نزعة فکر یورپی
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
اصناف
في «باليرمو» في أول ليلة من عام 1801، كذلك تجد أن «تشريح المقارنة»
Comparative Anatomy
قد علمنا كيف نستطيع أن نقف من بضعة بقايا مستحجرة على تركيب كائن عضوي، وعلى مفصلات تكوينه برمتها، على أن غايتي من ضرب هذه الأمثال، أن أطبق قاعدتها الأولية على جزء صغير من نواحي الارتقاء العقلي، هيئ لي أن أكون على علم بها، وشعرت بما كان لها من أثر في نفسي؛ فإن تتبعنا، على وجه من الدقة والضبط، ذلك الشطر الصغير من الفكر الأوروبي، قد يكون بابا نلج منه إلى حيث نستكشف صورا أبعد دقة، وأكثر صحة، في حين أن هذه تصبح وسائل نتخذها سبيلا للحصول على فكرات أثمن من سابقتها قيمة، وأتم نفعا، وأشد ضبطا، في الكشف عن خفيات الحدود القصية المشبعة الخاصة بالحياة العقلية للنوع الإنساني.
لا تنحصر هذه الحياة في استجماع ضروب المعرفة التي استجمعت خلال القرن التاسع عشر، ولا في نتائج البحث العلمي التي تضمها جدران المكاتب والمتاحف العامة، ولا في مدارس التلقين الأولى، ولا معاهد العلم العليا، ولا في الإصلاحات الاجتماعية، ولا ترقية أساليب التربية. وهي أقل ما تكون ظهورا في النظامات السياسية والاقتصادية. إن هذه جماعها إلا أشياء خارجية يمكن أن توصف أو تصور، شأنها في ذلك كشأن ظاهرات الطبيعة المحسوسة.
أما حياة النوع الإنساني العقلية، فمحصورة في أساليب التأمل الخفية التي أمكن بها استيعاب تلك الأشياء الظاهرة، والتي استطاع بها الإنسان أن يضيف إلى مبدعات الطبيعة خلقا جديدا خاصا به، وبها تسنى له أن يغير من وجه الأرض، ويبدل من نظامها، وأن يخص كائنات الطبيعة بمعان مثالية لا تتاح لغيره. وفي سبيل هذه الغاية يعنت الإنسان نفسه لكي يستكشف أساليب لا يلبث أن يطبقها حتى يعمد إلى تغييرها، وفي سبيلها يحدس وراء نتائج وأغراض سرعان ما يرفضها ويقصيها، ومن أجلها يخترع نظريات قصيرة العمر وشيكة البقاء. وفي الواقع، يبني ويهدم، يشيد ويقوض؛ ليستعين بالبناء والهدم، وبالتشييد والتقويض، على إبراز مختلف نظم الاجتماع، وصور الفن، ومنتجات العلم.
وتلك النظم والصور والمنتجات يخلفها الإنسان لا كشيء إلا كآثار تدل على ما بذل من جهد، وما أنفق من نشاط، والأنقاض التي يخلفها وراءه لا تلبث أن تترك وتهمل كأشياء لا قيمة لها، إلا قيمة محدودة بالزمان، مقرونة بصفة الانتقال والتغير، بيد أن هذه الأنقاض ليست إلا جسرا يصل بين الماضي والمستقبل، وهي بذاتها المادة التي يتكون منها هيكل الحياة العقلية، التي نصرف في سبيلها عناية البحث والاستقصاء، وبقدر ما يكون لنا من حظ في بناء ذلك الجسر، أي في تقويض القائم والإشادة على أنقاضه، وبقدر ما يكون لنا من علم بالوسائل التي عمد إليها الفكر لبلوغ هذه الغاية، وبقدر ما رأينا وعلمنا من أوجه نشوء العظائم من البدايات والصغائر، يكون مقدار علمنا بشيء من الحياة العقلية التي تظل مختفية، وتمضي مستورة وراء هذه الظواهر المشاهدة.
لهذا أعتقد أن دراسة ما وقع تحت حسنا ومشاهداتنا هي الطريق الوحيدة التي تمهد لنا أن نبلغ بنظرة عميقة فيما أبدع العقل من منتجات؛ أي في حياة البشر الروحية، وسوف نرى عما قريب كيف أن كل عصر، سواء أمن عصور العلم أم من عصور الفلسفة، لا يبدأ إلا بفروض وخيالات، ولا يمضي في البقاء إلا جريا على أساليب معينة، وكيف أن بعض الأساليب الفكرية الخاصة قد تصبح عامة مأخوذا بها، وكيف أن وجهات من النظر الفردي قد يتقبلها الفكر فتنتشر وتذيع، غير أننا نلفي عادة أن تك الفروض النظرية لا يمضي عليها جيل أو جيلان، على الأكثر، حتى تأخذ العقول في وزنها وتقييمها، والفحص عن نصيبها في الصحة ومطابقة الواقع.
ونجد أن نصيب الأساليب الفكرية من النقد لا يقل عن نصيب النظريات منه، فيطرأ على عالم الفكر عقيب ذلك أساليب حديثة تملك زمامه، وتكتسح أمامها طرق التفكير العتيقة، التي خيل للعقول زمانا أنها أكثر الأشياء ملاءمة للطبيعة، وأبعدها انطباقا على مطالب الحياة. هنالك تجد أن نظام الجمعية الإنسانية، وهيكل العلم، وصور المعرفة، وطرق تطبيق الفنون على الضرورات البشرية قد انتابها التغير خضوعا لمبادئ مستحدثة تكفل حاجات النوع بمقتضى الارتقاء والنشوء.
ولا ريبة في أنه لا يقوى على البقاء من المبدعات القديمة إلا النزر اليسير، فتجد أنه لا يبقى من تلك الأشياء التي ندعوها قوانين العلم، إلا قانون واحد أو اثنين، ولا يعود إلى آلة الطباعة إلا بضعة كتب ليعاد نشرها، ولا يبقى إلا عدد ضئيل من نواتج الفن، مع قصيدة أو اثنتين من قصائد الشعر. مثل هذا سوف يخلف القرن التاسع عشر، كميراثنا الحي الذي جنيناه من سنيه الأولى، في حين أن بقية المنتجات سوف تضم إلى مجموعة ما يدونه التاريخ من وقائع العصر، ولن يصبح لها في الحياة من خطر أكثر من خطر الذكرى؛ إذ تمسك عن أن ترسم لنا طريقا قيما، أو تنير لنا سبيل الحياة في عهدها الجديد.
ولن تمضي بضعة قرون على تلك المنتجات، إلا لينظر إليها أعقابنا كما ننظر نحن إلى آثار المدنيات الشرقية القديمة، كما ننظر إلى أبي الهول القابع في الصحراء التي تكتنف أهرامات مصر، متأملين في تلك الوسائل التي تم تشييدها، وفي مقدار ما أنفق في سبيلها من جهود ومشقات، وفي الفكرة التي قامت في رءوس الذين وضعوا تصميمها وأقاموها حيث هي عنوانا على العصور، ومثالا للدهور.
نامعلوم صفحہ