سيدنا ...
قلب أم ...
إبليس يتوب!
رجل ... وامرأة!
جناية رجل!
انتقام الآلة!
العروس!
أم بلا ولد!
ثمن المجد
عودة الماضي
حلم شاعر!
ثمن الأمومة
الضيف الآخر
الدرس الأول
إنه أخي ...
آخر الطريق
من أدباء الجيل
حقيبة الذكريات
ورقة النصيب!
جندي مرابط
الجائزة
بعد الأوان
زاهية
البعث
لقاء ...
النائب المحترم
عابر سبيل
في عيد الربيع
همام
عمامة الأفندي!
أمنية تحققت!
عرس القرية
سيدنا ...
قلب أم ...
إبليس يتوب!
رجل ... وامرأة!
جناية رجل!
انتقام الآلة!
العروس!
أم بلا ولد!
ثمن المجد
عودة الماضي
حلم شاعر!
ثمن الأمومة
الضيف الآخر
الدرس الأول
إنه أخي ...
آخر الطريق
من أدباء الجيل
حقيبة الذكريات
ورقة النصيب!
جندي مرابط
الجائزة
بعد الأوان
زاهية
البعث
لقاء ...
النائب المحترم
عابر سبيل
في عيد الربيع
همام
عمامة الأفندي!
أمنية تحققت!
عرس القرية
من حولنا
من حولنا
تأليف
محمد سعيد العريان
سيدنا ...
كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع - مفتش التعليم الأولي - قادما من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواء في إحدى قدميه، فلما بلغ حيث كنا جالسين ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعدا على مقربة.
ومضينا فيما كنا من الحديث، نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى، وحادثة إلى حادثة، وقال واحد من السامرين: «رحم الله سيدنا ...» فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول: «سيدنا! ... رحمه الله وغفر له!»
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطرا من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئا ذا بال في كلمة «سيدنا» قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته، فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعا. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقى الشيخ أو تعويذة من تعاويذه.
وكان له «كتاب» يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته.
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأي العين. وذات صباح صحبني والدي إلى كتاب الشيخ عبد الجليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئا في مدرسة أولية بالمدينة، حيث كنت أقيم عند خالي، ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه.
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سنا مما كنت أتصوره في خيالي، وأحسبه كان صغيرا حقا، فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية لم يكن قد جاوز الأربعين بعد، عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف.
وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبدا إلى تحت، ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلا عليه بالتحية حتى مد له يمناه، فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها، حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يدا قط حتى يدي أبيه وأمه.
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذا من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل، على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع، فما هي إلا ساعة أو ساعات في كتاب سيدنا حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه.
كان الشيخ جالسا في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلو فيها جدائل من خوص أخضر، وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها، وأمامه صبي من صبيان الكتاب متربع في مثل جلسة المعبود «بوذا» وهو يهتز بين يديه في حركة راتبة، ويقرأ شيئا من غيب صدره في نغمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكب على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه لحظة بعد لحظة.
وفي الكتاب عشرات من مثل هذا الصبي قد تربعوا أفرادا وأزواجا على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعا، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حينا، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حينا آخر، والشيخ يخيط، أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ ...
وكنت غارقا في تأملاتي، لا أكلم أحدا ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوى صوت سيدنا غاضبا يتوعد، ومال على فخذ الصبي الجالس بين يديه يقرصه بغيظ، والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته خوفا من سيدنا.
وكان هذا أول الشر، ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر. ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه، ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه؛ فندت من بين شفتيه صرخة ألم، حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه «العريف» يعاونه على تأديب الصبي، وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوي على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى ويعض على شفتيه من ألم الضرب. وأحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقا وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعا منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور، ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين يدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرؤها لترد عني الشر الذي أخافه.
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان الكتاب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير، ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه، وأنى لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعا ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يسمحون لواحد من بنيهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن عصا سيدنا من الجنة!
منذ تلك اللحظة تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شيء إلي، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. وما لي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسيء إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها جميعا، لا أدع لقلم منها سنا تصلح للكتابة، وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها ترابا وحصى، وتارات أخرى ... وما كان سيدنا يعلم من يفعل به ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان الكتاب جميعا غرماؤه.
قضيت في كتاب الشيخ عبد الجليل شهرا وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم.
كان علي في ذلك اليوم أن أحفظ جزءا من القرآن الكريم، فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل، وحل ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفا من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش، وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض معلقا في الخشبة ويهوي على رجلي بعصاه.
ومضت ساعة قبل أن يحل ميعاد صبي من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل القريب لنصيد العصافير، فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد.
وجلس الفتى بين يدي الشيخ مضطربا منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا. وطرق مسمعي قوله: «وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير؟ ...»
ونادى عريفه، فأسرع بأداته إليه، وناداني ...
وقبل أن أرى صاحبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة، فاستجمعت قوتي ووثبت ...
لم أدر بعد ذلك شيئا مما كان، إلا حين رأيتني راقدا في فراشي ورجلي مشدودة إلى جبيرة بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت.
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غاليا فانكسرت رجلي، ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستندا على عكاز! •••
وتأوه المفتش وهو يعبث في الأرض بعصاه، وغرق السامرون في صمت، ثم عاد المفتش إلى حديثه: لم يكن لي - طبعا - أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان، فدخلت المدرسة الأولية بالمدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه، ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤملة مرة، ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني!
وتأرث الحقد في قلبي من يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر.
وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي، وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية، فكان لا بد لي أن ألقى سيدنا أو تلميذا من تلاميذه عابرا في الطريق، فأطأطئ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوي بعصاي على رأسه فأحطمه.
ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم كان شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله ...؟ ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعا. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه، وإن منهم لرجالا في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء.
وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرسا في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، تضم شتيتا من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة، تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفا لعهدنا في مثل هذه السن ...
وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، بين بنين وبنات، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم باللين والرفق في التعليم والمعاملة، وتشاركهم في اللهو، وتخاطرهم في اللعب، وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام ...
وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل «فؤاد» فإني لأعرفه ويعرفني، وبيني وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معا منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن.
وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة ويودعني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب، وكثيرا ما كانت تحضرني إلى جانب صورته صورة أبيه في صباه جالسا على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات ...
واستمر المفتش في حديثه يقول: هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي ... وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشا ... وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر؛ فإني كنت جد مغتبط بما أسند إلي من عمل، لا زهوا بالمنصب، ولا رغبة في الجاه، ولكنها كانت أمنية قديمة ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل!
أكان ذلك مني عن إخلاص في العمل وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا، فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام، وهي تسمي ذلك إخلاصا في العمل وحرصا على مصلحة التعليم ...؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقينا لا شبهة فيه، هو أني كنت فرحا بذلك، طيب النفس به، فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي.
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية ... ... ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعادا لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولا على أكتاف الناس غائبا عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا، ثم لم أمش بعدها إلا متوكئا على عكاز؛ وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة، فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد.
وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما عزمت عليه، يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني.
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ ... ودنا مني الصوت رويدا رويدا، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا ... وما كان لي أن أفعل غير ذلك. وأعظم الناس هذا الوفاء - إذ حسبوني لم أقدم إلا لذاك - بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعددون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر.
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكرا، فلم ألق أحدا من الزملاء أحدثه بحديثي ويحدثني، وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، نعم، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها، ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء؟ وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي ...! لقد كان قاسيا، جبارا، عنيفا، ولكنه مع ذلك كان رجلا للناس لا لنفسه، وما نالته في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه، أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد. ... فإني لغارق في خواطري هذه وذكرياتي، إذ دخل إلي صديق من أصدقائي ينقل إلي النبأ الفاجع: فؤاد، ابن صديقنا فلان ... - ماذا به؟ - لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له في النصح يريده رجلا، ودعا حلاقا فقص له شعره ... وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه ... هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد ليحمل تبعات الغد ... - فؤاد؟ وا حزناه!
وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه، وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته وعيناه إلى كل غادية ورائحة، لا يعنيه شيء من الأمر إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة، ثم صورة فؤاد الصريع مسجى في أكفانه يلعنه مشيع جنازته!
وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي ...
ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه، فهتفت في تأثر: سيدنا ... رحمه الله وغفر له!
قلب أم ...
صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلما بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي العمر وتختزل الحياة ...
هذه هي الدنيا ...
يا ويلتا! ... وفي الناس من يعيش في دنياه كما يدور الثور في الطاحون: يدور ويدور ولا يزال يدور لا يدري أين ينتهي، ويمضي على وجهه في طريق طويل لا يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، وحوله أربعة جدران!
وهل الحياة إلا يوم مكرر؟
ما أمس؟ وما اليوم؟ وما غد ...؟ إن هي إلا رسوم متشابهة تتعاقب على مرآة مثبتة في جدار قائم. الصورة واحدة ولكنها تلوح وتختفي، وتزعم المرآة أنها ثلاثة شخوص أطافت بذاك المكان!
ولولا خداع النفس وأباطيل المنى ما طابت الحياة! ••• ... واستيقظت «الأم» ذات صباح كما تستيقظ كل صباح، فأبدلت ثوبا بثوب، وجثت في محرابها تصلي لله وتدعو ...
كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات.
لقد فارقها «الرجل» فراق الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مثواه، ولكن ذكراه بقيت معها في ولديه ... ... وبكرت إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينها دموع، ثم تحولت عنه إلى ولديه لتجفف في صدرهما دموعها.
وآلت منذ ذلك اليوم أن تكون لهذا الطفل وأخته أما وأبا ... وبرت بما وعدت. كان ذلك منذ أربع عشرة سنة. •••
أما الفتاة فقد شبت واكتملت ونضجت ثمرتها فانتقلت من دار إلى دار ... وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه ... وعرفت دنيا جديدة ... أتراها تذكر اليوم أمها ...؟ ألا إن أمها لقانعة راضية بما بلغت من أمانيها ... لقد تحققت لها أمنية من أمنيتين ...
وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة، فما أهون ما بقي! ... إنه بعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة ...
وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار ما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي.
يا لله! أهذه هي؟ لشد ما غيرتها الأيام! ... ••• ... كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة كلها مرح ونشوة ودلال ... يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟
أترى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار كعهدها يوم كانت ... ولكن أين تلك المرآة ...؟ لقد علاها غبار السنين؛ فما لها عين تنظر ولا لسان يصف.
هاتان عينان قد انطفأ بريقهما؛ فما لهما همس ولا نجوى.
وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أرج ولا شذى.
وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صدى.
وهذا الشعر - ما كان أجمله يوم كان! - قد خطت عليه الليالي سطورا بيضاء في صحيفة مسودة. إن فيها تاريخ جهاد نبيل أربعة عشر عاما بلا ونى ولا كلال. ... لقد بذلت لولديها أغلى ما كانت تملك؛ بذلت المال والشباب، وبرئت من شهوات النفس وأوهام المنى، ونسيت كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئا واحدا، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله ... ذانك ولداها العزيزان ... أما واحدة فقد بلغت، وأما الثاني ...
إنها لقريرة العين على ما جاهدت وما بذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات. ••• ... وفرغت الأم من صلاتها ودعائها فنهضت متثاقلة إلى صوانها ففتحته فأخرجت منه كسرة جافة فبلتها تحت الحنفية وأخذت تلوكها بين فكيها، ثم صعدت إلى سطح الدار تتشمس ...
وأمسكت عودا من الحطب تهش به على دجاجها وهي تنثر له الحب وفتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لسلوة وأنسا، وإنها لتجد من هذه الطيور أسرة تأنس إليها وتتسلى بمرآها، بضع دجاجات وديك، هذا كل ما بقي لها من أنس العشير!
وانحنت على خم الدجاج فأخذت ما فيه من بيض، ثم هبطت الدرج تستند إلى الحائط حتى بلغت غرفتها، فوضعت ما معها من البيض في كيس النخالة وجلست في النافذة ترقب ساعي البريد ...
لقد تعودت أن تتلقى في مثل هذا اليوم من كل أسبوع رسالة من ولدها ...
وجاء ساعي البريد فسلم إليها الرسالة، ففضتها معجلة وقرأت ...
إنه قادم بعد يومين ليراها ...
يا فرحتا! إن لها عيدا من دون الناس.
ووفرت الأم من غدائها لعشائها، وقامت إلى الصوان فأخرجت ثوبها الجديد الذي خاطته منذ عامين، فرتقت ما فيه من فتوق؛ استعدادا ليوم الاستقبال السعيد.
وكنست، ونظفت، وهيأت فراش الضيف، وجلست تعد الساعات وتهيئ برنامج الاستقبال، ونامت ليلتها تحلم ...
ومضى اليومان وحل الميعاد، وجلست الأم وراء الباب ترقب مقدم فتاها وقد هيأت ما هيأت لاستقباله ...
كذلك تفعل كلما حان موعد زيارته، وإن له زيارة في كل شهر. •••
وتلقت الأم ولدها بالترحيب والعناق، وكأنما عاد إليها الشباب، فإن في عينيها بريقا، وفي خديها حمرة، وعلى شفتيها ابتسام، وفي جبينها ألق.
وجلس إليها ساعة يحدثها وتحدثه، ثم نهض يتهيأ للخروج ليجول في المدينة جولة، ومشى يختال في زيه وزينته، وأمه تشيعه بعينيها من النافذة فرحانة!
لا عليها مما تقاسي من الجوع والظمأ والحرمان وإنه لسعيد. حسبها من سعادة العيش أن يكون ولدها كما يتمنى لنفسه، إنها لتكتم عنه وعن الناس ما تجد من الضيق والحرج وقسوة الحياة. وماذا يجدي عليها أن يعرف إلا أن يحزن ويتألم! ... وتوارى الفتى عن عينيها في منعطفات الطريق، فابتعدت عن النافذة وعلى خديها دموع، وراحت إلى الصوان تفتحه لتخرج صندوقها الصغير؛ الصندوق العزيز الذي يضم ذكريات الماضي جميعا، ويضم أماني المستقبل ...
في هذا الصندوق أهدى إليها زوجها الذي فقدته منذ بضع عشرة سنة هدية العرس الغالية، وفي هذا الصندوق كانت تحفظ ما تحفظ من حلاها وجواهرها يوم كان لها حلى وجواهر، وفي هذا الصندوق كانت تدخر ما تدخر من مال لتنفق على ولديها حتى تبلغ بهما مبلغها ... فماذا يضم صندوقها العزيز اليوم؟
بضعة جنيهات، وقرط مكسور، وسوار من الذهب؛ هذا كل ما هناك ... وإن بين ولدها وبين الغاية التي يهدف إليها بضعة أشهر ... ماذا يجدي كل ذلك؟ ••• ... وتركته في فراشه نائما يحلم، وبكرت إلى السوق وفي يدها قرطها المكسور وسوارها ، تشد عليهما أناملها المرتجفة.
وعادت بعد ساعة ومعها مال!
واستيقظ الفتى ليقص على أمه رؤياه وهو يضحك في مرح ونشوة، ويمنيها بما ينتظر من السعادة يوم يكون ويكون. وابتسمت ...
ورفعت عينيها إلى السماء وعلى شفتيها نجوى خافتة، وفي قلبها أمل.
وقامت تودعه إلى الباب، وأعطته ما طلب، لم تحرمه من شيء في نفسه، وانثنت إلى غرفتها لتضع الصندوق الفارغ في موضعه من الصوان.
ومضى الفتى على وجهه لا يبالي ما خلف وراء ظهره ... من ذا الذي يرى هذا الفتى المتأنق الجواد فيعرف من يكون؟
إنه هو نفسه لا يعرف ... وأمه حيث تركها، تعيش في دنياها بين صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلما بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي الحياة وتختزل العمر، وهي لا تدري. هذه هي دنياها. ولكن لها يوما تترقب مطلعه على شوق ولهفة، ولكن متى ...؟ أترى هذا اليوم حين يجيء يرد عليها الشباب المدبر والعمر الذي ضاع؟! •••
وانقضت بضعة أشهر، وحان اليوم الذي كانت تنتظر، وكانت راقدة في فراشها تحلم، حين دخل إليها زوج ابنتها ليزف إليها البشرى ... بنجاح ولدها ...
وجلست في فراشها وأشرق وجهها بابتسامة راضية، وقبلت البشير قبلة، ثم مال رأسها على الوسادة ... وكانت تبتسم ...
وهتفت في صوت خافت: الآن أديت واجبي! وعادت الابتسامة إلى شفتيها أكثر إشراقا وفتنة.
ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة حتى استقرت على صورة فتاها في إطارها، ثم أطبقت أجفانها.
وتراقصت أشعة المصباح الذابل في الغرفة الخالية من الأثاث إلا من سرير محطم عليه جسد محطم.
وهبت نسمة عابرة فأطفأت المصباح وعم الظلام. وخرج الرجل ناكس الرأس يتعثر في خطاه ليلقي إلى زوجته النبأ الفاجع ...
وكانت زوجته جالسة إلى المرآة تتزين ... •••
وعلى حين كانت الدار تموج بالأهل، والجيران يتهيئون لتشييع الأم إلى مقرها، كان الفتى جالسا في ثلة من أصدقائه وصديقاته يحتفلون باليوم السعيد!
إبليس يتوب!
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ... ***
أرخى الليل سدوله على الكائنات، وأوى الناس إلى مضاجعهم فارغين من هم الحياة، إلا محزونا قد حضره بثه، أو عابدا قائما في محرابه، أو حارس ليل قد سهر لعيشه، أو عاشقا يسترجع ذكرياته، أو صاحب لهو وغزل قد اسود نهاره وابيض ليله ...
وفرغ إبليس مما كان فيه من تدبير سلطانه وسياسة رعيته، وانفض «زبانيته» عن مجلسهم إليه كل مساء، فتفرقوا زبنيا وراء زبني، وانبثوا ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام، ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين من البشر ثالث من جند الشيطان لا يريانه ... وتسلل إلى مضاجع النوام من بني آدم نفر من الزبانية يصنعون لهم الأحلام، ويتمنون الأماني، ويوقظون الشهوات ...
وأشرف إبليس من طاقه على الدنيا يرقب ما يكون من أمره وأمر الناس، أيقاظا أو نائمين. وكأن قد سره ما رأى وما سمع، وما ألقي إليه من علم ما لم يسمع ولم ير، فاطمأن إلى غلبة سلطانه على الأرض، ونفاذ حكمه على البشر، واستعلاء كلمته في الناس ... فبردت ناره، وهدأت حميته، وسكنت فورة الكبرياء التي شبها الحسد في قلبه يوم اتخذ الله بشرا من طين ليجعله خليفة في الأرض ... ... وكأن قد رأى إبليس في تلك الليلة أن المباراة بينه وبين البشرية قد انتهت إلى غايتها، وثبتت حجته على الله ... فتمتم بكلمات مزهوا فخورا بالنصر والغلبة، فلم يكد يفعل حتى برق البرق، ورعد الرعد، وعصفت الرياح، وتهاوت الشهب، وزلزلت الأرض، وتحركت الرواسي، ولاح بين المشرق والمغرب شعاع من نور ...
وارتعد إبليس وأخذه الروع حين رأى ما رأى وسمع ما سمع، وناله من الفزع ما لم ينله مثله منذ كان؛ فهتف في ندم وذلة وضراعة: «يا رب! أئنها القيامة ...؟»
فلم يلبث أن خبا البرق، وسكت الرعد، وهدأت الريح، وسكنت الأرض، وأرسيت الجبال؛ فأفرخ روع إبليس، وثابت نفسه إلى الطمأنينة، وعاد يشرف من طاقه على الدنيا هادئا راضيا يرقب ما يكون من أمر زبانيته وأمر الناس!
وسمع في هدأة الليل شيخا قائما في محرابه يصلي لله ويدعو، فما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. وأحس إبليس لعنات الشيخ تتساقط عليه وحواليه رجوما، فلو كان من طين لاحترق، ولو كان من ثلج لذاب ...
وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب؛ كيف عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة هذا الآدمي وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجزه أن يطرد أباه من الجنة ...؟!
وكأن قد سمع إبليس وهو في موقفه ذاك ضحكة ساخرة ردته عما هو فيه من الغيظ والحنق إلى التفكير في شأنه وشأن بني آدم جميعا: هذا آدمي يلعنه في صلواته ويقذفه برجومه، أفكان يعتصم من لعناته لو أنه سلط عليه شهواته وأغرى به هواه؟! فكيف وإن من بني آدم ملايين من أهل الغواية والضلال لا يتورعون عن منكر ولا يتحرجون من معصية، وإن الآدمي منهم ليرتكب الخطيئة طاعة لأمر الشيطان ثم يلعنه، بل إن منهم من يقارف الذنب وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم، فكأنما ييسر لهم إبليس شهواتهم ويضاعف لهم مسراتها ليجزوه على ما قدم إليهم رجوما ولعنات؛ فإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته، وهو الشيطان الرجيم على لسان كل بشري من بني آدم، سواء منهم طائعه وعاصيه!
وظل إبليس في موقفه ذاك، مشرفا من طاقه على الدنيا، يتفكر في شأنه وشأن بني آدم، وزبانيته ماضون لما أمرهم: يخالطون أنفاس النائم، ويوسوسون في أذن اليقظان، ويؤنسون خلوة المستوحش، ويوحشون مجتمع الأحباب ...!
وهب نسيم السحر نديا رطبا يعطر الدنيا بأنفاس أهل الجنة، فاستروح منه إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه؛ وتغشته الذكرى، وعاد الزمان القهقرى أمام عينيه، فإذا هو ملك بين الملائك يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه آبيا مستكبرا أن يسجد لبشر من طين، وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يرجمه الفضاء ويلعنه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فيزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا له شيطان يسعى بين يديه ... ... ثم ها هو في موقفه ذاك، تتناثر من حوله لعنات الأحياء من بني آدم جميعا، وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم وأضلهم سواء السبيل ...!
ولأول مرة في تاريخ البشرية استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه ...!
يا لها سخرية ...! إبليس يتوب ...!
كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاما لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!
أكانت توبة نصوحا، أم مبالغة في الانتقام، أم هو قد اشتهى أن يعيش بشرا بين البشر عمرا من عمره؛ ليذوق بعض لذات البشرية ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعا منذ كانوا، فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان ...؟ •••
وطلع إبليس على الأرض فتى وسيما يمشي على قدمين مشي الناس، وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاج على ندي ساهر له به عهد؛ لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجرا على حجر، وطالما قضى فيه الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه ذو عينين، ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء ...
كانت مصابيح الندي ترمي أضواءها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركا يصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكأن كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملا يغريان من يلتمس إرضاء شهواته ...
ولكن ... ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر؛ فيرى، ولكنه يرى أجسادا لا تكاد تتحرك؛ ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيونا محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة طارئة قد ألقيت إلى قلوبهم فإنها لتسيطر عليهم جميعا فتجمعهم على حال واحدة بين السخط والرضا، وبين الندم والاستغفار؛ وكأنما كانت على أعينهم جميعا غشاوة فانقشعت، فعادوا يرون ويسمعون ما لم يروا من قبل أو يسمعوا ...!
وجلس الشيطان إلى مائدته وحيدا وطلب طعاما، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية في أعماق أصحابها.
ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها ها هنا وهنالك نقد وورق، ورأى كئوسا فارغة وممتلئة، ورجالا ونساء قد تحلقوا حول المائدة كتفا لكتف، وامرأة بين كل رجلين ... ولكن يدا واحدة لا تمتد إلى شيء، وفما واحدا لا ينبس بكلمة ...
وأبصر رجلا يهتز في موضعه هزة خفيفة وهو يتحدث إلى نفسه حديثا وعاه إبليس كأن قد سمعه بأذنين: «ماذا يصنع وقد خسر على المائدة كل ما كان له من مال؟ إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه؛ لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، هو قضاء غير مشروع، ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة!» وقالت له نفسه: «ما أنت والقمار؟ كم نهيتك فلم تنته! الآن فذق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك لا تستمع إلى إغواء الشيطان من بعد ...»
واختلج إبليس في مجلسه اختلاجة كادت تنم عليه حين ذكر اسمه، وهم أن ينهض لولا أن أقبل عليه النادل بالطعام.
وشغل إبليس لحظة بالأكل يزدرد اللقمة بعد اللقمة لا يكاد يحرك بها فكه، وعرف لأول ما ذاق الطعام لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان!
وعاد ينظر إلى وجوه الناس ويتسمع نجوى الضمائر، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقا في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه ألوان شتى من الندم والخزي والحياء ... ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال المبعثر على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: «معذرة يا صحابتي! فإنما هو مالكم ليس لي حق في شيء منه، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما هي السلوة وإزجاء الفراغ ...» وعض على شفتيه واحمر وجهه خجلا؛ إذ كان يعلم ويعلم أصحابه أنه كاذب في اعتذاره، فما قامر إلا مؤملا أن يربح، وما ربح من قبل مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حتى ضم يديه على المال أحس كأنه يقبض على جمر، ورفت به سانحة من الخير فتعفف أن يأكل مال الناس، فخرج عنه لأهله ...!
ونظر الرجل إلى يمينه فإذا جارته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس: «أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟»
قالت المرأة: «عفوا، ليس لي شأن بذاك، ولكن أمرا يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار ...!»
وهبت واقفة، فقال الرجل متلطفا: «أتأذنين أن أصحبك؟»
قالت: «شكرا ...!»
وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة. ومالت إلى غرفة في الندي تأخذ زينتها في المرآة، فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر، ثم أطرقتا!
منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب أغواها حتى نال منها ثم اختفى وخلف بين أحشائها بضعة منه، ففرت بعارها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي داء قلبها بالانتقام من الرجال!
وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوما أن لها حقا على رجلها، وإنه لدائم التجوال بين البلاد، لا تستقر به الحياة في داره يوما حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المال أو يطلب المجد، وليس لها من ماله أو مجده إلا الحرمان والظمأ ...
لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم على ما تأتيان من المعصية، فما بالهما الليلة مطرقتين قد جثم على صدريهما الهم ...؟!
أرأيت إلى المجرم إذ يفجأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر ...؟
وعادت المرأتان تنظر إحداهما إلى الأخرى، فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين؛ وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إثما ولم تجترح معصية ... ... وتلفت إبليس فإذا الندي مقفر خال ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد! •••
وتنفس الصبح فأبدل إبليس ثيابا بثياب وانطلق في تبانه وبرنسه إلى شاطئ البحر ليستمتع هنالك بما يستمتع به البشر، ويملأ عينيه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وها هو ذا البحر، فأين فتنته وسحره؟ وأين مباهجه التي كانت؟ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء؟ وأين العيون التي ترمي فتصمي؟ وأين لآلئ البحر تغوص وتطفو؟ وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض؟
لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزا مقرورة مستلقية على الشاطئ لا يبدو منها إلا عينان تبصان كصدفتين في كومة رمل! وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء، وهذا رأس رجل يبدو سابحا من بعيد، فما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح!
وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد؛ لقد ودع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع شيطانيته تائبا ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم! •••
واطمأنت الحياة بالناس حين بطل سحر الشيطان، فاجتمعوا على الرضا والطاعة في حال شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمة عدوان يدعو إلى المقاومة، أو تربص ينبه إلى الحذر، أو كيد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أمة وحده، يعيش في رضا وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحا وحبا للخير؛ ولكن الجماعة حين وجدت الأمن والسلام، لم تجد ما يشد وحدتها ويربطها آصرة إلى آصرة.
ودب النعاس إلى أجفان الحياة؛ فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط لأنه جهاد في غير عدو؛ واستنام الناس إلى القدر لأن التمني ضرب من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالا على نصف الناس؛ فليس ثمة عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم، وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟
وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟ •••
وقال فتى لصاحبه: «قد آن أوان «مولد» الولي العارف بالله ...» فأجابه صاحبه: «دع عنك يا صديقي، وتعال نلتمس نزهة في غير ساحة هذا المولد، فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؟ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله، وأتخذ أولياءه قدوتي وإمامي ...»
وأمن صاحبه على قوله، ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى؛ لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!
وقال بعضهم لبعض: «أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا؟»
فأجاب شيخ كبير: «ذلك من عمل الشيطان ...»
وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول: «ليت خمري كانت خلا ...!»
وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي: «أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد ...؟» •••
ونظر شيخ من الزهاد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ وهل يضاعف الأجر إلا المقاومة؟ أما لو أن عابدا قضى الدهر كله راكعا ساجدا، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الإيمان والتقى، فهو أبدا في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبدا مأجور أجرا لا ينتهي!
وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاومة، وتوقع ما يأتي به الغد على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفقدت دواعي المقاومة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها - أعمى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام - فقدت الحياة معناها الأسمى، وعاش الناس في هدى أشبه بالضلال، وفي فضيلة شر من الإثم والفسوق والعصيان!
أيها الزاري على القدر، ليتك تدري ...! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك، ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف؟!
وهل يعلم الفساق والعصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أخراهم حطب جهنم، كانوا في دنياهم سلم البشرية إلى مثلها الأعلى ...؟ •••
وتثاءب الشيطان وتمطى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر، وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضيق والملل وتقلب الرأي، إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقر عاد ينشد الحركة ويتبرم بالسكون ...!
وقلب وجهه في السماء كاسفا محزونا، ثم أسند رأسه إلى راحته، وجلس يتفكر ...
أي خير كان يقدم للجماعة البشرية، على حين كان لا يبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط؛ لأنه هو قد بطل سحره، وإذ لم يبق في الدنيا شر، مات في الجماعة روح الانبعاث إلى الخير ...!
وهتف «الشيطان» ذاهلا في حيرة: «يا رب! ما أعجب تدبيرك وأدق حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في هذا العالم؛ لتوجد منهما الخير الأعظم، وأنا - أنا عبدك المشئوم - حسبتني يوما أكبر مما أنا، حين ذهبت أهدم ما تبني، وأعصي ما تأمر، وأدعو إلى ما تنهى؛ فلما آذنت أن تذل كبريائي، أريتني نفسي إلى جانب عظمتك، أنا الذي زين له الغرور يوما أنه أكبر من أمرك، فإذا أنا أعصي عصياني في طاعتك، وأفسد إفسادي لإصلاح عبادك، على قدر منك وتدبير حكيم ...»
وشعر إبليس بالخيبة تلاحقه في كل مكان، فلا هو هناك - في عالمه الشيطاني - كان موفقا فيما يحاول من أسباب الانتقام، ولا هو هنا ...
وعاودته نزغة شيطانية، ولكنه لم يلبث أن قمعها في صدره وانطلق في سبيله. •••
وانتهى إلى البستان المعشوشب المخضل وقد نال منه الإعياء، فارتمى على العشب الرطب يستريح في ظل وارفة لفاء، وطلع له من بين ملتف الحدائق حسناء وضاءة، تمشي كما يهتز الغصن، وترنو كما يبتسم الزهر.
وأحس إبليس مرة أخرى أن قانون البشرية يعمل في دمه وأعصابه، وأطال النظر إلى الحسناء الفاتنة، ثم أطبق عينيه كأنما توهم أنه قد احتوتها أجفانه، وشعر بمس الحب في قلبه فأشرق وجهه بابتسامة هادئة فيها لمحة من السرور وغير قليل من الألم.
وجلست الحسناء جلستها على العشب غير بعيد، وضمت إليها أطراف ثوبها يستر شيئا ويكشف عن شيء، مستأمنة مطمئنة.
وخطا إبليس خطوتين إلى حيث جلست يسألها شيئا، فاستحيت حواء الصغيرة وأرخت فضل ثوبها على الوجه الفاتن، ووقف إبليس ينشد قصيدة غزل طويلة وعتها حواء كلمة كلمة ومعنى معنى ولكنها لم تنبس، ومد إليها يدا يستنهضها فما نهضت وازورت عنه معرضة، وسكت ولكن عينيه ظلتا تتحدثان حديثهما ...
واربد وجه المرأة من غضب، فما رأى إبليس غضبتها إلا فنا جديدا من فنون جمالها؛ فدنا منها وعلى شفتيه ابتسامته، فقالت وقد ضاقت به: «إليك عني يا فتى وخل سبيلي ...!»
وضاق صدر الشيطان بهذا الإنسان العنيد، وثقل عليه أن يعجز عنها وهو هو!
كم أنثى قبل صاحبته هذه كانت من عباده وأتباعه، ما تأبت واحدة منهن على ما أراد لها، على أنه اليوم يريدها لنفسه هو، فليس به اليوم حاجة لأن يسعى لغيره وقد خلع عنه شيطانيته ...!
ماذا ...؟ أيعيش هذه الآلاف من سنيه الماضية يتحكم في البشرية كلها، ويملي إرادته، ويسعى بين الناس، ويصل بين الأحباب، ويقدم الثمرة لكل من يشتهيها؛ حتى إذا اشتهى هو أن يذوق تلك الثمرة أعجزه أن ينالها ...؟
وللمرة الثانية منذ خلق، شعر أن كبرياءه جريح ...
لقد أبى أن يسجد لأبي البشرية كلها وفسق عن أمر ربه، أفتفسق عن إرادته امرأة؟ وما هو إن لم يغلبها على نفسها؟ وما هي حتى تتأبى عليه كل هذا الإباء؟
وعاود احتياله يستجدي الحسناء بعض الرضا؛ فولت عنه معرضة مستكبرة، ومضت تدوس بقدميها الصغيرتين قلب إبليس ...!
وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمدته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنسانا ضعيفا قليل الحول لا قدرة له على التصرف، ولا طاقة له بالاحتمال ...!
ووجد له شغلا من فراغ ... وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها لا يبالي نظرات الناس، فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يدا في يد، وجنبا إلى جنب!
وأحس إبليس - فوق ألم الحب الذي يجد - ألما جديدا من آلام البشرية، وقذف منظر الزوجين المتحابين في قلبه الحسد ...!
وآده العجز والشعور بالحرمان، فعاودته شيطانيته ثائرة محنقة، على أنه وقد ذاق بعض لذات البشرية في آلامها، لم يكن يطيب له أن يرتد إلى عالمه، ولكنه حين أحس العجز عن الظفر بالمرأة التي يشتهيها، راح يستمد الحيلة من طبيعته «الشيطانية» الأولى ليظفر بما يشتهي وهو باق في بشريته!
ولكنه - وا أسفا! - لم يستطع أن يكون شيطانا ورجلا في وقت معا، وحين ألهمته طبيعته الأزلية بالرأي وأمدته بالحيلة، فقذف فكرته في نفس المرأة، كان خلقا آخر ليس من البشرية ولا حظ له من المرأة. ونفذ سهم إبليس إلى قلب الحسناء، فنظرت إلى وراء تفتقد عاشقها المدنف فلم تره؛ وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطانا لا تحسه النظرات ولا يخضع لنواميس هذا العالم؛ ورآها وهي تنظر نحوه متلهفة مشتاقة، فما نالته نظرتها ولا مست قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقته حين لبس جلدة شيطان ...!
وكتب في تاريخ الأرض أن إبليس قد تاب مرة، ولكن ردته إلى شيطانيته امرأة ...!
رجل ... وامرأة!
جلس الرجل في حجرة الانتظار بالمدرسة يجيل طرفه في قطع الأثاث المبعثرة، وينقل الطرف بين السقف والأرض والحيطان. لم يتغير شيء عما رآه لآخر مرة منذ أربع سنوات ... يوم كان معلما في هذه المدرسة ... ... هذا النضد الصغير في الزاوية كأنه قطعة من بناء الحجرة، لم يتزحزح أنملة عن موضعه؛ وهذه الأريكة الكبيرة التي طالما تمدد عليها في أوقات فراغه ولوى ذراعيه تحت رأسه وسبح في أحلام اليقظان؛ وهذه الصور في أطرها معلقة على الحيطان تطل منها هذه الوجوه الصغيرة في أساريرها مرح الطفولة، وفي عينيها بريق الأمل المتوثب؛ لم تزل كذلك في موضعها حيث صففها بيديه قبل سنين، ولكنها زادت عما عهدها طائفة من الصور في عديد من الأطر؛ لا شك أنها صور الفرق التي أتمت دراستها بالمدرسة منذ فارقها ...
ودفعه الحنين إلى الماضي؛ فنهض يتأمل صور تلاميذه هؤلاء الذين عاش بينهم شطرا من حياته في منزلة الأب الثاني، ثم فارقهم وفارقوه منذ سنين بعيدة، فوجا بعد فوج، إلى حيث لا يدري من فجاج الحياة. ما أسرع مر السنين! أي هؤلاء التلاميذ يذكره اليوم وإنه ليذكرهم فردا فردا؟ وأين هو اليوم منهم وأين هم؟ لعل منهم اليوم صاحب المنصب الرفيع والجاه العريض، وهو ما زال حيث تركوه في منصبه وجاهه، تتقاذفه المقادير من قرية كبيرة إلى مدينة صغيرة، ولكنه في موضعه من الحياة حيث كان: معلم أطفال! ذلك مكانه على الحقيقة مهما تقلبت به الأمكنة والأزمان!
ووقف بإزاء صورة من عديد الصور المعلقة، فلم ينتقل عنها ولم يخفض بصره؛ لقد ألمت برأسه ذكريات من الماضي، ذكريات حية لم يزل قلبه بدمها ينزف. وحدق في الصورة طويلا تحديق العانس في المرآة تنعى الشباب وتتهم الزمن ... منذ ثماني سنوات حين دعي ليجلس بين تلاميذه في هذه الصورة، كان شخصا آخر غير الشخص الذي يعيش اليوم ... لقد كان يومئذ يعيش في دنيا من الأحلام، أحلام الشباب والمرأة والحب، أين هو اليوم مما كان؟ أما الشباب فقد عرقته أحداث الزمن، وأما الحب فقد دفنه هناك ولفه في أكفان اليأس والخيبة، وأما المرأة ...
وانقطعت سبيبة الذكرى حين أقبل عليه ضابط المدرسة يهز في يده عصا ويتبعه غلام. إنه ولده ... لقد فارق هذه المدرسة منذ سنين ولكن بضعة منه لم تزل ثمة ... ليته لم يكن أبا ... إذن لاستراح من ذلك الماضي كله فلم يذكره ولم يأس على شيء مما ناله فيه من الخزي والندامة، ومن الأحزان والآلام ... ودمعت عيناه حين أهل الصبي وراء الضابط وعلى شفتيه ابتسامته، وبسط الرجل ذراعيه يستقبل ولده ومال عليه يقبله في لهفة وشوق، وفي حسرة وأسى ... وطأطأ الغلام رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته، وسبح أبوه في ذكرياته ينشرها ويطويها ... ••• ... أما هي ...
