تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
مثال آخر من إسراف الدولة: ذكر أنه ضرب دنانير خاصة للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، قال بعض المؤرخين في حوادث سنة 354: فيها صاهر سيف الدولة أخاه ناضر الدولة، فزوج ابنته أبا المكارم، وأزوج أبا المعالي بابنة ناصر الدولة، وأزوج أبا تغلب بابنته ست الناس، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثين دينارا، وعشرين وعشرة عليها مكتوب: محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة الزهراء، الحسن، الحسين، جبريل، (وكان سيف الدولة يرى رأي الشيعة)، وعلى الجانب الآخر: «أمير المؤمنين المطيع لله، الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة، الأميران أبو تغلب وأبو المكارم»، وجاد بما لم يجد به أحد، يقال: إن المبلغ الذي جاد به سبعمائة ألف دينار، فما قولكم بمن يجود بهذا المبلغ في عرس، وهو مبلغ جسيم لا تقل قيمته إذا قدرناه بسكة زماننا عن سبعة ملايين دينار، إن هذا العمل ممقوت شرعا وعقلا؛ لأنه التبذير بعينه.
ومما ذكره المؤرخون أن سيف الدولة كان مرة في بغداد، فدخل على جماعة في مجلس أنسهم، فرفعوا منزلته بدون أن يعرفوه وشاركهم في طربهم، ولما تقوض المجلس طلب ورقة ودواة، وكتب رقعة وتركها وانصرف، فنظر أصحاب المجلس في رقعته، فإذا هي سفتجة بألف دينار يؤديها وكيله في دار السلام، فلما حملوا إليه خطه سألوه من عساه أن يكون الذي جاد بهذا المبلغ، فقال لهم: هو سيف الدولة بن حمدان. وكان كثيرا ما يفتقد رجال الدولة في بغداد، ويتعهد بعض علمائها وشعرائها، ولكن عطاياه للشعراء أجزل، فقد كان يعطي المعلم الثاني أبا النصر الفارابي أربعة دراهم في اليوم؛ أي القدر الذي يستطيع به فيلسوف الإسلام أن يعيش عيش الكفاف، على حين كان يعطي ابن عمه أبا فراس ضيعة تغل ألف دينار في السنة من قرى منبج جائزة عن بيت استجاده، وأبو فراس هو الذي قال فيه الصاحب ابن عباد: «بدئ الشعر بملك - أي بامرئ القيس - وختم بملك أي بأبي فراس.» •••
وبهذا رأيتم أن المال لا قيمة له في نظر سيف الدولة، فقد ذكروا - وهو مما يعاب عليه - أن الخليفة المتقي العباسي لما استولى البريدي على بغداد، استنجد ببني حمدان أمراء الموصل ، فطلب سيف الدولة من الخليفة مالا لينفقه في الجيش؛ حتى يقويه ويمنع الأتراك من بغداد، فأعطاه الخليفة أربعمائة ألف دينار، ففرقها سيف الدولة في أصحابه، ثم هرب سيف الدولة ودخل «تورون» بغداد وملكها، ومنها أن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالما، فإذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة، وقال: «كل من هلك فلسيف الدولة ما ملك»، ولما مات هذا القاضي رفسه سيف الدولة برجله فيما قيل، وقال له: قبحك الله كم كنت تزين لي الظلم، وذكر ابن حوقل في كلامه على بالس «مسكنة»: إن سيف الدولة بعد انصرافه عن لقائه صاحب مصر، وقد هلك جميع جنده أنفذ المعروف بأبي الحصين القاضي، فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر، ولم يطلق لهم النفوذ، فأخرجهم عن أحمال وأطواف زيت إلى ما عدا ذلك من متاجر الشام في دفعتين بينهما شهور قلائل، وأيام يسيرة ألف ألف دينار، وقال ابن حوقل أيضا: «إن نصيبين لم تزل منذ من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة 360، فأكب عليها بنو حمدان بصنوف من الجور وتجديد الكلف، إلى أن حمل ذلك بني حبيب، وهو بنو عم بني حمدان على أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم، وثقلهم في اثني عشر ألف فارس إلى بلد الروم، فتنصروا بأجمعهم، وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في إنزالهم على كرائم الضياع ونفائس المتاع، فعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بمضاره، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقدا، فلحق بهم كثير من المخلفين عنهم، فشنوا الغارات على بلد الإسلام، وافتتحوا بعض الحصون وألحقوا أسوار بعضها في الأرض، وخربوا الضياع وتزايدت ثقة الروم بهم، إلى أن جعلوا لهم الأرزاق والأعطية، وصاروا خاصة الملك، وفتحوا له المضايق وأطعموه في أنطاكية، والمصيصة، وحلب، وطرسوس.»
