ويجيء مع هذه الطبقة أبو بكر الخوارزمي (383)، وكان يميل إلى طريقة ابن العميد في الكتابة، و«رسائله» المطبوعة المشهورة مثال البلاغة والفصاحة على كثرة الأسجاع فيها حتى لا يكاد يعدوها، وقلما تفوته. وأما بديع الزمان الهمذاني (398) صاحب «الرسائل» و«المقامات» المشهورة، فإنه سار مع الطبع أكثر من الخوارزمي، وكثيرا ما يترك التسجيع وأنواع البديع، وإذا استعملها ففي مواطن خاصة وجمل معينة، ثم يعود إلى طبعه فتأخذ أقواله بمجامع القلوب، وأكثر ما قرأناه من «رسائل الصابي» (384) الصادرة عن الخلفاء وغيرهم، ومنها ما طبع على حدة، ومنها ما اقتبس في «صبح الأعشى»، قد أفرغ في قالب من السجع البديع المستملح، وقد يتخلى عنه في بعض التقاليد والعهود، ولو تيسر له أن يطرح السجع على طريقة البديع، لجاءت كتاباته مفخر الأسلاف، وأعظم معلم للأخلاف.
وممن نبغ في ذاك القرن أبو الفرج الببغا، وعبد الله بن عمرو الفياض - كاتب سيف الدولة ونديمه - وأبو القاسم علي الإسكافي النيسابوري، وكان من علو الرتبة في النثر وانحطاطها في النظم كالجاحظ، وعلي بن هند صاحب «الكلم الروحانية»، ويحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق أو سياسة النفس (364)، وابن حبان البستي (354) صاحب «روضة العقلاء»، والحاتمي صاحب «الرسالة الحاتمية» التي شرح فيها ما جرى بينه وبين أبي الطيب المتنبي، من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، والقاضي التنوخي (384) صاحب «النشوا» و«الفرج بعد الشدة»، وقدامة بن جعفر الكاتب (337) صاحب «نقد الشعر» و«كتاب الخراج»، وابن نباتة صاحب «الخطب » المشهورة، ومنهم أبو جعفر محمد بن العباس وزير المكتفي والمقتدر، وأبو منصور البغوي (75)، ورأس أدباء هذا القرن أبو العلاء المعري، والشعر غالب عليه، وكتابته مصنعة فيها كثير من عويص اللغة، وسبكها لا يخلو من يبوسة وجفاء طبع، ولكن «رسالة الغفران» التي كتبها ردا على رسالة ابن القارح - وكلاهما مطبوع - أشبهت رواية دانتي الشاعر الإيطالي
La divine comedie
وكانت من أعظم الروايات الخيالية الدالة على أن أعمى المعرة كان معلما لنابغة إيطاليا في الشعر والخيال، وبعض الباحثين من المتشرقين في أوروبا، على أن دانتي في روايته الإلهية المؤلفة من ثلاث روايات، وهي جهنم والمطهر والجنة التي ألفها بين سنتي 1300-1318م قد اقتبسها ولا سيما رواية جهنم من رسالة الغفران للمعري، ونسج على منواله في التصور.
وإن ما كتبه المعري على ديوان أبي تمام الطائي، وسماه «ذكرى حبيب» وعلى ديوان أبي عبادة البحتري وسماه «عبث الوليد»، وما كتبه على ديوان أبي الطيب المتنبي وسماه «معجز أحمد»، يدل على إحاطة المعري بأسرار العربية، وفهم كلام العرب ومراميهم، وشدة ملكته في النقد الأدبي، دع فلسفته في «لزومياته» و«دواوينه»، فالمعري فيلسوف لغوي وليس بكاتب. ومنهم علي بن خلف صاحب «مواد البيان»، الذي نقل القلقشندي في صبح الأعشى جزءا مهما منه. •••
وتميز القرن الخامس بظهور كثير من الكتاب فيه، ومن أشهرهم الذين تركت الأيام لنا شيئا من كتاباتهم الأمير قابوس بن وشكمير (403) صاحب «كمال البلاغة»، فإن كتاباته هي الموسيقى برنتها والشعر الفتان، ولكن بدون قافية وروي ، إلا أن الأسجاع غالبة عليه، مستحكمة في حواشي كلامه، آخذة بجماع أدبه خلافا للثعالبي (429) سيد كتاب هذا العصر، ومن أعظم مؤلفيهم في اللغة والآداب، فإن مقدمة كتابه «فقه اللغة» طبقة عالية في الكتابة المرسلة في عصره وبعده، ولو تخلى عن السجع في «يتيمة الدهر»، التي ترجم فيها أدباء عصره على نحو ما تركه في «المضاف والمنسوب» و«لطائف المعارف»، وغيرهما من كتبه ورسائله لما عيب عليه في شيء، ومثل ذلك يقال في ابن رشيق القيرواني (456) صاحب «العمدة» أحد أمهات كتب الأدب الذي انتقده أبو عبد الله بن شرف القيرواني في «رسائل الانتقاد»، وكان الناس في الدهر القديم يعتمدون على أربعة كتب لإتقان فن الأدب، «البيان والتبيين» للجاحظ، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«الكامل» للمبرد، و«الأمالي» لأبي علي القالي، ومن هذه الكتب الأربعة ما شرح ومنها ما اختصر، ومنها ما انتقد شرح «أدب الكاتب» لابن قتيبة بن السيد البطليوسي، وممن انتقدوا «آمالي القالي» أبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم»، في جزء لا يزال مخطوطا سماه: «التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه.»