لقد كان يحبها أعنف الحب وأرقه، ولم يكن يتمنى من دنياه إلا أن يظفر بها زوجا يصفيها الحب ويخلص لها الوداد، وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليوم مما كان يأمل من سعادة؟ لقد أفلتها فلم يبق بين يديه من تلك المنى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عيني هذا الغلام ...
وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه. لقد عرفها فتاة في بعض الملاعب العامة مع أخيها الصغير، فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني ... واستطاع أن يلفتها إليه ويدعوها إلى الاهتمام بأمره ... ومدت إليه خيط الرجاء فتعلق، ومضت الأيام تقرب بينهما وتدني نفسا إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته وأنه كل شيء في حياتها، وشاطرته سعادة الأمل، وأخذ يعد العدة للأمر العظيم يوم تكون زوجه، واستبقا الأوان فمنحته من ودها على غفلة الأهل أشياء في إباء الراغب ورغبة المتأبي. ولم تكن أيام المواصلة على وتيرة؛ فيوما دلال، ويوما عتاب، ويوما يكون الرقيب دون ما تريد ويريد ...
وهكذا راح الزمن يذكي في صدريهما لواعج الشوق ويضرم لهيب الوجد أربع سنين متوالية، بين لهفة وشوق وأمل. ثم زفت إليه ...
لقد شعر يومئذ أن الدهر أتم عليه نعمته وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقها إلا بتقديس وعبادة، وظل بعدها في العبادة والتقديس! وإنها لتحب السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طباع الترك، وإن فيه لطراوة ولينا من ضعف العاشق الذليل؛ فأخذت تملي عليه إرادتها فيسمع، وتستثيره فيذل ويخنع. وكانت تأمل أن تجد فيه سيدها، ولكنه ما زال يختضع لها حتى أنفت لها نفسها أن تكون سيدته ...! وخاب أملها في الرجل الذي قدرت أن يكون، فراحت تستنهض رجولته بما تنتقص من سلطانه، وإنها لتتمنى أن يعاصيها ويتمرد على إرادتها فتشعر به زوجا كما أملت. ولم يجد هو عندها ما يأمل من حنان الزوجة وعطف الحبيبة، فراح يستجديها الحب بما يستخذي لها ويتلاشى نفسا في نفس، وأطال الركوع بين يديها والسجود عند أطراف ثوبها كما صور له بلاء الحب ...
وتطاولت، وما زالت تتطاول، حتى جاوزته طولا وعرضا، وتصاغر، وما زال يتصاغر، حتى لم يعد في عينيها شيئا يذكر، لا في وهم الحب ولا في حقيقة البشرية ...
واستشعرت لذة الإمارة حين فقدت لذة الاستسلام، ولم يشق عليها أن تبلغ من السلطان ما أرادت، فلم تلبث أن وجدت نفسها الآمرة المطاعة في مملكتها، وتعبد لها السيد فراحت تسرف فيما تأمر وما تنهى، وتبالغ في مطالبها، لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية ... ••• ... وعاد الزوجان من المصيف؛ أما هو فعاد فارغ الجيب ممتلئ النفس، يتوزعه الشك والقلق وسوء الظن بنفسه وبالناس؛ وأما هي فعادت فارغة القلب راضية النفس، قد عرفت فنونا من الحياة وألوانا من السعادة وضروبا من النعيم لم تكن تخطر لها قبل اليوم على بال؛ وصار همها من دنياها ثوبا جديدا تختال به على صواحباتها، أو ليلة ساهرة تلتمس فيها متاع القلب والنظر، أو سفرة إلى هنا أو هنالك تجتلي من مشاهدها أنسا وبهجة ... ولم يكن يضن عليها بشيء ...
ونسيت تدبير البيت، وشئون الزوج، فكانت تقضي نهارها زائرة أو طائفة بالمعارض والملاعب ودور اللهو، وأخذت تنفلت من قيودها شيئا بعد شيء، حتى اطمأنت إلى حريتها كاملة حيث تغدو وحيث تروح، وحيث تنفق من وقتها ما تشاء في الليل أو في النهار!
وألف الرجل أن يعود إلى داره في النهار أو في الليل فلا يجد زوجته ثمة، ولا أحد غير الخادم تخلع عنه ملابسه وتهيئ له طعامه؛ ولم يكن ذلك ليسوءه كثيرا، فحسبه من الزوج الحبيبة أنها سعيدة هانئة، وأنه يستيقظ في الصباح على نغمات من صوتها الندي الرقيق، ويمسي ووجهها آخر ما يراه من دنيا اليقظة ... واستمرت الكرة تتدحرج مبعدة عن منال يمينه ...
وعاد ليلة إلى داره متعبا مكدودا يلتمس شيئا من أسباب الراحة، ودق الباب فلم يجبه مجيب، وعاود الدق فلم يجد غير الصدى يرن ثم يتلاشى في مثل ضحكة ساخرة من فم امرأة ... «ترى أين ذهبت الخادم الساعة؟»
كذلك سأل نفسه، ولم يسأل: «أين زوجه الآن؟» فلعل ذلك لم يكن يعنيه بقدر ما يعنيه أن يجد باب الدار مفتوحا! لقد تعودت زوجه ما تعودت، وتعود منها ما تعود حتى لا يكاد يكون لها شأن في الدار إلا أن تأكل وتنام. لقد اصطلحا على أن هذه الدار ليست لهما إلا «فندقا خاصا » يجدان فيه من الطعام وراحة الجسد ولذة الغزل ما لا يتهيأ لهما مثله في «فندق» آخر؛ ولكن فندقهما هذا ليس له اليوم خادم ولا بواب ...! أليس لهذا المسكين على امرأته مثل حق الأزواج على الزوجات، أو مثل حق النزلاء على مدير الفندق؟!
وأخذ الرجل يذرع الطريق غاديا رائحا، ويداه معقودتان خلف ظهره، ورأسه إلى الأرض لا يرفعه إلا لمحة بعد لمحة ليمد بصره إلى أول الطريق ...
ورآها مقبلة في سرب من رفيقاتها تهتز أعطافهن في فتنة وإغراء، ويتهانفن في الحديث عابثات، ورأته زوجه فأسرعت إليه قائلة: «أنت هنا؟» ولم تزد، وسبقته إلى الباب، وانصرف صواحبها. وقال لها وقد اطمأن بهما المكان: «لقد انتظرت طويلا ... أين الخادم؟»
قالت: «أوه! ألم أنبئك منذ أمس ...؟ لقد ذهبت إلى أهلها، ومن أجلك عدت مبكرة!»
قال منكرا وقد رسم الاستياء خطين على جبينه: «مبكرة؟!»
ومالت عليه فطوقته بذراعها، وراحت أصابعها تعبث في شعره، وانطبعت على شفتيها ابتسامة فاتنة. فانبسط الرجل من عبوس، وذاب غضبه في حرارة صدرها الدافئ ... ... وتتابعت أيامهما من بعد بين غضب ورضا، فقد بدأ الرجل يحس أن له على امرأته حقا ... وأدركت المرأة أن زوجها يحاول أن يعود رجلا وأن يبسط عليها سلطانه، ولكن بعد أن عرفت من أين تناله وكيف تغلبه على إرادته. ومضى عام، وزادت الأسرة ثالثا ... هذا الغلام يعبث بأزرار معطف أبيه ...! ••• ... ودق الجرس في فناء المدرسة، فأفلت الغلام من بين يدي أبيه إلى الصف سريعا، وخلف أباه وحده يسترجع ذكرياته ...
ترى أين هي الآن؟ إنه لم يزل يحبها، ولكنه قد فارقها، أو لعلها هي التي قد فارقته ...!
وآلمته الذكرى، ومد يده إلى جيبه فأخرج من علبته دخينة أشعلها واعتمد على حافة المقعد بذراع وأسند رأسه إلى راحته، وزفر زفرة، وتلوت ثعابين الدخان صاعدة أمام عينيه تخيل له ما تخيل، وراح يتابع الذكرى ...
لقد كافأته زوجه على الحب والطاعة عصيانا وسخرية ...! ليته استطاع أن يكون معها أصلب قناة وأغلب إرادة، فلعله كان أحب إليها صلبا غلابا صاحب إرادة وعنفوان !
إنه كان يحبها حبا بعيد الأمل، ليس له حدود تحصره في حدود الممكن أو تحبسه في دائرة الحقيقة؛ فلما ظفر بها ضل الطريق إلى السعادة التي كان يتمثلها على البعاد حلما في النوم وتخيلا في اليقظة، وبين الأحلام والأماني راح يلتمس قلبها فهوى على قدميها!
وحين أراد أن يهيئ لها سعادة الرضا في جواره، لم يعرف كيف يجعل إرادته تسبق إرادتها فيما تشتهي فيمنحها ما تشاء قبل أن تدعوه إليه آمرة مطاعة ... فتعودت أن تكون آمرة مطاعة!
ولو أن الحجاب بينهما فيما بين الخطبة والزفاف لم يكن في حراسة التقاليد لتفاهم قلباهما على الود الكريم، ووضعا الأساس لحياة الغد على غير جرف هار من الوهم والخيال!
هل كان يعلم يومئذ أن الرجل ينزل منزلته من نفس المرأة بسلطانه وغلبة إرادته، لا بالتذلل والطاعة وشكوى تباريح الهوى؟ ... وعاشرته بضع سنين تعيش معه في البيت كضيف على ميعاد، وكان حظ صديقاتها وأصدقائها منها أكثر من حظه، فربما قضى الساعات في البيت وحيدا وهي هناك، تتنقل زائرة من دار إلى دار، فلم تكن تلزم دارها إلا يوما واحدا في كل أسبوع تستقبل فيه ضيوفها ... ... ومضت على وجهها والرجل في غفلته ...
وفجأه المرض في المصيف واشتدت به العلة، ونصحه الطبيب أن يعود ... أفتعود زوجه من المصيف ولم يمض من الصيف إلا أيام، وليس في العام المديد إلا صيف واحد ... كل اثني عشر شهرا ...؟ ما أغلظ كبده لو أنه ألح عليها في العودة معه قبل أن تنال قسطها من متاع الروح والجسد ...! ... وخلفها على الشاطئ العريان في حراسة الشيطان، تداعب أمواجا في البر وأمواجا في البحر، ثم عادت إليه حين حلا لها أن تعود ... على أنها قد عادت يومئذ أكثر علما بالحياة، وكأنما صنعتها هذه الفترة التي قضتها وحيدة في المصيف صنعة جديدة، فلم تهنأ لها الحياة على ما تعودت من قبل، وحالت ابتسامتها عبوسا ورضاها سخطا، ولم يعد يعنيها كثيرا أن تتحبب إلى رجلها حين يطل من عينيه شيطانه، فقد كان شيطانها أقوى وأغلب ...!
وتهامس الناس عن رجل وامرأة، ورفت على الشفاه بسمات، وتحيرت في العيون نظرات، وتحدث جار من النافذة إلى جاره. وبلغه النبأ أخيرا، وأفاق من وهم الحب وهو على شفير الهاوية، وتراءى له في أعماق الهوة التي تحت قدميه خيال رجل وامرأة وغلام! ... واستعاد رجولته ولكن بعد أن فقد من يأتمر بأمره، وفارقها في صمت عيوفا أبيا، ولكنه خلف قلبه هناك ... تحت وسادتها وبين الحشايا ...!
وتم له ما دبر، ونقل من المدرسة التي كان يعمل فيها؛ ليفارق البلد الذي دفن فيه الشباب والحب والأمل، وتركها وولدها وراح ينشد العزاء وحيدا بعيدا، وقد أقسم أن يعيش حياته وحيدا بعيدا لا تساكنه امرأة في دار، ولا تشاركه في فراش!
ومضت سنوات، وها هو ذا يعود ليأخذ ولده يعيش في حضانته؛ لقد كان يأبى حتى هذه اللحظة أن ينتزع منها ولدها على كره؛ إبقاء على الماضي الذي كان ... يا ويحه! كم ذا يعاني العاشق من ألوان المذلة حين يتنازعه عقله ووجدانه ...! ها هي ذي تدعوه ليأخذ ولده راضية؛ لكأنما كرهت أن يكون ولدها معها نميمة تدل أصدقاءها على أنها أم ...! •••
وصلصل الجرس في المدرسة مرة ثانية وما يزال الأب غريقا يغالب موجات الذكرى الطاغية في يأس العاشق الوفي جوزي بحبه ووفائه غدرا وخيانة! - «تعال يا بني! إنني أنا أبوك!»
وضمه إلى صدره واغرورقت عيناه، ولمحه زميل قديم من زملائه في المدرسة وهو يوشك أن يغادر الباب وفي يده غلامه، وناداه زميله فتمهل، وكأنما عثر الزميل القديم بكنز حين لقي صديقه، فهز يده بعنف وعلى شفتيه ابتسامة رضا، وكان في عينيه سر تهمان أن تبوحا به وهو يقول: «أفلا تسأل عن أصدقائك بعد طول الغياب؟!»
قال الرجل وكأنما يتحدث إلى نفسه: «أراك بخير!» ولم يدر ماذا قال؛ لأنه لم يكن يعني ما قال ...
قال زميله: «فإنني سعيد برؤيتك اليوم ... وستظل معي اليوم وغدا، أليس كذلك ...؟ إن موعد زواجي غدا ... كأنما كان حضورك لميعاد!»
وعبس الرجل وسكت، وعاد ماضيه يتراءى له، ماضيه يوم كان عروسا يتهيأ للزفاف ليس بينه وبين الموعد إلا ساعات، وخيل إليه أن صورة ذلك الماضي تتراءى له الساعة في عيني صديقه القديم. إن على شفتيه ابتسامة الأمل، أفليس يدري على أي هول يقبل ...؟ إنه سيتزوج، ستكون له امرأة، لعله يحبها، ولعلها هي أيضا ... ولكن ماذا وراء ذلك؟ أفيعرف زميله القديم ما وراء غده؟!
وطال صمته، ويد صديقه في يده، وفي يده الأخرى ولده؛ بقية ذلك الماضي. في إحدى يديه تاريخ يبدأ، وفي اليد الأخرى نهاية تاريخ. قصتان أولهما رجل وامرأة، وحب وأمل، وأماني وأوهام ... وخاتمة إحدى القصتين هذا الغلام الذي يقوده، لا يدري القائد ولا المقود أين يذهب به صاحبه، فماذا تكون خاتمة القصة الأخرى ...؟
وظل صامتا، وظلت يد صديقه في يده، واسترخت أجفانه فكأنما أخذته إغفاءة، وانحدرت على خده دمعة، واختلجت يداه في يدي رفيقيه ... وتلاشت الابتسامة على شفتي صاحبه، وانقضبت نفسه، وأحس يدا تختلج في يده فصاح في لهفة: «ماذا بك؟»
وصحا الحالم من غفوته ولم تزل في رأسه بقية من الحلم، وأجاب في غير وعي: «لا شيء ... كن رجلا ... لا تأس على ما يفوتك ... هذه هي الدنيا ...!»
وأفلتت يد من يد، ومضى على وجهه وخلف صاحبه حيث كان ولم يزل في يده غلامه ...
وهبت نسمة فاستيقظ، ومثل ماضيه لعينيه ثانية، وتراءت لها صورتها ... يا لله ...! إنه لم يزل يحبها ...!
وأحس كأنما تجاذبه الأرض إلى الوراء ... إلى حيث يراها ... أبعد كل هذا ...؟ وشعر أنه يمسك في يده شيئا، ونظر إلى جانبه فرأى ولده ... لقد كاد ينسى ... وعادت له من الماضي صورة أخرى، وعاد قلبه فامتلأ حقدا ومرارة ... وجد في السير، وغلامه في يده يتعثر في مشيته لا يكاد يلحقه ... ... وتغلب على نوازعه، وعرف كيف يكون رجلا، وكيف يقمع في صدره ذلك الحب الذليل الذي أفسد عليه حياته وأوشك أن يهوي به إلى الهوان والعار ... ومضى في طريقه إلى البلد النائي، وكأنما كان يدوس بقدميه قلبه الدامي فيحس وخزا أليما فوق ما تخزه الذكرى وتؤلمه ... •••
ومضت الأيام تسدل بينه وبين الماضي حجاب النسيان وهو يغالب هواه ويصارع نفسه، حتى برئ من دائه. وأخذت ذكريات الماضي تتضاءل في رأسه رويدا رويدا حتى أوشكت أن تتلاشى، وانقشعت عن عينيه غشاوة العاطفة التي كانت تغلبه على عقله، وتزين له أن يبيع بالحب كرامة الرجل.
وانقضت سنوات أخرى، وأصبح الرجل ذات يوم صحيحا معافى. ودق جرس الباب، وانبعث الماضي لعينيه ثانية حين رأى نفسه وجها لوجه أمام المرأة التي كان يحبها أعنف الحب، فعاد يبغضها أعمق البغض، ويبغض من أجلها النساء جميعا ... ها هي ذي تسعى إليه بعد سنين من القطيعة تصبحه مبكرة ... أمن أجله أم من أجل ولدها ...؟
لقد أخفقت فيما كانت تسعى إليه، فلم تظفر بشيء من السعادة التي انطلقت وراء أوهامها وحطمت في سبيلها عش الزوجية، وقطعت آصرة الأمومة. وحالت الثمرة التي كانت تتشهى حلاوتها مرة كريهة المذاق حين عرفت منزلتها الحقيقية من نفوس المعجبين بها والمزدلفين إليها من الرجال. لقد انفضوا عنها جميعا بعد أن ملوها، وراح كل منهم يلتمس لحظات سعيدة في غرام جديد أبي يذوق فيه لذة الظفر بالمغيب المجهول ... وعادت إلى الماضي تستلهمه الرأي حين تنكر لها الحاضر، فإذا بقية من العاطفة لم تزل تجاذبها إليه، واستيقظت أمومتها ...!
وذكرت في النهاية الرجل الذي كان يحبها، والذي كان يبيع من أجلها كل شيء، فجاءت تسعى إليه معترفة تائبة ... هيهات ...!
لقد أضلها السراب طويلا، فلما همت أن تعود إلى مناخ الركب كانت القافلة قد ذهبت في طريقها، فلم تدرك غير الغبار يقذي عينيها وتتكاءدها عقبات الطريق!
واستبطأ الفتى أباه عند الباب فأطل من الشرفة ينظر، ثم ارتد ... وأغلق الرجل دونها بابه وخلفها على الطريق، ووقفت بينه وبينها الذكريات المؤلمة عن ماضيها وعن ماضيه؛ لم تؤثر فيه دموع الندم، ولم يعطفه عليها ما ناشدته الحب القديم؛ فقد علمته من قبل كيف يكون بليد العاطفة، فبقي معها بليد العاطفة؛ وعلمته ألا يؤمن بالحب، فأثبت لها أنه لا يؤمن بالحب؛ وعلمته ألا يثق بوعود امرأة، فأكد لها أنه أبدا لا يثق بوعود امرأة ...
وحين عادت المسكينة امرأة ذات قلب ... عاد المسكين رجلا بلا قلب ...!
جناية رجل!
... أجابني صاحبي: «نعم، لقد كان ذلك عملا لا ينبغي، على أنه قد أودى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضيعة طفل يتم في حياة أبويه، وصيرني في عين نفسي وفي عيون الناس إلى ما ترى ... وما أحاول أن أبرئ نفسي، بل إنني لأشعر أحيانا أن علي وحدي إثم هذه الجناية التي لم أقترفها ولم يكن لي يد فيها!»
وصمت صاحبي برهة وهو يحدق في وجهي بعينين فيهما حيرة وارتياب، ثم استأنف الحديث: «بلى، وأقسم لك يا صاحبي، ولكنني كنت رجلا كما تعرف، فلم يكن لي أمل في امرأة ولم يكن لامرأة حظ مني، وأين تجد المرأة عندي ما يغريها بي؟ وأين أجد من نفسي ...؟ لقد كنت أعرف نفسي عرفانا حقا، ولم يكن يخفى علي ما يتحدث به الرجال والنساء عني، وما تتحدث به إلي مرآتي. لقد كنت وما يطيب لي أن أنظر إلى المرآة، كأني حين أنظر إلى صورتي بإزائي أرى شخصا غريبا عني بغيضا إلي لا أطيق أن أراه أو أنظر إلى صورته، وحين يتفق لي أن أرى شخصا في وجهه بعض ما أعرف لنفسي من الدمامة، أزوي عنه وجهي، كأنما يذكرني مرآه بشخص أكرهه ...!
أراك تنكر علي ما أقول يا صديقي، ولكن ذلك كان هو رأيي في نفسي على حقيقته، وقد يكون رأيا غريبا، فما أعرف فيما قرأت أو سمعت أن أحدا كان له في نفسه مثل رأيي في نفسي وإن بلغت دمامته الحد الذي يوشك أن يبعده من حقيقة الآدمية! ... وكنت مؤمنا بأن القدر الذي تكتنفني صروفه منذ الطفولة قد هيأني لشيء غير ما يتهيأ له الرجال في عالم المرأة، من الحب والزواج والأبوة، كأنما كانت تلك العلة التي شوهت وجهي صغيرا، وتلك الحادثة التي أصابتني بالعرج صبيا؛ تحولا في إنسانيتي، وحجازا بيني وبين أحلام الطبيعة التي تهمس في الدم وتوسوس في القلب. وشعرت منذ فقدت أمي ولم أتجاوز السابعة بعد، أن آخر سبب كان يربطني بالمرأة قد انقطع، فليست من دنياي ولست من دنياها، وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلت؛ لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إلي رجلا مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخا مشوها يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة! ... كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي، وكشفت لي عن صورتي في مرآتها ...! ... كنت يومذاك جالسا إلى مكتبي أعالج عملا دقيقا لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل علي حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي، ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة، وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟
ودعوت شابا من مساعدي ليلقاها ويتقصى أمرها فيخبرني، وكثيرا ما كنت أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني، ولكنه في هذه المرة لم يغن عني شيئا، وعاد إلي ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غيري، وقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة، فما هو إلا اعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدر على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي ...! ذلك رأي النساء جميعا، وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقابا لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني ... ... ولم أكن في ذلك اليوم متهيئا لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة، فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها. وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي، وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، حتى لم أجد بدا في النهاية من الخروج إليها ...
ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأة منهن. ولأول مرة منذ ماتت أمي جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيرا مما ظننت وأشب شبابا، ولكني شعرت إذ جلست إليها شعورا لم أحس مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!
كان في وجهها سماحة وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديدا على عينيه، وقد افترت شفتاها عن ابتسامة حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.
لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعد بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت علي تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إلي نظرتهم. ... أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيبا عزيزا لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!
ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفا واحدا مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي، فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها، وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها ... وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيرا وأناة وحسن احتيال. وعنيت بأمرها.
أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد لك بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئا على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؟ ولكنك مصدق ولا شك؛ فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت، ليس لي هم إلا عملي وواجبي!
وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات، وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وانجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلا يبغضه إلي، وتزينت لي الحياة، وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!
ليس يعنيك كثيرا يا صديقي أن تعرف كل شيء، ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها، فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل، فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إلي حديثا أجد صداه في نفسي، ومن غير مؤامرة ولا تدبير رأيتني أمشي معها ذراعا إلى ذراع في الطريق ...!
لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحا بتلك النعمة التي سيقت إلي من حيث لا أحتسب! كلا، ولا بعض هذا، لقد سهرت تلك الليلة إلى الصباح في قلق وهم، وفي حديث بيني وبين نفسي كله تأنيب وملامة، لقد كنت موقنا أنني لست الرجل الذي تؤهله صفاته ليكون حبيبا يلم طيفه بخيال امرأة، ولم أكن من الغفلة بحيث أنسى بسهولة حقيقتي التي عشت بها ما فات من أيامي، وكنت خائفا أن يكون قد بدر مني شيء على هوى أشعرها أملا وأخفى عنها حقيقة؛ فانقادت إلي مخدوعة وعلى عينيها غشاوة.
بلى، لقد كنت سعيدا بحبها، ولكنني لم أحاول قط أن أشعرها معنى يدنيها إلي ويزيدني حبا إليها، وكان ضميري يخادعني حين كنت أستمع إلى نجواه في نفسي قائلا: «لا عليك ملامة إذ كانت تحبك دون أن تطلب إليها!» ويا لها خدعة! وهل زادها حبا لي إلا شعورها بأنها تجد لعواطفها في نفسي استجابة ...؟ وفي مرات كثيرة كان يثوب إلي رشادي ويغيب عني هواي، فأهم أن أقول لها وإنها لجالسة بإزائي: «انظري إلي! هل ترينني أصلح للحب؟» ولكني لم أجرؤ في مرة واحدة من هذه المرات أن أقولها؛ لأن هواي كان يغلبني على رأيي، فتقول لي نفسي: «أوليست تراك دون أن تطلب إليها أن تنظر؟»
وحتى يوم أسلمت لي شفتيها وأغمضت عينيها في مثل غشية الوحي، لم يقع في نفسي إلا أنه عمل منها لا مني، والقبلة المعسولة ما زال يرن صداها في قلبي!
ولكنني مع ذلك يا صديقي لم يغب عني قط أن ذلك عمل لا ينبغي. كانت هذه الحقيقة قارة في أعماقي، على الرغم من هوى النفس وخداع الضمير، ولم أكن يومئذ أعرف. فكيف لو عرفت؟ ... ومضت بنا الأيام على ما قدر لي ولها، لم أحاول أن أسألها شيئا ولم تحاول أن تخفي علي، ومع ذلك فقد ظللت دهرا لا أعرف، على غير إرادة مني ولا إرادة منها، ولم تكن في يقيني إلا فتاة على طبيعتها الطاهرة لم يزل بينها وبين الحياة باب مغلق ... وأغناني يقيني عن سؤالها، وحال بيني وبين التماس أسباب المعرفة أنني لم أكن أريد أن يكون مني عمل إيجابي يشعرها أن لي بأمرها عناية فأمد لها أسباب المنى!
ثم كان يوم وكانت الصلة بيننا قد توثقت حتى لا سر بيني وبينها، وجلست تتحدث إلي، وعرفت ...
يا لله ...! ليتني كنت أدري! وهل كان يدور بخاطري يوما أن هذه الفتاة التي بعيني هي امرأة، هي زوج قد انفتح الباب المغلق بينها وبين الحياة ...!
لم تكن خادعة فيما أعلم حين كتمت عني حديثها طوال هذه الأشهر، ولكنها لم تجد سبيلا إلى أن تقول، فصمتت؛ فلما أمكنتها الفرصة جاء الحديث لوقته فراحت تقص علي ...
وشعرت بالغيرة تلذع قلبي لأول مرة، غيرة رجل يحاول أن يستأثر بما لا يملك دون مالكه! ولكني لم ألبث أن فئت إلى رشادي واستيقظ ضميري، فرحت أوبخ نفسي على ما كان وأشبعها تعنيفا وملامة، ولكني لم أجرؤ أن أقول.
لم يكن لها خيار فيما فعلت. هكذا حكمت حين قصت علي خبرها، فقد ماتت أختها عن بنين وبنات وزوج في سن أبيها له مال وجاه وشفاعة ويد مبسوطة، وكانت هي يومئذ تلميذة في السادسة عشرة، دنياها معلم وكتاب ومسطرة ... وعادت يوما من مدرستها فإذا في غرفة الاستقبال كاتب وشهود، وباتت مسماة على زوج أختها، ثم أصبحت زوجا وأما لبنين وبنات وما حملت ولا ولدت!
لم تفهم شيئا مما مر بها إلا كما تفهم كل فتاة في بيت أبيها حين يقال لها قومي فتقوم، واجلسي فتجلس!
وانتقلت من دار إلى دار، ولكن قلبها لم يزل على نقاوته وطهره؛ في عينيها نظرة الطفل، يرى كل شيء جديدا على عينيه؛ وعلى شفتيها ابتسامتها الصامتة المبينة، وفي رأسها أحلامها؛ ثم التقينا. ... هذا ما قالت لي. وقال لي ضميري: ويحك يا شقي! إنك تحاول إفساد امرأة على رجلها!
وقال لي هواي: وماذا فعلت؟ أيكون الاستماع إلى شقية بائسة تشكو بثها محاولة لإفساد امرأة؟
وزدت من يومئذ آلاما إلى آلامي، وزدت إلى ذلك إيمانا بنفسي؛ وأيقنت من يومئذ أنني شيء، وأيقنت إلى ذلك أنني في عمل لا ينبغي!
وحاولت منذ عرفت أن أبتعد عنها وإن قلبي لينازعني إليها، فلا أنا صممت فيما حاولت ولا هدأ قلبي، وعدت بين نزاع القلب وتأنيب الضمير في شقاوة وألم، ولكنني كنت بشقاوتي سعيدا!
ويلي! ليتني عرفت يومئذ كل شيء! أو ليتني مضيت فيما صممت ولو كان فيه تدميري وهلاكي، إذن لاحتفظت لنفسي براحة الضمير إذ فقدت راحة القلب! ولكنني لم أكن أعرف، وكان الدهر يدخر لي البقية ... ... ولقيت صديقي «فلانا» على غير ميعاد، وجلس يتحدث إلي ... وأرهفت أذني للسمع، وخيل إلي وهو على مقربة مني وأنا أستمع إليه أن بيني وبينه من البعد مسافة تسافر فيها الأحلام وتئوب، وجثم على صدري كابوس مفزع لا يخف ولا يتحلحل، وهممت أن أتكلم فما أطقت الكلام، ودار رأسي مثل خذروف الوليد بين قوتين تتجاذبانه، وتناثرت أشلاء على مكاني ...
ولما أفقت بعد برهة لم يكن بجانبي أحد غيره، ورن صوته في مسمعي: رفقا بنفسك يا صديقي! إنك تتعب نفسك أكثر مما تطيق!
ثم خلفني وآلامي، ومضى! إذن فهو ذاك؟ إنها زوجته!
وهجرت المدينة يا صديقي إلى حيث أحاول التكفير عن خطيئتي والفرار بنفسي، وهجرتها بلا وداع، ولكنها لم تتركني وشأني، لقد أصابها من ذلك مثل سعار الجوع في الكلب الضال.
وكان زوجها يتحدث إليها ذات يوم حديثا من حديثه، فحسبته يعرض بها، فثارت به، ثم اندفعت في ثورتها، وابتسم الرجل وتمتم بكلمات، وألقى الشيطان في أذنها كلمات غير ما قال، فزادت ثورة وهياجا، وقالت: بلى، إنني أحبه وسأتبعه إلى آخر الدنيا!
وعلا بكاء طفل، طفل رضيع لم يفتح عينيه على الحياة إلا منذ أيام معدودات؛ وقلب الرجل عينيه بين الطفل وأمه، وقال لنفسه في همس: إذن فهو ولده ...؟ وفتحت الأم فمها مدهوشة وبرقت، وسألت: أتراه يظن ...؟ ويلي!
ونالني رشاشها على مبعدة يا صديقي وما جنيت جناية ...»
انتقام الآلة!
قصة الخدم والسادة
أهذا إنسان من خلق الله أم من صنعة البشر؟
إن له عينا تنظر، وأذنا تسمع، ويدا تبطش، ورجلا تمشي، ولكأن في هذه الكرة التي تحملها هاتان الكتفان عقلا كعقول الناس؛ فبه يفكر ويعمل، وبه يحس ويتألم ...
ولكنه إلى ذلك ليس إنسانا كالناس، وإلا فما بال هذه السيدة الجالسة هناك لا تكاد تحتشم في مجلسها منه ...؟ إنها لتخلع وتلبس على عينيه فما يختلج له طرف ولا تبدر منه حركة ولا تصطبغ وجنتاه من حياء ...!
وهذا الرجل يعرض مباذله تحت سمعه وبصره فلا يستحيي أن يقول لزوجته ويسمع منها، فإذا خفقت نعل صغيرتهما قادمة تواريا وأتما حديثهما في همس ...!
وما باله واقفا موقفه ذاك في زاوية الحجرة لا يتحرك نبضة عرق ولا خفقة نفس ...؟
وإن على صدره لسربال خادم، وإن في يده لمنفضة من ريش ...!
هذا جرس الباب يرن، وها هو ذا «روبرت» يضع المنفضة من يده ويسرع إلى الباب، وها هو ذا يعود وفي يده بطاقة، وها هي ذي سيدته تعرك زرا في صدره، فيعجل إلى الباب فيستقبل القادم ويقوده إلى الثوي في انتظار مضيفه ...
إن الناظر ليوشك أن يحسبه إنسانا من خلق الله، وما هو بإنسان، ولكنه «شيء» من صنعة البشر ... إنه «مستر روبرت»، ومن ذا لا يعرف مستر روبرت الخادم الصامت المطيع؟
إنه آخر ما أنتجته مصانع أمريكا من فنون الأعاجيب، وإنه لخادم السيدة «إنصاف» بعدما ضاقت بالخدم من البشر وضقن بها ...!
كانت السيدة «إنصاف» مرهفة الحس، دقيقة الشعور، سريعة الغضب، قليلة الرضا، فلم يكن ليعجبها شيء في حياتها؛ فإن نفسها لتهفو إلى الشيء البعيد لا تملكه، فإذا حازته وحصل لها فما هو بالشيء الجميل بعد، ولكنه كله عيوب وقبائح؛ وإن الفستان الجميل ليعجبها على صديقتها فتذهب تلح في طلب مثله، فما هو إلا أن تناله حتى يبدو لها سخيفا، حائل اللون، قليل القيمة، لا يليق إلا للخدم وأشباه الخدم !
وتعجبها الحلية الثمينة في معارض الصاغة، وتتشهاها، وتتخيلها لامعة تتضوأ على نحرها أو في معصمها، وتبيت تحلم باليوم الذي تكون فيه لها؛ فإذا ملكتها وزينت نحرها ومعصمها بدا لها من عيوبها ما لم تكن ترى، فتروح قائلة: لو كانت كذا لكانت أحسن، ولو لم تكن كذلك لكانت أتم وأكمل ...!
ومن أين لشيء في الدنيا الكمال التام والحسن المطلق ...؟
كانت هذه خليقتها المتصرفة بها فيما جل ودق من حياتها، فلكل شيء ميزانه الذي يوزن به في نفسه ولها ميزانها؛ وعرف زوجها ذلك من طباعها فإنه ليراجع نفسه ألف مرة قبل أن يشتري شيئا لها أو للدار، مخافة أن تعيبه أو تتهمه في حكمه؛ فإنه ليحمل راضيا تهمتها له بالتقصير، ولا يطيق أن يحمل معابتها لما يشتري ولما يصنع!
ذلك شأنه وشأنها، وإن له لسلطانا وأمرا نافذا، فكيف شأنها وشأن الخدم؟
كم خادما اصطنعت في هذه الدار منذ كان لها ولزوجها دار؟
إنها لتكاد تنسى أسماءهن ووجوههن، فإنهن لأكثر عددا مما تذكر؛ وما أقامت معها خادم شهرين إلا على كره ومضض؛ أذلك من عيب الخدم أم من عيب السيدة؟
ألا إن الخادم خادم وإن نشأت في بيت الإمارة؛ وإن عيوب الخدم لتكاد تذكر في تاريخنا الاجتماعي منذ أجيال؛ أفلا تكون السيدة سيدة ...؟ ... هذه خادم قد خرجت إلى السوق لشأن من أمر الدار، وبينها وبين السوق خطوات، فلم تعد إلا بعد ساعة! - أين كنت ...؟ ولماذا غبت ...؟ وكيف سمحت ...؟ - يا سيدتي، هذا شأن الخدم!
ولكن السيدة لا تسمح ولا تعفو؛ فالدار في ثورة تؤج، ومعركة تضج؛ والسيد والسيدة والخادم في جحيم! ... وهذه خادم قد ذهبت تهيئ الطعام، فكفأت القدر، وحطمت الوعاء، وأشعلت النار! - كيف صنعت ...؟ ولماذا فعلت ...؟ - يا سيدتي ...!
ولكن السيدة على كثرة ما تنفق لا تكاد تنسى القدر المكفوءة، والوعاء المحطم، والنار التي اشتعلت؛ ويمضي السيد يومه طاوي البطن جوعان، والسيدة والخادم في عراك! ... وهذه خادم تذهب تسأل عن موعد القطار، فلا تعود إلا بعد ميعاد القطار! ... وتذهب هذه لتعود بالصغيرة من المدرسة ، فتعود الصغيرة قبل أن تعود الخادم! ... ويبقى للبدال نصف قرش فلا تنبه سيدتها إلى «دينها» حتى يدق البدال جرس الباب! ... ويقف الضيف بباب الدار يتململ قبل أن تجيب سؤاله ليدخل أو ينصرف!
أذلك شيء في هذه الدار وحدها أم هو في كل دار؟ ... وضاقت أخلاق السيدة «إنصاف»، فما لها صبر ولا طاقة، فاصطنعت لها أسلوبا في تأديب الخدم ...
إنها لتسب وترمي بالفاحشة، وإنها لتصفع وتلطم؛ فإذا لم ينفع شيء من ذلك فإن العصا ثمة تلهب الجسد حتى يسيل دمه!
وفي الخدم يتامى يحملن ذكريات غالية لآباء وأمهات قد غيبهم التراب، فما يطقن السباب والفاحشة!
وفيهن ضعيفات دقيقات الأجسام، فما يحتملن الصفع وإلهاب العصا!
وفيهن شرسات عارمات، يرددن الذل والمهانة مثلا بمثل وزيادة!
وأكثرهن لا يخطئن عن قصد ونية، ولكن هكذا صاغتهن الحياة التي عشن، فإن للإحسان والإساءة عندهن مقاييس غير ما نقيس به ونزن ...
ولكن السيدة «إنصاف» لم تكن تعلم؛ فإنها لتقيس أعمال الخادم بعقلها هي لا بعقل الخادم؛ فما لواحدة منهن عذر أو حق في المغفرة!
وخف محمل العصا في يمينها فقست، ثم تدرجت في القسوة فنونا؛ فإنها لتجيع وتظمئ، وتكوي الجسد بالملعقة المحماة على النار!
وماذا تملك الخادم في مصر لنفسها، وقد نشأت في الذل والفاقة، وإنما يعمل أكثرهن ليعيش آباء وأمهات!
لكأنما كان فساد أكثر الخدم في مصر انتقاما من قسوة بعض السادة!
وطغت السيدة «إنصاف» وطاش طيشها فإن لها لضحايا عدة، وأملى لها المنتقم!
