وممن اشتهر بنثره في هذا العصر الحريري (510) صاحب «المقامات» و«درة الغواص»، وقد رزق بالمقامات الحظوة التامة، ولكنها أيضا من النثر المتكلف لا المرسل، ولو خيرنا بين نثره ونثر حجة الإسلام الغزالي (505) لاخترنا كتابة الغزالي، ولا سيما في الجزء الثالث من «الإحياء»، ورسائله التي أبان فيها عن طبعه خصوصا «التفرقة بين الإسلام والزندقة» و«تهافت الفلاسفة» و«الرد على الباطنية»، أو نثر الراغب الأصفهاني في «الذريعة إلى مكارم الشريعة» و«تفصيل النشأتين» و«المحاضرات»، أو الماوردي في «أدب الدنيا والدين» و«الأحكام السلطانية»، وفي كلام الحريري مسحة من التعمل، قد يصل إليه معظم من جمعوا أدواته من اللغة وكلام العرب لو شاءوا أن يحصروا وكدهم، ويتعملوا في منثورهم، وكان ابن الخشاب يقول: إن الحريري رجل مقامات؛ أي إنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا، ولعل جار الله الزمخشري (538) يفوقه بإجادة صناعة النثر، فسجعاته في «تفسيره» و«المفصل» و«أساس البلاغة» و«مقاماته» و«أطواق الذهب» و«الكلم النوابغ» و«الفائق» في الغاية من الرقة والجزالة، وكانت بينه وبين رشيد الدين الوطواط صاحب «الرسائل» المطبوعة المسجعة محاورات ومرادات، والزمخشري أرقى بيانا وأوسع علما، ويعد في كتاب هذا القرن أبو الفتوح بن الجوزي (597) الواعظ المؤلف، فإنه خلف كتبا كثيرة، ومنها كتاب «الأذكياء» و«أخبار الحمقى والمغلفين»، وأمثال هذه الكتب أشبه شيء بما يطلق عليه الإفرنج اسم
Folklore
أي العادات والتقاليد، ومن مثل هذا كثير في العربية ، مثل أخبار «عقلاء المجانين» للحسن بن حبيب المفسر، وقد حدثنا التاريخ أن كثيرا من الكتاب ولا سيما في القرون الأولى وضع حكايات أشبه شيء بقصص الغربيين اليوم، يقصدون بها تلقين فكر، أو بث دعوة، أو إحداث مشغلة للعامة؛ لصدهم عن البحث في شأن مهم للدولة، وقد صنفوا كثيرا في الأسمار والخرافات، منها ما عربوه عن فارس والهند والروم وبابل، ومنها ما ابتدعوه، ومنهم كتب روايات غرامية ذكروا فيها أخبار العشاق الذين عشقوا في الجاهلية والإسلام، ومنهم من ذكر الحبائب المتظرفات، أو اكتفي بأخبار العشاق الذين تدخل أحاديثهم في السمر، وصنع المتأخرون قصة ألف ليلة وليلة فاشتهرت في الغرب، ونقلت إلى معظم لغات أوروبا، كما اشتهرت في الشرق العربي، ومثل ذلك يقال في قصة السندباد البحري والظاهر وتغريبة بني هلال، إلى غير ذلك مما لا يعد في الأدب الراقي؛ لأنه كتب للعامة، ولم يكتبه كتاب مجودون.
