فابتسمت سعاد وأجابت: «ليس شيئا ذا بال ؛ كنا على أن نشهد معا رواية جديدة في السينما، فطلبت إليه أن يذهب وحده إذا أراد؛ لقد كنت في السينما أمس، وأمس الأول ...!»
وغمغمت رشيدة بكلام لا يبين، ثم أطرقت. أتراها كانت تحدث نفسها أم تحدث مضيفتها؟ وماذا كان في نفسها من حديث؟
وخففت فنهضت وفي قلبها حسرة، وفي صدرها غيرة، وفي رأسها فكر!
وقالت سعاد لزوجها وقد ذهبت رشيدة: «هي زوجة سامي!»
واستطردت فخورا: «إنها صديقتي منذ الطفولة. ألست تعرف سامي ...؟ قل لي: لماذا لا تحاول أنت شيئا مما يحاوله؟ لقد بلغ مبلغا بعيدا، إن له جاها وشفاعة ... إنني ورشيدة صديقتان، لم نفترق منذ كنا، حتى تزوجت، وخطبها على غفلة ...!» ... وأدارت رشيدة مفتاح المذياع وجلست مرتفقة إليه تنتظر دقة الساعة. إن زوجها هناك، وستستمع إلى حديثه بعد لحظات، وما بها شوق إلى أن تستمع إليه، لولا أن صوته في المذياع يردها لحظات إلى ماضيها، أيام كانت في بيت أبيها مسماة عليه، تلك أيام خلت، وكان صوته في تلك الأيام يلذها ويبعث فيها نشوة ... أوه! أين هذه اليقظة من ذلك الحلم؟ أكتب عليها ألا ترى السعادة إلا طيفا في المنام أو حلما في اليقظة!
وتسرحت رشيدة في أوهامها وأحلامها؛ وذكرت ماضيها وحاضرها؛ وتسلسلت خواطرها حلقة بعد حلقة، بعضها ذكريات وبعضها أماني، وتكاثفت أمام عينيها ضبابة دكناء، وتراءى لها من خلل الضبابة أشباح وصور، ورأت نفسها جالسة إلى سامي يحدثها وتحدثه ... وكأنما أحس سامي من رشيدة فتورا وانقباضا فأهمه ما أحس، وراح يحاول أن يصلح ما بينه وبينها، وعطف عليها يسألها في رقة عما بها، وانفجرت رشيدة غاضبة باكية، وكشفت الحجاب، ونفضت عليه ما تكظم من الغيظ منذ عام، وطأطأ رأسه يوازن ويقدر ويحكم، وبدت له الحقيقة سافرة وانكشف غطاؤها، وآثرها بالرضا فألقى إليها معاذيره.
وتغير سامي منذ اليوم، فأغلق دار كتبه وأقبل على زوجته، وفي المساء كانا يمشيان ذراعا إلى ذراع في الطريق.
وصحبها إلى السينما، وسهرا معا ليالي في الأوبرا، وتعشيا ذات مساء في مطعم، وراقصها على نغمات الموسيقى في الحديقة العامة، وعاد معها إلى الدار ذات ليلة مخمورا قبيل الصباح!
ولم تنكر رشيدة من أمر صاحبها شيئا، ولم ينكر سامي شيئا من أمر نفسه، وعرف منذ الليلة التي هجر فيها دار كتبه أن في الحياة ألوانا من المسرات لم يذقها بعد وقد أوشك أن ينتهي شبابه، فاشتهى وتمنى. وفاءت رشيدة إلى الرضا بعد نفار وسرتها حياتها الجديدة، فمضت تطلب المزيد ... ... ورأته يمشي إلى جانبها على ضفاف النيل ذات صباح، حين اعترض سبيلهما سرب من الفتيات، وقالت إحداهن وأومأت إلى سامي: أئنه لهو! فأحنى رأسه مبتسما وأتبعها عينيه، ورفعت رشيدة رأسها مزهوة، ثم عبست غيرى مرتابة!
ولم تجد رشيدة من نفسها في المساء رغبة في الخروج؛ فخلفها في الدار ومضى وحده، وأشرق الصبح قبل أن يعود، وهمت رشيدة أن تتكلم فتركها وما تحدث به نفسها ومضى إلى فراشه ...
نامعلوم صفحہ