ثم اصطنعت مستر روبرت ...
ذلك خادم يؤمر فيطيع، له لسان لا ينم، وعين لا تنظر، وأذن لا تسمع؛ وإن له لعقلا، ولكن مفتاح عقله في يد سيدته؛ هذه أزرار عدة في صدره، هي مفاتيح أعصابه، وهي منافذ حسه؛ تعرك زرا فيروح، وتعرك آخر فيرجع، وتدير مفتاحا فيهيئ المائدة، وتدير آخر فيرفعها، إنه لإنسان من فولاذ، ولكن له عقلا من مطاط؛ مرهف الحسن كأنه وحيد أبويه، سريع الجواب كأنه الصدى، قريب المآب كأنه من جن سليمان!
أتراها قد رضيت وقرت عينا بخادمها الجديد فنسيت به مساوئ الخدم؟ إنها لتبدو به مغتبطة سعيدة!
ومضى زمان، ونسيت إنصاف عصاها وإن لها لآثارا ماثلة على ظهور وسواعد؛ ولم تحم الملعقة على النار بعد، وإن لها لمياسم باقية في أيد وأرجل ...! ولكن فتيانا وفتيات لم ينسوا ما صنعت بهم إنصاف، فإنهم ليقذفونها على البعد بالدعوات والمنتقم يسمع!
وجاء يوم الجزاء؛ وكانت إنصاف في فراشها مثقلة، ودعت مستر روبرت فلبى، وطلبت فنجانة شاي، ولكنها أخطأت المفتاح؛ وذهب مستر روبرت ثم عاد يحمل مكنسة؛ واهتاجت إنصاف واعتادها داؤها، فبذأت وأفحشت؛ وعادت تدير مفتاح الآلة فأخطأت، وألقى مستر روبرت في وجهها بالمكنسة!
وفار دمها فنهضت من فراشها، وكأنما همت أن تتناول العصا فتذكرت؛ فرمته بالمكنسة وأقبلت عليه مهتاجة تعرك أزراره آمرة؛ وأصابته المكنسة في صدره فتحركت مفاتيح جنونه، وأطبق على عنقها بيديه، فصرخت ...
وبدا في عينيها المذعورتين كأنه شبح آثامها ينتقم، وتراءى لها في دوار الاختناق كل ماضيها يطل من عينيه الجامدتين، وقعقع في أذنيها صوت مفزع كأنه جلبة حشد ثائر منتقم، وسقطت بين يديه الفولاذيتين لا تعي.
ولما أفاقت بعد ساعات، وجدت نفسها في فراشها مثقلة بالأربطة والضمائد، وعند قدميها فتاة، وحطام مستر روبرت في زاوية الغرفة، كأنه أشلاء معركة!
وتذكرت ما كان منذ رمت بالمكنسة في وجه الآلة حتى صرخت فسقطت؛ وعادت تنظر إلى الفتاة التي عند قدميها تستوضحها بقية ما كان، فبعد لأي ما عرفتها؛ إنها واحدة من عشرات الخدم اللاتي كن يعملن في دارها، وطالما آذتها وضربتها؛ ترى ماذا جاء بها الساعة ولم ترها منذ بعيد؟
وأحست الفتاة حركة السيدة، فأسرعت إليها، وجلست تقص عليها ... «... ودخلت على صراخك يا سيدتي فرأيت، وخلصتك من بين يديه ولكن بعدما صار حطاما ... وقد خرج الطبيب منذ لحظات، وخرج معه سيدي!»
وهمت «إنصاف» أن تتكلم فأحست في حلقها مثل دق المسامير، فأطبقت فمها وأهوت على يد الفتاة تقبلها وفي عينيها دموع!
العروس!
لم يرقها اليوم أن تجلس إلى المرآة جلستها الطويلة، فدلفت إلى النافذة تنوء بهم ثقيل على صدرها، واتكأت بمرفقها على حافة المقعد، ثم أزاحت السجف وجلست ترقب الطريق، وبلغ أذنيها غناء المغنيات في بيت جارتها كريها نابيا كأنما ينعى إليها الشباب ...!
لقد جاوزت الخامسة والعشرين وما تزال قعيدة الدار، تنتظر الخاطب المجهول يدق الباب ليطلب يدها. أتراها لم تكن أجمل من فلانة وفلانة وفلانة؟ بلى، وإنها لخير منهن، ولكنهن تزوجن جميعا وانتهى بهن القدر إلى المستقبل الذي تحلم به كل فتاة، وهي وحدها ما تزال تنتظر ...!
وأخذ الزمن يتراجع في خاطرها، كما يطوى شريط السينما، فإذا هي ما تزال بنت السادسة عشرة، تزدهيها فتنة الجمال، وتسيطر على نفسها كبرياء الغنى، وتعبث بها أهواء الأنوثة الباكرة، ثم إذا هي بين أترابها في المدرسة كما كانت؛ معقد المنى، ونجوى الخواطر، وملتقى نظرات الغبطة. لم يجتمع لواحدة من رفيقاتها يومئذ ما اجتمع لها مما تفخر به الفتاة، فلم تكن لتشاركهن في الحديث إلا على كبرياء وأنفة، وحين يجري حديث الشبان بينهن في همس موسيقي مطرب، كانت تمط شفتيها في سخرية عابثة، ثقة بأنها الفتاة المرموقة المشتهاة، كأن على من دونها من الفتيات أن ينتظرن ريثما تختار هي فتاها المجدود، ثم تترك لهن من بعد حق الأمل في الزوج الذي يشتهين ...!
وكان لها من نشأتها وجاه أبيها ما يفسح لها في الأمل ويمد لها أسباب المنى العريضة.
كان ذلك قبل أن يموت أبوها! أفينقص من شرفها وجمالها وثرائها أن أباها قد مات؟ ... فأين الخطاب يزدلفون إليها ويزدحمون ببابها في طلب الرضا والقبول؟
إنها لرهينة الدار منذ سنوات خمس، فلا تبصر الطريق إلا من خصاص النافذة، ولا تفارق محبسها إلا في ظل أمها الأيم العجوز، فلم تكن تعرف من الشبان غير ابن عمها.
لقد كان فيما ترى مثال الشاب الذي يداعب خيالها. لم يكن قد أتم دراسته العالية بعد، ولكنه أتم الرجولة؛ وكان على فقر من المال، ولكنه على غنى في النفس وكمال من الأدب والفضيلة. كما كانت تعجب برجولته ونبله! ولكنها لم تكن تسمح لنفسها أن تمنحه أكثر من الإعجاب. آه لو كان على سعة من المال ... إذن لتمنت أن يكون زوجها الذي تقاسمه الحياة ... ولكن من أين له ...؟ من أين له أن يهيئ لها أسباب الرفاهية التي تشتهي؟
لم تكن تدري أنها تحبه إلا يوم جاءها البشير أنه خطب لنفسه فلانة، فأغلقت من دونه الباب وجلست وحدها تبكي ما ساعفتها الدموع. ولم يكن هو يدري ... إلا يوم زارها من بعد، فإذا في عينيها تساؤل وجواب، وعلى شفتيها ابتسامة ذابلة، ثم إذا هي تفر فتضرب الحجاب بينها وبينه؛ خشية أن يرى على وجنتيها علامة التأثر ترسمها الدموع!
وعرف، وتذكر ما كان من أمرها وأمره ... كم تمناها لنفسه وبات يرعى خيالها ليالي طويلة، ولكنه كان يزجر نفسه أن يؤمل الزواج منها، وأين فقره وإقلاله من ترفها وغناها؟
ومضى الفتى لوجهه، ومسحت الفتاة الدموع عن وجنتيها وقالت تعزي نفسها: «لقد تزوج، فما أسفي على ذاك؟ إنني لجميلة، وإنني لغنية، وإن الشبان ليسرعون إلى ذوات الجمال والمال.»
وأطافت برأسها أحلام، وزينت لها الأماني دنيا بهيجة من الخيال أفعمتها أنسا وسعادة، واستنامت إلى المنى، تصبح وتمسي حالمة الخاطب المجهول.
وتصرمت الأعوام عاما بعد عام، وهي تعيش من أحلامها في رضا وقناعة، وحسبها من مسرات الشباب أنها توقظ كل يوم واحدا من شباب أحلامها تساقيه المنى وتبادله الحب، فإذا انتهت من أحلامها السعيدة فإلى حين، كأنما هي من حبيبها النائم على ميعاد!
وأخذت زهرات الربيع تنتثر أوراقها دامية على الشوك؛ لأن البستاني يحول دون اليد التي تمتد إليها فتشعرها أنها جميلة، ولكن بقيت على ثغر الزهر ابتسامته الناعمة؛ لأنه من أحلامه على رضا وقناعة.
لشد ما كان يعجب شباب الناحية بها! فما يحلو لهم سمر إلا بالحديث عن جمالها وفتنتها، وما يطيب لهم مجلس إلا بذكر كمالها وشمائلها، ولكنها على ما حلت من نفوسهم أكرم منزلة، لم تبلغ أن تكون موضع الأمل عند واحد منهم في أن تصير زوجته. لقد تقاصرت دونها المنى، من إبائها، وغناها، وحرص أهلها على التقاليد.
ومن أين لغير القليل من الشبان أن يرضي طموحها؟ من أين له المعجزة المالية ليؤدي لها المهر الذي ترضاه، وينفق في أكلاف العرس ما يرضي التقاليد؟
وطالت الأيام على العذراء الحالمة، وبدأت تمل وحدتها الفارغة، وأخذت تسيء الظن بجمالها وفتنتها، ولم تجد غير المرآة تبثها خواطرها، فتعودت الجلوس إليها الساعات كل يوم تبادلها الرأي فيما تظهر به أكثر جمالا وفتنة، لعلها أن تجد بذلك رجلها الذي تحلم به.
أفتستطيع المرآة أن تمنحها الزوج إن منحتها الجمال؟ واستيقظت من أحلامها حين توالت عليها الأنباء بأن صواحبها اللاتي كانت تسخر منهن وتزهى عليهن بمالها وجمالها قد تزوجن واحدة بعد أخرى واستقرت بهن الحياة في بيت الأمومة.
وهذه صديقة أخرى تتزوج. لقد طالما هزئت بفلانة جارتها وزميلتها في المدرسة، وما أكثر ما كانت تركبها بالدعابة الثقيلة والنكات اللاذعة حتى تطفر من عينيها دموع الذلة والانكسار! لم تكن فلانة هذه في مثل جمال صاحبتها، ولا لها قليل من جاه أبيها أو ماله، ولكن ها هي ذي تتزوج وتعزف لها الموسيقى، وما تزال هي تنتظر!
وانقطعت سبيبة الذكرى، فأفاقت من غفلتها وراحت تمسح الدموع عن وجنتيها بأطراف السجف وتنظر الطريق.
وأخذ عينيها بريق الكرات الملونة مدلاة من حبالها يتلاعب بها الهواء، تلاعب اليأس والهم بنفسها؛ واضطربت في مرأى عينها الرايات الخضر اضطراب أوراق الشجر هبت عليها رياح الخريف ...
لقد كانت وحدها في البيت، فلم ترافق أمها إلى بيت صاحبتها لتزف إليها التهنئة.
منذ أمس، حين زارتها صديقتها داعية، لم تستقر على حال من لذع الغيرة وألم الحرمان، وقدرت - إن هي أجابت الدعوة - أنها ستكون بين المدعوات موضع السخرية والإشفاق، وما تطيق أن يسخر منها أو يشفق عليها أحد ...
ومر من تحت النافذة فوج من الشباب يقصدون بيت العروس، وراحت تختبر فراستها لعلها أن تعرف زوج صديقتها من بين هؤلاء. أفكانت تريد ذلك حقا، أم هي تريد أن تعرف من بينهم رجل أحلامها الذي صحبته في الوهم سنوات ... وزفرت زفرة خافتة وراحت تحصي سنيها التي عمرتها على الأرض: يا ويلتا! خمس وعشرون سنة ... لقد تزوجت أمها في الثالثة عشرة، فلعلها هي لو تزوجت في مثل سن أمها كانت موشكة أن تصير جدة ... وركبها اليأس، واصطلحت عليها الأفكار السود، ولم تجد لنفسها طاقة بالوحدة بعد، فأخذت زينتها وأسرعت إلى بيت العروس تتفرج ...
وهاجت أحزانها مظاهر الفرح، وبهرتها الأنوار البراقة، ولدغتها ثعابين الغيرة من عناقيد الزهر متعانقة متشابكة، ورنت في أذنيها ضحكات النساء كأن قلبا من الزجاج ينكسر!
وانتظم النساء حلقات على عادتهن يتهامسن، فانطوت على نفسها في زاوية من البهو تحاول ألا تتحدث إلى أحد أو يتحدث إليها أحد، وخيل إليها أن التمنيات التي توجهها إليها صواحبها سخرية وشماتة ... «العقبى لك!» ما أحراهن أن يترجمنها إلى اللغة الصريحة فيقلن: «الرحمة والرثاء لك أيتها العانس المسكينة ...!» وأديرت على برد الخريف أكواب الشراب المثلوج، ووزعت الحلوى في العلب المذهبة الثمينة، وتزاحم النساء يتخاطفنها كأنما يقتضين الأجر على ما شرفن العروس بالحضور للتهنئة! ورأت هي أنها لم تتفرج مما بها وإنما زادت هما على هم، فأسرعت عائدة إلى الدار.
ولم تنم المسكينة ليلتها، ولكن أخذتها إغفاءات متقطعة تتخللها الرؤى والأحلام ...
وعاد تفكيرها في الزواج بعض عملها اليومي، ولكنها لم تعد تفكر في الرجل إذ تفكر في الزواج، أكثر مما تفكر في مظاهر الاحتفال وزينة العرس حين يكون العرس، وفيمن تدعو ليشاركها في الفرح من نساء المدينة وشبان المدينة. كانت تفكر في الانتقام لكبريائها التي زعمتها ديست يوم عرس جارتها فلانة، وما كانت تفكر في وسيلة للانتقام إلا فيما يكون من مظاهر الاحتفال بزواجها، يوم تتزوج ... سيكون احتفالا خيرا من احتفال جارتها، وسيزين بيتها أروع من زينتها، وسيجتمع لها من سراة المدينة ووجهائها من لم يجتمع لعروس قبلها. ستحاول يومئذ أن تسعر الغيرة والحسد في قلوب كل صواحبها أكثر مما كانت تسعرهما بكبريائها وتيهها عليهن وهي ما تزال صغيرة تطلب العلم معهن بالمدرسة أو تشاركهن اللعب في فناء الدار ...
وتطورت أمانيها من شيء إلى شيء، فلم يعد كل ما يعنيها هو الزواج أو الزوج، وإنما تركزت كل آمالها في فكرة واحدة، هي أن تتهيأ لها الأسباب لتكون عروسا في حفل يتحدث به فتيات المدينة وفتيانها جميعا؛ لتثأر لكبريائها وترد الشماتة!
ودنا الأمل الموعود.
كان العام قد استدار، وأخذت زهرات الربيع تتفتح ويضوع أريجها في الجو، ولكن قطرات من الندى كانت تبللها كدمعة الحزن في وجه عذراء يخضبه الخجل، ولكنها تبتسم؛ أكانت تصطنع الابتسام لتخفي عن الناظر بعض ما في صدرها من هم، أم كانت هذه دموع الفرح على وجنتيها ...؟
وأطل الفتيات من النوافذ يتعرفن خطيب «العروس» خارجا من دارها في جماعة من أهله، ورأين بضعة من الرجال عليهم سيما السراة من أهل الريف، في جلابيبهم الفضفاضة، ومعاطفهم السود، يلوون ألسنتهم بالحديث في لهجة جديدة على أهل الحضر، وبينهم «أفندي» واحد يبدو من مظهره ونظام لباسه أنه - وإن عاش في المدينة طويلا - ما يزال بعض أهله!
وقالت فتاة لأختها: أهو هذا؟ - بل هو ذاك!
ولم يكن هذا ولا ذاك، ولكنه خرج بعد انفضاض الجمع يتوكأ على نفسه من ثقل وبدانة حشو ثيابه الغالية، ويلوك بين شدقيه لسانا يتفقد بقايا الطعام بين أضراسه، ولم يخف ميل طربوشه أثر الوشم في صدغه!
وقالت فتاة: أئنه لهو؟
فأجابتها صاحبتها بابتسامة.
وبرق الماس في إصبعه، ورف الذهب من سلسلة ساعته؛ فقالت الفتاة: إنه لغني ...!
وكان الحفل الحاشد بعد أيام، فاجتمع فيه من مظاهر البذخ والغنى ما لم يتهيأ لسكان الحي أن يشهدوا مثله منذ أعوام، وشهد صواحبها ما أرادت أن يشهدن ... فأقيمت المقاصف، ووزعت الهدايا، ودقت الطبول، وعزفت الموسيقى، وتجاوبت ألحان المغنين والمغنيات بين فناء البيت وأعلاه، وتناثرت نجوم الكهربا تنقل إلى الأرض بعض معاني السماء، وعبق أريج الزهر يحمل إلى أهل الحياة أنفاس أهل الجنة ... وهي في مجلسها راضية ناعمة تطل من شرفتها على الحفل وزينته فخورا مزهوة.
لقد كانت فرحة الزواج عندها أن تشهد لنفسها مثل هذا الحفل، وقد شهدته على أكمل ما أبدعته في خيالها، وبلغت مأملها في الظهور على صواحبها بما يتقاصرن عنه من بذخ وإسراف. أما الزوج، أما الرجل الذي سترتبط إليه ويرتبط إليها فلا فكاك مدى الحياة، أما رجل أحلامها الذي أحبته زمانا من طول ما صحبها في الخيال؛ أما ذاك، فما عليها منه أن تظل نائمة تحلم ما دامت قد انتقمت لكبريائها الجريح!
لم تفتش المسكينة عن الرجل الذي سعدت في الوهم بصحبته؛ وذاقت معه على البعد نعيم الحياة؛ وتنورت من فكرها فيه عالم الحب ودنيا الجمال ... وراحت تفتش عما يرضي الناس ويطلق ألسنتهم بالإعجاب ... لتنتقم ... وقد انتقمت ...
ثم كانت قصة زوج وزوجه، يا لها من قصة! وباعت المسكينة سعادة العمر، واشترت سعادة ليلة ...!
أم بلا ولد!
كانت خديجة في الخامسة والعشرين من عمرها، أو لعلها قد جاوزتها، وإن كانت تبدو لمن يراها أصغر من ذلك، فهي قد نالت إجازة التدريس منذ بضع سنين، فكم كانت سنها يومئذ ...؟ على أن ذلك لم يكن يعنيها كثيرا، ولعلها لم تشغل نفسها يوما بحساب عمرها، وماذا يجدي عليها ذلك وإنها لسعيدة بحياتها التي تحيا، فما لها فكر في غد ولا أمل يمتد إلى ما وراء غد!
وهل يشغل نفسه بحساب عمره وما مضى من أيامه، إلا ذو أمل يعيش به من يومه في غده، أو عاشق تتجاذبه لهفة الذكرى وخطرات المنى؟
منذ بضع سنين لم تغير خديجة شيئا من نظام حياتها، فهي تغادر مدرستها كل يوم قبيل العصر، بعد أن تودع تلميذاتها، لتلقاهم في صبيحة اليوم التالي أشوق ما تكون أم إلى بنيها وبناتها!
وفيما بين مسائها وصباحها لم يكن لها من عمل إلا أن تأوي إلى غرفتها تقرأ في كتاب، أو تشارك في عمل هين من أعمال البيت، أو تخرج لزيارة بعض جاراتها وصديقاتها؛ فإذا بدا لها يوما أن تخرج إلى بعض الحدائق العامة للرياضة، أو تشاهد رواية جديدة في السينما، أو تقصد إلى بعض المشاهد التي يؤمها الناس للتفرج؛ فلا بد لها يومئذ من رفيقات أو رفقاء من تلاميذها الصغار في روضة الأطفال، يشاركونها في الرحلة والتفرج.
على أن هذا الحب العجيب الذي كانت تمنحه هؤلاء الصغار لم يكن بلا جزاء؛ فقد كان تلاميذها يبادلونها حبا يفوق ما يمنحون آباءهم وأمهاتهم اللائي ولدنهم!
وما كانت خديجة هي المعلمة الوحيدة في روضة الأطفال، فإن سبع معلمات يحملن معها أعباء العمل المدرسي، ولكنها هي وحدها - بهذه العواطف الأموية الصادقة - كانت في عيون أطفالها هي المعلمة الوحيدة، لا جرم كانت خديجة بذلك أسعد زميلاتها وأكثرهن شعورا بمسرات الحياة!
وغنيت خديجة بدنياها تلك عن المنى والأحلام، فما طوعت لنفسها أن تحلم أو تتمنى، ولا هجس في قلبها أن وراء هذه الحياة التي تنعم بهدوئها حياة تتخايل في أوهام كل فتاة في فنون وألوان!
وكان صباح، وجاءها ساعي البريد بخطاب ...
ونظرت الفتاة في غلافه قبل أن تفضه فأطالت النظر، وكأنما أحست وراءه عينين تنظران إليها نظرة لم تفهم معناها ولا رأت مثلها لذي عينين، وقرأت على الغلاف «الآنسة خديجة» وحسب ...
من يكون صاحب هذا الخط ...؟ وترددت برهة، ثم همت أن تفضه لتعرف ما فيه، ولكنها لم تفعل، لقد خيل إليها أن أربع عشرة عينا تنظر إليها لتعرف قبلها ما في هذا الخطاب، إن زميلاتها في المدرسة على مقربة ...! وتصنعت عدم المبالاة ووضعت الرسالة في حقيبتها وما قرأتها ...
ولأول مرة أحست خديجة أنها في حاجة إلى أن تبتعد عن أطفالها لتخلو إلى نفسها برهة؛ وكما تحاول الأم أحيانا أن يبعد عنها أطفالها وهم أحب إلى قلبها لتخفي عنهم بعض أسرار الأمومة، كذلك فعلت خديجة ...
وأوت إلى ركن قصي تقرأ رسالتها:
عزيزتي خديجة!
ترى هل تذكرين؟ أو تعرفين ...؟
إن أياما لا أتمتع فيها بمرآك ليست من الحياة، إن هذا القدر الذي أبعدني عنك إلى حين قد صدع صدعا في أيامي!
وفجأني الفراق بين غفوة الأمل وصحوة الحلم، فلم أودعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك، وسافرت وما تدرين ...
ترى بماذا تحدثك نفسك الآن يا عزيزتي ...؟ ليتني قريب منك، فأرى، وأسمع، وأعلم ... بل إنني لأعلم علم قلبي وإن لم تحدثيني ... وستعرفين عذري، وتغفرين لي ... وسنلتقي من بعد يا عزيزتي فأحدثك وتحدثينني، وأضحك وتضحكين معي حين نتذكر هذا الحاضر بعد أن تطويه الأيام في مدرجة الماضي ...
ولست أغفر لنفسي، ولكنك ستغفرين لي، ويوم يجمعنا القدر الذي فرق بيننا يا عزيزتي ويعود ما كان ... وأراك ... ويعود الربيع النضر طلقا ضاحكا يتهلل ... يومئذ أقول لك ... لا، لست قائلها اليوم، ولن أقولها غدا، سأجعلها رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همسا في أذنك، فتضحكين، وأضحك، ويضحك الطفل الصغير كأمه وأبيه وإن لم يعرف لماذا يضحكان ...!
كيف أنت الآن يا عزيزتي؟ هل رضيت وسري عنك؟ إن كان كذلك فاكتبي إلي لتهدأ نفسي ...
مضى يومان وأنا في هذا المنأى البعيد كأنهما ليل مطبق ليس وراءه نهار، فكيف تمضي الثلاثون؟
ارقبي مطلع الهلال يا عزيزتي فإني أرقبه كل مساء لأعرف متى يحين اللقاء! وأترك قلبي لديك وديعة إلى معاد!
محبك: كامل
كانت أناملها باردة كالثلج، وكانت شفتها تختلج، وكانت الصحيفة مبسوطة تحت عينيها ولا تكاد ترى، وأحست فجأة، وقد بلغت آخر الرسالة، مثل إحساس من يهبط من علو شاهق مغمض العينين إلى واد من أودية الجنة كان مخبوءا عن عينيه، فلما وطئته رجلاه فتح فرأى ...
وعادت تقرأ الرسالة ثانية وثالثة، وكل مرة تجد لها فكرا وتوقظ معنى، ثم طوت الكتاب برفق وأودعته غلافه، وراحت تفكر ... وسألت: «ترى من هو؟ وأين هو؟ ومتى رآني؟ وأين ...؟»
وتوزعتها الصور والأوهام، وراحت تكد خاطرها لتذكر، وتعاقبت على مخيلتها صور ورسوم، ولكنها لم تعرف ... يا لها حيرة!
فتى يبلغ حبها من نفسه هذا المبلغ، فيكتم هواه عنها وعن الناس، ويقنع منها بالنظر على مبعدة وهي لا تدري، ويطوي جوانحه على ألم الحب، وبرحاء الوجد، وشقة النوى، وهي لا تعرف من أمره، ولا تسمع من خبره، ولا تحس وقع نظرته، حتى إذا أبعدته بعض شئون الحياة عن طريقها، وحيل بينه وبين أن يراها، غلبه الهوى على الكتمان فباح بحبه وأمانيه في رسالة. أي فتى ذاك؟ وأين مثله في الشباب؟ يا له من رجل!
وأحست الفتاة بعد فترة أنها قد غابت كثيرا عن أطفالها، فأصلحت شأنها وعادت إليهم، ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت ... ... ودق الجرس، وقامت خديجة لتودع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟
وأخرجت الرسالة من حقيبتها وعادت تقرأ: «عزيزتي خديجة ...!»
إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجوده، بلى، وإنها إلى الساعة لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه، وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري ...
وعادت تقرأ: «وفجأني الفراق وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم، فلم أودعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك ... وسافرت وما تدرين ...!»
وخفق قلبها، وأحست مثل إحساس المفارق حيل بينه وبين الكلمة الأخيرة، وعضت على شفتيها، واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار يتلهب!
وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتحصي ما بقي من ليالي البعاد!
تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم، فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت، وتضاعف إحساسها بالحياة منذ عرفت أن وراء اليوم غدا، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف أيامها معاني جديدة لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعمرت لياليها بالأحلام ...!
ولمحت طفلا يهمس في أذن رفيقه، فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همسا في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثان ...!
ووسع خيالها ما لم يكن يسع!
وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمد لها ...
ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته ... بل إنها لتعرفه يقينا لا شبهة فيه ... هكذا زعمت وهي خالية إلى نفسها تحدثها!
وارتسمت في خيالها صورة كاملة للرجل الذي جاءتها رسالته ولم تره قط، ورسمت لنفسها صورة أخرى من خيالها يوم تراه فتعاتبه ثم تصفح عنه!
وبقي يومان على مطلع الهلال ...
وكانت واقفة في الشرفة تستروح روح الربيع، حين سمعت رنين الجرس ... وكن ثلاثا من صديقاتها ، وجلسن وجلست معهن في غرفة الاستقبال. ومضى الحديث يتنقل من فن إلى فن إلى فنون.
وقالت واحدة لجارتها: «متى زفاف أخيك؟»
قالت: «لقد أذكرتني أمرا ... فإن رسالة جاءتني منه منذ قريب يشكو إلي خطيبته، فقد كتب إليها كتابا غداة سفره فلم تجبه حتى اليوم، وذهبت أزورها أمس، فإذا هي غضبانة كذلك، تشكو إلي أنه لم يكتب لها منذ سفره! أفرأيت ...؟»
وضحكت، وضحك صواحبها، واعتدلت خديجة في مجلسها وقد رفت على شفتيها ابتسامة راضية؛ إنها وصاحبها لأسعد حالا، فليس بينهما مغاضبة ولا عتاب، أم تراه يغضب لأنها لم تجبه على رسالته؟ ولكنها لا تعرف أين تكتب إليه، بل إنها لا تعرف تمام اسمه! فماذا عليها إن لم تجبه؟
وهجس في نفسها هاجس حين بلغت من الحديث إلى نفسها هذا المبلغ ... إنها لا تعرف مكانه، ولا اسمه، حتى ولا صورته ...
وعادت تسأل نفسها: أصحيح أنها وصاحبها أسعد حالا؟
كانت خديجة منصرفة عن صواحبها تتحدث إلى نفسها هذا الحديث، وإن الحديث بين صواحبها لم يزل يدور في شأن العروسين المتغاضبين، وقالت واحدة: «وتحسبين أخاك صادقا حين يزعم أنه كتب إليها، أم ترينه بما يزعمه يحاول أن يعتذر ...؟»
قالت: «بل أراه صادقا، وما أراها كاذبة حين تزعم أنها لم تتسلم رسالة منه، فما أكثر ما يغلط بعض سعاة البريد أو يتعمدون الغلط ... حين يفوح من بعض الرسائل عطر الحب أو عطر المال ...!»
وضحكت ثم أردفت: «وأحسب خديجة قد اقتنعت ببعض ما قلت فوعدتني أن تكتب إليه!»
وفاءت خديجة إلى نفسها حين جاء اسمها في عرض الحديث، فقالت معجلة: «ماذا؟»
قالت صاحبتها ضاحكة: «أين كنت ...؟ آه، لقد نسيت أن أخبرك أن خطيبة أخي «كامل» اسمها خديجة أيضا، كاسمك ... فلعلنا منذ اليوم في حاجة إلى أن نقول: خديجة الأولى، وخديجة الثانية؛ كما يتعاقب الملوك في الدولة على اسم مشترك!»
وضحكت ثانية، وضحك صواحبها كما ضحكت، وانفرجت شفتا خديجة عن شيء يشبه الابتسام، ولكنهما ظلتا منفرجتين، وزاغت عيناها ودارت بها أرض المكان، ثم استمسكت ... وأطبقت شفتيها على السر ...!
ووضحت الحقيقة كاملة لعين الفتاة وعرفت، واستيقظت من الحلم الرائع الذي عاشت منه عمرا سعيدا في أيام ...
وانصرف صواحبها، ونهضت متثاقلة إلى غرفتها لتفتح حقيبتها فتخرج الرسالة التي ضلت طريقها إلى صاحبتها لتضل هي بها ... ونظرت إليها نظرة حزينة منكسرة ثم دفعتها إلى النار وتهاوت على مقعدها خائرة! ... وصفا ما بين الحبيبين وفاء قلباهما إلى الرضا، وتحطم قلب ثالث ...
وكانت خديجة في بعض الطريق ذات مساء، حين أبصرتهما يمشيان ذراعا إلى ذراع، فأتبعتهما عينيها في ألم ولهفة، ثم دارت على عقبيها ورجعت من حيث أتت.
وعادت إلى أطفالها الذين كانوا؛ تلتمس بينهم العزاء والسلوى، فما وجدت أطفالها ولكن أطفال الناس.
واستنجدت أمومتها، فإذا أمومتها التي كانت عدتها من قبل في تأليف هؤلاء الصغار هي أمومة الأثر الغيران الذي يتشهى ولا يجد، ويرجو ولا يرى سبيلا إلى تحقيق الرجاء.
ونظرت فإذا طفل يهمس في أذن رفيقه، فابتسمت، ثم قطبت، ثم مدت يدها إليهما بالعصا!
وهم طفل أن يناديها فأخطأ النداء ونطق على عادته: ماما! فلوت وجهها لتخفي عن أطفالها دمعة!
وأحس الصغار إحساس الطفولة الملهمة، فداروا بها يسألونها عما بها محزونين وفي كل عين دمعة!
ونظرت ثانية فابتسمت وسري عنها، ثم ضمت أطفالها إلى صدرها وهي تتمتم: «لا علي يا أحبائي ما دمتم معي؛ أنتم بني وبناتي، وأنا لكم أم، أم بلا ولد!»
ثمن المجد
لم يكن من طبيعتها الزهو والمباهاة، ولكنها تشعر الليلة بين لداتها وصواحبها أنها قد بلغت مرتبة من حقها أن تزهى بها وتفتخر، إنها الليلة خطيبة «سامي»، وهذا خاتم الخطبة في إصبعها يزهو ويتألق شعاعه، وأي صواحبها لم تعرف سامي أو تسمع به، وإنه من الشهرة وذيوع الصيت حديث كل فتى ونجوى كل فتاة.
وراحت «رشيدة» تخطر بين رفيقاتها تتقبل التهاني وتوزع الابتسامات مغتبطة سعيدة، لا تكاد تستقر على مقعد من خفة الفرح ونشوة المسرة ... ... ثم انفض السامر وخلت رشيدة إلى نفسها تحلم بما كان وبما سيكون وتتهيأ لليوم السعيد المنتظر.
فتى في ربيع العمر، لم يفتنه الشباب ولم يبطره الغنى، تطلع إلى أمل بعيد فمضى يشق الطريق إليه في عزم وقوة، وبلغ، وبرز اسمه في الطليعة من أدباء الجيل ولم يزل في أول الطريق، وذاع اسمه كما ينفذ شعاع الصبح فتكتحل كل عين من نوره ويصحو كل نعسان، وشدت القماري بأغانيه في الرياض، وهتفت به العذارى في خلواتهن، وتغنى الفتيان ...
ودق الجرس ذات مساء في دار رشيدة وجاء سامي يخطبها ... وتوافد لداتها وصواحبها يهنئنها ويتمنين لها الأماني ...
وراحت تتخيل نفسها إلى جانبه يمشيان ذراعا إلى ذراع تحدثه ويصغي إليها والناس تهتف باسمها واسمه، والعيون تتبعهما حيث يتنقلان من روض إلى روض في طريق مفروش بالزهر، والأصابع تشير إليهما في همس ...
ولذها الحلم السعيد فطارت بغير جناح تحلق في أودية المنى سكرى.
وتتابعت على عينيها صور، وأفاقت من سكرتها مذعورة لصورة عرضت، وتخيلته في بعض لياليه يحف به فتيات يسألنه فيجيب، وفي عيونهن معان وفي عينيه مثلها؛ وهل يمكن أن تخلو حياة فنان نابه من مثل ذلك؟ هكذا سألت نفسها فلذعتها الغيرة وما رأت بعينين ولا سمعت بأذنين، ومضت تسائل نفسها: أتراه - وهو من هو - لم يفتح قلبه لفتاة قبلها ولن يفتحه؟ فكيف؟ ومن أين لها وإن اسمه لحديث على الشفاه ونجوى في القلوب ...؟ أم تراه يفي لها ويخلص لها الحب فلا يغلبها على قلبه أحد ...؟!
وابيضت ذؤابة الليل وما تزال أحلام اليقظة تراوح بين جنبيها في الفراش!
ومضت ليال، وأنست رشيدة إلى فتاها وأنس بها، وتتابع اللقاء بينهما في الحلم حينا وفي اليقظة، وتكاشفا نفسا لنفس، فاطمأنت وزال ما كان يساورها من هم، واسترسلت في أحلام السعادة وأوهام المجد، وهي تحصي ما بقي من أيامها حتى يكون لها.
وجاء اليوم الموعود وزفت رشيدة إلى سامي ... «يا هناها!»
تلك كانت أغنية كل صواحبها، أتراها كانت تستمع إليهن مغنيات؟
أما هو فكان من شأنه في شغل عما يتحدث به الناس. لقد وجد الاستقرار والراحة منذ وجد رشيدة، فانصرف إلى غايته دائبا لا يشغله من شئون الحياة والأحياء إلا فنه والأمل الذي يتطلع إليه من بعيد.
وأما هي فأين ...؟ أين أحلامها التي كانت تداعبها في اليقظة وتلم بها في المنام؟
هذا عام مضى منذ دخل سامي في حياتها وشاركته في داره، فماذا تحقق من أمانيها وماذا بقي؟ وماذا يجدي عليها صيته ومجده وشهرته وإنها لحبيسة الدار لا تتحدث إلى أحد ولا يتحدث إليها أحد، وزوجها الذي خلق لها دنيا عريضة من الأوهام والأماني حبيس في غرفته مكب على أوراقه ودفاتره؟
هذه الصحف التي تتحدث عنه، وهذه الكتب التي تصدر باسمه، وتلك الجماعات التي تقوم لمذهبه وتدعو دعوته ... كل هذه وهم وخداع وتلبيس على الحقيقة. لقد حسبت يوما أنها ستكون أسعد زوجة فيمن تعرف من صواحبها؛ لأن هذه الأوهام المكتوبة كانت تخيل لها وتخدعها عن الحقيقة. أما اليوم فوا أسفا! لقد عرفت ما كانت تنكر، وأدركت ماذا تدفع من هناءتها الزوجية ثمنا لذلك المجد الذي كان يتخايل لعينيها شعاعه!
إنه ليحبها وإنها ... ماذا؟ نعم، لقد كانت تحبه يوما، ما في ذلك شك؛ أما اليوم ... آه! ليتها تستطيع أن تقول ...! بل ليتها تستطيع أن تعرف ...!
إنها لتحس في بعض الأحايين أنها تكرهه، شوقا إليه ... ما أعجب هذا الإحساس الذي يطرأ عليها حينا بعد حين فإذا هي منه في غمرة من الشك والقلق لا تدري معها أهي تحبه أم تبغضه ...!
ليتها تستطيع أن تعرف ما الحب وما البغض! أهما معنيان متناقضان أم اسمان لمعنى ...؟
وليتها تعرف ما الحقيقة! أهي شيء واحد أم شيئان، ولون واحد أم ألوان؟
إنه هو هو، وإنها هي هي؛ لم يتغير شيء منها ولم يتغير شيء منه، ولم يزل هو كل شيء في حياتها ولم تزل؛ فما بال تلك الأشياء التي كانت تحببه إليها يوما هي هي التي تبغضه إليها اليوم؟
إن الباطل الصراح أحب إلى النفس من الحقيقة المتلونة!
واحتوشتها الأفكار فلم تعرف ماذا تأخذ منها وماذا تدع، فأطرقت وأرسلت عينيها؛ وكان سامي في غرفته يكتب قصة الشاعر الذي يهتف منذ الدهر القديم:
تمنيت من حبي «علية» أننا
على رمث في البحر ليس لنا وفر
على دائم لا يعبر الفلك موجه
ومن دوننا الأهوال واللجج الخضر
فنقضي هم النفس في غير رقبة
ويغرق من نخشى نميمته البحر!