وممن نشأ في هذا القرن ضياء الدين بن الأثير صاحب «المثل السائر»، فهو أيضا كاتب مسجع مبدع، وهو الذي تصدى ابن أبي الحديد المدائني لمؤاخذته والرد عليه وعنته، وجمع هذه المؤاخذات في كتاب سماه «الفلك الدائر على المثل السائر». وسيد المنشئين على التحقيق في هذا العصر القاضي الفاضل وزير صلاح الدين، فهو حجة المنشئين سواء توسل بالسجع أو تخلى عنه، مع أنه لم يكن يفارقه على الأغلب، ولو انتهت إلينا رسائله كلها لجاءت بضعة مجلدات، والقليل المقتبس منه في صبح الأعشى «ورسائله » المخطوطة، وما نقل له في «الروضتين» مما تنبسط له النفس، ويجيء بعده في المرتبة عماد الدين الكاتب الأصفهاني، فهو سالك طريقته، ولكنه في دعواه التفوق على غيره من الكتاب أشبه الناس بصاحب المثل السائر، والدعوى تذهب بمهجة العلم وإن كانت صحيحة، وكتاباه «الفتح القسي» و«زبدة النصرة» نموذج أدبه، وراموز صالح من سجعه وترسله، وقد نشأ في عصر القاضي الفاضل والعماد الكاتب، كاتب هزلي اسمه الوهراني (ركن الدين أبو عبد الله محمد 585) عمل «المنامات والرسائل» المشهورة التي لم تطبع؛ وذلك لأنه أيقن لما دخل الشام مهاجرا من الجزائر أن بضاعته لا تنفق مع وجود القاضي الفاضل والعماد الكاتب، وتلك الحلبة كما قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، فعمد إلى الهزل ونفق سوقه. ومنهم ابن منقذ صاحب كتاب «الاعتبار» ذكر فيه قصصا في الشجاعة وقعت له ولأسرته أصحاب قلعة شيزر على عهد الحمالات الصليبية الأولى، وذكر شيئا من عادات الصليبيين وأخبارهم وشجاعتهم على صورة مستغربة، ومنهم يحيى بن زيادة الشيباني انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء، وابن الصيرفي صاحب «الإشارة إلى من نال الوزارة» و«قانون ديوان الرسائل».
وممن كان في القرن السابع من الكتاب وسار على الطريقة الفاضلية في الإنشاء محيي الدين بن عبد الظاهر (692)، وابنه محمد فتح الدين، ويعد الأب والابن من واضعي نظام الإنشاء في عصرهما والعصرين التاليين، وابن عبد الظاهر أضعف في البلاغة بما ورد له في صبح الأعشى من الفاضل والعماد، ومن تقدمه في الميلاد، وممن عرف بالبراعة في تصوير البلدان والآثار عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف (629)، فإن كتابه «الإفادة والاعتبار» شاهد له بأنه من خيرة البلغاء في عصره، ومنهم الوزير عبد المحسن بن حمو (643)، وبهاء الدين الإربلي، والكمال بن العديم (666).
وتعد رحلة ابن خبير الكناني الأندلسي (416) إلى الشرق من الأدب العالي؛ فقد وصف البلدان في عصره وصفا فاق فيه من تقدمه، مثل ابن بطلان وابن فضلان، كما فاق من تأخر مثل العبدري (688)، والبلوى (740)، وابن بطوطة (779)، والزركشي (794)، وابن أبي البركات النجدي (895)، على أن الجمل التي أثرت عن ابن بطلان في مطولات الجغرافية - وكانت رحلته من العراق إلى الشام في النصف الأول من القرن الخامس - تنم عن أدب وفضل ذوق في وصف البلدان والسكان، والقليل مما قرأناه من هذا القبيل في معجم البلدان، ولأحمد بن فضلان - وكان المقتدر بالله العباسي أرسله إلى ملك الصقالبة سنة 309ه - يدل أيضا على ذوق وفضل علم وأدب.
وعلى ذكر الجغرافية يجب أن يعد في جملة الأدب الجيد ما كتبه ياقوت الحموي؛ فإن «معجم البلدان» و«معجم الأدباء» من أنفس ما كتب الكاتبون في هذا القرن، كما أن ما كتبه القفطي (646) في «أخبار الحكماء»، وما كتبه ابن أبي أصيبعة (668) في «طبقات الأطباء»، يعد من الأدب العالي في تراجم الناس، ومن هذه الكتب الأربعة التي طبعها المستشرقون استفدنا أمورا كثيرة في الحضارة العربية لم نكن نعرفها من قبل، كما استفدنا أي استفادة من نشرهم لنا «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري، «ومروج الذهب» للمسعودي، و«الكامل» لابن الأثير، و«تاريخ اليعقوبي» و«تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء» لحمزة الأصفهاني، و«الفخري» لابن الطقطقي، و«البدء والتاريخ» لمطهر بن طاهر المقدسي، وغير ذلك من تواريخ الأولين، وكذلك استفدنا من نحو خمسة عشر مجلدا لجغرافي العرب، طبعوها فعلمونا بها تاريخ بلادنا الاقتصادي والعمراني، وأشياء مهمة لم نكن نحلم بوجودها، وكثر بها رأس مالنا من الفصيح والتعابير العلمية.
