سنتين، ثم أقفلت، وهي اليوم دار البرلمان العراقي. من العلوم الإسلامية علم الكلام - الذي يدعى عند المسيحيين اللاهوت - فمن علم الكلام الديني، إلى علم الكلام المدني لا يزال موضوعنا الكلام. إلا أن الانتقال من كلية آل البيت إلى البرلمان يعد جديدا، وقد يكون - وقد لا يكون - مفيدا. •••
تعال أريك من الجديد ما لا ريب في خيره، تعال أريك آية الجمال في الجادات. من بغداد إلى الهنيدي - مركز الطيران الإنكليزي السابق، العراقي الآن - مسافة تنيف على خمسة أميال، طريقها مفروشة بالأسفلت، ومزدانة إلى الجانبين بصف متواصل من شجر الدفلى. إن هذه الطريق في الربيع، يوم يكون الدفلى الزاهر في مجده، لأجمل ما يبتغيه المرء من نزهة في ضواحي بغداد. وإن شئت إطالة السرور فالعربة خير من السيارة.
وقبل أن أختم هذا الفصل، ينبغي أن أقول كلمة في المثال الحي المنظم للجديد المفيد - وفي بغداد منه شيئان - الشرطة والسجن ، إني محب لشرطي بغداد، معجب به، لا لأنه صورة مصغرة لشرطي لندن؛ بل لأنه وإن كان دون الإنكليزي في قامته، فهو صنوه في التيقظ والنشاط، وفي اللطف والمعروف، كما هو في حركاته ووقفاته، وفي ملابسه الأنيقة.
والغريب العجيب، أني ما سمعته مرة يرفع صوته مهما كان من المخالفة أو العراك، فأين الصوت البغدادي الجهوري، بل الصوت العربي العريض؟ إن في الشرطة كثيرين من الذين لم يألفوا النظام؛ أي من الأسر الطيبة ومن العشائر، وهم اليوم من أرباب النظام. لله ما يفعله التعليم والتدريب! ما رأيت شرطيا في ثوب مفتقر إلى التنظيف، أو بوجه يحتاج إلى الموسى، وما سمعت شرطيا يشتم المخالف أو يسبه ويتحكم فيه، وقد قال لي العارفون: إن شرطي بغداد نزيه عفيف، لا تمسه الرشوة، ولا تثنيه عن واجبه المغريات والتوسطات.
إني أهنئ بغداد بشرطتها، وأهنئ أولئك الذين جاءوا من وراء البحار معلمين، فانصرفوا إلى مهنتهم الشريفة، دون أن يتدخلوا في السياسة، فعلموا، ودربوا، ونظموا، فحببوا مهنة الشرطي حتى إلى أبناء العشائر.
أما المثال الآخر فهاكم في سجن بغداد، قد زرت السجن مترددا، وخرجت منه حائرا في ما عراني من دهشة يتخللها التسآل، وإعجاب يبطنه الريب، فهل من الحكمة أن تحسن السجون فتغدو كالفنادق، بل أحسن منها في النظافة، وفي حظها من النور والهواء؟ وهل تقل في مثل هذا التحسين الجرائم؟ وبكلمة أخرى هل يصلح المجرم حاله إذا أحسن إليه في سجنه، فيخرج منه نادما على ما فعل، عازما أن يلزم، بقية حياته، الصراط المستقيم؟
سئل هذا السؤال أحد مديري السجون فقال: إن التحسين واجب؛ لأن العقاب المقرون بالمعروف يصلح قسما كبيرا من المسجونين، أما الباقي منهم، وهم المدمنون الإجرام أو المطبوعون عليه - يخرجون من السجن اليوم ويعودون غدا - فهؤلاء لا يصلحهم عقاب مهما كان من المعروف أو من القسوة في تنفيذه، فالإعدام خير لهم - خير لهم وللأمة.
نامعلوم صفحہ