وكانت «علية» - فيما كتب سامي من قصتها وقصة صاحبها الشاعر - تشارك صاحبها في أمنيته، فهي ترجو أن يلتقيا منفردين على فلك في البحر المائج، ليس معهما وفر من مال أو من زاد، ليقضيا هم النفس بعيدين عن أعين الرقباء والسعاة بالنميمة ... والتقى العاشقان على ما تمنيا، منفردين على رمث في البحر ليس لهما وفر، فلما حال الموج بينهما وبين الناس، وأحسا حاجة الحي إلى أسباب الحياة، أنشدت «علية» صاحبها شعرا من شعرها تتمنى فيه لو ضمها وحبيبها قصر، وأظلتهما الخمائل الخضر، وكان لها وله وفر، ولا عليها بعد ذلك أن يبغتهما الرقباء أو يسعى بهما سعاة الشر ...! ... وفرغ سامي من قصته بعد هدأة من الليل، فبسط أوراقه تحت عينيه والمصباح وراح يقرأ، وأعجبه ما صنع، فهتف: «رشيدة، تعالي اسمعي!»
وماذا يجدي عليه رضا الناس إذا لم ترض رشيدة؟ ولكن رشيدة كانت مطوية على نفسها في الفراش تبكي، ودنا منها، فجففت دموعها واعتلت؛ وجلس على حافة الفراش محزونا أسوان يسألها عن علتها، وما كانت علتها شيئا غيره.
وطوى أوراقه صامتا، وأوى إلى الفراش منكسرا ذليلا، وأصبح كما يصبح كل يوم، وكما أمسى، وأصبحت كما أمست!
وجاءتها صديقتها «سعاد» لزيارتها، وما زارتها في بيت زوجها قط، وخلت رشيدة إلى صديقة صباها تحدثها وتستمع إليها، وخلا سامي إلى نفسه يعمل ...
وقالت سعاد: «وإني لأسمع عنك وأعرف، فيسرني هناؤك، وإنك لحقيقة بما نلت من السعادة بزوجك!»
وابتسمت رشيدة وسكتت.
ونهضت الزائرة فشيعتها صديقتها على ميعاد.
وذهبت رشيدة لترد الزيارة لصاحبتها، ولقيتها سعاد في غلائل وشفوف وجلوة عروس، وأحسنت استقبالها، ثم ودعتها لحظة لتخرج إلى زوجها فتسر إليه حديثا، وعادت، وأحست رشيدة أن صديقتها في شغل، فأوجزت، وسألتها: «أرجو ألا يكون في زيارتي ما يشغلك عن شيء!»
فابتسمت سعاد وأجابت: «ليس شيئا ذا بال ؛ كنا على أن نشهد معا رواية جديدة في السينما، فطلبت إليه أن يذهب وحده إذا أراد؛ لقد كنت في السينما أمس، وأمس الأول ...!»
وغمغمت رشيدة بكلام لا يبين، ثم أطرقت. أتراها كانت تحدث نفسها أم تحدث مضيفتها؟ وماذا كان في نفسها من حديث؟
وخففت فنهضت وفي قلبها حسرة، وفي صدرها غيرة، وفي رأسها فكر!
وقالت سعاد لزوجها وقد ذهبت رشيدة: «هي زوجة سامي!»
واستطردت فخورا: «إنها صديقتي منذ الطفولة. ألست تعرف سامي ...؟ قل لي: لماذا لا تحاول أنت شيئا مما يحاوله؟ لقد بلغ مبلغا بعيدا، إن له جاها وشفاعة ... إنني ورشيدة صديقتان، لم نفترق منذ كنا، حتى تزوجت، وخطبها على غفلة ...!» ... وأدارت رشيدة مفتاح المذياع وجلست مرتفقة إليه تنتظر دقة الساعة. إن زوجها هناك، وستستمع إلى حديثه بعد لحظات، وما بها شوق إلى أن تستمع إليه، لولا أن صوته في المذياع يردها لحظات إلى ماضيها، أيام كانت في بيت أبيها مسماة عليه، تلك أيام خلت، وكان صوته في تلك الأيام يلذها ويبعث فيها نشوة ... أوه! أين هذه اليقظة من ذلك الحلم؟ أكتب عليها ألا ترى السعادة إلا طيفا في المنام أو حلما في اليقظة!
وتسرحت رشيدة في أوهامها وأحلامها؛ وذكرت ماضيها وحاضرها؛ وتسلسلت خواطرها حلقة بعد حلقة، بعضها ذكريات وبعضها أماني، وتكاثفت أمام عينيها ضبابة دكناء، وتراءى لها من خلل الضبابة أشباح وصور، ورأت نفسها جالسة إلى سامي يحدثها وتحدثه ... وكأنما أحس سامي من رشيدة فتورا وانقباضا فأهمه ما أحس، وراح يحاول أن يصلح ما بينه وبينها، وعطف عليها يسألها في رقة عما بها، وانفجرت رشيدة غاضبة باكية، وكشفت الحجاب، ونفضت عليه ما تكظم من الغيظ منذ عام، وطأطأ رأسه يوازن ويقدر ويحكم، وبدت له الحقيقة سافرة وانكشف غطاؤها، وآثرها بالرضا فألقى إليها معاذيره.
وتغير سامي منذ اليوم، فأغلق دار كتبه وأقبل على زوجته، وفي المساء كانا يمشيان ذراعا إلى ذراع في الطريق.
وصحبها إلى السينما، وسهرا معا ليالي في الأوبرا، وتعشيا ذات مساء في مطعم، وراقصها على نغمات الموسيقى في الحديقة العامة، وعاد معها إلى الدار ذات ليلة مخمورا قبيل الصباح!
ولم تنكر رشيدة من أمر صاحبها شيئا، ولم ينكر سامي شيئا من أمر نفسه، وعرف منذ الليلة التي هجر فيها دار كتبه أن في الحياة ألوانا من المسرات لم يذقها بعد وقد أوشك أن ينتهي شبابه، فاشتهى وتمنى. وفاءت رشيدة إلى الرضا بعد نفار وسرتها حياتها الجديدة، فمضت تطلب المزيد ... ... ورأته يمشي إلى جانبها على ضفاف النيل ذات صباح، حين اعترض سبيلهما سرب من الفتيات، وقالت إحداهن وأومأت إلى سامي: أئنه لهو! فأحنى رأسه مبتسما وأتبعها عينيه، ورفعت رشيدة رأسها مزهوة، ثم عبست غيرى مرتابة!
ولم تجد رشيدة من نفسها في المساء رغبة في الخروج؛ فخلفها في الدار ومضى وحده، وأشرق الصبح قبل أن يعود، وهمت رشيدة أن تتكلم فتركها وما تحدث به نفسها ومضى إلى فراشه ...
وعرف داره من لم يكن يعرف من المعجبين والمعجبات، فكثر زائروه وزائراته، وراح يقتضي الناس ثمن إعجابهم بفنه لذائذ وشهوات!
وتدحرجت الكرة على المنحدر المائل، واستمرت تهوي ... وصار أبغض شيء إلى سامي أن يجلس إلى كتاب أو يتناول قلما ساعة من ساعات الليل أو من ساعات النهار! ... ورأت رشيدة صديقتها سعاد تسألها ذات يوم: «أين سامي؟ منذ بعيد لم نسمع منه أو نقرأ له ...!»
وابتسمت رشيدة وسكتت، كشأنها في يوم مضى، ثم أطرقت وعضت على شفتها تحاول أن تحبس زفرة ... ونهضت الزائرة، وخلت رشيدة إلى نفسها تبكي، وخيلت لها أمانيها أنه هناك، في غرفته، يقرأ أو يكتب، وأنه يوشك أن يفرغ من موضوعه فيهتف بها: «رشيدة، تعالي اسمعي ...!» كما كان في ليلة منذ ليال، ولكنه لم يفعل؛ لأنه لم يكن هناك ...
وانحدرت على خدها الدمعة التي حبستها طويلا، فانقشعت عن عينيها الضبابة الدكناء، وتلاشت الأشباح والصور التي تتابعت على عينيها برهة من خلل الدموع كأنها صور من الحياة الناطقة، ورنت في أذنيها دقات الساعة: تن. تن. واستيقظت، وكانت لم تزل مرتفقة إلى المذياع تنتظر أن تسمع صوته ... ليردها لحظات إلى ماضيها ...
ورن صوته في مسمعيها آتيا من بعيد، كأنما يخترق الزمان والمكان في وقت معا، وسمعت صوتا نديا رطبا يتحدث في وداعة ولين كأن بينه وبين كل قلب وترا يهتز ... ولم يكن يتحدث إليها وحدها، ولكنها وجدت برد حديثه على قلبها كأنما يتحدث إليها في خلوة، وإنه مع ذلك لبعيد بعيد لا تناله اليد ولا يمتد إليه النظر، ودمعت عيناها دمعة أخرى وهتفت فرحانة: «يا سامي، عد إلي!»
وكأنما استمع سامي إلى ندائها على البعد البعيد، فرنت كلماته في أذنيها كأنها جواب النداء حين قال في ختام حديثه: إلى اللقاء!
والتقيا ...
عودة الماضي
خلت «هدى» إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها. كانت تشعر أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها، وثمة طريقان عليها أن تختار أيهما تسلك، فإما إلى سعادة تنسيها الماضي بما فيه من لذة ونشوة وسحر، وإما ...
ولكنها لا تعرف السعادة إلا ما كانت فيه من قبل، فما هذا الجديد الذي يحاول أهلها أن يزينوه لها ويحملوها عليه؟
الزواج، والبيت، والأسرة!
ما أجمل هذه الأسماء وألطف موقعها من قلب كل فتاة! ولكن ما بال هدى تحس حين تسمعها الساعة كأنما تخزها وخز السنان، فما تطرق أذنها إلا فارغة من معناها أو معدولا بها عنه، فليس لها في نفسها إلا معاني القلق والوحشة والحرمان!
أتراها وقد بلغت هذه السن لم تفكر في الزواج والبيت والأسرة قبل اليوم؟ بلى، ولكن ... لو أن أحدا غير أبيها وأمها ألقى إليها هذه الكلمات من قبل لكان لها معنى حقيق بأن يسرها ويملأها سعادة ومرحا؛ أعني لو أنه هو ... ولكن، أين هو؟ وهل يدري ...؟
وطارت خواطرها سريعة إلى «ماجد»، وتمثلته جالسا مجلسه ينتظرها لموعدهما الذي طالما التقيا فيه منذ سنوات ... يتلفت ويمد عينيه يتنورها قادمة من بعيد، فيلقاها مبتسما ويبسط لها يمينه!
آه! ماذا تراه يفعل حين يبلغه النبأ فيعرف أن هدى لن توافيه لموعده منذ اليوم، ولن تلقاه، ولن يراها؛ لأن حياة جديدة قد باعدت بينهما فلا سبيل إلى اللقاء؟
ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، وتدحرجت على خدها عبرة، وانمحى خياله من خيالها، ورأته - كما نظرته في مرآة نفسها - عابسا مقطبا، في جبينه ذلة المخذول، وفي عينيه ذبول السهر ولهفة الحرمان!
وغلبتها نفسها فأرسلت عينيها وأطرقت وأصابعها تعبث بمنديل في يدها قد بللته الدموع!
ورن جرس المسرة، فهبت واقفة كأنها من رنين الجرس على ميعاد، ثم ذكرت موقفها هذا الجديد، فقمعت في صدرها رغبة تختلج وعادت إلى مجلسها. لا ينبغي أن يسمع ماجد صوتها في المسرة بعد اليوم!
لم يحسب ماجد وهدى حسابا لهذا اليوم من قبل، ولم يدر في خاطر واحد منهما لحظة أن هذه الساعة آتية. لقد كانا من الحب في سكرة ذاهلة لا تدع لهما سبيلا إلى الفكر والتدبير وتوقع ما لم يقع بعد ... وفجأة تغير الموقف وكان ما لا بد أن يكون، وطرق الباب طارق مجهول يطلب يد هدى ... ... وسأل أبوها وتقصى أمره، فرضيه لفتاته، ولكنه تلبث حتى يسمع رأيها، وسألها فلم تجب، وفزعت إلى خلوتها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها وتبكي ...
أكانت تبكي حبا لماجد أم شفقة عليه؟ من يدري؟ ولكنها ظلت تبكي، وماذا تملك أن تفعل غير البكاء؟
أتراه قد عرف؟ يا ليت ...! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعة يطلب يدها، إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان ...!
ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها، فمن له بأن يعرف؟ من له بأنه لن يرى هدى بعد، ولن تراه؟ ... أتراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطب المجهول بما له من سابقة وصلة قريبة، فماذا منعه من ذلك قبلا لو كان يريد؟ ... ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيها إلى أبيها، لقد حاولت في هذه الأيام أشياء كثيرة لتشعر فتاها من بعيد بما تريد أن يفعله، ولكن محاولاتها جميعا قد باءت بالخيبة ولم تستطع أن تحمله على ما أرادت. ليتها تعرف أكان ذلك منه غباء أم تغابيا !
ولم تجد الفتاة سبيلا إلى الخلاص بعد، فرضيت!
لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهد جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة، فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به فقد ضلت وأثمت وبذلت ما لا تملك لمن لا يملك؛ فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا تدع سبيلا يذكرها به إلا أبعدته وعفت آثاره، فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء عن معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذرت رمادها، وحتى المخدع الذي كان طيفه يلم بها حين تأوي إليه في الليالي الطويلة الساهدة لم تدعه في موضعه، والصورة التي تصورتها يوما لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها - لم تبق عليها، والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاول أن تمسك سماعتها من بعد مرة واحدة لتنادي أحدا أو تجيب نداء ...
ولكن هدى مع كل ما فعلت وما غيرت من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورقبة، تخشى يوما يستيقظ فيه ذلك الشبح الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويزلها!
وتركت ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان ويمنحها الستر والتصون. وجلست في مصلاها ورفعت يديها ضارعتين إلى الله تدعو: «يا رب! هذه طاقتي فيما أملك فجنبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!»
ولما حدد يوم العرس بعد أيام، رجت أباها وخطيبها أن ينسآ الأجل؛ إذ كانت تريد ألا تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعا!
وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأت فتى يستحق الحب لو أنها تملك أن تحبه، فمنحته الاحترام والطاعة!
وكثر لقاؤها خطيبها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديث فنونا، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه، ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضت من حياء، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!
أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط ...؟!
لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع ذلك السر الذي أطل عليه من عينيها حين نظرت ونظر، فلم ترقأ دمعتها ليلتئذ!
ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولت أن تقول شيئا ثم أمسكت ... لقد خيل إلى المسكينة أنها تستطيع أن تتخفف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحت به بين يديه، ولكنها لم تقدر، فسكتت على ألم! ... وراحت الأيام تدنيهما قلبا إلى قلب، وروحا إلى روح، حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفسا لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنزا من الإخلاص والوفاء والرجولة، فمنحته الإعجاب إلى ما كانت تمنحه من الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها، ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت، فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها على قلب، وأنست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبت زوجها إلى داره، والتقيا روحا وجسدا وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضا، فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل، وراح زوجها يبذل لها؛ ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرد ألحانه. ومضى عام وصار الاثنان ثلاثة، واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق، كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خال على شط النيل، حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها، وانبعث الماضي إنسانا حيا يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من السنين لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت، وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار فتصورت بسمات على شفاه تختلج ، ونجوى في عيون تتلاحظ، وهتف ماجد في همس: هدى ...!
وهمت هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صور وذكريات، وخيل إليها أن أصواتا كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، ثم أفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: «ماما، ماما، أنا سبقتك!»
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلة سلفت منذ سنوات، كانت في تلك الليلة، وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وشعرت كما شعرت من قبل أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها، ولكنها في هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!
ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال ...
ومدت أمه إليه يدا فضمته إلى صدرها وانحنت عليه، وراحت تبكي بلا دموع: «يا ولدي ...!»
ولم تتم حديثها، ترى بماذا كانت تريد أن تحدث طفلها؟ أتراها كانت تريد أن تتخفف من ثقل يئودها فتفضي إليه بالسر الذي عجزت عن الإفضاء به إلى أبيه ...؟
وذكرت الرجل الذي وضع أمانيه بين يديها وأخلص لها. لقد منحته من نفسها الاحترام والطاعة حين عجزت أن تمنحه الحب. ولقد خيل إليها في فترة من حياتهما أنها تحبه، فما بالها اليوم قد صبأت حين ذكرت ذلك الماضي الذي كانت تظنه قد غاب في مدرجة النسيان؟
وتعاقبت الأيام، وهدى من داء قلبها في هم واصب، والزوج يرى ويحس ولا يكاد يدري، والطفل يذبل ويذوي عوده؛ إذ كانت أمه في شغل عنه بما تصارع في نفسها من هم!
وعاد الزوج إلى الدار ذات مساء ومعه ضيف ... وكان الماضي طيفا يلم فعاد ضيفا يزور!
واستقبلته هدى بشعور بين الأنس والوحشة، واتخذت مجلسها بإزاء الرجلين اللذين فرض عليها القدر أن تكون منهما بين شقي مقص؛ لا يجتمعان إلا على فرقة وشتات!
ونهض الزوج لبعض شأنه، فهمت أن تلحقه حين ناداها ماجد، ونظر إليها ونظرت، وكان في عينيه نظرة ضراعة وفي عينيها نظرة تساؤل، ودنا منها وتحركت شفتاه همسا: «هدى! ها نحن قد التقينا أخيرا ...»
وفهمت ما يعنيه. إذن فقد كان بتدبيره هذا اللقاء، وإلى غرض كان يرمي حين اصطنع هذه الصلة الجديدة بينه وبين زوجها؛ ليلقاها بإذنه وفي داره ...! أهذا هو ماجد الذي كانت تعرف ...؟
وسفرت لها الحقيقة التي ظلت متوارية عن عينيها أزمانا حين رأت الهوة السحيقة تحت قدميها يحاول أن يقودها إليها برفق ... أكذلك كان منذ عرفته أم هو خلق جديد ...؟!
وفي نبرة صارمة أجابته هدى ووجهها إلى الباب: «خير ألا تعود ...!»
ولما خلت إلى نفسها من بعد ومثلت صورته في خيالها رأت صورة أخرى غير صورة ماجد الذي كانت تعرفه، أو الذي خيل لها الوهم يوما أنها تعرفه، وكما يصنع الضباب صورا تتراءى على أعين الغادين في غبشة الصباح كأنها تماثيل من بلور ثم لا تلبث أن تذوب حين يشرق عليها نور الشمس كذلك كانت صورته في أوهامها ... ثم تلاشت حين ألقت الشمس قناعها! وتحطم التمثال الجميل الذي أقامته في قلبها تقدسه وتتعبد له، ومحت كلمة من شفتيه ما لم تمحه السنون من ذكريات الماضي، فصار هباء وعاد كما بدأ!
ووازنت بين رجل ورجل، فشالت موازين ورجحت موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها، فبعد لأي ما أبصرت، وعرفت ... ... وقفل إليها زوجها فتعلقت به عيناها كأنما تستقبل عائدا من سفر بعيد، ودفنت وجهها في صدره لتمسح آخر دمعة ذرفتها على الماضي الذي ذهب ولن يعود، ثم رفعت إليه عينين عائذتين وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلهما سقف.
وكأنما كان قلبها في سجن فحطم أقفاله ثم انطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخا جديدا في صفحة بيضاء!
حلم شاعر!
الليلة عيد مولده.
أولئك أصحابه وصواحبه قد أحاطوا به فرحين مهللين، يضيء البشر في قسماتهم، وترف على شفاههم بسمات الفرح والمسرة، قد تنادوا إلى موعدهم ودعوه معهم إلى ناديهم؛ ليحتفلوا بعيد مولده.
وإنه لجالس بينهم ولكنه ليس منهم، إنهم هنا ولكنه هناك ...! ... وفي يده زهرة يعبث بها ... وضمها بين راحتيه ومال عليها برأسه. ما به أن يشمها، فإن عطرها ليأرج من حوله وينتشر، ولكنه ينظر ويفكر ... ... وراحت أصابعه تنثرها ورقة ورقة تساقط عند قدميه وهو يعد، وعد ثلاثين ورقة، ثم تعرت الزهرة من أوراقها إلا عودا أخضر ليس له عطر ولا رواء، وهمس الشاعر: «هذه هي دنيانا ...!» واختلجت شفتاه وأطرق، وعاد يعد الأوراق المنثورة تحت قدميه ... ... ثلاثون ورقة ... ذلك كل تاريخ الوردة، فما هي بعد الثلاثين إلا عود ذابل متفتر وورقات منثورة على التراب، وكانت وردة عطرة يعبق بأريجها الجو وتهفو إليها الزهرات الطيارة من فراش البستان ... فماذا يكون هو بعد الثلاثين وقد غربت شمسها منذ ساعات ...؟
وعاد ينظر إلى أصحابه وصواحبه، يبادلهم تحية بتحية وكلمات بكلمات، لا يكاد يشعر أن هؤلاء جميعا قد التقوا على ميعاد ليحتفلوا به في عيد مولده، فإن سيلا من الخواطر والذكريات يتدافع في رأسه الساعة، فما يكاد يرى أو يسمع إلا نجوى نفسه وهمس أمانيه، وغامت على عينيه غائمة فشطح إلى واد بعيد، وأصحابه وصواحبه من المرح والبهجة لا يكادون يشعرون أنهم منه على بعد بعيد وهو معهم؛ ومن أين لهم أن يحسوا ذلك وما اجتمعوا الليلة إلا حفاوة بعيد مولده ...؟
وأحس الشاعر إحساس الوحدة، وإنه بين أصحابه وأصفى الناس له، فتركهم لما هم فيه وتركوه، وإن وجها في وجه، وإن ابتسامة تجاوب ابتسامة، وإن كلمة تحيي وكلمة ترد ...
وانفض السامر ومضى كل لوجهه، ومد الشاعر يده يصافحهم ويشكر لهم، ثم تفرقت بهم السبل ... ... ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحس الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان، فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدثه، وخنقته العبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقرى ينشر على عينيه ماضيه ويذكره أمانيه ...
وقالت له نفسه: «هذا سبيلك فامض فيه على هدى وبصيرة، وانظر ماذا أعددت لغد!»
وقال لنفسه: «وهل ترين الغد يا نفس إلا صورة من أمس الذي كان؟ وهل ترينني في غد غير من أنا اليوم وغير من كنت في الماضي ...؟»
لقد تجاوز الثلاثين ولم يزل حيث كان يوم بدأ، فماذا يكون غير الذي كان؟ وأوى إلى فراشه وأطفأ المصباح، ليقضي ما بقي من الليل يراوح بين جنبيه في فراش الوحدة لا يهدأ ولا يستقر!
كان شاعرا بروحه وفطرته قبل أن يكون شاعرا له لسان وبيان. نظر إلى الناس في دنياه فاستوعبهم بنظرة، ثم عاد ينظر إلى نفسه فلم يعرف أين هو من نفسه وأين هو من الناس، وشعر بالوحدة منذ شعر أنه يعيش في جماعة ... وكان له خيال وفي نفسه أمل، فتوزعته دنياه ودنيا الناس، فلا هو عاش في دنيا الناس واحدا منهم ولا هو عاش في دنياه وحده!
وألحت عليه ضرورات الحياة، فأبت عليه فطرة الشاعر أن يلتمس بعض وسائل الناس، فعاش من ضروراته وفطرته بين قوتين تتجاذبانه، لا سبيل إلى الخلاص منهما معا إلا أن يعيش روحا بلا جسد أو جسدا بلا روح، وهيهات!
وفكر فيما خلق الله وفكر في نفسه، فكأن في كل ما يراه لسانا يحدثه، وفي كل ما يسمعه معنى يهتف به، وكأن في كل منظور حقيقة غير منظورة لا تتكشف إلا لعينيه ولا يسمع نجواها أحد غيره؛ فإن وراء الغمام طيوفا تتخايل له في شكول وألوان، وإن في لمعان البرق ومضات من الإلهام، وإن في الصمت لكلاما أبلغ من الكلام، وإن بين السماء والأرض لعوالم غير منظورة تفضي إليه بأسرارها.
وتكشفت له الدنيا ونضت أستارها، فألهمته أن يغني ...
وفاض ما في جنانه على لسانه سحرا من النغم يعبر عن أخفى خفايا النفس وأعمق أسرار الحياة، ولكن ألحانه القدسية قد تلاشت أصداؤها في صخب الحياة وضجة الأحياء فلم يستمع إليه أحد؛ إذ كان يتحدث إلى الناس عن عالم لا يراه الناس، ولكن يراه هو وحده.
وضاق الشاعر بوحدته بين هؤلاء الناس وضاقت به دنياه، فاعتزم الخلاص ... ولكن روحا لطيفا أطل عليه من سماواته فثبت فؤاده ...
وابتسمت له فابتسم، وعادت إلى الحياة نضرتها في عينيه، ووجد أنسا من وحشته حين أيقن أنه ليس وحيدا في دنياه.
وعاد يغني ... ولكن غناءه منذ اليوم ليس له وحده، فهو لحن مؤلف من خفقات قلبين قد اجتمعا على أمل ...
وغني بها عن الناس وغنيت به، فما يهمه اليوم أن يسمع الناس ما يصدح به من أغاريد الحب أو يكون لها وحدها شدوه وغناؤه.
آه ...! لشد ما تقسو عليه دنياه!
كان ذلك منذ سنين. أما اليوم، فقد ضربت الأيام بينه وبينها بسور ليس له باب، وعاد إلى الحياة وحده، لا يدري من أمرها ولا تدري من أمره شيئا ... ... وأشرق الصبح عليه صبيحة عيد الميلاد، وما زال يراوح بين جنبيه في فراشه الوحدة ولم تغتمض عيناه.
ما هو؟ وأين هو؟ وما دنياه؟
إنه ليحس من حوله فراغا هائلا ليس له قرار، وإن الوحدة لتكتنفه فما يشعر أن ثمة أحدا بجانبه يفزع إليه ليؤنس وحشة قلبه، وإنه ليعيش من زحمة الحياة وصخب الأحياء في ضجة يموت فيها النغم ويتلاشى الصدى، ففيم العيش؟ وما جدواه؟ وإلى أي غاية يمضي؟
وعاد يلتمس الوسيلة إلى الخلاص ...
وقالت له نفسه: «أتحسب يا صاحبي أنك قد فرغت من دنياك حين خلوت إلى نفسك؟ فما أنت بشاعر ...! لئن كنت قد عفت الحياة وكرهت المقام في دنياك لأمر من أمور دنياك، إن الحياة ما تزال تطالبك بحقها عليك، فإن أديته وإلا فلست من شعرائها ولا كنت ... ... ما الشعر إلا رسالة الحياة إلى الأحياء تعبر عن أسرار الحياة ومعانيها، وما هو إلا قبس من نور السماء يتنزل على قلب بشر لتنير به السماء ما حوله من ظلمات البشرية، وما هو إلا إحساس زائد على إحساس الناس يرى ما لا يرى ذو عين ويسمع ما لا يسمع ذو أذن، وما هو إلا وحي يوحى من وراء الغيب إلى إنسان تكون فيه زيادة على الإنسانية، وما هو إلا إدراك كامل يكشف عن مظاهر الجمال في الكون ويهدي إلى الحق والخير. ... أفتراك يا صاحبي قد بلغت رسالة الشعر حين حسبت أنك قد فرغت من دنياك أم أنت ...؟»
وأطرق الشاعر برهة يفكر ثم نهض لأمره ...
بلى، إن عليه رسالة يؤديها وواجبا ينهض له، فلا عليه من الناس حتى يبلغ، فإذا انتهى من أمره فإن نفسه له خالصة يمضي بها حيث يريد.
وأمات في دخيلته دواعي النفس ونوازع الهوى ومضى لغايته ...
وعاد يغني ... غير آمل ولا خائف، وما به من شيء ضجر ولا ملالة، وأنس وسمت روحه في آفاقها إلى ظل عرش الله حين قمع شهوات نفسه ونوازع هواه وآثر أن يكون نورا يضيء للناس وهو يشتعل، فلقيت أغانيه من يسمع فيعي.
وأفاق الناس على لحن علوي ساحر ينشده شاعر وهب نفسه للدعوة إلى الحق والفضيلة والجمال، ونظروا، فإذا هو هو، ولكنه صار شخصا غير من كان، لا تتصباه المنى، ولا يعبث به هواه، وليس له في الحياة إلا هدف واحد يسعى إليه ...
وجاءه المجد حين لا حاجة به إليه ...
وأشارت إليه من النافذة بنان مخضوبة وتقول: «أئنه لهو؟» فكأن لم ير، وكأن لم يسمع ...
وسعى ساعيها إليه يسأله: «أئنك لأنت ...؟»
قال: «نعم، قد كان ذلك يوما!»
وعلى باب الكوخ المنفرد على حدود العمران، جلس الشاعر على الرمل مرتفقا إلى صخرة ناتئة، يسرح بصره في الفضاء الممتد إلى ما لا يبلغ النظر، وفي نفسه أنس، وفي قلبه هدوء ورضا واطمئنان، وعلى لسانه تسبيح وعبادة.
لقد كان في مجلسه ذلك بحيث لا تراه عين ولا تسمعه أذن، ولكنه لم يكن وحده؛ لأن الله معه.
واستيقظ الشاعر بعد غفوة، وابتسم ...
لقد أدى رسالته، ولكنه لم يكن في أي أيامه أكثر حبا للحياة منه يومئذ.
لقد تحقق حلمه بعد لأي ووجد تعبير رؤياه!
ثمن الأمومة
في الطابق الرابع من الدار القائمة على حدود الصحراء من ضاحية حلوان، كانت تعيش وحيدة؛ ليس معها أم ولا أب، ولا زوج ولا ولد. لقد فارقها أبوها ولم تزل طفلة بعد، إلى حيث لا يرجع من يمضي، وفارقت هي أمها العجوز وأخاها، إلى حيث فرضت عليها «الوظيفة» أن تعيش غريبة منقطعة لتجد ما تعيش به. وما كان المرتب المحدود الذي تمنحها إياه «وزارة المعارف» في كل شهر ليسعد فتاة في مثل سنها، ولكنها كانت به راضية سعيدة. وقد استطاعت على امتداد الزمن أن تزيد دخلها بضعة جنيهات في كل شهر، مما تحصل عليه من أجرة الإشراف على بعض تلميذاتها في دراستهن المنزلية؛ فتهيأ لها بذلك أن تنظم ميزانيتها الصغيرة تنظيما يكفل لها أن تستمر على إعانة أمها العجوز بما ترسل إليها في كل شهر، وأن تدخر لنفسها شيئا إلى شيء؛ ارتقابا ليوم تأمله ...
منذ بضع سنوات لم تغير شيئا من نظام حياتها ولم تحاول، هذا منزلها الذي تسكنه منذ هبطت المدينة، لم يتبدل شيء منه ولم يتبدل شيء منها. هنا الغرفة التي تأوي إليها إذا جن الليل، وهنا الثوي الذي أعدته لاستقبال من يزورها فلم يطرقها فيه زائر قط منذ كان، وهنا الشرفة التي ترتفق إليها بذراعها كل مساء ساعة أو ساعات قبل أن تنام، تسرح النظر في الفضاء الغارق في ضوء القمر، أو تنقل الطرف بين النوافذ المضيئة، قانعة في وحدتها الموحشة من سعادة الاجتماع بأنس النظر ... وهناك، على مد البصر طفل يقفز ويثب. هذا هو حيث تراه كل مساء في مجلسها من الشرفة، جالسا بين أبويه أو عابثا لاهيا يتوثب؛ إن بينها وبينه لسببا قويا، إنها لتحبه كأنها ولدته، وإنها لتفتقده إذا غاب كأنها بعض أهله، وإنها لتتحدث إليه على البعد كأنه منها بمرأى ومسمع ... ذلك صديقها في بلد لم تأنس فيه إلى صديق، أتراه يعرفها ويعرف أين هو من نفسها ...؟ أما هي فتعرفه عرفان الأخ والولد، وتعرف تاريخه وماضيه منذ كان، وقبل أن يكون ...
من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام، أبصرت أمه عروسا في جلوتها، وأبصرت أباه؛ ومن هذه الشرفة نفسها رأته جنينا في بطن أمه تخيط له قميصه ولفائفه؛ ومن هذه الشرفة جاءها البشير بمولده والناس نيام، ثم أبصرته ذات صباح طفلا يحبو، ورأته من بعد غلاما يقفز ويثب ... ولكنه هو لم يعرفها بعد ...!
هذه حياتها. أما نهارها فجهاد ودأب بلا وني، تغادر بيتها في الصباح الباكر إلى مدرستها، وتغادر مدرستها إلى بيوت تلميذاتها، فإذا جن الليل عادت؛ وأما ليلها فهذه الشرفة، وهذا الفضاء، وهذا الغلام؛ فإذا أوى الغلام إلى فراشه، واختفى القمر وراء السحاب، وأسدلت الستائر على النوافذ المضيئة؛ نهضت من مجلسها في الشرفة، فتفتح صندوقها وتحصي ما فيه ثم تأوي إلى أحلامها.
ومضت بضع سنين قبل أن يجتمع في صندوقها ما كانت تؤمل أن يجتمع، وأيقنت بعد صبر طويل أنها من اليوم الذي كانت ترقب على مقربة ... ... وغربت الشمس ذات مساء ولم تعد إلى دارها، ثم عادت بعد العشية، واتخذت مجلسها من الشرفة وسرحت النظر، ولم يكن الطفل ثمة ولكنها لم تفتقده في غيبته، وأوت إلى فراشها ولكنها لم تنم حتى انتصف الليل، وتراءى لها الطفل في منامها وكان معه أبوه ... ثم أصبحت ...
وراحت تعد عدة السفر إلى أمها تطلب مشورتها في أمر ذي بال ...
وابتسمت أمها فرحانة، ثم غشيتها كآبة وهتف بها هاتف، ثم عادت فابتسمت ونهضت إلى مصلاها تناجي ربها وتدعوه لابنتها العزيزة أن يتم لها ما تأمل ...
وتغيرت الفتاة منذ اليوم وتبدلت وحشتها أنسا ومسرة، وهجرت الشرفة فلم تكن تغشاها إلا حين تكون على موعد ترقب له الطريق، وأنست غرفة الاستقبال بعد وحشة وطرقها الزائر المنتظر منذ سنين، وتعددت زيارته، وقالت له الفتاة ذات مساء وقد جلسا جنبا إلى جنب في الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام وأشارت إلى بعيد: «انظر، إنه طفل ظريف!»
ونظر حيث أشارت فتاته، وقال: «نعم، وأظرف منه أن تكوني أمه!»
وطأطأت الفتاة رأسها وتضرجت وجنتاها وسبحت في حلم لذيذ، وتراءى لها غلام يقفز ويثب بين أبيه وأمه، في مثل مجلسهما من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام!
وجلست الفتاة وصاحبها يتبادلان الرأي ذات مساء، وقال لها: «... وإني لأتمنى ألا توافق الحكومة على بقائك في العمل بعد الزواج؛ لتكوني لي وحدي!»
وقالت: «ولكن أمي ...»
وأجابها: «وعلي أن تكون أمك راضية سعيدة.»
واطمأنت الفتاة وسري عنها ما كان يقلقها منذ أيام، وجلست إلى مكتبها تكتب إلى الحكومة تلتمس الإذن في الزواج.
ولم يطل بهما الانتظار، ولم يقلقهما جواب الحكومة، فقد كانت متوقعة من قبل ألا يؤذن لها، وكانت مطمئنة إلى وعد خطيبها بأن يرضي أمها.
وراح الفتى والفتاة يعدان العدة ليوم قريب.
وانتقلت إلى بيت زوجها، وشهدها صواحبها عروسا في جلوتها، وشهدت نفسها؛ وكانت النوافذ المضيئة ترمي أشعتها إلى بعيد، وكان في الشرفات العالية التي يكتنفها الظلام عيون تنظر ... ... ومضت أشهر، ونظر الجيران فإذا هي جالسة إلى جانب النافذة تخيط قمصانا ولفائف، وفي هدأة الليل والناس نيام حل على الأسرة ضيف جديد، وارتفع صوته يعلن البشرى بمقدمه ...
ثم استيقظت المرأة من الحلم الذي ضرب على آذانها عاما وبعض عام، ونظرت فإذا هي وطفلها وحطام من الذكريات، ولم يكن الرجل ثمة ولم يكن الصندوق ...
وقبلت فتاها في جبينه وقالت وفي عينيها دموع: «لا عليك يا بني، لقد خسرت الرجل ولكني كسبتك، فليذهب أبوك حيث يشاء، ولتبق لي أنت!»
وخرجت تلتمس الرزق، واتخذت طريقها إلى المدرسة، ولكن المدرسة كانت قد أغلقت أبوابها.
وسعت إلى رئيس الديوان تلتمس الشفعاء إليه ليردها إلى عملها، فأغلق دونها بابه، ووقفت في مفترق الطريقين تنظر، ثم سلكت إحداهما ...
وعاد الرئيس من الديوان إلى داره، وانفتح باب السيارة ونزل، وسبقته إلى الباب امرأة. وهم حاجبه أن يمنعها ثم كف.
وهتفت المرأة في ضراعة: «سيدي، عزمت عليك بحق أولادك إلا ما وصلت عيشي بالوظيفة، إنني أم!»
قال: «ولكنك خيرت من قبل بين الوظيفة والأمومة فاخترت أن تكوني أما، فهيهات ...!»
وبرقت المرأة وصرخت في غيظ: «ولكنك أنت أيضا رضيت أن تكون أبا في أسرة، وأن تكون لك مع ذلك وظيفة في الديوان ... فلم لا خيرت أنت ...؟ كن أبا، أو كن رئيسا في الديوان، إن صح ألا يجتمعا ...!»
وسكت رئيس الديوان فلم يجب، وهتف هاتف من وراء حجاب: «ولكن ثمن الأمومة أغلى ...» ... ودخل رئيس الديوان داره وأغلق بابه ليجلس بين زوجه وولده فيقص قصته، ومضت امرأة على وجهها بائسة ذليلة لتدفع وحدها ثمن الأمومة الغالي!
الضيف الآخر
ود توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان؛ فإنه ليجد لذة ويحس أنسا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء؛ لقد أطافت به نوبة من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودق حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال، وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم، وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد؛ فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في النادي ما يسلي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعا إلى المصايف أو إلى بلادهم، وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم ...!
وتصورت في خياله القرية التي مس ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر - لبعد العهد - متى هاجر أهله منها إلى المدينة؟ ولمه ...؟ لا شك أنه سيجد هناك من جدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويهدي إلى نفسه الموحشة بعض الأنس والهدوء والدعة.