ومن كتاب القرن الثامن في مصر والشام ابن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار» و«التعريف بالمصطلح الشريف»، والصلاح الصفدي (764) صاحب «الوافي بالوفيات» و«تحفة ذوي الألباب» و«نكت الهميان» و«جنان الجناس» و«دمعة الباكي»، والشهاب محمود الحلبي صاحب «حسن التوسل في معرفة صناعة الترسل»، وعلاء الدين بن غانم، وأحمد الأنصاري، وابن القيسراني، وكمال الدين الزملكاني. ونبغ في الأندلس لسان الدين بن الخطيب، ولو لم يكن له إلا «الإحاطة في أخبار غرناطة»، لكفى في تفوقه في كتابته وشعره، فإنه صور وترجم لهم كأنك تراهم، فهو كاتب ومصور على ما يظهر، ونفح الطيب للمقري يحوي طرفا صالحا من نظم لسان الدين ونثره، مع زمرة من رجالات الأندلس، وقد حل لسان الدين بعض القيود في الكتابة هو وصاحبه ابن خلدون (808)، وكان الكتاب قبلهما، ولا سيما في القرنين السادس والسابع يقلد بعضهم بعضا، فأصبحت الصناعة تسير نحو التقليد لا إبداع فيها ولا تجديد، فالمجددون في الحقيقة في القرن التاسع، هما عبد الرحمن بن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، ولم تكد تكتب العلوم الاجتماعية والتاريخية قبل ابن خلدون، بمثل ذاك اللسان الذي استعمله، ولا غرو فهو وصاحبه حسنة من حسنات الأندلس، وزهرتان ناضرتان من الزهور التي أهداها المغرب للمشرق، وبهما ختم عهد الأندلس. •••
كانت دواوين الإنشاء في قرطبة وغرناطة والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز الحكومات في القرون الوسطى، مدارس لتعلم الإنشاء، والأخذ من فن الأدب العربي الواسع، فلما انحلت دولة الأندلس، واستولى الترك العثمانيون على مصر والشام والعراق، بطل التناغي بالأدب والإنشاء؛ لأن التميز في هذا الشأن أصبح لا يجدي صاحبه شيئا، وغدا فن الإنشاء مقصورا على بعض أفراد في كل قطر عربي يستخدمونه حلية وزينة، وإذ لم يبق في الحكومات من يقدر الأدب قدره، ضعف بحكم الطبيعة، وزاد عدد الشعراء أكثر من الكتاب؛ لسهولة الشعر وإمكان الانتفاع به في المديح، وإن كان الشعراء في كل دور من أدوار العرب فيما رأينا أكثر من الكتاب بما لا يقاس.
طالع كتاب «عجائب المقدور في أخبار تيمور» المسجع المجنس و«فاكهة الخلفاء»، وكلاهما لابن عربشاه من أهل القرن التاسع، وتأملهما وتأمل «تاريخ العتبي» وسجعه، تجد حتى في السجع فروقا وأي فروق، وطالع «مقامات السيوطي» و«مقامات ابن الوردي»، وعارضها بمقامات الحريري وبديع الزمان، يتجلى لك الفرق بين النمط العالي على ما يقال فيه، والذي دونه بمراحل، واقرأ «ريحانة الألبا» للشهاب الخفاجي، وطالع سجعه الذي هو أرقى سجع في القرن العاشر، تجد بينه وبين نثر ابن بسام في «الذخيرة»، وابن خاقان في «قلائد العقيان» فرقا بينا أيضا، كما أنك قلما تجد في الأدباء الذين ترجم لهم الخفاجي، وكانوا تقدموه وعاصروه في الشام ومصر والحجاز واليمن والمغرب إلا شاعرا، والكتاب قلائل، والأدب العربي كاد يستحيل إلى أماديح، وأكثره للتزلف من الكبراء وهو ضيق العطن، مبتذل الديباجة، فللنثر أسجاع تشق على الأسماع، وللنظم قواف لا تألفها الطباع، والروح منقولة، والألفاظ من جنس المبتذل مدخولة، ومعظم المنشئين والمتأدبين يكتبون نمطا واحدا من عهد أبي إسحاق الصابي، وأحمد بن يوسف إلى عهد لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون، وهما اللذان أثبتا أن للمعاني تأثيرا أعظم من تأثير الألفاظ، فأتيا بالجديد المبتدع، وخلص كلامهما من المصنع الغث، وسارا مع الطبع في التأليف والوضع .
نامعلوم صفحہ