هذا ما ذكره الجغرافي الرحالة ابن حوقل في أعمال سيف الدولة؛ على أنه قد وسم كتابه باسمه، وقد سكت بعض المؤرخين عن ذكرها بتاتا، وأشار إليها بعضهم بصورة مختصرة، قال ابن مسكويه : «كان سيف الدولة معجبا بنفسه يحب أن يستبد برأيه، كريما شجاعا، محبا للفخر والبذخ، مفرطا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدا مظفرا في حروبه، جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.
ومن جملة بذخه أنه كان يقف على مائدته إذا أكل أربعة وعشرون طبيبا، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم. ولقد قيل: إنه اجتمع لسيف الدولة بن حمدان ما لم يجتمع لغيره من الملوك، كان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطربه الفارابي، وطباخه كشاجم وخزان كتبه الخالديان (وهما يشبهان الأخوين الإفرنسيين ليكونكور)، والصنوبري ومداحه المتنبي، والسلامي والوأواء الدمشقي، والببغاء، والنامي، وابن نباتة السعدي وغيرهم، بل إنه اجتمع ببابه ما لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وكان أديبا شاعرا، محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز بما يمدح به. ولقد أورد صاحب اليتيمة من شعراء سيف الدولة، وممن كانوا يقصدونه من الآفاق؛ لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام، وربما قل في الملوك من مدح بمثل ما مدح به سيف الدولة، حتى إن كلا من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.»
وكل هذه الإجادة في الشعراء وتخريج الرجال كانت منبعثة من وراء إعطاء سيف الدولة للمال بدون حساب، أجاد شعراء الشام؛ لأنهم رزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء، هم كما قال الثعالبي: بقية العرب المشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، وبنو ورقاء أبو محمد جعفر، وأبو أحمد عبد الله أبناء ورقاء الشيباني من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة، وكان جعفر من بيت أمرة وتقدم وآداب، وكان المقتدر يجريه مجرى بني حمدان، وتقلد عدة ولايات، وكان شاعرا كاتبا جيد البديهة والروية، وكان يأخذ القلم، ويكتب ما أراد من نثر ونظم، كأنه عن حفظه، وكان بينه وبين سيف الدولة مكاتبات بالشعر والنثر مشهورة.
وإن بابا يقف فيه أمثال أبي الطيب المتنبي، وأبي عبادة البحتري من الذين انتهت إليهم الرئاسة في هذه الصناعة، ومثل النامي، والببغاء، وكشاجم، والصنوبري، وابن خالويه، وابن جني، والبازيار، والصفيري، والناشئ، والبنص، والرقي، وابن نباتة، والفارابي، وابن كشكرايا، وعيسى الرقي، وغيرهم من العلماء والبلغاء والشعراء والندماء؛ إن بابا يقف فيه أمثال هؤلاء هو باب ولا شك عظيم، وفضل صاحبه على الآداب جسيم. •••
تجلت في عهد سيف الدولة في ديار الشام روح غريبة في الأدب العربي، وظهر بمظهر لم يسبق له عهد مثله، ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظيرا لهم إلا إذا كان على عهد الأمويين، ولم تبلغنا أخبار شعرائه، وقد استفاد من هذه الحركة الأدبية القاصي والداني، كان أبو بكر الخورزي في ريعان عمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء والفضلاء، فأقام ما أقام بها على أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن السميساطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وهو أحد أفراد الدهر وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي.
قام سيف الدولة بهذه النهضة الأدبية، وقد كاد القرن الثالث في الشام يخلو من الشعراء والأدباء؛ لأنهم قصدوا بغداد عاصمة الملك، وبقيت الشام بمعزل، ولم ينبغ في هذا العصر غير رجال في الحديث والمغازي والفقه، وضعف الأدب حتى أخذ ابن حمدان بيده وأيدي المشتغلين به، فكأن القرنين السالفين كانا كالمقدمة للكاتب الكبير الذي صدر في القرن الرابع، وشرحه نوابغ الأدب العربي أحسن شرح، وفيه قام أساطين الشعر وأبو تمام وأبو الطيب وأبو عبادة ، وإليهم انتهت الزعامة في الإجادة.
نامعلوم صفحہ