وتراقصت أمام عينيه صورة جذابة من حياة القرية ويسر الحياة فيها بعيدا عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر، وحضرته ذكريات حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شبانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تساقط عليه ثمرا شهيا، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسرابا أسرابا يجررن الذيول ويحملن الجرار على رءوسهن ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار وحديث القرويين يتنقل في لذة وسحر بعيدا عن التزويق والادعاء الفاخر ... وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحيط به هناك!
وفي اليوم التالي كان القطار يغذ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها ...
وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليه قليلا تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعام القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبان أسرته يحيونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث، يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال ...!
وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرف الوجوه والأبنية، واخترق سبلا وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوت متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق! وانتهى به المطاف إلى دار له بها عهد؛ لأن صاحبها من ذوي قرابته؛ واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضا؛ وإن لهم في السياسة لأحاديث لا تخلو من حكمة وبعد نظر!
وأعجب توفيق بحديثهم كما تعجب بحديث الطفل؛ فأنصت إليه في لذة وأنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سر أبي الهول وأطياف وادي الملوك ...!
وأديرت فناجين القهوة، وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتد الحر فأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق، وأن أعصابه تخونه، فهم بالانصراف، ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس.
وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدث بما سمع وما رأى، وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها ... وأشار «الشيخ» بيده فأنصتوا ومالوا برءوسهم إليه، وقد أخذ شاربه يرقص وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسور عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه، وفراشه أيضا، فلا ينصرف إلا مع أذان الفجر، والزنجية الحسناء التي كانت تصحب العفريت ليالي، فتحتل موضعه من الفراش وتضطره أن يقضي الليل معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قبيل الصباح إلا بنفحة من دراهم أو عصوين من نار تلهبان ظهره؛ جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان ...
وكان حديثا غريبا على الضيف، فحاول أن يفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذلك، وطلبوا إليه التسليم أو يتعرض لغضب الشياطين وأذاهم؛ وكانت أعصابه مهيأة للتسليم فسكت. واستمروا يتحدثون ...
وأحس رعدة خفيفة تتمشى في جسده، فسحب رجليه في هدوء فدفنهما في أطراف ثيابه، وجمع يديه في حجره، ومال إلى المحدث يستمع إليه هادئا منصتا في شبه إيمان. لقد حطمت هذه الليلة الصاخبة أعصابه، وهاجت وساوس نفسه المريضة.
وانتهت السهرة، ولكن صاحبنا ظل جامدا في مكانه، لم يهم بالقيام حتى دعوه؛ فنهض كسلان متراخيا يكاد يسقط من إعياء. وشيعوه إلى دار أخته وهو سار بينهم يتعثر في أوهامه ...
ووجد أهل البيت نياما فلم يبق ساهرا في انتظار عودته إلا مصباح ضئيل موقد في الردهة، يرقص لهبه على عزيف الهواء. وكان يعلم أنهم أعدوا له غرفة في الطبقة الثانية، فصعد في السلم بطيئا متثاقلا يتلفت بين الخطا، والمصباح في يمينه. ودفع باب الغرفة بيسراه فسمع صوتا يشبه أنين المستصرخ، فأدار ظهره في فزع ليرى من هناك، ولكنه لم يجد شيئا؛ وعاد يدفع الباب، فسمع حشرجة خشنة، ثم ضحكة بشرية ناعمة ...!
ووقف في وسط الغرفة يقلب بصره بين زواياها في رعب وفزع، وكانت به رغبة في التدخين، ولكنه لم يجرؤ أن يذهب إلى الغرفة الثانية - حيث أودع حقيبته - ليستحضر بعض التبغ. وخلع نعليه وهو جالس على حافة السرير ويداه ترتعشان، وأصوات غريبة تتجاوب في أذنه فتفزعه وتسلبه الطمأنينة. ودفن نفسه في الفراش، واستلقى على ظهره وقلبه يدق دقات عنيفة، وكأن يدا غليظة تقبض على عنقه، وأشباحا خفية تطيف به.
وكان يعلم أنه ليس فوق السطح غير أكداس من الحطب والوقود، ولكنه أحس دبيب أقدام، وسمع أصواتا غريبة هامسة ليست من صوت البشر! أتراه أغضب الشياطين فأرسلوا إليه عفريتا ينتقم منه ...؟
وضاقت أنفاسه، واضطرب فكره، واشتد ضغط الوهم على صدره، وهم أن يصرخ ويستنصر، ولكن صوته احتبس ولم يتحرك لسانه. وشبه له أنه يرى شبحا من الضباب في شكل غير إنساني - وإن كان يمشي على رجلين - ينسل من النافذة مع ضوء القمر، ويشير إليه بالصمت في إنذار وتهديد ...!
وسحب الغطاء يخفي عينيه في حركة آلية، لكنه أحس شيئا باردا يلمس أطراف قدميه، فاستوى جالسا وأفلتت منه صرخة مخنوقة، وتوارت الأشباح فلم يبصر شيئا، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيبا وهمسا، وأصواتا غريبة، كانت تصك أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلا أسود مطبوعا عليه، يحرك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدث إلى شخص بعيد؛ وود توفيق أن ينظر وراءه ليرى ما هنالك، ولكنه خاف. واستمر الهمس والدبيب يرنان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينم ليلته. وفي الصباح - مع أول خيط من ضوء النهار - كان جالسا في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم. ودخلت أخته تحييه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، فقالت له: «توفيق، ماذا بك؟» - «لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدي لي ركوبة إلى المحطة!» - «مسافر؟ ولكنك عرفتني أمس أنك قد تمكث لدينا شهرا، فلماذا غيرت رأيك؟» - «لا شيء، لا شيء، قلت لك لا شيء! إن حقيبتي في الغرفة الثانية.»
وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفذ ما أمر به، ثم عادت تسأله: «حدثني يا توفيق، هل تألمت من شيء هنا؟» - «لا، ولكني لم أخبر أمي أمس بأني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يؤلمها؛ لذلك سأعود.» - «ليتك لم تحضر يا توفيق!» وانصرفت لبعض شأنها.
وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس، أفلتت منها ورقة، فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.
ولما جلس في القطار، وضع يده في جيبه ليخرج شيئا، فعثر بالورقة ونشرها بين أصابعه يقرؤها ... وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولودا، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جديا فلا يفزعه دبيبهما، ريثما ترد الجدي إلى صاحبه في الصباح!
لقد خاف توفيق وفزع ليلته؛ لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت ...
الدرس الأول
«هل كانت قدرية في أوليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرها؟»
هكذا سألني صديقي وهو يحدثني حديثها: ... كانت تجلس في الصف الأخير من حجرة الدراسة، فقد كانت أطول قامة وأبعد نظرة، فما يشق عليها ولا يعنيها أن تجلس في الصف الأول أو في الصف الأخير. على أنها كانت أسبق التلميذات جوابا عند الاختبار، وأكثرهن عناية بالعمل المدرسي، فلا جرم كانت بذلك أدنى منزلة إلى قلوب معلميها ومعلماتها، وكانت على إرث من الأدب والفضيلة، يبدو في طرف غضيض، وصوت خفيض، ولسان عذب التحية عف الخصام، وكانت إلى كل ذلك مليحة رشيقة، مقبلة ومدبرة ...! وإني لأعجب لنفسي كيف لم أتبين ما فيها من رشاقة وخفة إلا في تلك الليلة التي كانت ... حين بدأت حوادث هذه القصة ...؟
على أن المعلم في مدارس البنات قلما يعنى بالنظر إلى وجوه تلميذاته، ولعله لو سئل الرأي في تفضيل واحدة على واحدة من بناته في هذا الباب لأخطأ الرأي والنظر، ولكانت أدم الدميمات هي عنده الجميلة التي لا تباريها واحدة ولا تقاربها، فإن طول العشرة ودوام المخالطة خليق بأن يلون رأيه بلون غير اللون الذي ينظر به كل رجل إلى كل امرأة؛ ومن ذلك لم يهجس في نفسي يوما أن فلانة من تلميذاتي أجمل أو أدم من فلانة، وكذلك لم أكتشف ما كان في قدرية من جمال وفتنة إلا في تلك الليلة، وإنها لتلميذتي منذ ثلاث سنين!
كان ذلك في يوم من أيام الربيع وقد تبرجت الدنيا بزينتها، وأخذت زخرفها، ونضت الكائنات عن سر الإبداع العبقري الذي أودعه فيها الصانع الأعظم.
وكان العام الدراسي في أخرياته، وقد فرغ المعلمون أو كادوا مما عليهم من فرائض العلم، وتأهب التلميذات لواجبهن استعدادا ليوم قريب ...
ورأت المدرسة أن تجري على تقاليدها احتفالا بانتهاء العام، على أنها رأت أن يكون في حفلتها هذه السنة شيء جديد، محاكاة لمدارس أخرى، ومساهمة في بعض أعمال البر - كما تزعم - فاعتزمت أن يكون احتفالها في ملعب كبير مشهور، يدعى إليه طائفة من أهل البذل والمعروف؛ لتستعين المدرسة بما تجمع منهم على البر بطائفة من الفقراء ...
وأعدت المدرسة برنامجا حافلا، فيه تمثيل ورقص، وفيه غناء وموسيقى، ولا بد أن تجتمع هذه الألوان في كل حفل يراد منه أن يغل إيرادا يعين على بعض أعمال البر ... وإلا فماذا تقدم المدرسة من وسائل التسلية ثمنا لما تطلب من أهل البذل والمعروف؟
وقالت معلمة لأخرى: «ينبغي أن تكون حفلتنا معجبة!»
فقاطعتها الثانية: «نعم، وستكون أفخم ما أقيم من حفلات المدارس في هذا الموسم ...»
واختيرت الرواية، واستؤجر الملعب الكبير، ودعي فنان مشهور من أهل الكفاية ... ليدرب التلميذات على اصطناع شخصيات الرواية، كل واحدة بدورها راقصة أو ممثلة.
وطاف المدرب بالتلميذات في صفوفهن يختار منهن ذوات الوجوه والأجسام ... الفنية!
واختار قدرية لدور ذي خطر ...
وتأبت الفتاة بما في طبيعتها من الحياء وما في دمها من إرث أجدادها، وعجب البنات أن تأبى قدرية وإن كل واحدة منهن لتتمنى، واستمعت قدرية إلى أحاديث البنات صامتة، ثم ... ثم قبلت فخورا مزهوة، وغلبتها غريزة الأنثى الغيور، على ما في دمها من إرث الآباء والأجداد!
ووقف المدرب يلقنها ويستمع إليها، ووقفت هي مصغية تستمع إليه وتحاكيه، تجهر بصوتها حينا وحينا تخافت به، وعرفت من مخارج الصوت ما لم تكن تعرف، ولانت أعطافها بعد يبس، وأحسنت أن تدور على عقبها، ثم تنثني وتنهض، وأجادت تمثيل اللفتة المتكبرة، والنظرة العابرة، والرنوة الآسرة، ثم تبكي وتضحك في وقت معا ...
وقال المدرب الفنان: «يا لها من فتاة! إنها لفنانة موهوبة!» وأطبقت الفتاة جفنيها في حياء وهي تشكر له، فبدت في كلمتها وحركتها أبرع فنا مما ظن مدربها ...!
ولم يمانع أبوها وأمها أن تكون ابنتهما راقصة ممثلة ساعة في ليلة من ليالي البر. وأين يبدو لهما وجه الاعتراض والمدرسة هي التي اختارتها لذاك، وإن المدرسة لأعرف منهما بما يليق وما لا يليق، وإن عليها وحدها أن تختار لتلميذاتها من وسائل الرياضة والتثقيف ما يؤهلهن للحياة ...!
وجاءت الليلة الموعودة بعد تدريب طويل وإعداد شاق ... وكان على أبواب المسرح الكبير معلمون ومعلمات لاستقبال المدعوين، وغص البهو والشرفات بالآباء والأمهات، والأصدقاء والصديقات ، والمربين والمربيات ...!
وراحت طائفة من التلميذات تجوس خلال الصفوف في ثياب بديعة ومظهر فاتن، يبعن الزهر والحلوى مما صنعت أيديهن من قبل استعدادا لهذا اليوم ومساهمة في أعمال البر ... وكانت «قدرية» خلف الستارة بين أيدي المواشط يهيئنها للظهور، وأمامها مرآة كبيرة تريها من نفسها ما لم تكن ترى أو تعرف، وابتسمت ابتسامة الإعجاب والرضا حين رأت وعرفت.
وخرجت إلى المسرح مجلوة ملونة كما لم تبد في يوم من أيامها، وانسكبت عليها الأشعة من أربعة جوانب المسرح تشب لونها وتزيدها ملاحة وفتنة، ووقفت متأهبة.
ورن الجرس، ثم ارتفعت الستارة، وضج المسرح بالتصفيق، فانحنت في رشاقة وخفة وهي تكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، ونثرت ابتسامتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية ...
ولم يكف التصفيق حتى ارتفع صوتها يغني ... واستدار بها البنات يرقصن ويغنين ... وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت، وقالت عيناها ... وقالت عيون الناس ...
وكأني لم أر قدرية قبل تلك الليلة ... لقد بدا لي من جمالها وخفتها ما لم يكن لي به عهد من قبل، أهذه هي ...؟
ولما أسدلت الستارة في الخاتمة، كان تحت قدميها أكداس من الزهر، وفي أذنيها أنغام من هتاف الإعجاب، ولكن قلبها كان أحفل بمعانيه ...
وحين لقيها أبوها بعد، كانت في عينيه دموع، وطبع على جبينها قبلة ... وأقلتها السيارة بين أمها وأبيها إلى البيت وهي صامتة؛ لأن معاني ذات خطر كانت تطيف برأسها ...
ونامت تلك الليلة بين هتاف وتصفيق وأكداس من الزهر. لقد كانت عيناها مغمضتين ولكن قلبها يقظان، وتمثل لها في أحلامها كل ما رأت وسمعت، وشعرت، وراحت أحلامها تنسج لها أمانيها ... وتلقت الدرس الأول في تلك الليلة، فنسيت به كل ما تعلمت من دروس!
لقد ذاقت قدرية من اللذة الفنية ليلتئذ ما لم تذق طوال سنيها التي عاشت، فشاقها أن تستزيد ...
ولما عادت إلى المدرسة بعد يومين وسمعت ثناء معلميها ومعلماتها، أجد لها ما سمعت معاني أحست في أعماقها صداها، ووجدت فيها غذاء لأمانيها ...
وتناولت «المجلة» التي تعودت أن تقرأها في كل أسبوع، فراحت تعبر صفحاتها معجلة حتى انتهت إلى صفحة «الفن» فتلبثت، وأخذت تنظر إلى صور الراقصات ونجوم المسرح معجبة متمنية ... وفي أذنها صدى بعيد من هتاف النظارة وتصفيق المتفرجين ...
ولما حان عيد مولدها وأرادت أن تتصور - على عادتها في كل سنة - لم يحل لها إلا وضع واحد تبدو فيه صورتها، فلبست ثوبها الذي كانت ترتديه ليلتئذ، ووقفت بعض مواقفها، واستحضرت صورة ما كان ... فانطبعت في الورقة صورة من مشاهد ذلك الماضي، وتمثلت في نظرة عينيها تمام صورته!
ووقفت ذات مساء على باب مسرح كبير من مسارح اللهو تجيل عينيها في إطار كبير يضم شتيتا من صور الراقصات وربات الفن، وطالت وقفتها، ثم انصرفت. وفي الليلة التالية كانت جالسة في الصف الأول من بهو المسرح تشهد التمثيل وحدها، ليس معها أحد من ذويها، واستطاعت في ختام الليلة أن يكون لها رأي فيما شهدت من ألوان الفن وفي عيوب الممثلين وغلط الراقصات ...
وفي الصبح كانت جالسة إلى بعض زميلاتها في حوش المدرسة تحدثهن حديثا طويلا عن عيوب الفن المصري في الرقص والتمثيل والغناء، وتشخص العلة وتصف الدواء؛ وأمن صديقاتها على ما قالت، فما تشك واحدة منهن في أن من حق قدرية أن يكون لها رأي في الرقص والتمثيل والغناء، وإنهن ليسمعن من حديثها كل يوم ما يشهد بكفايتها وسعة معارفها في تلك الفنون ...
وتلقت قدرية بعد الدرس الأول دروسا كثيرة، في المسرح والسينما، وفي الصحف والكتب، وما نسيت مع كل أولئك شيئا مما رأت في تلك الليلة التي كانت ... لقد استقرت في أعماقها أصداء الهتاف والتصفيق التي سمعت ليلتئذ ... ورنين كلمات الإعجاب والرضا التي وعتها أذناها، وصورتها بين الأشعة الملونة تنسكب عليها من جوانب المسرح وتحت قدميها أكداس الزهر ... وبقي كل أولئك في نفسها مشهدا حيا كأنها ما تزال بين أشعته وألوانه، فإنها لتجد لتذكره لذة فنية تحبب إليها حياتها وتجدد لها في كل يوم أمانيها ...
قال صديقي: وانتهى عهدي بقدرية وانتهى عهدها بي، فقد أتمت دروسها بالمدرسة ومضت لشأنها، وتصرمت سنون ... ونسيت أمرها وما كان ...
وفي ليلة من ليالي الصيف الماضي صحبت أهلي إلى سهرة في بعض ملاهي الإسكندرية، ووقفت بباب الملهى العائم بين الأمواج المصطخبة، أقرأ البرنامج المنشور على الباب وأشاهد الصور، ورأيت صورة، فهجس في نفسي هاجس لم يلبث أن تلاشى ...
ودخلنا واتخذنا مقاعدنا على مقربة من المسرح ... ومضت لحظات، ثم رن الجرس ورفعت الستارة، وتتابعت المشاهد فنونا توقظ الفكر وتجلو صدأ النفس وتسري عن المهموم، وفجأة برز أمامي مشهد رائع ... يا لله ...! من كان يظن ...؟ هذه تلميذتي قدرية ...
وبدت لي في مثل هيئتها التي رأيت أول مرة على الملعب الكبير في القاهرة منذ سنوات، في ثوب منقوش كأنما اجتمعت أجزاؤه من أوراق الزهر، يكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، وانحنت في رشاقة وخفة وهي تنثر ابتساماتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية، والمسرح يضج بالتصفيق والهتاف باسمها، ولكنه اسم جديد أسمعه لأول مرة في تلك الليلة ...
وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت، وقالت عيناها ... وقالت عيون الناس ... وقالت لي نفسي ...
وانتثرت أكداس الزهر على قدميها وأسدلت الستارة ...!
ليت شعري، هل كانت قدرية في أوليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرها؟
وهل كانت خواطرها تخيل لها هذا المصير الذي بلغته، يوم كانت تجلس مجلسها من الصف الأخير في حجرة الدراسة؟
وهل ... وهل عرف من عرف، كم بين الدرس الأول والدرس الأخير ...؟ وأين ما بدأ مما انتهى ...؟
وانفض السامر، وتهيأ أهلي للانصراف ومازلت في مجلسي أفكر، حتى خف الزحام فنهضت، فإني لألتمس طريقي إلى الباب إذ حانت مني التفاتة فرأيت، فتنحيت عن طريقي، وقلت للتي بجانبي: «تفضلي» وكانت سيدة ورجلها وبينهما طفل، أما السيدة فأعرفها، فما تخفى علي ملامح تلميذة من تلميذاتي مهما باعد بيننا الزمان، وأما الرجل فزوجها، هكذا يعرف كل من يراه ويراها، وأما الطفل ... ... هذه فتاة أخرى من تلميذاتي تبرز لعيني فجأة بعد غياب سنين ... «هذه» واحدة و«تلك» واحدة ...
ليت «تلك» التي توارت خلف الستارة منذ قريب قد رأت ما رأيت لعلها تعلم ماذا باعت وما اشترت!
وشيعت «الأسرة السعيدة» بعيني، ثم ارتد نظري إلى الوراء لأشيع الأخرى ...
وكأنما اجتمعت لي هاتان الصورتان في زمان ومكان ليشغلني أمرهما من بعد ما يشغلني، فلا أزال أسأل نفسي كلما حضرتني الذكرى: «أيهما خير ...؟»
إنه أخي ...
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تقذف قطرات الماء إلى وجوه المارة وثيابهم فتغمض عيونهم، وهم يسيرون على حيد الطريق في حذر ورقبة؛ خشية أن تنزلق أقدامهم فيتدحرجوا في الوحل، والسيارات منطلقة براكبيها من ذوي اليسار والنعمة، تقذف عجلاتها رشاش الماء على جانبيها فيصيب وجوه الناس وثيابهم، لا يكادون يدفعون عن أنفسهم شيئا مما تقذفهم به الأرض أو تنالهم به السماء!
وكان الليل في أوله ...
وفي منعطف يفضي إلى أربعة بيوت في حي «شبرا»، كان فتى دون الثلاثين واقفا تحت السماء وقفة مرتقب وعيناه معلقتان بنافذة مغلقة، لا يزيد على أن يرفع إليها عينيه حينا وإلى الطريق العام حينا آخر، وهو واقف، والساعات تمضي، والمطر ينهمر، والريح تلطم وجهه بقطرات الماء، وفي يده ورقة مطوية ...
وكان بوابو البيوت الأربعة مجتمعين وراء أحد الأبواب، وبين أيديهم نار يصطلونها وهم يسمرون، وكان لكل أسرة من سكان البيوت الأربعة حظ من حديثهم وسمرهم، وهل يجتمع مثل هؤلاء إلا لمثل ذلك ... وكانوا في غفلة عن الفتى، والفتى عنهم في غفلة ...
وطال الانتظار بالفتى، ونال منه البرد القارس، ونفذ الماء من ثيابه إلى جسده، وكان شعره الأشعث يقطر ماء على جبينه، فلم ينتبه إلا من بعد إلى هذه الشرفة التي تلقي ظلالها على جانب من الطريق، فأوى إلى ظلها يحتمي من المطر والريح في هذه الليلة الباردة ... ... لولا ثيابه الحائلة، ونظراته الضارعة، وذلك الفتور في عينيه، وهذا الشحوب في وجنتيه، ولولا هذه اللحية التي لم يمسسها حد الموسى منذ أيام، لحسبه من يراه عاشقا قد أضله هواه فأخرجه في هذا الجو العاصف يرجو موعدا أو يتزود بنظرة ... ولكن على وجهه سمات لا يكون مثلها في وجوه العشاق ... فما هذه الورقة المطوية في يده ...؟ فلعله رسول ...!
وأخذته عيون البوابين وهم في حلقتهم يصطلون ويسمرون، فتهامسوا وضحكوا، وأحس الفتى وقع نظراتهم، فاستحيا، ثم تغافل ولوى عنقه ...
لم يكن ذلك موقفه الأول؛ فقد طالما وقف «عباس» هذا الموقف من قبل ... ولطالما امتد به الانتظار في هذا المنعطف ساعات، حتى إذا ما انفتحت النافذة المرموقة أسرع إلى الباب وصعد، أو كتب ورقة في حاجته فبعث بها مع البواب ...
من أجل ذلك كان مألوفا لسكان الحي أن يروه في موقفه ذلك، وأن يسكتوا، لا يحاول واحد منهم أن يعرف ما وراء هذا الموقف من سر، ولكن واحدا منهم كان يزعم أنه يعرف فأسر النبأ إلى البوابين الثلاثة ...
وكانت الهواجس تهجس في ضمائر سكان البيوت الأربعة، فلكل واحد منهم مع أهله حديث عن هذا الفتى الذي لا يزال يتردد على هذا المنعطف حينا بعد حين، لأمر يزعم كل واحد منهم لنفسه أنه يعرفه، وإن لم يتفق اثنان منهم عليه ماذا يكون ...
وتناثرت الإشاعات ثم اجتمعت، فإذا على ألسنة السكان جميعا خبر واحد، هو أن للسيدة فلانة سرا تحاول أن تخفيه إلا عن هذا الفتى وعن بواب دارها ... ... لو وقف عباس مثل هذا الموقف كل يوم مرات في غير هذا المنعطف ما أحس به أحد ولا سأل عن خبره سائل، كم فتى، وكم فتاة، وكم رجلا، وكم امرأة يمشون كل يوم، ويقفون، ويتواعدون، ويتلاقون على أعين الناس في الشوارع الحافلة، ثم يودع بعضهم بعضا ويمضي لوجهه، فلا يثير أحد منهم فضول عابر ولا يسأل عن خبره سائل، ولكن هنا، في هذا المنعطف الذي يغلق بابه على بيوت أربعة قد تعارف سكانها فردا فردا فلا يكاد يخفى على أحدهم خبر جاره؛ هنا في هذا المنعطف كان وقوف عباس مثار فضول ومبعث ريبة ...
ولم يكن عباس عاشقا، ولا رسولا، ولكنه أخو السيدة فلانة زوجة الطبيب فلان ... هل يصدق أحد ...؟ إنها الحقيقة!
هذه السيدة التي يراها من يراها في أبهتها كأنها أميرة، أخت هذا الفتى البائس الشريد الذي يقف كل يوم هذا الموقف ساعات، تحت المطر الهاطل، وفي مهب الريح السافية، وفي أتون الشمس المحرقة، يترقب اللحظة المناسبة ليكتب إليها فيعود له البواب فيضع في يده بضعة دراهم، ثم يمضي؛ ليعود بعد يوم، أو بعد ساعات، فيقف موقفه يترقب، وفي يده ورقة مطوية ...
ماذا كان عباس في أوليته؟ وماذا صار ...؟
لقد نشأ في بيت رفيع العماد، عالي الذرا، ثم كان له ولأخته ما خلف أبوهما من ثروة ومال، وكان تلميذا في المدرسة يوم مات أبوه، وكانت أخته مسماة على الفتى الذي صارت له من بعد ...
وآلت ثروة أبيه جميعا إليه، وإنها لثروة، وهجر الفتى مدرسته ومضى على وجهه يبيع اللذات ويشتريها، ونصب له الشيطان حبائله من الفراغ والشباب والمال ...
وانتقلت أخته إلى دار زوجها، وخلفت قصر أبيها بما فيه، ولكن قصر أبيه كان أضيق من أن يتسع له، فأغلق بابه ومضى يتنقل بين أندية اللهو ومجالي الهوى ومسارح الشباب، وبسط يده على موائد الشرب والقمار، وتقاذفته الأقدار، قدر يفضي إلى قدر، وأغمض عينيه وسبح في أوهامه، وطارت به أمانيه ثم سقطت، وفتح عينيه فإذا هو وحيد شريد صفر اليدين من المال والصحاب ...
وذكر أخته بعد سنين من القطيعة، فراح يشكو إليها، ودمعت عينا السيدة رثاء لأخيها وشفقة عليه، ثم ذهبت إلى صوانها ففتحته وعادت له بما تملك.
وخرج الفتى من مجلس أخته برأس مال صالح لو أنه أراد ... وكان يريد، ولكنه رأى أن يودع ماضيه بليلة ساهرة من ليالي الهوى والشباب، ثم يصبح ...
وأصبح ... وعاد كما بدأ ...
واستمرت الكرة تتدحرج ...
وعاد «عباس» إلى أخته بعد شهر، وقال لها وقالت له ... ونهضت إلى صوانها، ولكنها عادت في هذه المرة ويدها فارغة. وعاد زوجها من عمله، والتقى الثلاثة لقاء الأهل بعد فراق طويل ... وأسرت الزوجة حديثا إلى زوجها، وباحت له بما باحت وكتمت عنه ما كتمت ... وأخذ الثلاثة في حديث طويل ... ... وقال الزوج لصهره: «... نعم، مني المال وعليك العمل، إنها تجارة رابحة، وإنك بها لخليق أن تبلغ الغنى في سنوات لو أنك حرصت ...»
وتعاهدا على الإخلاص والصدق، ووثقا عقد الشركة بالأيمان، ودفع الزوج المال وخرج عباس لأمره ... ولكنه لم يعد ...
لولا الشهامة والبقيا لكانت القاضية بين الزوجين، ولولا دموع السيدة ... وهم الطبيب أن يرفع أمره إلى القضاء، ثم سكت، وماذا يرد عليه القضاء من ماله وإن غريمه لمفلس لا يجد رمقه ...؟
وصبر على غيظ، وسكتت زوجته على حسرة وخزي وألم ...
وضاقت بالفتى أيامه، فعاد يتذكر أخته، وسعى إلى بابها وسأل، وكان زوجها في الدار، فتوارى الفتى يترقب، وطوى ورقة مكتوبة ودفعها إلى البواب ... وصار هذا شأنهما من بعد ...
وكان يقصدها كلما ضاق به أمره، ليس بين المرة والمرة إلا أيام، فتعطف عليه أخته وتنيله، ثم تقاربت مواعيده حتى صار له راتب مفروض في كل يوم ... وبصر به الطبيب مرة وهو خارج فأغضى كأن لم يره، وتجرأ الفتى من بعد فاستعلن وراح يطرق الباب حين يشاء من ليل أو نهار يطلب ما يطلب، وترادفت مطالبه ...
وضاق صدر الزوج ونفد احتماله، فتصبر، ثم علم من شئون عباس ما لم يكن يعلم، فغضب لنفسه ...
لقد يكون من المحتمل أن يلقى الرجل ذا حاجة فيدفع إليه بعض ما يستعين به، ولقد يؤثره على نفسه بما يمنحه، ولكن من ذا تطيب نفسه بأن يكون ما يدفع إلى ذي حاجة من ماله وسيلة إلى اللهو الحرام ...؟
هكذا قال الطبيب لنفسه فثارت ثائرته، إنه يشقى ما يشقى في تحصيل هذا المال ليسعد به وليسعد غيره، لا لينفقه عباس على موائد الشراب والقمار!
وتحدث إلى زوجته بما في نفسه، وإن كلماته لترتجف من الغضب، واستمعت زوجته إليه مطرقة، ثم خلت إلى نفسها لتبكي ...
ولم يكف عباس ولم تحرمه أخته، وعاد الأمر بينها وبين أخيها سرا كما بدأ، واستمرأ المرعى فكشف الحجاب ... وكان ما تنيله معروفا ونافلة فعاد ضريبة مفروضة، وتكررت مطالبه وكثر مطلوبه، وألح إلحاح الجابي على مدين مماطل ...!
وتعود سكان الحي أن يروه كل يوم مرة أو مرات في موقفه ذاك ذليلا ناكس الرأس وعيناه إلى النافذة، أو إلى الباب، حتى إذا أمكنته الفرصة وثب فكان على باب أخته، فحينا يكون الأمر بينهما تشكيا واعتذارا، وحينا يكون تهديدا وصخبا وضجة؛ وهم بأخته مرة يحاول أن يضربها لتعطيه ... تعطيه من مال زوجها ما يعينه على ثمن الشراب، وتكاليف الشباب، ثم يتركها لأحزانها ويمضي لهواه ...
وضاقت به أخته كما ضاق به زوجها من قبل ...
وقالت له مرة وفي عينيها دموع: «عباس، ليتني كنت أستطيع! ولكني لا أطيق أن أخون زوجي في ماله، وإني لأستطيع أن أعطيك ما تستعين به على العيش، ولكني لا أعطيك للشراب والقمار ...!»
وضحك الفتى ساخرا وقال: «الشراب والقمار ...! تريدين أن تربيني ...؟ إذن فأنت لا تمنعين المال عني للعجز والحاجة، ولكنك تحاولين تأديبي ...!»
وبرقت عيناه وأطلت منهما نفس شريرة، فتراجعت أخته مذعورة تطلب الحماية في متاع الدار، ووثب عليها فصرخت، ثم خرج غاضبا ...
وطال حديث الناس عن السيدة المصونة، وقالوا ما قالوا، وتناولتها الريب والظنون؛ وبلغها ما يقول الناس فزادت هما على هم ...
وأوصت البواب أن يرده إذا رآه وأن يحول بينها وبينه، وكانت في حال من الغضب خيلت إليها أنها تستطيع أن تنسى أن لها أخا ... ... وجاء الفتى إلى موعده، وكان زوجها في الدار ...
ذلك يوم كان المطر ينهمر، والريح العاصف تلطم الوجوه بقطرات الماء، وعجلات السيارات في سرعتها تقذف رشاشها إلى وجوه الناس وثيابهم. وظل الفتى في موقفه ينتظر غفلة ليصعد إلى أخته ...
وكف المطر، وهدأت الريح، وانفتح الباب، وخرج الطبيب لبعض عمله، فتسلل عباس إلى الدار ...
ومضت لحظات قبل أن يسمع البواب من يناديه، فصعد، وقالت السيدة في غضب وثورة: «ألم أطلب إليك ... ألم آمرك أن تمنعه ...؟»
وأطاع البواب فهم بالفتى ليطرده، ونشبت معركة ...
وبلغت الضجة آذان الناس في بيوتهم، وخيل إلى بعضهم أنهم يسمعون استغاثة، واجتمع على باب الدار رجال ... وشق الشرطي طريقه إلى المعركة، ووضع يده في عنق الفتى، والبوابون الأربعة من ورائه يدفعونه بعنف، ولم تجد السيدة ما تقوله فتوارت معقولة اللسان ...
وهبط الشرطي بالفتى إلى الشارع، وأحاط به الناس، وراح الفتى يحاول الخلاص صاخبا حينا وضارعا حينا آخر ...
ورفع عينيه إلى النافذة فرآها تطل كاسفة ممتقة الوجه ...
ورفع الناس عيونهم فرأوها، وقال البواب: «لقد أمرتني أن أدعو له الشرطة، إنه لا يكف عن مضايقتنا ليل نهار ...!»
وقال الفتى بذلة: «اسألها يا سيدي، إنها ... إنها لا تريد ...»
وقالت السيدة وصوتها يقطر أسى: «دعوه ...!»
وغضب من غضب من الرجال وثارت غيرته، وذهبت أنفسهم مذاهب من الريبة وسوء الظن، وأطل الفضول من نوافذ البيوت الأربعة ... وتوقع الجيران أن يشهدوا فضيحة ... وظنوا الظنون ...
وعاد الفتى يتوسل، والبواب يتشدد، ويد الشرطي في عنق الفتى وعيناه إلى هناك ... وعادت السيدة تقول في ضراعة: «دعوه، أرجو أن تتركه يا سيدي، إنه ... إنه أخي ...»
وأغلقت النوافذ المفتوحة، وتوارت الرءوس المطلة، ومضى الشرطي والبواب بالفتى، وجلس الجيران يتهامسون. وكانت سيدة تجلس وراء النافذة وحدها، في وجهها أظفار دامية، وفي عينيها على الرجل الذي أدماها دموع ...!
آخر الطريق
على الضفة اليمنى من «بحر شبين» كان يقوم القصر الأبيض، كما يسميه أهل القرية والقرى المجاورة، وهو بيت مبني على طراز بيوت المدن، تفصل بينه وبين الطريق العام حديقة كبيرة تحنو على حوافيها أشجار ذات ظلال وأريج.
في هذا القصر كان يقيم «عبد الرحمن بك»، وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء له ماض مجيد ووقائع مشهورة، فلما أسن وقعد هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتا ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر الأبيض في عز وجاه ومنعة.
وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهرم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرب من طباعهم وعاداتهم المأثورة، فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة، فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.
لم يكن في القرية كلها، ولا في القرى المجاورة، فتى أعز على أهله وعلى جيرانه من «عابد» ابن عبد الرحمن بك. وكان فتى ريان العود، ناضر الشباب، فيه دماثة الحضري المتبدي وشهامة القروي المتحضر، وإنه لوحيد أبيه وسيد أمره، وأبوه سيد القرية العزيز الممنع.
وكان عابد في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عينا لعين، فوقع من نفسها ووقعت من نفسه؛ وكان جالسا في خص إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرت به لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذا، ومضت على وجهها مغضية من حياء وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ ...
لم يكن أبو أمينة من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر، ولا كان يملك قصرا ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعت أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قياده ...
ولما التقيا من بعد على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرت إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عبرة، ودنا منها ومد إليها يدا، وامتدت يداها إليه ترده، وهمست: «عابد ...!» وكأنما همت أن تقول شيئا ثم أمسكت، وبرقت قطرات الدمع بين أهدابها، وتحدثت عينان إلى عينين. وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين، يتبادلان لمسة باليد كلما همت أن تجتاز قناة في طريقها بين الحقول؛ يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابت ...
وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها؛ واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلف دور القرويين ويلفها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!
كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس: أنه سيد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال ما يتمنى، ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه. أتراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟
أمينة ...؟! من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كن من خدم القصر الأبيض؟ نعم، وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خولا وبطانة. إنه لسيد من يليه من الفلاحين ولكنه عبد سيده، وإنه ليملك دارا وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد ...
كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبين موقفه، وتمنى لو كان واحدا من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته ولم يكن السيد العاجز ... وبكت الفتاة حين تبينت موقفها، ولكنها لم تتمن شيئا لأنها كانت عاجزة حتى عن التمني!
والتقيا ثانية، وقالت له وعيناها في عينيه: «سيدي ...!»
وشد على يديها فلم يدعها تتم، وقال: «أمينة ...! ناديني باسمي يا حبيبتي؛ لست سيدك اليوم، وإنك ...»
ومال رأس على كتف، وامتزج الدمع بالدمع، وتروت الشفاه الظمأى، وتلاحقت الأنفاس المبهورة، وهمت أن تقول، وهم أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان ثم افترقا، وتهامست زهرتان ثم أمسكتا، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق السحاب تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل ثم عاد فاستتر؛ وكان على الغصن قمرية تغني، وكان غناؤها خفقات قلبين يتهامسان! ... وقام يودعها وقامت، وأتبعها عينيه حتى واراها الظلام، ثم قفل وفي قلبه نجوى وفي عينيه بريق وعلى شفتيه مذاق وفي أذنيه رنين!
وتتابعت لياليهما حافلة بأسباب الهناء والمسرة في غفلة العيون، لم يطلع على سرهما أحد إلا النجم والزهر وغريدة الشجر، وطابت له الحياة وطابت لها، لولا حديث بينه وبين نفسه يؤرقه كلما جن الليل، ولولا وساوسها!
وأجمع رأيه على أمر ... وكأنما كان المسكين يتعجل آخرة هنائه حين بدا له أن يكشف صدره لأمه ويستعينها ...
وقالت أمه وفي عينيها دهشة وفي وجهها غضب: «أمينة ...؟! أفأنت لمثلها يا عابد ...؟»
وهتف الفتى في يأس: «أمي ...!»
ولكن أمه لم تجبه وأجابه أبوه ... هل رأيت قط قائدا في هيئته العسكرية قافلا من معركة بنصف جنوده ...؟ كذلك كان موقف أبيه منه في ذلك اليوم!