وممن توفي على رأس الأربعمائة أبو حيان التوحيدي، وهو مبتدع طريقة خاصة به قرأناها في كتاب «المقابسات» و«رسالة الصديق والصداقة» و«الإشارات الإلهية»، وذكر الثعالبي ثلاثة من كتاب آل بويه، وهم أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي، وأبو القاسم علي بن القاسم القاشاني، وأورد من كلامهم نموذجات لطيفة. ويعد في الطبقة الأولى من المؤلفين والكتاب المجيدين أبو الفرج الأصفهاني صاحب «الأغاني»، وأبو الحسن علي بن عبد العزيز صاحب كتاب «الوساطة» بين المتنبي وخصومه، والأمير عبد الله الميكالي فإنه من الكتاب المجيدين، والسجع غالب عليه، ومثله أبو النصر العتبي واضع «تاريخ ابن سبكتكين» المعروف باليميني، وهو التاريخ المسجع البديع، ويعد مؤلفه من أكبر المنشئين.
ومن كتاب هذا القرن ابن موصلايا (498)، وابن ناقيا (485)، والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء على عهد الحافظ العبيدي بمصر، (وكانت له قوة على الترسل يكتب كما يشاء)، وكان الغالب على الموفق بن الخلال في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب السجع، وكان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العلوية غضا طريا، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانا وبيانا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانا، وممن أثرت بعض رسائله في هذا القرن هلال بن المحسن الصابي (448) حفيد أبي إسحاق صاحب الرسائل ومؤلف كتاب «أخبار الوزراء». ومن المجيدين في الإنشاء وإن عدهم الناس في طبقة الحكماء أحمد بن مسكويه (421) مؤلف «تهذيب الأخلاق» و«الفوز الأصغر» و«تجارب الأمم»، فإن كتابته، مثال الإنشاء المرسل البديع. ومنهم أبو طاهر محمد بن حيدر (517) صاحب «قانون البلاغة» وهو لم يطبع.
وفي هذا العصر نبغ في الأندلس الوزير ابن زيدون (463) في النظم والنثر، و«رسالته» على لسان ولادة بنت المستكفي بالله أديبة عصرها من المرقص المطرب، ومثل ذلك يقال في الوزير ابن حزم الأندلسي (456)، فإنه من أكتب العلماء في عصره، ومن المكثرين من التأليف المجودين فيه، وناهيك بكتابه «طوق الحمامة» و«رسالته في الأخلاق» دليلا على أدبه الراقي، ومثالا من إنشاء عصره الذي أشبه في الأدب عصر لويز الرابع عشر في فرنسا.
ونشأ في هذا القرن والذي يليه في الأندلس طبقة من الكتاب، ومنهم من تولى الوزارة، والغالب أن الكاتب المجيد في الدهر السالف يكون وزيرا، كالخطيب المصقع في هذا الدهر يكون رئيس الوزراء، مثل الباجي، وابن الدباغ، وابن الجد، وابن القاسم، وأبي الأصبغ وابنه أبو عامر، وابن سفيان، وابن الحاج، وابن عبدون، وابن أبي الخصال، وابن عبد العزيز، وابن السقاط، وابن القصيرة «وكان هذا على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ، وصحيح المعاني، من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفوا من غير استدعاء»، ومنهم ابن عبد الغفور، وابن عمار، وابن الأفطس، وابن سالم، ومنذر بن سعيد، وابن أيمن، وابن اللبانة، وابن عبد البر والفرضي، وابن سعيد المؤرخ، وابن حيان، وابن القوطية، وأبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم » و«المسالك والممالك»، وابن الطفيل صاحب «رسالة حي بن يقظان»، وفيها إشارات لمذهب النشوء والارتقاء، ومنهم البطليوسي، وابن تومار، وابن هود، والنحلي والأشبوني، والقسطلي، وابن لبون، وابن رزين، والنمري، والسرقسطي، وابن القلاس، والقصاعي، والبهاري، والحجاري، والداني، والبلنسي، والطليطلي وغيرهم، وما منهم إلا منشئ مجود ومؤلف جزل العبارة رشيق الألفاظ، ولا غرو فإن الأندلس أخرجت للأدب رجالا عظاما، تشم من مكتوباتهم أرج الغرب، وقد جمع أحد علماء المشرقيات من الإسبان تراجم الأندلسيين من العرب، فكانوا ثلاثين ألف عالم، وأديب، وفقيه، ومهندس، وطبيب ... إلخ من أصحاب المنزلة، وترجم الفتح بن خاقان (535) صاحب «قلائد العقيان» و«مطمح النفس» لبعض أولئك الأدباء بالأسجاع المطبوعة، كما ترجم لهم ولغيرهم ابن بسام في «الذخيرة»، واشتهر بالوزارة من الكتاب المجودين في بغداد الوزير علي بن عيسى، والوزير أبو الحسن بن الفرات، ولعلي بن عيسى «مذهب في الترسل لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات»، ومنهم أبو علي محمد بن خاقان، ومحمد بن عبد الملك الزيات إلى غيرهم من الكتاب النابهين والخاملين، وربما كان في الخاملين من هم أعلى كعبا من النابهين.
نامعلوم صفحہ