قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
اصناف
على أنه قبيح بنا ذم «قصر دجلة» ما دام يوسف الكلداني التلكيفي مديره، وما دام المعاونون والخدم من إخوانه الكلدانيين التلكيفيين. فإن أبناء تلكيف متصفون معروفون؛ حيث كانوا بالنشاط والإقدام، والصدق والاستقامة، واللطف والتهذيب. تلك هي الحقيقة. وليس في «قصر دجلة» ما قد يكون شائنا لسمعته ولفضائله غير ذلك ال «بار» الأمريكي، الحافل بالكئوس والقناني، المغري بابنة الدالية، وابنة الشعير الغالية، وبكراسيه العالية. ذلك ال «بار» الذي يديره ابن عم يوسف، الحذق اللبق، البسام على الدوام، فيمزج العقيق والذهب والمرجان - الوسكي والرم والجن والجان - ولا يبالي بما يكون من شأنها في رءوس الشبان، المسلمين والكلدان، الذين يتهافتون على «نعيمه»، تهافت الذباب على أديمه. فيا يوسف، ويا ابن عم يوسف، ارفقوا في الأقل بالشبان العراقيين، وفرغوا زجاجاتكم في بطون البريطانيين.
ولا تتشبهوا في مطبخكم بهؤلاء الإنكليز، الذين قد يحسنون كل شيء في الحياة، إلا الأكل وفن المطبخ، فيسلقون الخضر ويحسبونها مطبوخة، ويشوون اللحوم، ويقدمون معها الأبازير والسوائل المقبلة ليكمل طبخها الضيوف، كل على مائدته. والعجل والثور والخنزير، يا يوسف، إنك فيها عدو العرب، تجيء بالثور في التنك، وتجلب الخنزير بالصناديق، وتطبخ منها وتقدمها - باردة - لأبناء لندن ولا بأس - وتفسد بها - ولا رحمة في قلبك، ولا رحمة عليك - معد العرب وأذواقهم - ودينهم! وماذا يفعل خس بغداد بخنزير يور كشير؟ وما لذة الحبارى، يا ابن تلكيف، وهي تستحيل في مطبخك قطعة من ال «روس بيف»؟
أما الخدم فإنهم جديرون بالثناء لما يحسنونه من الخدمة، ولما فطروا عليه من اللطف والمعروف. ولكننا نتقزز من الساكو البيضاء في النهار، ومن الثوب الأسود الرسمي في الليل، ونحن في بغداد، يا يوسف، لا في لندن، والثوب الرسمي للخدم، إن كان يفتقد الأجسام المعد لها، اللائق بها، وكان يفتقد النظافة والكي بالمكواة الحامية كل يوم، فهو شيء فظيع، ولا نظن أن الإنكليز أنفسهم يستأنسون به، ويرضون عن لابسه. فلو استغني عنه في نزل بغداد، وألبس الخادم ثوبا وطنيا، أو ثوبا نوبيا؛ أي مصريا - قفطانا أبيض ومنطقة حمراء - لكان ذلك أكثر ملائمة للمكان، وألطف في نظر الضيوف وأجمل. ما سوى هذا فإن نزل يوسف لخير النزل ببغداد.
أما الشارع الجديد - شارع الرشيد - فقد زال منه الغبار، دفن تحت صفحة من الزفت، وهذا من حسناته الحديثة، لقد شط القلم في «حسناته» وليس هناك ما يجيز الجمع. ذلك أن البنايات الجديدة، وأكثرها في جهة باب شرقي بنيت على الطريقة القديمة، التي لا تعرف النظم المدنية، فهي تحترم الرصيف مرة، وتثلم عرضه - بضم العين وبكسرها - مرات. إن هذا الشارع لا يزال كالمنشار في نتوئه وفتوقه، وفي عماره وخروقه، أما المقاهي فيه، فقد ازداد عدد تلك التي لا يتقزز المرء منه.
وقد ازدادت كذلك الضوضاء في شارع الرشيد، فقد وصلت السينما الناطقة إلى بغداد، وشرعت الفونوغرافات والمكبرات ترسل في الشارع ألوانا من مكربات الألحان والصيحات. تعالوا اسمعوا، يا أهل بغداد، صياح الأمريكيين في ساحات كرة القدم واللكام، تعالوا اسمعوا المدنية الغربية تعج وتثج - ليت شعري - بأصوات البغداديين ما تكون عندما تغزو بغداد كرة القدم والملاكمة، ويجن أهل بغداد جنون أولئك «البرابرة» عبر البحار، باللكام ولعب الأقدام! هي المدنية الغربية، ولا مهرب منها.
وهذه البصات منها، وهي تزيد بازدحام شارع الرشيد وبضوضائه وروائحه، أما السيارات ذات العداد فقلما تجدها، وأما الخصوصية فهي في بغداد، في كل العراق، لا تتجاوز الألفي سيارة، وأكثرها قديمة أو أنها لا تلبث أن تصير كذلك لقلة الاعتناء بها. وقلما يفطن السائق أو صاحب السيارة أن غسلها كل يوم هو ألزم ما يلزمها في بلاد مثل العراق غبارها كثير.
إن العربات من هذا القبيل خير منها، وقد تقول إذ تراها: إنها من عهد سحيق، ولكنك بعد أن تركب فيها - اللهم إذا كنت ممن لا يعدون الدقائق والساعات - ترضى عنها، وتقول: خسئت يا سيارة!
فالمجلس فيها أحسن مما يبدو لناظريك؛ لأنه نظيف وثير، والخيل تجري جري الأصايل، وإن لم تكن منها.
إلا أن حال الخيل يسوء عندما يرش الشارع بالماء، فيجر الجري البلاء عليها، أو بالحري يجرها إليه؛ ذلك أن هواء بغداد يحمل دائما من دقيق الغبار ما يفرشه في الشارع، فيستحيل إذ يمسه الماء وحلا رقيقا زلجا، وعندما تكون الخيل جارية جريها المعتاد ربعة - وقلما تراها ماشية - فترتفع فجأة أمامها يد الشرطي لتوقفها، فيقصر السائق العنان في الحال وبقدر ما تلبيه قواه، تزلق الخيل زلقة هي القرفصاء بعينها، فتكاد تدخل في العربة ولولا العريش تصير تحت دواليبها، لاحظت ذلك غير مرة، ولفت نظر رفيقي إليه، فابتسم وما شاطرني في تلك الحال شعور الرفق بالحيوان، قلت: إن الملازم سردست قليل الكلام، وهو لا يؤخذ بالأوهام، ولا يروقه حتى الشعري من الخيال، دقيق النظر على قدر ما يمد نظره، صريح القول في ما يعلم ويرى، وقد قال يصلح ما كان من خطئي في ما تقدم، وما كان من رثائي لحالة الخيل: ليس الحق على الأسفلت، ولا على الغبار والماء، ولا على الشرطي أو على السائق، هذه العربات من أيام الترك، وليس لواحدة منها ضابط (أداة للتوقيف في المفاجآت).
وبينا كنا نطوف بعض الأسواق الجديدة في السنك قال: ترى الرصيف في هذه الأسواق أيضا غير متسق، ضيق هنا - واسع هناك - وفي بعض الأماكن يضيع، يختفي. وما ذلك إلا من أطماع الناس، وإهمال المجلس البلدي، فالمجلس رغبة بالتجديد - بالعمران - أعطى أجازته كل طالب، بدون حساب ولا قيد، وكل من احتاج إلى بضعة أقدام أو أمتار من الشارع أخذها ولا حرج عليه.
نامعلوم صفحہ