وطأطأ الفتى رأسه يستمع إلى أبيه يحكم عليه باليأس والحرمان، ثم سقط على كرسيه باكيا ومضى أبوه إلى غرفته.
لم يلتق عابد وأمينة منذ اليوم، وافترقا بلا وداع وما افترقا قبلها إلا على ميعاد؛ ولزم الفتى غرفته مطويا على آلامه، لا يرى أحدا ولا يراه أحد، على حين كان ثلاثة نفر يعنيهم من أمره ما يشغلهم ليل نهار ... ... أما واحدة فكان لها كل يوم مغدى ومراح في مواعيد راتبة إلى شجرة الصفصاف القائمة على حافة الغدير، تتروح عندها روح الماضي في خفقة الغصن ورفة الزهر وأرج النسيم، ثم تروح وحيدة دامعة العين ...! ... وأما اثنان فرجل وامرأة في خريف الحياة يتشاوران في أمر وحيدهما الذي يوشك أن يضله الحب عن رشاده فيهوي إلى عار الأبد!
أربعة أشقياء لو شاءوا لاستقامت لهم الحياة واستقاموا لها فسعدوا، وضعتهم التقاليد بين شقي رحى طحون توشك أن تحطمهم حطمة الموت فلا نجاة!
وضاق الفتى بنفسه وضاقت به نفسه، ولم يطق الصبر بعد، فأجمع أن يكون سيد نفسه فلا يستمع إلى قول أحد، وأزمع العصيان ...
وذات صباح، التقى عابد وأمينة على ميعاد في القرية القائمة على الضفة الثانية من النهر، وكان ثمة فتيان من أصدقاء عابد ينتظران مقدم الفتى وفتاته وقد أعدا عدتهما لأمر ...
وفي المساء عاد الفتى إلى قريته وعادت الفتاة، وقد اتخذ كل منهما طريقا غير الطريق التي سلكها صاحبه، فكأن لم يلتقيا ولم يتراءيا وجها لوجه، وإنهما لمجتمعان رأيا إلى رأي وقلبا إلى قلب، وقد وثقت ما بينهما منذ اليوم آصرة جديدة لا سبيل إلى انفصامها؛ فقد أصبح عابد وأمينة زوجين وشهد الشاهدان ... ولم يدر أبوه ولم تدر أمه ...!
وقسم الفتى أوقاته، فلأمينة نصف نهاره ونصف ليله، يتناجيان ويتشاكيان ويتمنيان المنى ؛ ولأبيه وأمه ما بقي من أيامه ولياليه، فارغة من البشاشة، خالية من الأنس والمسرة!
ومضت أشهر قبل أن يحدس أبوه أن في الأمر سرا فيستدعيه إليه متحببا ليستل خبيئة صدره، وخيل إلى الفتى أن أباه قد بلغه النبأ؛ فاستعلن بسره وهتك الستر المسدل بينه وبين الحقيقة، ولو شاء لبقي الحجاب مسدلا لا تنفذ من ورائه عينان!
وتهالك أبوه في مقعده وطأطأ رأسه، وجاشت نفسه بآلامه، وتحيرت دمعتان في عيني الرجل الذي لم يبك قط؛ ووقف الفتى رافع الرأس وفي عينيه بريق الإرادة الصارمة، ونظرت إليه أمه فأطالت النظر ثم هتفت في ضراعة: «عابد!»
وظل الفتى صامتا لا تطرف عيناه، فلو أن القدر كان يتحدث بلسان أمه حين تحدثت لما استطاعت أن تحمله على رأي جديد!
وبلعت أمه ريقها وابتسمت، وأشرقت في وجهها مسحة هدوء ظاهر، ثم أردفت: «أجاد أنت فيما تقول يا عابد ...؟»
وضحك الفتى ساخرا، وأجاب: «نعم، وقد كان ما لا سبيل إلى دفعه بعد!»
ووقفت الأم، ثم تقدمت في خطوات ثابتة حتى وضعت يدها على كتفه، وقالت في لهجة الأمر والثقة: «قد كان ذلك حقك يا عابد لو أن الأمر على ما ظننت ... ولكنك لن تفعل ...!»
وابتعد الفتى مغضبا وهو يقول: «بل قد فعلت، وإنها لزوجتي ولو ...»
وقاطعته قائلة: «... ولو كانت أختك ...!»
وسكت عابد، وجحظت عيناه مدهوشا؛ واسترسلت أمه: «... بلى، إنها أختك يا عابد؛ لقد رضعتما من ثدي واحدة دهرا طويلا يا بني من طفولتك؛ أتراك تريد أن تتزوج أختك يا عابد ...؟»
ودار رأس الفتى وأوشك أن يسقط، وتهاوى على كرسيه لا يكاد يعي، وغشي عينيه الدمع ...
وبدأ منذ اليوم تاريخ جديد. أما الفتى فراح يعالج نفسه بالصمت والوحدة لعله أن ينسى، ولكن صورتها ما برحت تتخايل لعينيه في فنون وألوان. لقد استطاع أن يقهر نفسه على السلوان ويسومها الرضا، ولكنه لم يستطع أن يتصام عن تأنيب الضمير ووخز الندم، كلما تذكر أن أمينة أخته، وأنه نال منها ما لا ينال الأخ من أخته وترك لها خزي الدهر وعار الأبد، فلا كان لها منه حفاظ الأخ ولا وفاء الحبيب ...! ... هذا واحد؛ وأما الأب والأم فراحا يدبران أمرهما قبل أن ينتقض غزلهما، وإنهما ليحسان حينا بعد حين آلاما مرة من قسوة ما نال وحيدهما العزيز المرجو؛ فذهبا يعدان العدة لتزويجه قبل أن ينتكس ويعاوده مرضه ...! ... وأما هي ... وأما هي فكانت بين مغداها ومراحها كل يوم إلى شجرة الصفصاف ما تزال تأمل أملا، أملا يلوح ويخفى كما يتراءى القمر بين قطع السحاب ثم يتوارى، ولكنه أمل يمسك عليها نفسها ... وبلغها النبأ أخيرا، وعرفت أن فتاها يوشك أن يتخذ له أهله زوجة ثانية، وارتكضت أحشاؤها تنبئها نبأ آخر ...
وانتهت آمالها إلى فكرة واحدة، هي أن يظل أمرها وأمر صاحبها سرا مكتوما فلا يطلع على غيبهما أحد؛ فما كان لها أن ترضى بأن تقف في سبيل سعادته وإنها لتهواه؛ ولكن من أين لها ...؟ من أين لها أن تخفي خبيئة بطنها إن استطاعت أن تخفي خبيئة صدرها ...؟ آه ...! ألمثل هذه الخاتمة الأليمة كانت تلك البداية السعيدة ...؟
وتخيلت ما تخيلت من أمرها في غد، فاستراحت نفسها إلى كل ما ينالها في ذات نفسها، ولكنها لم تطق أن تتخيل حبيبها مضغة الأفواه وسخرية الشفاه!
وتمثلت أباها الشيخ وأخاها الصغير، أفتراهما يصدقان أنها زوجه وأنه لم ينل منها في مأثم؟ فكيف أذنت لنفسها في ذلك على غير علم منهما ولا إرادة ...؟
وتوزعتها الأفكار وتنازعتها نوازع الخير والشر، ولكن فكرة واحدة ظلت ماثلة في نفسها تعصمها من الطيش والضلال: هي أن تجنب حبيبها كل ما يكدر عيشه أو ينغص عليه مسراته الباقية ...!
وكانت القرية ساطعة الأنوار احتفالا بعرس عابد، حين كانت أمينة تدرع الظلماء في طريق لا تعرف لها غاية!
وأصبحت القرية بعد ليلة ساهرة تبحث عن أمينة فلم يعرف لها خبر؛ ولكن سرها ظل مكتوما كما أرادت فلم يطلع عليه أحد؛ لأن الثلاثة الذين يعرفونه لم يكن يسرهم أن يعرفه أحد!
وراح أبوها وذوو قرابتها يتقصصون الخبر ويتتبعون الأثر، فلم يبلغوا إلى غاية؛ وذهب الناس في الحدس مذاهب، ولكن أحدا منهم لم يبلغ من سوء الظن أن يتهم أمينة تهمة تنال من شرفها؛ إذ كانت عندهم فوق الظنون والريب؛ فاتهموا بها وحش الفلاة وموج البحر ولم يتهموها؛ وأقاموا لها مأتما وقرءوا القرآن!
وسمع عابد النبأ فخمن ما كان، وأقام مأتمها في قلبه ولم يزل صدى أغاني العرس في أذنيه!
لم يسعد عابد بزواجه كما رجا أهله، ولم ينس؛ وعاش كما قدر له أن يعيش: بين حطام الأمل ولوعة الذكرى ولذع الندم، وصباح ومساء، ونجم ينير ونجم يغور، والحياة هي الحياة، إلا ما تجد له الذكرى من الألم وعذاب القلب ووخز الضمير!
ومضت بضع عشرة سنة، ولم يزل عابد كعهده يوم كان؛ لم يغيره الشيب الباكر شيئا ولم تقو الأيام أن تمحو آلامه. على أنه اليوم يعيش سيد نفسه في القصر الأبيض؛ فقد آل إليه القصر والمزرعة بعد وفاة أبيه وأمه، وعقمت زوجه فلم تقدر أن تمنحه الولد، كما عقمت من قبل فلم تقدر أن تمنحه الحب؛ وعاش وعاشت كما يعيش الضيف في غير أهله، فليس بينهما شابكة من حب تخفف عنه، ولا رابطة من أمل تقربها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبي نداءه وتبسم له، لكانت حياته جحيما لا طاقة عليها ولا صبر معها. وقد جاء بهذه الخادم إلى القصر الأبيض بعض أصحاب عابد القدماء من فتيان القرية، يسأله أن يستخدمها ويؤويها؛ ومنذ ذلك اليوم اصطفاها عابد لخدمته الخاصة، فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترويح عنه، وليس لأحد غيره عليها من حق.
وأحل عابد خادمته الجديدة «زهيرة» محلا من الكرامة لا يحل مثله الخدم في بيوت السادة؛ فقد أحس في نفسه منذ رآها عاطفة تفرض عليه نوعا من الرقة في معاملتها، ورأى في عينيها بريقا من الإخلاص يقتضيه لها نصيبا من الرعاية؛ وكانت صموتا مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخره، وكأنما صنعت لها روحها ابتسامتها الدائمة فلا ترى إلا ضاحكة السن، تطل من عينيها نفس راضية تنشر حولها جوا من الطمأنينة والسعادة.
لم يكن ذلك إحساس عابد وحده حين ينظر إلى زهيرة، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره. على أنها كانت إلى جانب ما تتمتع به من الحظوة عند سيدها ومن شعور العطف عند أصدقائه تحس شيئا من الألم لسوء ما تعاملها به سيدتها، فلم تكن تلقاها إلا عابسة أو صاخبة، ولم تكن حالها مع سائر الخدم في القصر خيرا من حالها مع سيدتها، فقد كانت عندهن في موضع التهمة في أمانتها؛ فكثيرا ما اختفت أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يدها؛ ولكن سيدها كان من حسن الظن بها بحيث يتأتى لها أن تمد يدها إلى ما تشاء من ماله؛ فكيف يتهمها بمنديل، أو خاتم، أو صورة تختفي، أو زجاجة عطر ...؟
بمثل هذا كانت تتهمها خادمات القصر، ولو شئن لاتهمنها تهمة أخرى يبلغن بها الرضا من نفس سيدتهن الغيور ...!
وبلغت زهيرة سن الشباب، ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خلق إلى جمال الخلق وطيب المعاشرة. وبلغت الجفوة بينها وبين سيدتها حدا بعيدا، فلولا الكبرياء لصرخت في وجهها المرأة العقيم: «لماذا أنت هنا يا فاجرة ...!» ولكنها كانت تصطنع كل يوم سببا غير السبب الحقيقي لتنشئ بينها وبين الخادم معركة ...!
وأخفت زهيرة عن سيدها كل ما تحس به من الإذلال والمهانة في غيبته!
ثم كان صباح، ودخلت زهيرة مخدع سيدها توقظه وتقرب إليه فطوره، وأبطأت في غرفته قليلا ثم خرجت لشأن من شأن الخدم، واستقبلتها سيدتها بالباب مغيظة، ونشبت معركة، وانهالت على الخادم اللطمات والشتائم!
ووثب عابد عن فراشه وخرج إليهما يستنبئ النبأ، وصكت مسمعيه عبارة نابية، وسمع بأذنيه التهمة التي تناله وتنال الفتاة في وقت معا، وعرف أين تبلغ الغيرة من قلب المرأة التي لم ترزق نعمة الحب ... وثارت ثائرته!
ونظرت الفتاة إلى وراء فأبصرت سيدها، فانبجست من عينيها الدموع وعلا نحيبها وأوشكت أن تسقط، وتناولها عابد بين يديه فألقت رأسها على صدره وهي تنتفض ... وطار طائر الحلم عن رءوس ثلاثة ... ... أما الرجل فكان من ثورة الغضب بحيث يوشك أن يسفك دما ... لقد سمع بأذنيه التهمة التي تناله في عرضه وإنه ليعرف نفسه ... ... وأما المرأة فقد أصبح ظنها يقينا حين أبصرت فتاة بين ذراعي رجل قد احمرت عيناه واختلجت أصابعه ... ... وأما الفتاة فقد نسيت أين هي بين الرجل وزوجه، فتتابعت أنفاسها مبهورة تحاول أن تلقي في وجه المرأة التي تتهمها في عرضها بالكلمة التي لا يثبت لها جنان امرأة حين تسمعها ...!
ووقف الخدم ينظرن ويسمعن ويتوقعن أن يشهدن فضيحة!
وقالت المرأة إلى زوجها وقد اجتمع في صوتها قسوة البغض وعنف الغيرة إلى ضعف الأنوثة: «كذلك تفعل على أعيننا جميعا ولا تستحيي ...! هذه الفاجرة، لا تجمعني وإياها دار ...!»
وعلا نشيج الفتاة وهمت أن تتكلم، وزادت لصوقا بصدر الرجل ... ونظر إليها عابد نظرة جمعت له الزمان في لحظة فكر، وكأنما خيل إليه من ماضيه صورة، وتتابعت الذكريات على عينيه يمد بعضها بعضا، ورجع القهقرى إلى ماضيه؛ وتمثلت لعينيه فتاة كانت له يوما وكان لها ثم افترقا، ولم يكن لها ذنب إلا أنها من طبقة غير طبقة السادة، وكفرت راضية عن ذنبها وعن ذنبه ومضت من وجهه، لتدع له أن يستمتع بالحياة على ما يشاء ... ... وهذه فتاة أخرى، كل ذنبها أنها من طبقة غير طبقة السادة، وأنها استحقت عطفه؛ يراد أن يطردها لتمضي على وجهها وتدع لامرأة أخرى أن تستمتع بالحياة على ما تشاء ...
وأراح على كتف الفتاة يدا ترتجف وقال في هدوء: «لا تراعي يا فتاة ... إن كان لا بد أن تذهب واحدة فلتبقي أنت ...!»
وتخلصت الفتاة من بين يديه ورفعت إليه عينين ضارعتين يبرق فيهما الدمع، ثم أطرقت وأرسلت عينيها؛ واستدار الرجل يريد أن يأوي إلى غرفته، واستوقفته الفتاة: «سيدي ...!»
وعاد إليها، فأردفت: «إنني ذاهبة لأمي ...!» - «أمك ...؟» - «نعم ...!» - «لم أكن أعلم قبل اليوم أن لك أما ...!» - «ولا أبا ...!»
قالتها الفتاة وعلى شفتيها ابتسامة كاسفة وأرخت أهدابها في انكسار ومذلة!
وابتسمت الزوجة في كبرياء وسخرية وهي تستمع إلى ما يدور بين الرجل وفتاته من حديث.
قال عابد: «ولكنك لم تخبريني من قبل ...!» - «كذلك علمتني أمي؛ لقد كان حسبها أن تعيش ابنتها في دارك، لتراك صباح مساء وتسمع منك، فتحدث أمها عنك كلما لقيتها، فكأن قد رأت أمها وقد سمعت ...!»
وخنقتها دموعها فأمسكت، وعاد جسدها ينتفض، وغامت على عيني الرجل ضبابة، وخيل إليه أنه لم يسمع شيئا مما ألقي إليه ولم يفهم، ثم خيل إليه كأن قد سمع أكثر مما قيل، وفهم. وكأنما أخذته غفوة وهو يقظان، وتراءت له صور غير ما يرى، وتكاثفت على عينيه الضبابة فحالت بينه وبين ما يرى من الأشياء الماثلة، وأخذه دوار، وتخاذلت ركبتاه وهم أن يسقط، وأسرعت إليه زوجه في ذعر تحاول أن تسنده، وهتفت الفتاة مرتاعة: «أبي ...!»
وشهق الرجل شهقة ردته إلى الحياة لحظة، وبرق في وجه الفتاة، وتراخت ذراعا المرأة التي تسنده، فهوى ... ثم استفاق!
إذن فهي ابنته ...! وعرف كل من السيدة والفتاة أين هي من صاحبتها على التحديد وأين هي من سيد هذا القصر ...!
وفي كوخ منفرد على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثمة فتاة على مقربة تصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصة بدأت قبل أن تولد ولم تنته إلى نهايتها بعد ... ... وقال عابد: «إذن فلم ترضعني أمك كما زعموا؟»
قالت أمينة: «ومن أين لها وقد ماتت أمي قبل أن يبنى القصر الأبيض؟ ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أتم الرضاع فلم ألقم بعدها ثديا قط؛ وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفراش بين نوار الحقل، وكنت أدعوك سيدي!»
فابتسم عابد وقال: «ولكنك لن تدعيني بهذا الاسم!»
ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروت شفاه ظمأى، وتلاحقت أنفاس مبهورة، وهمت أن تقول، وهم أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق الخباء تنظر، ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل ...
واتخذا طريقهما إلى شجرة الصفصاف يجددان العهد ويبعثان الذكرى، ومشيا صامتين يتبعهما ظلهما ويتبادلان لمسة باليد كلما همت أن تجتاز قناة في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ وعاد الماضي كما بدأ، وتعاهدا لا يفترقان في هذه المرة حتى يبلغا آخر الطريق، وعادت البهجة إلى القصر الأبيض ورف النور من شرفاته!
من أدباء الجيل
كانت أشعة المصباح ذابلة صفراء ترتعش لكل نسمة تهب، وكان الجو عاصفا والمطر يلطم زجاج النافذة فينفذ رشاشه من فروجها ويسيل قطرات على الجدار. وفي زاوية من الغرفة كان الفتى النحيل جالسا إلى نضد صغير يكتب ...
منذ ساعات والفتى في مجلسه ذلك، يستنزل الوحي ويتألف أشتات المعاني، لا يكاد يحس شيئا حوله، والناس نيام.
يجب أن يفرغ من إعداد هذه الخطبة التي يكتبها قبل الصباح، إن هنالك من ينتظر ...
ودقت الساعة اثنتي عشرة دقة، فرفع رأسه عن أوراقه ووضع القلم وفي عينيه أثر الجهد والإعياء ... وارتفق بذراعه على النضد الذي يتخذه خوانا بالنهار ومكتبا بالليل، فسمع له مثل صرير الباب تضربه الريح ... ودار بعينيه في الغرفة التي تضم كل ما يملك من متاع، ينقل بصره بين البذلة المعلقة بالمشجب، والطربوش الملقى على الوسادة، والفراش المشعث منذ غادره في الصباح الباكر، ثم زفر زفرة ... وخرجت من بين الكتب المركومة إلى جانب الحائط دويبة صغيرة تلتمس طريقها إلى الباب في تثاقل وبطء، وارتمى إليها نظر الفتى، فابتسم ... ثم قلب شفته في رثاء وقال: «حتى أنت يا مسكينة ...! تسهرين الليل مثلي في البحث عن القوت!»
ثم عاد إلى مكتبه وأوراقه ...
وفرغ الفتى من عمله، فأشعل آخر دخينة في علبته ... ثم أخذ يقرأ لنفسه ما كتب ... وأشرق وجهه راضيا كأنما مسحت على آلامه يد رحيمة، ثم هب واقفا وعلى شفتيه ابتسامة الرضا والسلام، وبسط أوراقه أمام عينيه ... وراح يقرأ: «أيها السادة ...»
وخيل إليه في موقفه ذاك أنه هو ما هو بين الناس، في جمع حاشد تشرئب أعناقهم إليه، فلعب به الزهو واستخفته الكبرياء، واستمر يخطب ... «... أشكر لكم هذا التقدير الغالي ... إن أمة تحتفي بأدبائها هذه الحفاوة العظيمة ...»
وأحس شيئا يخزه في صدره فلم يتم ... «التقدير الغالي ...! والحفاوة العظيمة ...!» أين هو من هذه المعاني؟
إنه منذ سنين يجاهد جهاده للفن والأدب، وينشئ كل يوم في تاريخ الآداب فصلا جديدا. وها هو ذا اليوم حيث بدأ منذ سنين، لا يذكره أحد ولا يعترف له إنسان، ولم يجد عليه جهاد السنين شيئا ...
ولكنه مع ذلك مسئول أن يعمل، وأن يدأب، لا يني ولا يستريح؛ لأنه يريد أن يعيش!
وغام وجهه بعد صفاء، وذبلت الابتسامة على شفتيه، وتخاذلت كبرياؤه، وعاد إلى نفسه يفكر فيما عليه من فرائض الحياة.
لقد أوشك الصبح أن يسفر، وإن عليه موعدا أن يغدو مبكرا على الأديب الكبير «فلان ...» ليدفع إليه الخطبة التي أعدها وبذل فيها سواد ليله وعصارة قلبه، ويقبض ثمنها، ذلك شأنه معه منذ سنوات.
وطوى الفتى أوراقه كأنما يلف ميتا في أكفانه، ثم أطفأ المصباح وأوى إلى فراشه.
واستيقظ بعد ساعات، فلبس بذلته ونفض الغبار عن طربوشه، ثم سك باب غرفته ومضى يهبط السلالم درجة درجة، وفي يمناه الخطبة التي أعدها ليلقيها الأديب الكبير ... في حفلة تكريمه! يا للسخرية!
وسار على حيد الطريق، ويسراه في جيبه تعبث بما فيه من قروش، وفي رأسه خواطر تصطرع وتموج ...
أرأيت إلى الأب يمشي وحيدا في جنازة ولده العزيز ليشيعه إلى مثواه! كذلك كان يمشي هذا الفتى وفي يمناه أوراقه مطوية في غلافها.
وعاج إلى بائع الصحف فاشترى واحدة، فأخذ يقلب صفحاتها حتى انتهى إلى الموضوع الذي يبحث عنه، فمضى يقرؤه ... ... لم يكن موضوعا جديدا عليه، لقد قرأه من قبل مرات، وإنه ليعرف دلالة كل حرف فيه. أتراه يقرأ الساعة من الصحيفة التي في يده أم يقرأ من غيب صدره ... وانقبضت نفسه حين انتهى إلى الإمضاء، ثم ابتسم ... ... ماذا عليه أن يبيع المجد لطلابه بالمال؟ إنه يعطيهم مما يملك لينتفع منهم بما لا يملك. وماذا يجدي عليه المجد والشهرة وذيوع الصيت وإنه لمحتاج إلى الرغيف؟
ليت شعري، أي الرجلين أكثر جدوى على صاحبه: ذلك الذي يعطي القرش، أم هذا الذي يأخذه؟
وخيل إلى الفتى أنه عرف الجواب، فطابت نفسه وعاوده الشعور بالرضا والاطمئنان. ونام الفتى في تلك الليلة ملء بطنه ... لا يعنيه من أمر الحياة شيء، وسهر الأديب الكبير ليلته يستظهر الخطبة المعدة ليلقيها مساء غد في حفلة تكريمه ...
وأشرق الصبح، فنهض الفتى من فراشه ولبس بذلته وخرج لبعض شأنه، وعاج على ندي في الطريق يتناول فطوره، فطاب له المجلس ...
وجلس إلى جانب الباب يتبع عينيه كل غادية ورائحة في الطريق، وتسرحت خواطره فنونا، من مشهد قريب إلى معنى بعيد، وانفتل من دنياه يجري في عنان الأوهام ... فما صحا من أحلامه إلا على صوت النادل يمد إليه يده بورقة الحساب، وعاد إلى الحقيقة ولكن بعد مشوار طويل في وادي المنى ...
ودفع ما عليه ونهض؛ ليعود إلى غرفته فيغلق بابها عليه ويجلس إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعنى، وانتهى مما كتب والشمس في صفرة الأصيل، فغادر غرفته عجلان؛ ليشهد حفلة التكريم لمولاه! ... وكانت الردهة الفسيحة ليس فيها موضع لقدم، وقد نصت المقاعد صفوفا صفوفا فما بينها فرجة تتسع لعابر، واختلطت أصوات المجتمعين فما يبين صوت من صوت. وسكنت الأصوات فجأة حين بدت طلعة الأديب الكبير، وتطاولت إليه الأعناق تنظر، ومضى الأديب الكبير في طريقه ثابت الخطو، وهو يرفع يديه إلى رأسه، حتى انتهى إلى مقعده في صدر المكان والعيون ناظرة إليه ...
ووجد الفتى مكانا في أدنى الردهة إلى الباب، فجلس وإنه ليشعر مما به كأنه غريب في هذا المكان.
وتعاقب الخطباء خطيبا بعد خطيب، وشاعرا بعد شاعر، يمدحون الأديب الكبير ويعددون أياديه، وهو مطرق الرأس من خجل، لا يزيد على أن يبتسم.
وخيل إلى الفتى في مجلسه البعيد من خياله أشياء، فكأنما هذا الاجتماع الحاشد وهذا الثناء الرطب من أجله، من أجله هو وحده، وكأنما هو هو ولا أحد هناك، فأطرق رأسه من خجل كذلك، لا يزيد على أن يبتسم!
وماذا يضيره أن يجهل الناس اسمه ومكانه، وإنهم ليعرفون من يكون بآثاره وأدبه؟ ماذا يضيره أن يكون كتابه في أيدي القراء بلا غلاف ولا عنوان ...؟
ومضت ساعة، ووقف الأديب الكبير ليؤدي واجبه لهؤلاء الذين اجتمعوا لتكريم أدبه والحفاوة به، وأخذ يقرأ من غيب صدره:
أيها السادة
وأشكر لكم هذا التقدير الغالي ... إن أمة تحتفي هذه الحفاوة بالنابغين من أدبائها لحقيقة بالخلود ...
وقال الرجل الذي يجلس إلى جانب الفتى في الصف الأخير ونظر إليه: «لله ما أحكم منطقه وأسد بيانه!»
قال الفتى: «شكرا!»
وسمعها جاره فابتسم، وماذا يملك أكثر من أن يبتسم؟ إنه ليعرف أن مجالس أهل الأدب هي أحفل المجالس بالمجانين!
واستمر الأديب الكبير يخطب:
إني لمدين للأمة بما أبذل لها من أعصابي ومن دمي، شاكر لله ما وهب لي من قدرة تهيئني لأن أكون بهذا المحل الرفيع بين أبناء قومي ...!
إن الأدب الذي يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقا إلى المجد والخلود ...
والتفت الفتى إلى جاره يقول: «لقد نسي فقرة طويلة ... إنها كانت أجمل ما في الخطبة!»
ونظر إليه جاره فلم يتمالك إلا أن يضع راحته على فمه يكتم ضحكة يخاف أن تفلت، وتنبه الفتى بعد سهوة، فاحمر وجهه ثم اصفر، ثم نهض فغادر المكان ...
ونهض الفتى من فراشه مبكرا بعد ليلة ساهدة، فقصد إلى دار الأديب الكبير يهنئه على ما نال من إعجاب الناس وما ظفر به من التقدير والمكانة، ويستعينه على أمر ... وقرأ صحف الصباح في الطريق، فعرف ما فاته مما كان في الليل ...
ودق الجرس فانفتح الباب، وقدم الفتى بطاقته إلى الخادم، فخلفه واقفا بالباب ينتظر ودخل يستأذن سيده، ثم عاد إليه بعد لحظة يعتذر. واحمر وجهه من الغيظ، ولبث واقفا بالباب برهة، ثم مشى وفي نفسه ثورة تضطرم، ومضى على غير وجه.
وتذكر الفصل البديع الذي انتهى من كتابته أمس قبل أن يغادر غرفته إلى مكان الاحتفال، فأخرجه من جيبه ومشى يقرؤه ...
لا، لا، لن يكون بعد اليوم ذيلا لأحد يبيعه نفسه برغيف من الخبز. إنه ليعرف اليوم قدر نفسه أكثر مما عرف في يوم من الأيام، لقد قالها الناس أمس كلمة «صريحة» وعتها أذناه، إنه هو هو وإن جهل الناس اسمه ومكانه!
وسعى إلى إدارة الصحيفة التي نشر فيها أول ما نشر من منشآته منسوبا إلى الأديب الكبير، وأي الصحف أولى بتقدير أدبه والاعتراف بفضله من الصحيفة التي عرف منها «الأديب الكبير» أول ما عرف، ثم كانت هي أول من دعا إلى تكريمه والحفاوة به؟ إنه لهو هو وإن جهلت الصحيفة اسمه ومكانه!
واستأذن على المحرر ودخل فدفع إليه الورقات التي في يده ... ونظر المحرر نظرة إلى وجهه وهندامه، ثم أثبت وضع النظارة على عينيه، وأخذ يقرأ هذه الورقات، ولكن من آخرها، ثم دفعها إلى الفتى؛ وفي صوت متأنق سمعه الفتى يقول: «يا بني، إنها محاولة، وإني لأرجو أن يكون قريبا ذلك اليوم الذي ننشر فيه ما تكتب، بعد أن تأخذ عدتك وتنضج ...!»
وفتح الفتى فمه وهم أن يتكلم، ثم سكت، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت ...
ومن النافذة التي طالما سهر بجانبها الليالي إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، وقف يطل على الناس ساخرا، ثم أخرج الورقات من جيبه فمزقها وأسلمها إلى الريح تنثرها على الرءوس كسرب مذعور من الطير الأبيض! ... وحين نشرت الصحف أن الحكومة قد رصدت من مال الدولة بضعة آلاف لمعاونة الأديب الكبير فلان ... على تنفيذ مشروعه الأدبي العظيم ... كان الفتى جالسا يقرأ الجريدة في ظل شجرة على رأس الحقل، ويستريح برهة مما جد في الحرث والزراعة.
وخار الثور المربوط إلى المحراث كأنما يريد أن ينبه الفتى إلى أنه قد آن أوان العمل.
وطوى الفتى صحيفته ونهض إلى محراثه وعلى شفتيه ابتسامة ...
ومضى يوم، وعادت الصحف فنشرت أن الأديب الكبير فلان قد كتب إلى الحكومة يشكر ويعتذر؛ لأنه قد اعتزل الأدب فما له هفوة إليه بعد.
وأسف الناس إذ قرءوا ما قرءوا، وإن بعضهم ليسأل بعضا عن السر، ولكن شخصا واحدا كان يعرف السر، وكان يبتسم ...!
حقيبة الذكريات
في حارة «قصر الشوق» من حي الجمالية بالقاهرة، وإلى الشمال الغربي من مسجد «أبي عبد الله الحسين» حيث لا تزال القاهرة التي بناها المعز قائمة في هذه القباب والمآذن، وتلك الدروب والمسارب، وهذه الدور الرحيبة المتقادمة التي تفضي إليها من باب إلى باب إلى أبواب. ... هناك، حيث التاريخ الغابر ما يزال حيا ناطقا في كل ما تقع عليه العين من مشاهد وآثار وناس، كأنما اجتمع تاريخ مصر الإسلامية كله في زمان ومكان، فلا يزال النظر يتنقل من منظر إلى منظر يذكر بالماضي كعهده يوم كان، من جيل إلى جيل إلى أجيال ... ... هناك، حيث لا تزال ترى وتنظر ألوانا من الناس في سمات وأزياء وملامح، كأنما تشهد بقايا من سلائل الفاطميين وأبناء المماليك وجند السلطان سليم ... ... هناك في هذا الحي نشأ توفيق ...
تراه، فلولا طربوشه الأحمر ولسانه العربي لحسبته واحدا من أولئك السياح الأجانب الذين يفدون إلى بلادنا كل شتاء للدرس أو للرياضة. أما أبوه فله في الحي جاه واعتبار، وإن له ميراثا من تاريخ هذا الحي العريق يمتد إلى أجيال، منذ دخلت مصر جيوش السلطان سليم. وأما أمه فنازحة من دمياط، فلعلها بقية من سلالة بني أيوب. وأما هو فإنه ابن أمه وأبيه ...
ونشأ نشأة أهله على صلاح وتقوى ودين، لا يعرف له طريقا إلا إلى المدرسة أو المسجد، فلم يعبث به الهوى مرة ولم يغتره الشباب ...
وأتم في التعليم مرحلتين، فأراد أبوه أن يلحقه بالجامعة، ولكن ميراثا في دمه كان يزين له ركوب البحر، فسافر إلى إنجلترا ليدرس فنون الملاحة ويتهيأ لما أراد ...
وانتقل توفيق من جو إلى جو: من الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء، إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال ... ورأى، وسمع، وعرف ...
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعا إلى ذراع ...
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد، وكأنما كان في حلم فاستيقظ، فلم يأو إلى فراشه إلا بعدما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه. ثم أغمض عينيه ونام ...
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف ...
وكان في طريقه إلى صاحبته هذه ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة غيرها، ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لونا آخر من ألوان الحب.
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى ...
وخلع توفيق وقاره، وألقى بنفسه في تيار الحياة، وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صورا وذكريات ...
وتجرد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان، ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله، ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه، فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية تجوب البحار بين سواحل القارات الخمس، وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده «حقيبة الذكريات» يثبت فيها فصلا من مغامراته كلما هبط ميناء من المواني. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء.
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء ترسى فيها السفينة ويصف ...
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع.
لقد كان يخلع حبه دائما في الظلام قبل أن يفارق الغرفة المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه، فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة، بسط أوراقه وكتب، وتنتهي قصة حب فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة.
ومضى توفيق على وجهه، والشر يغري بالشر ... ... واجتازت السفينة مضيق جبل طارق في طريقها إلى الشرق، وأسر إليه صاحبه «ماجدو» حديثا فابتسم، ومضت السفينة بهما تمخر عباب الماء، واجتازت الدردنيل إلى البحر الأسود؛ لترسى في ميناء «كونستانزا» على ساحل رومانيا بلاد الجمال والحب.
وهبط توفيق وصديقه إلى البر وراحا يضربان في المدينة ليذوقا الحب ... الحب الذي ينتهي في الظلام، في غرفة مسدلة الستائر مغلقة الأبواب!
وقال ماجدو: «إن في هذا المتجر يا صديقي فتيات للحب ... لقد أخبرني صديق زار «كونستانزا» من قبل ...»
ودخل الصديقان المتجر وراحا ينظران، ووقف «ماجدو» يتحدث إلى بائعة المناديل، وذهب توفيق إلى جارتها، ونظر إليها ونظرت إليه، وتحدثت عينان إلى عينين، وقالت الفتاة بصوت مضطرب: «هل يريد سيدي ...؟»
ولكن توفيق لم يكن يريد شيئا غيرها ...
لقد ذاق توفيق من الحب ألوانا وفنونا، ولكنه لم ير من قبل مثل هذا الفن وهذا الجمال.
لكأنما كان يتنقل في البحار من شرق الأرض إلى غربها؛ ليدرك موعدا واعده القدر إياه في هذا المكان.
وإن صوتها لينفذ في أعماقه وله رجع بعيد، كأنما كانت تهتف به من وراء البحار: إلي يا حبيبي إلي؛ فإني أنتظرك منذ أزمان! وأحس لأول مرة أنه وأنها ... وأحست، وتواعدا على اللقاء.
والتقيا على موعدهما، وجلسا يتحدثان، وقال وقالت، وعرفت أن صاحبها مصري، فصاحت فرحانة: «مصري! ما أجمل هذا! إن بيننا نسبا يا صديقي؛ إن أبي من تركيا، أعني جدي، إنني لست رومانية خالصة، ومع ذلك ...»
وسكتت «مارتزا» فلم تتم، لقد رأت في عين صاحبها نظرة زعمت أنها تفهم معناها. وأحس توفيق إحساسا جديدا منذ الساعة. إنه ليشعر كأنما يتحدث إليه القدر بلسان هذه الفتاة حديثا لا يكاد يعيه ...
وتناول يدها بين راحتيه، ومال عليها فقبلها، واغرورقت عيناه.
لقد جلس توفيق مثل هذا المجلس من قبل مرات ومرات، ولكنه لم يكن في مرة منها في مثل حاله الليلة. هذه فتاة لم يعرفها إلا منذ ساعات، دعاها إلى خلوة للهو والشراب فما تأبت، ما له يحس في مجلسها هذا الإحساس الغامض حتى لا يكاد ينظر إليها نظرة رجل إلى امرأة؟ وما باله يشعر في مجلسه منها كأنه قد ارتفع عن بشريته، حتى ليستشعر الندم لأنه دعاها إلى هذا المجلس من مجالس اللهو الحرام؟!
وشعر كأن روحا خفيا يهمس في نفسه، وشعاعا لطيفا من نور الله ينفذ إلى قلبه، فكأنما قام بينهما حجاب من الوهم يمنعه أن ينفذ إليها ويمنعها.
وأطاف به طائف فأطرق، ثم رفع إليها عينين ونظر ... وانمحت فيه كل معاني «الجنس» لتحل فيه كل معاني «الإنسان». ... ثم فاء إلى نفسه بعد برهة، فسخر من نفسه وراح يقاوم هذا الطارئ الجديد في قلبه ويسكب في كأسها وفي كأسه، وأخذا يشربان ... وانتصف الليل، وصحبته الفتاة إلى غرفته ... فإنها لتعرف أن عليها لصديقها حقا ينبغي أن تتهيأ له، فما يدعوها مثله من رواد البحار إلا لمثل ذلك ... ... ولكنه ... ولكنه في تلك الليلة كان غير من كان، ونام ونامت كما يقتسم الأخوان الفراش ...
ولما قام ليودعها في الصباح إلى الباب، كانت مطرقة برأسها إلى الأرض وفي عينيها دموع!
وتلاقيا من بعد مرات، ودعته إلى زيارة أهلها فلبى، وتوثقت بينهما عقدة الحب على طهر وعفاف.
وذاق توفيق لونا من الحب لم ينعم بمثله فيما فات من أيامه.
