نزعة فکر یورپی
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
اصناف
3
إن أكبر مزايا الفن أنه يقيم في ذهن الإنسان بنظرة واحدة صورة كاملة عن الغرض الذي يرمي إليه، وبذلك يحدث تأثيرا تاما في العقل دفعة واحدة، على أن التأمل العميق إن كشف لنا عن الكيفية التي يتألف بها الكل بالتئام مجموع أجزائه، وعرفنا كيف يعبر كل عنصر من العناصر المؤلفة للمجموع عن الفكرة الأصلية التي توحد بين الأجزاء؛ فإن الأثر الذي يتركه المجموع يظل السبيل الأوحد الذي نستطيع أن نفهم به كل جزء من الأجزاء قائما بمفرده.
ولقد نكر على الأدب، وعلى العلم، وعلى التاريخ، أن في مستطاع كل منها أن يصور الغرض الذي يرمي إليه في مجموعه، بحيث يحدث في ذهن الباحث منذ البدء تصورا تاما؛ أو يزوده بفكرة كاملة الأجزاء، على أننا نمت إلى الباحث أن يماشينا متتبعا خطواتنا إلى القمة العليا التي لا بد من أن نبلغ إليها بتصعيدنا في ذلك المرتقى الوعر. إن كثيرا من الطرق تسلم إلى تلك القمة، على أننا غالبا ما نخطئ في اختيار السبيل المثلى والصراط المستقيم، وقد نبلغ بالقارئ حد الإنهاك والكلال قبل أن نقطع نصف الطريق، وربما نحدث في نفسه إحساسات قد تصده عن التأمل في مجموع ما يترامى تحت قدميه من المناظر وهو في مرتقاه. أما ما ندرك نحن في معنى «المجموع»، فليس إلا جملة ما تكونه أجزاؤه، في حين أن الفنان لا يدرك المجموع إلا بفكرة أن الأجزاء ليست إلا كسورا يتكون منها كل مؤتلف النواحي.
طالما اعترض سبيلي كثير من أمثال هذه الصعاب وأنا مكب على التدبر في أمر الفكر خلال القرن التاسع عشر، على الرغم مما حوطت به بحثي من الحدود؛ وما ألزمت نفسي من العكوف على دائرة من البحث لا أعدوها.
لقد اعتقدت اعتقادا تاما بعدما بلوت من البحث والتجاريب، أن عالم الفكر أشبه بدائرة يحدها محيط يترامى في اتساعه ترامي اللانهاية، ولشد ما عانيت من تعب ومشاق حتى وقعت على نقطة أبدأ منها السير، وأختط منها طريقا يقودني إلى تلك القمة، على أمل أن أشرف منها على منظر للمجموع يمكنني من اكتناهه، والوقوف على ماهيته. •••
خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة، وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، فتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها، إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين، أو تثبيت فكرة بذاتها، وإما أن تلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر.
والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة: منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى التي أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة البابوات، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.
فإذا عدنا إلى دراسة «الفكر» في مثل هذه العصور، لما أعوزنا البحث عن مرتكز نرتكز عليه، أو نقطة نبدأ منها؛ لأن من الهين أن نعثر على سيارها الذريري
8
Vortex-Atom ، الذي يحرك بحركته كل القوى الكائنة، ويبعث العبقرية في مكمنها، ويوقظ الكفاءات والمواهب العقلية من رقدتها؛ ففي عصر كعصر الإصلاح البروتستانتي مثلا، يمكننا أن نتكلم في السياسات الخاصة به، وصور الدين التي أنبتها، والفلسفة والأدب والفن، وكل المنتجات العقلية التي أنتجتها، وأن نمضي في بحثنا موقنين بأننا لا بد من أن نقع على كل وجه من وجوه التقدم العام، وعلى كل الخطى الارتقائية التي خطاها العصر، وأن نقف على كل الفكرات التي ذاعت فيه، سواء أأرضت معتقدنا أم ناقضته. وإنه لمن الظاهر الجلي أن العصر الذي أؤرخ فيه لا يتضمن حادثا من تلك الحوادث التي تمتص القوى، وتبسط سلطانها المطلق على عالم الفكر.
نامعلوم صفحہ