وقال لها: «مارتزا! سنفترق يا حبيبتي، وستبحر السفينة بعد أيام لتضرب في مجاهل البحار، فاذكريني، واكتبي إلي كلما تهيأت لك الفرصة!»
وتغرغرت عين الفتاة وقالت: «بربك لا تذكر الفراق! خذني معك، إنني لا أطيق!»
وفكر الفتى قليلا، ثم ذهب إلى الربان يرجوه أن يقبل مارتزا وصيفة في السفينة؛ ولكن السفينة لم تكن في حاجة إلى وصيفة على من فيها، فعاد توفيق إلى صاحبته ينوء بهمه.
وأبحرت السفينة بعد أيام، وراحت مارتزا تودع صاحبها وهي تتجلد، ووقفت على الرصيف تلوح بيدها ويجيبها، ثم صفرت السفينة وراحت تشق الماء، وسقطت الفتاة بين يدي أمها في غشية، وحملوها إلى دارها. وجاء الطبيب، ولكن مارتزا كانت من الصدمة التي نالتها بحيث لا يجدي عليها احتيال الطبيب.
وجلست أمها بجانب فراشها تبكي، ووقف الطبيب حيران، ولم تفق مارتزا من غشيتها.
وراحت السفينة تشق البحر بحيزومها، وعلى ظهرها توفيق، وخلفت على الشاطئ فتاة بين الحياة والموت.
ولكن السفينة لم تكد تمضي على وجهها حتى جاءتها الأنباء بأن المجاز مغلق في طريقها، فعادت أدراجها إلى كونستانزا حتى يصدر إليها الأمر بالسير.
وأرست السفينة، فهبط توفيق مسرعا إلى البر ليرى فتاته ويأنس بها ساعة، وهو لا يعرف من أمرها شيئا، ودق الباب ودخل، وكانت تهذي باسمه، وفزع توفيق وجرى إليها وهو يصيح: «مارتزا! مارتزا!» وأفاقت مارتزا بعد غشية يومين، وشفاها لقاء حبيبها حين عجز الطبيب!
وثابت إلى الفتاة قوتها رويدا رويدا، ولكنها لم تفارق فراشها ولم يفارقها توفيق، ومضت أيام، وصدر الأمر إلى السفينة باستئناف رحلتها، وخاف توفيق أن ينال الفتاة ما نالها أول مرة لو علمت أنه موشك أن يفارقها، فأسر الخبر إلى أمها لتحتال في أمرها ...
ومضى توفيق ليؤدي واجبه في السفينة وهو محزون أسوان، وكان باقيا على إبحار السفينة ساعات حين جاء الربان يسأله: «توفيق، إنك تعرف فتاة كانت تريد أن تعمل وصيفة في السفينة؛ فهل يمكن أن تدعوها الآن؟ إن إحدى وصيفاتنا مريضة وقد غادرت السفينة إلى المستشفى، ونحن في حاجة إلى بديل!»
ولم يتلبث توفيق، فما هو إلا أن أسرع إلى صديقته يدعوها، وأبحرت السفينة وعلى ظهرها الحبيبان ...
وكان على رصيف الميناء عجوز تلوح بمنديلها.
توفيق وأخته: هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعا: الملاحون والركاب.
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شيء، وتمازجت روحاهما حتى ليس بينهما سر، وسالمتهما الليالي ... ومضت سنوات ...
وكانا في إحدى المواني حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر. وكان الفراق، وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه.
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له، فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان. وتصرمت السنون والفتى في حنين دائم وشوق لا يغلب.
وحن توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة؛ ليكون جهاده لبلاده، ولم ينس «حقيبة الذكريات» فإنه ليصحبها معه أين يكون، يستروح منها نسمات الحب، ويأنس إليها في ساعات الوحشة ...
ومضت الباخرة «زمزم» تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى جدة في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح «توفيق»، ثم أرست، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة ومعهم توفيق محرما بالحج.
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر، وحضرته الذكرى، فرأى كتابه منشورا على عينيه بما فيه من خطايا وآثام، وهم أن يرفع رأسه فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله، وتندت عيناه بالدمع ... وتذكر يوم كان ... فتى يخطو إلى العشرين في حارة «قصر الشوق» لا يحمل من هم وليس له ماض، فترامى على أستار الكعبة نادما يستغفر، وانهملت دموعه على خديه ...
وعادت زمزم تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين، ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان.
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضيا مبتسما طاهر القلب، كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة.
ونظر إلى متاعه فرأى ... وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب.
ونازعته الذكرى، فخار عزمه وأحس في نفسه الوهن، واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئا ثقيل الخطو حتى بلغ حافة السفينة ... وطوح بها وهو يقول: «أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير معاد.» ... فرغ صديقي توفيق من قصته إلي، فما كاد يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندت عيناه بالدمع، ثم أردف: «يا صديقي، لقد أذكرتني ما كنت أريد أن أنساه وحسبت أنني قد فرغت من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحس الساعة أن الجرح الذي اندمل قد عاد يدمى ... لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغت من أمره ...!»
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينيه وأطرق، ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائد من سفر بعيد ... ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
عزيزتي مارتزا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ورقة النصيب!
جلس «إسماعيل» على المقعد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتاق بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينيه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي كأنها جمرة تطفأ في النيل ...
كان يعيش في هذه الغرفة من منزل كبير في حي «بولاق» يشرف من بعد على النيل، فكانت سلوته وأنسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام، ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره.
وقد انحدر منذ عام من بلده في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة «الكفاءة» ليطلب العلم بمدرسة الفنون ...
كم كان مفتونا بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعا بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة إلا لأنه كان موعودا أن يبعث إلى القاهرة إن جاز الامتحان ...
فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسته والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد؛ أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى وأحلام الشباب ...
وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلة سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها، ولكن ... من أين له المال؟
إنه لا يزال يذكر في لهفة وشوق تلك الليالي السعيدة، وما يزال يذكر أيضا في ألم وحسرة أنه احتمل مما أنفق في تلك الليلات ما لم تكن له به طاقة من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب إلى أبيه يومئذ أنه فارغ اليد مما أسرف على نفسه!
وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان، وعرف فيه بنات الدار شابا جم الحياء، عفيف اللسان والنظر، فألفن الصعود إلى السطح في الأصيل يستمعن إلى ترجيع أغانيه في طرب ونشوة، ثم يتفرقن قبل أن يزحف الظلام، وألف إسماعيل أن يراهن كل يوم، وأن يبادلهن الحديث البريء في شئون وفنون ... وزال الحجاب بينهما على الأيام ...
وأطال إسماعيل الجلوس يومئذ حتى غابت الشمس ولم تصعد واحدة . ترى ماذا منعهن الليلة وقد اعتدن واعتاد منذ شهر أو يزيد - منذ سكن هذه الدار - أن يجالسهن جميعا أو أشتاتا، ساعة أو بعض ساعة كل مساء ...؟ ومد الظلام رواقه على القاهرة وعلى قلب المبعد الولهان.
ودخل غرفته فأشعل مصباحه وبسط دفاتره، فإذا هو لا يكاد يرى، وإذا الكلمات والسطور تتلوى أمام عينيه كما تشاهد فرقة زنجية راقصة ...
وطوى دفاتره وارتدى ثيابه وخرج إلى الطريق. كانت ليلة الجمعة، فلم يجد حرجا أن يقضيها في السينما ... ووقف ببابها مترددا وهو يحصي النقود في جيبه، وعيناه تتبعان المارة أزواجا وجماعات، وهو وحده من بينهم لا يتأبط إلا همه! ليته كان يستطيع أن يدعو واحدة من صديقاته في الدار إلى نزهة، فيصحبها ذراعا إلى ذراع في الطريق كهؤلاء الذين يرى ...! ولكن من أين له ... من أين له المال؟
كم يكفيه ليقضي ليلة سعيدة في صحبة فتاة؟ لقد عرف القاهرة الآن عرفانا تاما، فلا سبيل إلى أن يخدع؛ سيشاهد معها السينما في شرفة، ويتعشيان معا في مطعم، ثم يستقلان سيارة إلى الهرم، ويشتري لها كل ما تهفو نفسها إليه في الطريق، وبعدئذ يعودان إلى الدار ...
وفرغ من حسبته وهو يبسط أصابعه ويطويها يحصي ما أنفق وعيناه تأخذان كل من يمر به ... جنيه، جنيه واحد يمكن أن يمنحه سعادة ليلة! وسخر من نفسه حين انتهى إلى ذاك ... من أين له الجنيه ...؟
ومر به غلام يبيع الجنيهات بالقروش، يبيع النصيب ... ومد إسماعيل يده فأعطى البائع قرشا وتناول ورقة فطواها بعناية ووضعها في جيبه، كأنما هو يطوي الجنيه الذي سيصل بين يقظته وأحلامه. ثم عاد إلى البيت فلم يشهد السينما.
لم يفكر في شيء من أمره في تلك الليلة، فنام ملء عينيه وملء بطنه، ورأى أباه في الرؤيا بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وتغطي بعض وجهه، جالسا بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحر إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه.
ونهض إسماعيل في الصباح فنسي كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، وحياها وحيته وهو يبتسم كأنه يخفي عنها مفاجأة سارة، وعادت الفتاة، وعاد إسماعيل إلى شئونه.
وأوقد النار، وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده، سوف لا يتغدى في المدرسة اليوم؛ لأن اليوم عطلة، وفي فطور الفول ما يغني عن الغداء فلا تختل ميزانية اليوم ...!
ومر يومان، وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب ...
وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد ...
مائة جنيه؟ يا للبخت ...! لم تكن أحلامه لترتفع إلى هذا الحد ... إنها لثروة؛ وقسم النقود قسمين، واشترى حافظة ثمينة فوضع فيها نصف ما ربح وخاط جيبه على الباقي ... لقد دبر أمرا ليخدع أباه حتى لا يحرمه المال كله ...
وخرج الشيخ «متولي» من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمتم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم ناصب لمقدم ولده من غير داعية ... وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم: كنت مشتاقا إليك ...!
قال أبوه غضبان: مشتاقا إلي ...؟ وهل جئت من أجل ذلك؟ حسبتك رجلا يا إسماعيل! - نعم ... ولكن ... - لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلا! - بلى، وإنما قدمت لأمر ... - أي أمر ...؟ - لقد ربحت خمسين جنيها فرأيت أن أجعلها عندك ... - خمسين جنيها ...! - نعم!
وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول: ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل أنك في تجارة ... - لقد ربحت ورقة نصيب! - وي ...! ورقة نصيب؟ قمار! ميسر ...!
واستوى عوده، وانكمشت يده، واختلجت شفتاه، ثم قال: لا، ويحك، لا تجعلها في مالي، إنني رجل شريف، إن مالي من عرق جبيني فلا أريد أن يمحقه المال الحرام ...! - أبي ...! - اسكت لا أب لك، قم فردها إليهم، دعهم يفرقونها على أصحابها المساكين، من يد كم بائس اجتمعت هذه القروش حتى عادت خمسين جنيها ...؟ إنهم يخدعون الجهال البائسين فيسلبونهم القروش القليلة التي يملكونها؛ ليوهموهم أنهم سيقاسمونهم بعض ما يجمعون، بل بعض ما يسرقون ...! - وهل يمكن ...؟ - يمكن أو لا يمكن، لن أجعلها في مالي؛ إنها ملوثة، قذرة. هل تعرف من أين اجتمعت ...؟ - لا أعرف ...! - المال الحلال يعرف دائما مأتاه ...!
كان الولد يضحك في سره ووجهه عابس، ولم تنته المناقشة بينهما إلى حد، فقد تحرج الشيخ الورع أن يضم ربح «الميسر» إلى ماله، ولكنه لم يسأل نفسه عما سيفعل ولده بالمال ...
وعاد إسماعيل إلى القاهرة، ولكنه لم يأو إلى داره إلا بعد ليال ثلاث ... وأطل الفتيات من خلف الباب يشهدن إسماعيل عائدا إلى الدار يصعد الدرج في زهو وكبرياء، وعليه بذلة جديدة، وفي عينيه فتور ينبئ أنه قضى ليله سهران ...
وترامى إليهن غناؤه من فوق السطح أكثر حنانا وفتنة، كما بدا هو أكثر مرحا ونشاطا مما كان. وتبادل الفتيات النظر، ثم ولجن غرفهن وغلقن الأبواب ...
لم تحاول واحدة منهن أن تصعد إليه بمرأى من صواحبها، فقد بدا لهن مما تغير من هيئته وحركاته كأنه شخص آخر غير إسماعيل الذي يعرفنه ويثقن بعفته وأدبه، وكأنما ألقي إليهن جميعا معنى واحد، فخجلن أن يبدون له، ولكن كل واحدة منهن راحت تؤمل أن تجد فرصة من غفلة رفيقاتها لتصعد إليه وحيدة، وسبقت بعضهن إليه، ولكنها لم تظهر له أو لواحدة من صواحبها أنها تعمدت أن تصعد ...
واستقبلها إسماعيل ضاحكا، وهز يدها بلطف، وجلسا يتبادلان الحديث. ثم افترقا على ميعاد ... ووجد الفتى تعبير رؤياه، وكان حلما أشرق عليه الصبح فأتمته اليقظة التي تصنع الأحلام!
ولكنه لم يقنع بسعادة ليلة، وعاد يتعرف القاهرة من جديد؛ القاهرة التي فتنته قبل أن يراها، والتي ذاق فيها من ألم الحرمان أكثر مما ذاق من لذة الوهم، وراح ينتقم لشهوات نفسه التي قمعها على ألم وضيق عاما وبعض عام ...
ونفدت دراهمه ...!
لم تجر سفينة الشيخ متولي مجراها كما كانت، فركدت ريحه، وأدبرت أيامه، وعادت الحياة تقتضيه مضاعفة الجهد وبذل الموفور.
وجلس إسماعيل مع أبيه ذات يوم صائف بباب متجره، ومر بائع النصيب، وتحلب لعاب الفتى وطارت أمانيه إلى هناك، إلى القاهرة وليالي القاهرة، وإلى فلانة وصواحب فلانة، ولكنه أفاق من حلمه حين رأى ذراعه إلى ذراع أبيه ...!
والتفت فإذا بائع اليانصيب لم يزل واقفا، وإذا أبوه يخرج من جيبه ورقات يكشف بينها عن بخته، ثم يمزقها ويلقيها، وإذا هو يشتري غيرها فيطويها ويجعلها في جيبه ليضم صدره على أمل جديد ...
ونهض الفتى من مجلسه ليخفي ابتسامة ساخرة ويرد إلى فمه كلمات تحاول أن تفلت ...
لم يعد الشيخ متولي يسأل نفسه: من أين اجتمعت هذه الجنيهات التي يحاول أن يشتريها بالقروش ...؟ فلعله كان يعلم أنها اجتمعت من قروشه الكثيرة التي أداها هو إلى باعة البخت، منذ تعلم أن يحاول شراء البخت بالمال ... منذ ربح ولده ...
وضحك «إبليس» من الشيخ متولي وهو يمزق الأوراق ويشتري غيرها، وقال لشيطان صغير وهو يعلمه: انظر هذا الأبله ... ما أرسلت إليه ابنه إلا برسالتي، فقد علقته الحبالة! حسب الإنسان الضعيف أن أريه الحرام مرة، فهذا أول عملي في طبيعته ...
قال الشيطان الصغير: ثم بعد ذلك ...؟
قال المعلم: بعد ذلك - أيها الأبله - طبيعته ...!
جندي مرابط
«راجح! حبيبي! أرجوك ... إن العدو لا يرحم ولا يعفو؛ فلا ترم بنفسك إليه ... احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي. عش لي، أو لا، فاقتلني وأسدل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مثل مصارع أهلي وأهلك يا راجح!»
كانت «بدرية» تتحدث إلى فتاها وقد أمسكت بكلتا يديه، ورفعت إليه عينين مخضلتين بالدمع، وفي صوتها نبرة يأس وأسى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب، ولكن جذوة الحب التي تؤج في صدرها كانت تبعث في نفسها أثارة من الرجاء.
واستمع إليها الفتى صامتا وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع، وأوشك أن ينتكث عزمه حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين، وأحس شد يديها على يديه كأنما تخشى أن يفر إلى أجله قبل أن تلقي إليه كلمة الوداع!
وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحي، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلبا يجف وأنفاسا تتردد ...
وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرته صاحبته مصارع أهلها وأهله. لقد كان موشكا أن يخور وتضعف عزيمته، ولكن ذكرى ما أصاب أهلها وأهله ووطنه ... قد ردته إلى الرأي فاستعصم، وأفلت من يدي صاحبته ووقف، وهتف: «نعم، ولكن دم آبائي يا بدرية، ودم أبيك، وشرف الوطن ... كل أولئك يناديني، لقد أقسمت أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم أو أموت ... ويومئذ ألقى آبائي وآباءك، رافع الرأس فخورا بما بذلت لأهلي ووطني، من دمي ...»
وراح يدب على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفه، لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودع الفتاة التي كان كل شيء في دنياها وكانت، ومضى ليجيب داعي الوطن.
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت جنود إيطاليا من مربضها الذي ترابط فيه منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال؛ لتعيد - فيما زعمت - إمبراطورية الرومان في جوف الصحراء، وتنشئ لها عرشا من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون ...
واصطرعت قوتان؛ أما إحداهما فتملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بحق كل أمة من خلق الله في أن تحيا حياة كريمة على الأرض التي أنبتها الله فيها وأنبت آباءها وآباءهم من قبل على تسلسل الأجيال وتعاقب القرون ... ... والتقى الجمعان، وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابة سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون.
وانتبه راجح وبدرية ذات يوم من سكرتهما، فإذا هما وحيدان بين الأطلال الدارسة، فقد فقدت الفتاة أباها وعمها، وفقد الفتى عمه وأباه، وأقسم راجح من يومئذ قسمه وأبرم عزمه، لم يثنه عما أراد تشبث الفتاة به ولم يجد عليها ...
ومضى الفتى لشأنه وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه.
لم تهدأ ثائرة البادية يوما، على حين قد خيل للفاتح المغير أنه قد غلب وتسلط، فإن جمرات تحت الضلوع لم تزل تبص بصيصها حينا بعد حين ثم تختفي، ولكنها لا تخبو.
وقاد راجح فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة، فما يمر به ولي ولا عدو إلا برز له فعرفه نفسه وغايته وخيره بين عاقبتيه ...
واستشرى أمر الفتى وقوي سلطانه وعز جنده، ووفدت إليه الوفود من أبناء البدو وأفلاذ الصحراء مذعنين لأمره مطيعين، وعقدوا له اللواء. وحار الأعداء حيرتهم فما عرفوا سبيلا إليه ولا منجاة منه، وإن لهم العدد والقوة والعتاد.
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية.
وبث العدو سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غرته، وراحت الدبابات الإيطالية تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطائرات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح، وكان ما لا بد أن يكون، وأمعن العدو قتلا ومثلة حتى بلغ مبلغه، وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطون الأرض أشلاء وجماجم ... وعادت طائرات الجيش الظافر تحلق في سماوات القرى المغلوبة وترسل إليها التحية قذائف من جماجم بنيها الشهداء ...!
ولبس الحداد شعب بأسره، وأحدت بدرية على فتاها كما أحدت على أبيها وعمها من قبل ...
وفي بيت من الشعر إلى جانب الصحراء في شرق الإسكندرية، رأيت بدرية منذ بضع سنين ...
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة من داري، فإنها لتغدو علي وتروح كل يوم لحاجتها بين البيت والسوق، فأراها ...
لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها، وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب المهاجرين من برقة قد ضربوا خيامهم هناك. ولكن مرآها مع ذلك كان يثير في نفسي فضولا عجيبا، فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها، فأتبعها عيني حتى تغيب ...
كانت بزيها البدوي، وعينيها الساهمتين، وشفتيها المطبقتين أبدا على ابتسامتها العابسة تمثالا صامتا يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يكاد يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت. وكان لها جمال، وفي سهوم عينيها سحر، وعلى جبينها طهر يتألق. وعلى أنها - فيما تبدو لمن يراها - قد جاوزت الأربعين، فقد كان لها روح الطفل وخفته ...
وتكرر اصطيافي سنين عند هذا الساحل، وتعودت أن أراها، حتى لأفتقدها حين تغيب ... وعرفت خبرها من بعد، فأعظمت وفاءها ورثيت لها.
لقد مضت بضع عشرة سنة منذ تلك الليلة التي خلفها فيها راجح ومضى لأمره يحاول أن يثأر لأبيه وأبيها ويستنقذ وطنه، ولكنها على كر السنين لم تزل كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ ليال، لم يزدها تعاقب السنين واختلاف الزمان وفراق الوطن إلا وفاء لذكراه.
وجلت عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تتبعه عينيها وهو ماض تلفه رياح الصحراء في الليل القر.
وغنيت بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع، ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج ولم تخلع الحداد.
ونسيت ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه، وتأيمت العذراء ولما تخلع أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها ذات مساء من سنة 1940، حين دوت زمارة الإنذار بغارة إيطالية لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهل المدينة ليأخذوا أهبتهم للوقاية ... وأشرق الصبح وقد هجر المدينة نصف أهلها فرارا بأنفسهم من الموت. وحملت بدرية متاعها ومضت مع الناس تلتمس سبيلا إلى النجاة.
يا رحمة الله للمسكينة مما يطاردها من أحداث الزمن!
وأعياها المسير، فحطت متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حيد الطريق، ومر بها فوج من الجند فمدت عينيها تنظر ...
لم يكن هؤلاء الجند من المصريين، نعم، ولم يكونوا من الإنجليز، ولكنهم طائفة من بدو الصحراء قد اتخذوا شعار الجندية واصطنعوا نظامها، وعليهم شارة الجند المحاربين ...
ونظرت بدرية، فعرفت، فهتفت ...
ولكن هتافها تلاشى في ضجة الناس وزحمة الطريق، ومضت تعدو في آثارهم وتركت متاعها تتقاذفه أقدام السابلة!
وانقطع بها الطريق فما بلغت ولا بلغ صوتها من يسمع، وكأنما كانت تنادي منادى من التاريخ يفصلها منه بضعة عشر عاما من عمر الزمان!
وهامت المسكينة على وجهها ذاهلة لا تكاد تعي شيئا مما ترى أو تسمع، ليس لها هدف فيما تسعى ولا غاية فيما تسير.
وأعيت بعد جهد فسقطت في الطريق ليس لها حس ولا حركة ولا مظهر من مظاهر الحياة، ثم أفاقت لتسأل نفسها ويسألها الناس عن شأنها فلا تكاد تجد الجواب.
وتتابعت على عينيها ذكريات الماضي يوما يوما منذ كانت إلى أن صارت ... ونظرت يمنة ويسرة ثم انطلقت تعدو ...
وعرفت بعد لأي أين تقصد، فمضت في طريقها ...
والتقى في خيمة الضابط المشرف على فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء شخصان لم يتراءيا وجها لوجه منذ بضع عشرة سنة، أما أحدهما ففتاة في الأربعين قد تقنعت بلفاع أسود حائل وعليها ثوب مرقوع، وترف على فمها ابتسامة لم تنفرج عن مثلها شفتاها منذ سنين. وأما الآخر فرجل أشمط مخدد الوجه في جبينه شجة ملمومة، يلبس حلة عسكرية وعلى رأسه طربوش بدوي غليظ يكبس أذنيه ويتدلى زره على قفاه ...
وقالت الفتاة: «راجح!»
وغصت بريقها وتسابقت بوادرها على خديها.
وقال الرجل: «لم أكن أظن أن أراك ثانية يا بدرية!»
وتنفس نفسا عميقا، ومال بوجهه قليلا يحاول أن يخفي دمعة همت أن تقطر!
وكان الضابط المشرف جالسا إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع تناجيهما وعلى شفتيه ابتسامة الغبطة والرضا.
وعادت بدرية تقول: «راجح!»
وربت راجح على كتفها وهو يبتسم، وقال: «لا تخشي بعد اليوم شيئا يا بدرية، لن نفترق طويلا بعد، لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، ويومئذ نعود أعزة إلى الوطن الذي أكرهنا على هجرانه، ويومئذ ...»
وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعت أماني عاشت بها حينا وعاش فتاها، وسرحا بأفكارهما إلى بعيد، إلى حيث كان الملتقى كل مساء، تحت ضوء القمر، وفي ظلال النخيل الشاخصة على مقربة من مضارب الحي، يتساقيان المنى ويتناجيان نجوى الشباب، وابتسم، وابتسمت ...
ودوى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نوبتهم في العمل، فهب راجح واقفا ومضى إلى واجبه تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسان يخافت بالنجوى والدعاء ... ... كان ذلك بالإسكندرية في صيف سنة 1940 ...
وفي ليلة من ليالي البدر في ربيع سنة 1945، وعلى بعد أميال إلى الغرب من مدينة الإسكندرية، كان رجل وامرأة جالسين في ظل جذع من جذوع النخل على مقربة من مضارب الحي، يتذاكران الماضي ويخافتان بالنجوى ...
وفي المدينة، على بعد ساعات من الحي، كان المذياع يتحدث إلى الناس حديثا يترقبونه منذ بعيد مشوقين إليه، موقنين به قبل أن يكون كأن قد كان ... ... وراح المذيع يصف مصرع «موسوليني» في «ميلانو» ويقص عاقبة أمره، وتجاوز خيال السامعين حدود الزمان والمكان فكأن قد رأوه في آخر مشاهده مصلوبا على السارية في الميدان منكسا قد تدلى رأسه إلى الأرض كأنما يبحث في التراب عن مجده الذي كان ...!
وقال راجح وقد جاءه النبأ: «لو كان بيدي ...!»
قالت بدرية: «فهل كان ذلك إلا بيديك وأيدي إخوتك وأبناء عمومتك من أعراب البادية ...؟ لقد كان سهمك هو الذي نفذ إلى حشاشته قبل أن يجهز عليه قومه!»
الجائزة
في القرن الثالث بعد الميلاد، في عصر الملك الوثني «دقيانوس» خرج من مدينة طرسوس في بلاد الروم، بضعة نفر من المسيحيين المؤمنين، فرارا إلى الله بدينهم من بطش الملك، ثم لم يظهروا ولم يعلم عنهم شيء ... وكان منهم وزير الملك ...! *** ... ومضت ثلاثمائة سنة، ومات دقيانوس، وقامت دولة على أنقاض دولة، ورفرف السلام على المدينة التي تخضب ثراها بدماء الشهداء في عصر الطاغية دقيانوس، وعاد الناس أحرارا في دينهم وفي شعائرهم، وعاش المسيحي إلى جانب اليهودي إلى جانب الوثني في طرسوس، إخوانا متحابين، لا يسأل أحد أحدا عن دينه ولا يجادله في مذهبه. وانصرف كل لشأنه وحاجته.
وجلس «صهيون بن يهوذا» إلى مكتبه ذات صباح بجانب النافذة من غرفته الواسعة المشرفة على الطريق وبين جنبيه هم يعالجه ...
لقد كان صهيون كاهن اليهودية الأعظم في طرسوس، ولكن شئون طائفته لم تكن تشغله يوما عن شئون نفسه، وكان مؤمنا مسموعا بالتقوى والفضيلة، عالما مشهورا بالاطلاع وسعة المعرفة، مؤرخا يروي عن السلف ويحفظ أيام الأمم ويقص ماضي التاريخ، ولكنه كان إلى كل أولئك يهوديا من بني إسرائيل، يحب المال ويحسن تثميره وتربيته ... ومن ذلك كان أكثر همه حين يخلو إلى نفسه. ... وطال به الوقت وهو جالس إلى مكتبه يحسب ويعد، ويقبض أصابعه ويبسطها في حسبة لا تنتهي، ويحصي ما معه من الدراهم وما سوف يأتيه، ثم ابتسم راضيا ونهض عن كرسيه لحظة، ثم عاد بكتاب مخطوط فبسطه تحت عينيه وجلس يقرأ ...
ذلك كتاب قديم لم يقرأه أحد قبل صهيون إلا كاتبه نفسه، وقد عثر به منذ أيام عند يهودي هرم من سدنة المعبد فاشتراه بنصف درهم ...
وأخذ يقلب الكتاب صفحة صفحة وهو يقرأ عجلان غير متريث، ثم وقع فجأة على خبر استرعى انتباهه وأيقظ شيئا في نفسه، واستمر يقرأ: ... وكان «ميشلينيا» وزير الملك الوثني الطاغية «دقيانوس» مسيحيا مؤمنا، ولكنه كان لا يجهر بدينه عند مولاه، وقد اتخذ في داره معبدا لا يعرف الطريق إليه إلا صديقه «مرنوش» حيث يلتقيان كل مساء لعبادة الرب الأعظم.
وهز صهيون رأسه مبتسما وهو يقول: «ما أبدع هذا!» ثم عاد يقرأ: ... ووقف دقيانوس على سر ميشلينيا وصاحبه فثارت ثائرته.
وخفق قلب صهيون بعنف إشفاقا على الفتيين من ثورة الملك الذي لا يرحم، واستمر يقرأ: ... وتوعد الملك وزيره بأقصى العقاب، وضرب له أجلا يفيء فيه إلى نفسه قبل أن يمضي فيه أمر الملك ويحل عقابه ...!
وازدادت خفقات قلب الكاهن عنفا وشدة، وحضره ما يذكر من سيرة هذا الطاغية المتأله الذي خضب أرض طرسوس بدماء المؤمنين من رعيته، كبرياء على الله، في غير رحمة ولا إحسان!
ثم عاد الكاهن يقرأ: ... ولكن يد دقيانوس لم تنل ميشلينيا وصحبه، فقد استطاعوا الفرار من بطش الملك الجبار إلى مكان لا يعلمه أحد ... كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة ...
وشاع السرور في نفس صهيون حين بلغ هذا الموضع من قصة أهل الكهف، وتمتم صلاة خافتة يشكر الله، ولكنه استمر يقرأ:
وبلغ دقيانوس نبأ فرار ميشلينيا وصحبه فغلى غليانه، وسمى جائزة - مائة ألف درهم - لمن يأتيه بميشلينيا حيا ...
وبلع صهيون ريقه وأفلت الكتاب من يده. مائة ألف درهم! يا لها من ثروة! ليته كان في عهد دقيانوس ، إذن لفعل كل ما يقدر عليه ليظفر بالجائزة ...! ما الوثنية؟ ما اليهودية؟ ما المسيحية؟ ما كل أولئك بإزاء مائة ألف درهم ...؟ الله؟ المسيح؟ دقيانوس؟ ميشلينيا؟ ماذا يعنيه من كل هؤلاء لو كان يملك مائة ألف درهم ...؟
وسبح صهيون في أحلامه وهو يقبض أصابعه ويبسطها، يحسب ما يمكن أن تغل عليه مائة ألف درهم، لو ... لو أنه كان في عهد دقيانوس!
وسمع في الشارع زياطا وضجة، فأطل من النافذة ينظر ... ثم لم يلبث أن هبط مسرعا إلى الشارع ليرى ويسمع ...
يا لله! ما أسرع ما وقعت المعجزة ...!
ولم يصدق أذنيه أول ما سمع ... وعاد يسأل عن سر هذا الزحام والضوضاء، وأجابه محدثه: «يا مولاي، إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة ... لقد عثر بهم رجل في كهف على حدود الصحراء ... إنهم الفتية المؤمنون الذين يتحدث التاريخ أنهم ... منذ ثلاثمائة سنة ...»
ولم يصبر صهيون حتى يستمع إلى بقية النبأ، لقد كان يعرف ما سيقول محدثه قبل أن ينطق. إنهم آية البعث لمن لا يؤمن. لقد ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثهم آية ... ولكن ماذا يعني صهيون من ذلك ...؟ لقد كان الأمر يعنيه لو أن الله الذي بعث أهل الكهف قد بعث معهم دقيانوس؛ ليسعى إليه في طلب الجائزة التي سماها منذ ثلاثمائة سنة لمن يأتيه بميشلينيا حيا؛ فها هو ذا ميشلينيا، ولكن أين هو دقيانوس؟
وبرقت له بارقة؛ وماذا يمنعه أن يطلب الجائزة اليوم من ملك طرسوس؟ لقد مات دقيانوس، ولكن حقه في الجائزة لا يضيعه موت دقيانوس؛ ومن قال إن الملوك الذين خلفوا دقيانوس قد أبطلوا الجائزة التي سماها دقيانوس لمن يدل على ميشلينيا حيا؟ إنها ما تزال حقا شرعيا لمن يسبق إلى إبلاغ النبأ، لا يبطله أن دقيانوس قد مات ومضى على موته قرون!
ولم يتلبث صهيون كاهن اليهودية الأعظم في مدينة طرسوس، فخلف الزحام وراءه ومضى مسرعا إلى قصر الملك ... - «مولاي!»
وكان وزراء الملك من حوله، فنظروا إلى صهيون يستمعون لما يقول، واستمر الكاهن في حديثه : «سأدلك يا مولاي على ميشلينيا، ميشلينيا وزير الملك دقيانوس الذي فر من طرسوس منذ ثلاثمائة سنة، سآتيك به حيا والجائزة لي!»
ونظر الملك إلى وزرائه، ونظر الوزراء بعضهم إلى بعض، ثم توجهوا جميعا بأنظارهم إلى الكاهن يسألونه بيان أمره! ومضى الكاهن في حديثه يقص قصة الفتية والجائزة الموعودة ...
وقال وزير من وزراء الملك: «يا مولاي، إنه أمر ذو بال، لا أعني حديثه عن الجائزة التي يطلب، ولكن حديث الفتية الذين يزعم أنهم ناموا ثلاثمائة سنين ثم عادوا إلى الحياة، إنها إن صحت لعظة الأجيال، وآية البعث، ويقظة التاريخ الذي طوته القرون ... والرأي عندي أن يطلب مولاي إلى الكاهن صهيون أن يدعو هؤلاء الفتية لنراهم رأي العين أحياء يتنفسون، ونستمع إلى حديثهم وما كان من أمرهم ...»
قال صهيون: «والجائزة؟»
قال الملك: «وتكون لك الجائزة!»
وخرج الكاهن اليهودي مسرعا إلى الطريق يسعى إلى الأمل، لا يرى بينه وبين أن يبلغه غير خطوات معدودة، ولا يشغله من أمره شيء إلا الثروة التي يمني نفسه بأن تكون بين يديه بعد قليل. ومضى في طريقه لا يحيي أحدا ولا ينظر إلى أحد، فلما بلغ حيث كان الزحام وجد الطريق خالية ليس فيها سائل ولا مجيب. وأغذ السير يتبع آثار الجماعة إلى خارج المدينة وهم يثيرون الغبار وراءهم على مبعدة، فأدركهم بعد عناء ...
وبدا له على مرمى قريب جبل قائم، يشتد الزحام عند سفحه من كثرة يموج بعضهم في بعض، ويتطاولون بأعناقهم ليروا شيئا لا يتبينه صهيون حيث يقف، فاستجمع عزمه وراح يشق الزحام بكتفي جبار، وفي نفسه شعور غامض يوحي بالحيرة والقلق ...
وبلغ سفح الجبل، فرأى وسمع وعرف. هذا كهف الرقيم حيث يرقد ميشلينيا وصحبه، وحيث كانوا يرقدون منذ ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، ضرب الله على آذانهم فناموا ما ناموا، حتى إذا أراد الله أن يظهر آيته أيقظهم فترة من الزمن ليكونوا رسالة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وحقيقة من التاريخ تنطق بالعبرة، وموعظة ناطقة تتحدث بما كان وبما سيكون؛ فلما بلغ الله بهم ما أراد من بيان قدرته، ردهم إلى التاريخ ليكونوا خبرا من خبرة تتحدث به الأجيال ... فليس في واحد منهم عرق ينبض ...
أوه ...! إذن فقد عادوا موتى، فلا سبيل لأحد عليهم بعد؟
وأطرق صهيون بن يهوذا لحظة يتفكر، ثم لوى عنانه عائدا يشق الزحام وفي نفسه حسرة وألم ...
وعاد الناس جميعا مطرقين برءوسهم يتفكرون، ولكن الخواطر التي كانت تصطرع في رأس صهيون كانت أثقل عليه مما يصطرع في رءوس الناس جميعا. لقد كانوا جميعا يفكرون في البعث والنشور والآخرة، وكان هو وحده من دونهم يفكر في الجائزة التي لا يجد سبيلا إليها وكانت على مد يمينه؛ لأنه لا يجد سبيلا بعد إلى أن يصحب ميشلينيا حيا إلى قصر الملك!
بعد الأوان
يا لله! وفي الدنيا هذا الجمال؟
فتاة، وما أعرف مثلها فيمن رأيت ...
أتراها كانت تعرف أين هي من أحلام فتيان الحي؟
وكان لها من جاه أبيها جمال إلى جمال، فاجتمعت لها أسباب الفتنة والإغراء ... ورآها صديقي فتبدل غير ما كان، وإنه لشاب وإنها لفتاة ...
وجاءني ذات مساء وفي عينيه دموع ... يا لي مما أرى! صديقي يبكي! هذا الذي كنت أظنه لا يحمل من هم الدنيا إلا مثل ما تحمل نعله من تراب الأرض! يا عجبا!
وفتحت له صدري فأوى إليه، ومضى يحدثني بخبره: «... وما يليق أن أبقى بعد اليوم عزبا ... وقد جاوزت الخامسة والعشرين.»
وابتسمت، فما سمعت صديقي يتحدث من قبل عن الزواج بمثل هذا الجد؛ لقد استطاعت امرأة واحدة أن تحمله على رأي لم يكن واحد من أصحابه جميعا يستطيع أن يحمله على الإيمان به، ويا طالما قلنا ويا طالما أجاب ...
ومضى صديقي في حديثه: «وأجمعت أمري على أن تكون لي؛ فما يرضيني أن لي بها كل متاع الدنيا، لقد وجدتها وهي حسبي من دنياي ...!
وراح الرسول عن أمري يؤامرها ويرود لي الطريق، وكتم عنها اسمي وخبري ومكاني بين الناس، فما كان إلا أن سألته: وكم يبلغ مرتبه في الشهر؟
وأجابها الرسول، فضحكت ساخرة وقالت: اثني عشر جنيها؟ يا له من عروس! فكم يعطي الطباخ وكم يعطي السواق ...؟
وعاد إلي الرسول بجوابها ...!»
وأطرق صديقي برهة، ثم رفع رأسه وشفته تختلج وفي عينيه بريق. وابتسمت ثانية، وقلت: «فما غضبك يا صديقي مما قالت؟ إن لها في الحياة ميزانها الذي تقيس به أقدار الرجال، وإن للحياة موازينها، فما ضرك أن تكون في ميزانها ما تكون وأنت أنت؟ إن معك الشباب والقوة، وإن لك غدا يبتسم ويرف، وإن دما في أعراقك يتحدث به التاريخ؛ فهل يخدعك عن كل أولئك أن فتاة تقول ...؟»
وأمسكت عن تمام الحديث، فقد رأيت في عيني صاحبي ما قطعني وردني إلى الصمت.
وعاد إلى حديثه: «وددت يا صاحبي لو لم يكن كل أولئك وكانت هي ...!»
ورأيتني منه على حال لا يجدي معها إلا أن أسكت، فسكت. وودعني صديقي بالوجه الذي لقيني به، ومضى لشأنه.
يا للشباب من سلطان الحب!
ولقيته بعد ذلك مرات، ولكنه كان شابا غير من أعرف.
هذا الذي كان لا يعرف من فروض الحياة على الحي إلا أن يبتسم ويضحك، ويعبث بكل شيء ويسخر من كل شيء، قد عاد في عبوسه وتزمته وصرامة نظرته إلى الحياة خلقا آخر؛ يا عجبا! أين صار مما كان؟
تمر به الجميلة الفاتنة قد أخذت زخرفها وازينت، فما تظفر منه إلا بالنظرة العابرة!
ويسمع النكتة البكر تضج لها جنبات المجلس بالضحك والتهليل، فما تنال منه إلا بسمة خاطفة!
وتتداعى أماني الشباب في معترك الحديث من حوله، فما تسمع منه إلا أنة خافتة.
ويتبارى الفتيان فيما يحكون من أقاصيص الحب وغزوات الشباب، فما ترى على وجهه من دلائل يقظة الوجدان إلا سبحة لطيفة من سبحات الذكرى، ثم خفقة طرف وخلجة شفة.
ثم يسمع أحاديث الزواج والخطبة ... فتراه كما ترى جنديا في إجازة يتلقى أخبار معركة حربية مظفرة، وبينه وبين الميدان أبعاد وأبعاد!
ترى ماذا يتوقع أن يسمع؟
شيء واحد لم يغيره الزمن من أخلاق صاحبي: هو سخاؤه وبذله، فما عرفت في أصحابي من قبل ومن بعد أكرم يدا منه بما يملك !
وترادفت الأعوام ولم يتزوج صديقي ... ولم تتزوج صاحبته. أتراها كانت تعلم من خبره ما أعلم؟ ومن أين لها ...؟ وإن لصاحبي من الكبرياء ما يمنعه أن يلتمس إليها الوسيلة بعدما كان ... وإن الخطاب لتزدحم أقدامهم على بابها فما تعرف كم ردت بالخيبة والخذلان!
أم تراها تعرف اسمه؟ هذا الذي لا تذكر من صفاته - إن ذكرت - إلا أنه شاب يبلغ دخله في الشهر اثني عشر جنيها، بعث إليها مرة يخطبها فردته ... وكم في الأمة من شبان يبلغ دخلهم ما يبلغ دخله، وحسبه هذا تعريفا بين آلاف من النكرات!
ولكن صديقي اليوم في منصب رفيع، لقد سما به جده وعمله إلى ما لم يبلغ أحد من نظرائه، أتراه يوازن اليوم بين ماضيه وحاضره؟
لقد مضى خمس عشرة سنة منذ تلك الليلة التي زارني فيها صديقي يشكو إلي ما يشكو ويبثني نجواه.
ياه ...! ما أسرع ما تمر السنون ... أين أنا اليوم مما كنت يومئذ؟
لقد كنت يومئذ فتى في باكر الشباب لم يجر حد الموسى على عارضه بعد، وإنني اليوم لزوج وأب، وإن في رأسي لشعرات بيضا ما إن يخفيها ميل الطربوش ولا صنعة الحلاق ...!
وصديقي لم يزل عزبا ... صديقي الذي كان يخشى أن تفوته سن الزواج منذ خمس عشرة سنة!
أين هو اليوم؟ وأين حاضره من ماضيه؟
لقد ضربت بيني وبينه ضربات الدهر فلم ألقه منذ أعوام، وددت لو أعرف من خبره!
وخرجت ذات يوم من داري على ميعاد، فإني لفي طريقي إذ لقيته ... وأقبلت عليه وأقبل علي، وهممت أن أسأله حين بادرني بقوله: «إنني أدعوك بعد غد إلى داري ...» - تدعوني ...؟ - نعم، لقد اتفقنا أن يكون الزفاف بعد غد! - بمن؟ - وهل حسبتني أرضى يوما أن لي بها كل متاع الدنيا؟ إنها هي ... لقد ضرب القدر بيننا موعدا فلم يخلفه. إن لكل شيء أوانه! ... وكما جلس صديقي مني مجلسه ذات مساء منذ خمس عشرة سنة ليحدثني بخبره كان مجلسه الليلة مني ...
وكان في عينيه بريق غير البريق، ولصوته لحن ورنين، وفي عينيه دموع، وكانت الكلمات ترتعش على شفتيه؛ لأن فيها نبضات قلب حي. وصعدت نظري إليه فرأيت في فوديه شعرات سوداء في شعر أبيض، كأنما بقيت لتشير إلى أنه ما زال هنا بقية من شباب ... ومضى صديقي في حديثه: «... ولم يعد إليها رسولي منذ كان ما كان، وما عرفت اسمي ولا جاءها خبر من خبري بعد، وكأنما كان يدخرها لي القدر، فلم تتزوج، وارتد الخطاب جميعا عن بابها مخذولين، وآن الأوان ...
هل جاءك يا صديقي أن مرتبي في الشهر قد بلغ اليوم خمسين جنيها غير ما أكسب من أعمالي الخاصة ...؟ وبعثت إليها رسولا آخر يؤامرها للمرة الثانية ...»
وضحك صديقي ضحكة مرحة ثم عاد يقول: «أتذكر ليلة جلست إليك أحدثك مثل حديث الليلة، منذ ... منذ كم؟ ... وقالت للرسول وقال لها، ثم سألته: وكم دخل صاحبك في الشهر؟
فأجابها ... وكان القدر قد هيأ أسبابه، فأجابت ... وزرتها من بعد، وتم الاتفاق!»
قلت لصاحبي: «فهل عرفت هي أنك أنت أنت ... هل عرفت أنك سعيت لخطبتها مرة منذ خمس عشرة سنة فردتك؟»
فقال: «وماذا يعنيني عرفت أو لم تعرف؟ حسبي أنها اليوم لي، وأن ما أردته قد كان!»
ووجد المسكين تعبير رؤياه بعد خمس عشرة سنة من عمر الشباب، ووجدت تعبير أمانيها؛ وباعت المسكينة شبابها وشبابه بثمن بخس، حين تأبت عليه ومعه حرارة الشباب، ونضارة العمر، وسعادة الحب؛ لترضاه من بعد وهو شباب مدبر، ونجم آفل، وشعلة إلى رماد ...!
زاهية
في القرية البعيدة الجاثمة على حدود الصحراء الغربية من صعيد مصر، جلست «نعيمة» ذات مساء بين لداتها من بنات القرية، تحدثهن حديثها عن القاهرة وما فيها من وسائل النعيم والترف، والتف الفتيات حولها يستمعن إليها في شوق ولذة، وكأنما تحملهن بحديثها على أجنحة الطير إلى حيث يرين ما تقص عليهن خبره من أسباب الملذات في القاهرة العظيمة، وكأنهن في مجلسهن ذلك على المصطبة حول نعيمة لا يستمعن إلى قصة تقص وخبر يروى، ولكنهن يرين وينعمن في الخيال بما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب فتاة من سكان هذه القرية الوادعة المطمئنة!
لم ترحل واحدة من سكان تلك القرية إلى القاهرة قبل أن ترحل إليها نعيمة، فما كانت تتحدث واحدة منهن عن القاهرة وما فيها إلا كما يروي الراوي قصة من بنات أحلامه عن رحلة إلى بلاد بعيدة رحل إليها جده فيما غبر من السنين، ونعيمة نفسها لم تكن تطمع في الرحلة إلى القاهرة يوما ما لولا المصادفة السعيدة ...
يوم أرسل «الباشا» إلى أبيها يطلب إليه أن يرسلها إليه لتقوم على خدمة أولاده، حزن أبوها أشد الحزن، وحمل من الهم ما لا طاقة له به، وتداعى أفراد الأسرة جميعا إلى مؤتمر يداولون فيه الرأي ويوازنون بين النتائج، ثم لم يجدوا بدا من إجابة «الباشا» إلى ما طلب، وأنى لهم أن يخالفوه وهو سيدهم ومولاهم ومالك رقابهم؟ أليس هو مالك هذه القرية بما فيها ومن فيها ...؟ كلهم أجراء يفلحون أرضه ويجهدون جهدهم في خدمته والتماس رضاه!
وها هي ذي نعيمة تعود إلى القرية بعد غياب طويل لتزور أهلها، ولكنها غير نعيمة التي يعرفها شبان القرية وبناتها، لقد عادت فتاة أخرى. ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة ... أين كان منها كل أولئك ...؟ منذ عام، لم يكن واحد من فتيان القرية ينظر إلى نعيمة، أما اليوم ... فما أجمل وما أشهى! إنها ملتقى الآمال ومعقد المنى، تشتجر حولها النظرات وتعترك القلوب ... ليس في القرية كلها شاب واحد لا يطمح إلى نعيمة ويتمناها لنفسه! ... وجلست مجلسها ذلك بين رفيقات صباها تقص عليهن، وكلهن معجب مفتون، ولكن «زاهية» كانت أكثرهن إعجابا وفتنة ...
لقد كانت تستمع إلى حديث صاحبتها كأنها في حلم من الأحلام، وأسلمت نفسها إلى الأماني تطير على جناحيها من جو إلى جو مغردة طليقة؛ على أنها لم تكن تفكر في ملذات المدينة وما فيها من وسائل النعيم والترف، أكثر مما كانت تفكر في شأن نفسها حين تعود إلى القرية مثل عودة نعيمة: معززة مرعية تعترك حولها النظرات وتصطرع الأماني؛ حينئذ تستطيع أن تظفر بمن تحب وهي آمرة مطاعة!
كانت «زاهية» فتاة في نضرة الشباب، ولها حظ من الجمال يحببها إلى كثير من فتيان القرية، على أن فتى واحدا من بين الجميع كان أدنى منزلة إلى قلبها: سرحان!
لم تكن تحبه حب بنات المدن، فما يعرف بنات القرية هذا اللون من الحب ولا هن يجدن من أنفسهن جرأة عليه، ولكنها به جد معجبة، تجد في تذكره لذة، ويملأ نفسها غبطة ومسرة أن تروي عنه أو تستمع إلى أخباره، وهي مع ذلك لم تجلس إليه مرة، ولم تبادله كلمة، ولم يلتقيا في نظرة حب. أتراه كان يعلم أن زاهية معجبة به؟ وهل كان له إليها هوى ونزوع؟ من يدري ...؟ أما هي فكانت تعلم من ذات نفسها ما لا يعلم أحد، فطالما صحبته في أحلامها ليالي عدة، وأرقت بذكراه في فراشها ليالي أكثر عددا، وما كان لها في الحياة إلا أمنية واحدة، قريبة على مد البصر، دانية كشعاع القمر على صفحة الغدير: هي أن تصير يوما زوجة سرحان!
تلك أمنية كانت ثم اعترضت دونها الأقدار؛ فقد مات أبواها وهي سادرة في أحلام الشباب، سابحة في أوهام الحب. وكان صباح وكان مساء، فإذا هي وحدها في دنيا جديدة، ليس لها من يرعاها ويتولى أمورها غير ابن عمها «إبراهيم»، وكان صباح وكان مساء، وإذا ابن عمها وراعيها هو خطيبها وزوجها المنتظر!
لم تكن زاهية تحب ابن عمها إبراهيم، ولكنها لم تكن تبغضه، وما كان لها أن تبغضه وما أساء إليها قط، وإنه ليرعاها ويجهد جهده في خدمتها والسهر عليها، ومع ذلك لم يكن يسرها أن تذكر أنه سيكون زوجها بعد قريب. أكان ذلك لأنه لم يصادفها عذراء القلب؟
وما كان إبراهيم ليفكر من قبل في زاهية، وما كان يخطر له على بال أن ستصير زوجته؛ ولكن الأقدار قد فرضتها عليه بعد موت أبيها، فهو ابن عمها، وعليه وحده أن يتولى أمرها ويكون لها، ولكنه مع ذلك لم يكن ملحدا في القدر الذي فرضها عليه، ولا ساخطا على الحظ الذي ربطه إليها وربطها إليه، فإنه لرجل يدرك تبعات الرجولة وينهض بأعبائها! ... وجلست زاهية تستمع إلى حديث صديقتها نعيمة، وإن خيالها ليسافر بها ويئوب، وإن أمانيها لتتنقل بها في عوالم مليئة بالسحر والجمال والفتنة، وإن أحلامها القديمة التي هجرتها منذ خطبها إبراهيم، لتستيقظ في نفسها فجأة وتردها إلى ماضيها ...
لم تكن كل مزايا القاهرة عندها أن فيها تلك المباهج والملذات التي تفتن نعيمة في وصفها، ولكن مزيتها الكبرى عند زاهية أنها تصنع الجمال الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب! ... وانفض السامر، وأوت كل فتاة إلى دارها لتستتم في أحلامها ما سمعت في يقظتها، ولكن زاهية باتت ليلتها ساهرة لم يغمض لها جفن ولم يزرها الكرى، تراوح بين جنبيها على الفراش اليابس في القاعة الدافئة، وحولها أكداس الحصيد، وقفة الدقيق، وقدر الطعام، وفي زاوية القاعة نعجة تجتر ...
وبدا لزاهية من أحوالها في تلك الليلة ما لم يبد لها في يوم من أيامها، وأحست في نفسها إحساسا قويا أنها شقية ومحرومة وبائسة، وتبرمت بنفسها وبما حولها تبرما لا طاقة معه على الاحتمال؛ فأخذت تفكر تفكيرا جديدا لعل مثله لم يخطر على بال واحدة من سكان القرية جميعا قبل زاهية ...
صاحت الديكة على سطوح المنازل، وعوت الكلاب تنبح كل غاد ورائح، وثغت الشاء، وخار الثور، واستيقظت القرية كلها مع أول شعاعة من شعاعات النهار، وقامت زاهية من مرقدها متثاقلة تتثاءب وتتمطى، ونفض الكون ظلمات الليل عن كاهله، فمحت آية النهار ما كان يعتمل في رأس زاهية من أفكار سود، فأقبلت على عملها كشأنها كل يوم.
وسمعت طرقا على الباب، فمضت إليه تفتحه في حركة آلية كشأنها كل صباح؛ لتستقبل خطيبها إبراهيم، وكانت لهما حاجة في الحقل، فصحبته خطوة إلى خطوة.
واجتازا طرقات القرية صامتين، يسوق إبراهيم ماشيته، وتحمل زاهية مكتلا على رأسها وقد تلفعت من البرد بلفاع قديم أسود.
وأشرفا على الحقول المزروعة تهتز فيها سنابل القمح الخضراء على سوقها الدقيقة كما تتكسر أمواج البحر على الشاطئ هادئة لينة، وتبرق قطرات الندى على أوراق البرسيم صافية كحبات اللؤلؤ، ويفوح العطر من زهر الفول عبقا ريان، والفتى والفتاة يسيران في طريقهما على حافة القناة.
ومد إبراهيم نظره إلى بعيد يتبين فتاة مقبلة عليهما، وكانت هي نعيمة ... وأحست زاهية شيئا يجيش في أعماقها حين رأت خطيبها يقبل على الفتاة مبتسما، وفي عينيه بريق زعمت زاهية لنفسها أنها تفهم معناه!
واجتمعت في صدرها الوساوس، ونهشتها عقارب الحقد والغيرة حين ملأت عينيها من الفتاة، وقد خلع الصباح على وجهها من روائه وإشراقه ...
لم تكن زاهية تحب إبراهيم حب الأثرة، ولكنها مع ذلك لم تكن تحب أن ينظر إلى غيرها هذه النظرة التي رأتها في عينيه وهو يحيي نعيمة؛ وودت في تلك اللحظة لو أمكنتها الفرصة لتثأر وتنتقم ...!
آه! لو أقبل «سرحان» في تلك اللحظة! إذن لأذاقت زاهية إبراهيم مرارة الغيرة في ابتسامة وتحية ناعمة تقدمهما إلى سرحان!
وانطوت على آلامها تفكر في أمرها وتلتمس الوسائل لتحقيق أمانيها، وعادت الخواطر المظلمة إلى رأسها، وتناهبتها الأفكار السود، وتمثلت لها نعيمة في ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة؛ وعاد حديث المساء الذاهب يرن في أذنيها موسيقيا عذبا يصور لها القاهرة بما فيها من النعيم والملذات، القاهرة التي تصنع للعذارى الجمال الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب ويحقق مستحيلات الحب. وأجمعت قلبها على أمر ...!
وسافرت زاهية في اليوم التالي إلى القاهرة، ليس معها بعد أجرة السفر إلا دراهم معدودة، وصرة قد جمعت فيها ثيابها وما تملك؛ ولم تجد ضراعة إبراهيم ولا وسائله في استبقائها شيئا، وما أصاخت إلى ندائه ونصائحه، وخلفته وراءها يبكي خطيبته وابنة عمه، وشرفه الذي عرضته للهوان بسفرها وحدها إلى القاهرة تبتذل نفسها في خدمة الناس غير مضطرة ولا مقهورة!
وعاد الفتى وحده إلى الدار ذليلا منكسرا تفيض نفسه بالسخط والألم، ويجيش قلبه بالحب العميق لزاهية، الحب الذي لم يكشفه في نفسه ولم يعرفه إلا بعد رحيلها. حب مشفق يائس ذليل، تشوبه مرارة الغيظ وثورة الحقد والبغضاء!
ووصلت زاهية إلى القاهرة!
وي! هذا شيء لم تحدثها به نعيمة ولم يخطر لها في بال: هؤلاء الناس يتزاحمون بالمناكب في الطريق رائحين غادين ... هذه السيارات تتلاحق في الشوارع ممتلئة وفارغة ... هذه القصور شامخة باذخة على كل باب بواب ... هؤلاء النساء، وهؤلاء الرجال، وهؤلاء الغلمان منطلقون في طريقهم لا يحيي أحد أحدا، ولا يحدث جار جارا، ولا ينظر مقيم في وجه غريب ... هذه الشوارع متقاطعة متشابكة، أينما ولت وجهها وجدت طريقا ووجدت ناسا لا تعرف أين يقصدون ولا من أين يقدمون!
أهذه هي القاهرة ...؟ لقد حسبت زاهية يوم جلست نعيمة تحدثها حديثها عن القاهرة أنها ستهبط جنة الخلد يوم تهبط إلى القاهرة، فتجد كل شيء مهيأ لسعادتها ... ... ومضت تضرب في الأرض وتشق طريقها في زحمة الحياة!
وأحست القرية الصغيرة فقد واحدة من بناتها، ولكن إبراهيم كان أكثر الجميع إحساسا بذلك، ولما همت نعيمة بالرجوع إلى دار مخدومها في القاهرة بعد أسبوعين، شيعها إبراهيم إلى أول الطريق وهو يوصيها خيرا بزاهية، ويسألها أن تحمل إليها تحيته وأن توصي بها سيدها الباشا. وهل كان يخطر في بال إبراهيم أن زاهية في دار غير دار الباشا؟
واشتغل كل بنفسه. أما زاهية فراحت تطرق الأبواب في التماس الرزق، لم يزدها عنف الصدمة الأولى إلا إصرارا على العمل لتحقيق أمانيها، على رغم ما ينالها من مشقة، وفي رأسها خيال يداعبها في أحلامها، وأمام عينيها أمل ...
وأما إبراهيم، وسرحان، والقرية جميعا، فقد انصرفوا بعد قليل عن ذكر زاهية، لا تكاد تخطر منهم على بال، إلا رجلا واحدا لم تهدأ له نفس منذ سفر زاهية: ذلك ابن عمها إبراهيم!
ولكن شيئا جديدا من أخبار القرية قد رد الجميع فجأة إلى ذكر زاهية، فحديثها على كل لسان وفي كل أذن ...
كان ذلك يوم قدم الباشا إلى القرية يتفقد أرضه وزراعته، فقد استجمع إبراهيم جرأته كلها وقصد إليه يستنبئه من أنباء زاهية ويوصيه بها!
ودهش الباشا وسأل: «من زاهية؟» فلم يزده الجواب علما بما سأل عنه ... وعرف أهل القرية جميعا منذ ذلك اليوم أن زاهية ليست في دار الباشا، فأين تكون؟ وهل يعلمون من القاهرة إلا دار الباشا؟ وتناولتها الظنون والشبهات ...! - إنها خادمة في فندق! - إنها تبيع في الأسواق! - إنها تخدم في بيوت العزاب! - إنها ترقص وتغني في مسارح اللهو! - إنها اتخذت بيتا يأوي إليه الشباب في ساعات اللهو والبطالة!
وهكذا راح غياب زاهية حديث السامرين على مصاطب القرية كل مساء؟ وتفننت عبقرية الرواة في اختلاق الأحاديث وتزوير القصص، وكان لسان سرحان أحد الألسنة في تناول عرض زاهية، سرحان الذي لم تحفظ ذاكرة زاهية في غربتها من صور القرية غير صورته، ولم يلم بها زائر في أحلامها من شبان القرية غير طيفه المحبوب! سرحان، الذي من أجله ولأجله كانت تحتمل المشقة والجهد، وتبتذل نفسها في بيوت الخدمة لتعود يوما إلى القرية فيلقاها على الطريق مبتسما يمد لها يديه في ترحيب العاشق اللهفان ...! وهل كان يدري؟
وجاء الصيف، وطابت مجالس السمر في ضوء القمر الساحر على مصاطب القرية، ولم يخل سامر من حديث زاهية. وتترامى أحاديث السامرين إلى إبراهيم فيألم أشد الألم، وكأن في كل كلمة سهما يخزه في قلبه ويشوكه في مرقده، ولكنه صامت لا يتحدث ولا يرد عن زاهية فرية، وماذا تراه يقول؟ إنه هو نفسه يكاد يؤمن إيمانا لا سبيل إلى الشك فيه بكل ما يتحدث به السامرون، لولا بقية من حسن الظن وأثارة من الرجاء، لعلهما أثر الحب الذي لم يكد يستعلن حتى اعترضه القدر!
ومضى شهر وشهر وشهر، وانقضى عام، وأهل عام جديد، وعادت نعيمة من القاهرة لتقضي أياما بين أهلها، وسعى إبراهيم إليها فيمن سعى وعلى شفتيه سؤال، ثم ارتد عنها أشد ما يكون ألما وأشقى نفسا؛ إن نعيمة نفسها لا تعلم عن زاهية أكثر مما يعرف أهل القرية، فما لقيتها في القاهرة قط ولا عرفت من أخبارها!
وتلاشى الأمل الباقي في نفس إبراهيم، وانضم إلى الجماعة فيما تؤمن به من مصير زاهية، ومضت الأيام تسدل على الماضي ستارها، وتناست القرية زاهية وما كان من أمر زاهية، ونسي إبراهيم! ... وكان العام الثاني في أخرياته حين أخذت القرية زخرفها وازينت لأمر ما ... «نعيمة ريحانة القرية وزينتها تزف الليلة إلى إبراهيم!»
هذه هي أول كلمة صكت مسمعي زاهية وهي عائدة إلى القرية ...
وهبطت الفتاة القرية، والقرية كلها في شغل عنها بعرس إبراهيم ونعيمة، وإنهما لشابان حقيقان بأن تحتفل القرية بعرسهما وتفتن في الزينة له؛ ومن مثل نعيمة في القرية؟ ومن مثل إبراهيم؟
ونال زاهية من الغيرة ما نالها حين استمعت إلى هذا النبأ، ولكن أملا في نفسها كانت تحرص على كتمانه؛ أمل عزيز صحبها إلى غربتها، وطالما أنست في وحدتها بذكره: سرحان!
ومضت في طرقات القرية إلى دارها التي فارقتها منذ عامين، تختال في ثوب موشى لم تلبسه قبلها واحدة من بنات القرية، ولم تلبسه نعيمة نفسها!
وتتابع خطوها على الطريق متئدا رتيبا في مثل رشاقة بنات القاهرة!
وعلى شفتيها ابتسامة مصنوعة تعبر عن معنى تحرص زاهية على إعلانه!
وتنظر عيناها نظرات فيها زهو وكبرياء، وفيها إغراء وفتنة!
وفي وجنتيها حمرة خفيفة، إلى سمرة طبيعية في وجهها تزيدها جمالا على بنات المدينة!
وتحمل يدها الرخصة الناعمة حقيبة من الجلد أغنتها عن الصرة التي كانت تحملها منذ عامين يوم فارقت القرية!
وفي قدميها حذاء جديد!
لقد صنعت زاهية كل ما قدرت عليه لتبدو في يوم عودتها إلى القرية كما أرادت، ولكن أحدا من أهل القرية لم يهتم بمقدمها أو يخف لاستقبالها؛ وما كان يعنيها من أهل القرية جميعا إلا شخص واحد: سرحان! أين سرحان؟
ولكن سرحان كان في شغل عنها يوم مقدمها في الاحتفال بعرس القرية، ولعله لو كان فارغا لخف لاستقبالها غير مبتسم ولا ماد يديه للترحيب، فما كان سرحان، ولا كان أحد في القرية كلها يطيب له أن تعود زاهية إلى القرية؛ فلولا أن القرية كلها كانت في تلك الليلة مشغولة بعرس نعيمة، لاستقبلتها استقبالا غير ما كانت تنتظر؛ ليسلم للقرية شرفها الرفيع وينمحي عارها!
وانتهت زاهية إلى دارها، فما أحس مقدمها أحد غير جارتها العجوز، فأقبلت عليها تحييها تحية القدوم !
وعرفت الفتاة من حديث جارتها ما لم تكن تعرف من رأي القرية فيها، وحديث السامرين عنها، وتوقعت ما لا بد أن يكون، ولكن ذلك الذي توقعته لم يكن يهمها بقدر ما أهمها ما سمعت مما كان يتحدث به عنها سرحان ...!
وانهار الأمل الباذخ الذي عاشت في أوهامه سنتين أشقى ما عاشت من سنيها العشرين، بما تحملت فيهما من الجهد والنصب والمشقة!
وفقدت كل شيء في اللحظة التي ظنت فيها أنها أوشكت أن تظفر بكل شيء!
وقضت ليلتها في القرية، فلما أصبح الناس يسألون عن خبرها لم تكن زاهية هناك ...
ولما التأم السامرون في المساء على المصطبة، كان إبراهيم خاليا إلى عروسه يحدثها حديثه وتحدثه، لا يعنيهما شيء من الأمر إلا السعادة التي ينعمان بها؛ وسرحان قد توسط حلقة من القوم يحكي لهم ويستمعون إليه وهو يقول: «ألم أقل لكم ...؟ بلى، إن الملعونة لم تطب لها حياة الشرف والاستقامة في القرية ليلة واحدة ...!»
وأمن السامرون على ما يقول ...
في تلك اللحظة، كانت زاهية في القطار ينهب بها الأرض نهبا إلى القاهرة، إلى حيث تعود لما كانت فيه: تشق طريقها في زحمة الحياة وتطرق الأبواب قائلة: «هل من حاجة إلى خادمة أمينة، حسبها من الجزاء بيت شريف يؤويها، وثوب يسترها، ولقمة تحفظ عليها الحياة!»
البعث
جلس «أحمد» على مقعد في جانب من غرفته الخاصة، وارتفق بذراعه على النضد الصغير أمامه وراح يفكر ...
إن بعض الصور التي تتناولها العين في نظرة عابرة، قد يكون لها من التأثير في حياة بعض الناس ما لا تؤثر الأحداث العظيمة التي تهز العالم؛ هذا أحمد، شتان بين ما هو الساعة وما كان منذ ساعات؛ لقد عاد لتوه من السينما حيث كان يشهد رواية عن حياة الأديب الفرنسي الكبير «إميل زولا» ... فأين هو الساعة مما كان قبل ساعات؟
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره ...
منذ بضع عشرة سنة لم يأل أحمد دأبا إلى غاية يستشرف إليها، فأين بلغ مما أراد؟ هذه حياته التي يحياها منذ كان، لم يتغير منها شيء يشعره شيئا من الأمل فيما يستقبل من أيامه؛ ففيم كان جهاده ودأبه وما بذل من أعصابه ومن دمه في بضع عشرة سنة؟
أتراه يستطيع أن يقنع نفسه بأنه قد بلغ شيئا؟ فأين ...؟
وتراءت له صورة «سعدية» الفتاة التي وهب لها من نفسه ووقف عليها أمانيه. وتذكر شيئا من ماضيه القريب ومن ماضيها: لقد تعارفا منذ سنوات، بل لقد عرفته هي قبل أن يعرفها، فسعت إليه! فالتقيا، فما افترقا بعدها إلا على ميعاد؛ ولكن سعدية اليوم غير ما كانت أمس؛ لأنه هو هو لم يتغير ولم يزد شيئا على ما كان يوم عرفته!
أتراها سعت إليه يومئذ لأنه هو هو، أم لأنها رأت في مخايله أنه سيصير في غد أكبر مما هو؟ فلما رأته واقفا حيث كان يوم عرفته خاب أملها فيه فاصطنعت أسباب القطيعة!
أيكون ذلك هو السبب الحق لما بينهما اليوم من الجفاء والمباعدة؟ ذلك ما خيل إليه هو حين افترقا لآخر مرة منذ قريب، فهجرها وإن في قلبه من الشوق إليها لهيبا يتسعر!
لقد كان أحمد أديبا موهوبا. إنه ليعرف ذلك من نفسه، وإنه ليؤمن به إيمانا لا سبيل إلى الشك فيه، وكان حقيقا بهذا الإيمان أن يبلغ به المنزلة التي يهدف إليها منذ بدأ؛ ليتخذ مكانه بين أدباء الجيل؛ وكان على إرث من الأدب هيأ له الجو الذي يعينه على استكمال وسائل الأديب وتحصيل مادته، واتخذ طريقه إلى الغاية التي يؤمل ...
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، ولم يأل دأبا من يومئذ، وعرفته سعدية مما قرأت له، وكانت رسالتها إليه أول الصدى الراجع، وكانت هي أول من عرف من قرائه، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت في أولها تجاوبا فكريا بين نفسين، فلم تلبث أن عادت أملا يأمله وحلما يتراءى لها ... ومضى الفتى إلى غايته والحياة تجد له في كل يوم أملا وتوقظ عاطفة.
وكتب وخطب، ونظم وألف ، وراح يناضل في جهد الجبابرة ليشق طريقه إلى المنزلة التي يتنورها من بعيد، وقالت له فتاته: «متى أراك يا حبيبي هناك؟» ولم يجبها فتاها؛ لأن عينيه كانتا تنظران إلى هناك ...
ومشيا ذراعا إلى ذراع بين الحدائق الضاحكة صامتين، أما هي فكانت تبحث بعينيها بين الفروع الراقصة عن زهرة تقطفها عن أملودها لتجعلها في صدرها زينة تتيه بها على لداتها وصواحبها. وأما هو فكان في إطراقه وصمته يتسمع نجوى الغصون وهمس الزهر؛ لينظم منها قصيدة ترف رفيف الغصن وتنفح نفح الزهر!
وطال عليها الطريق وما بلغت، فقالت: «متى يا حبيبي ...؟» وقال: «متى يا حبيبتي ...؟» ولم تع مما قال شيئا ولم يع مما قالت، وتدابرا ومضى كل منهما لغايته، وراحت تبحث عن الزهر للزينة، وراح يبحث عن معناه ... وكان فراق بينهما!
وعاد إلى داره ذات مساء، ولم يكن في الدار غير خادمته العجوز. وجلس إلى المائدة ينتظر عشاءه، وأبطأت الخادم لأن الدار لم يكن فيها عشاء فتأتي به ... وضحك حين عرف، وعيث في جيبه قليلا ثم أمسك، وآثر أن يطوي ليلته بلا عشاء، فإن ذلك أخلق بأن يجمع له نفسه ويوقظ حسه ...
وجلس إلى مكتبه لحظات يقرأ بريد المساء، وكان بينه رسالة تنفح عطرا وقرأ:
سيدي ... وإني أرسل إليك تحياتي على البعد ...
إنها لحظات سعيدة حين أقرأ لك فأشعر أني منك على مقربة وأنك مني ...
وإنه ليخيل إلي أحيانا أنني وأنك ...
إنك لست بعيدا مني، أفتراك تعرفني؟ ولكني أعرفك ... ومعذرة ...
وابتسم الفتى ثم عبس، وذكر سعدية ... ثم طوى الرسالة وأودعها غلافها، وقال وكأنما يتحدث إلى شخص يجالسه: ليتك تعرفين يا فتاة وليتني أعرف! بل إنني لا أريد أن تعرفي. إنك تنشدين الزهر ليكون لك زينة تباهين بها في المحافل، وإنني أنشد معناه لأتخذه وحيا أتصل بأسبابه إلى السماء ... وكذلك كانت أخت لك من قبل!
ولكنه كان راضيا ...
لم يبلغ المجد الأدبي الذي يناضل له منذ بضع عشرة سنة، ولم يبلغ الغنى الذي يكفيه حاجة الحي إلى وسائل الحياة، ولكنه كان راضيا؛ لأنه كان مؤمنا بنفسه، ومؤمنا بغده. ومضى على وجهه ... ... وراح إلى السينما ذات عشية يتزود لفنه وأدبه ويستجم، ثم عاد ...
ها هو ذا عائد لتوه من السينما حيث شاهد قصة «إميل زولا» فوجد مما شاهد بابا إلى الحديث بينه وبين نفسه ...
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره ...
وكان عليه أن يعد الليلة خطبة طلب إليه أن يذيعها في غد احتفالا بذكرى بعض الأدباء الراحلين. ذلك واجب لا يعفيه من إغفاله أن يعتذر، فقد كان أدنى أصدقاء ذلك الأديب الراحل إليه، وأعرفهم بحقه، وإن عليه دينا يقتضيه الوفاء أن يذكره به فيتحدث عنه حديثا في يوم ذكراه!
وشرع قلمه، وهم أن يعد الخطبة التي ينبغي أن يذيعها عن صديقه الأديب الراحل في يوم ذكراه ... واستجمع فكره، وتذكر شيئا ...
يا عجبا! ذلك الصديق الذي يهم أن يتحدث عنه: ماذا كان في حياته؟ وماذا هو اليوم عند الناس؟ لقد عاش حياته يجاهد لأمته ما يجاهد صابرا محتسبا قانعا بالكفاف، لا يذكره أحد بحق ولا يعرف له يدا ... فلما غاله الموت - لما غاله الموت فقيرا معدما بعيد الدار كثير الولد - تدانت الرءوس، واختلجت الشفاه، وسحت العبرات، وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكراه؛ فإن حديثه اليوم على كل لسان، وإن ذكره في كل قلب ... كذلك كان حيا وميتا، فما متاعه بما صار؟ وما عزاؤه عما كان؟
ماذا ...؟ أليس يعرف الناس للأديب في هذا البلد حقه إلا بعد أن يموت؟ ما أغلاه ثمنا للمجد!
وابتسم الفتى ساخرا، ثم سكت وعاد إلى نفسه يؤامرها ... وانصرفت نفسه عما هو فيه، وتناول حزمة من الرسائل لم يقرأها بعد، وفض منها رسالة، وقرأ:
سيدي ... فلماذا ...؟ ولماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتابا ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء أوروبا ...؟
وطوى أحمد الرسالة وهو يتمتم: نعم، لماذا ...؟ لا لا، إنني أكاد أعرف ... ولكن، لماذا ...؟ لماذا لا يزال - مع ذلك - في ناشئتنا الغافلة من يرجو الخلود في الأدب ويلتمس به المجد والغنى؟ هذا هو السؤال الذي يحق!
وتذكر الرواية التي شاهدها في السينما منذ ساعات، وتذكر صديقه الذي يهم أن يعد حديثا عنه ليوم ذكراه ... وصمت برهة، ثم وقف وراح إلى المصباح فأطفأه، وقصد إلى فراشه، ولكنه لم ينم ... واستغرق في تفكير عميق ... وأحس برد الراحة على قلبه حين انتهى من تفكيره إلى حد ... ... وأصبح أصدقاء أحمد يسألون عنه فلا يجدونه، ومضت أيام ولا حس ولا خبر، إلا رسالة موجزة تلقاها بعض صحبه وليس فيها إلا هذه الكلمات: «إنني ذاهب ... لقد برمت بدنياي ... وداعا يا أصدقائي!»
وجد أصدقاؤه في الطلب فلم يقفوا له على أثر، وظنوا الظنون ... ثم استيقنوا حين عثر بعض الرواد في صحراء الجيزة على أشلاء آدمية تكاد تواريها الرمال في قعر هوة سحيقة من هوى الصحراء. لم يكن ثمة وجه يبين، ولا لسان ينطق، ولا أثر يدل، إلا قميصا خلقا قد حال لونه وتمزقت حواشيه ... لقد أكل الوحش من ذلك الجسد ما أكل، وأبلى الرمل ما بقي، فما هو إلا عظام نخرة وأنابيب جوفاء وأديم ممزق!
وقال واحد من صحابته: لقد توقعت له هذه الخاتمة منذ بعيد، ويا طالما حذرته من ارتياد الصحراء وحيدا في غبشة الصبح أو في ظلمة الغسق فلم يسمع لي، يزعم أنه يجد هناك مهبط الوحي ومنبع العبقرية!
وقال الثاني: وكذلك زعمت لنفسي حين جاءتني رسالته يودعني ويستودعني، لم يقع في نفسي إلا أنه ذاهب إلى الصحراء، لقد تحدث إلي مرة ... وكان يتشوق إلى اليوم الذي يفارق فيه دنيا الناس إلى معزل هادئ على حدود الصحراء يأنس فيه إلى الوحش فلا يرى أحدا من الناس ولا يراه أحد، فلعله ...!
وقال الثالث: يرحمه الله! وانحدرت على خديه دمعة فجاوبتها أخواتها من عيون أصحابه، وعزى بعضهم بعضا، ثم انصرفوا يحملون رفات الشاعر الشهيد إلى مثواه، وتداعى الناس إلى مأتمه محزونين وإن حديثه ليرطب كل لسان!
وكتب اسم أحمد في سجل الراحلين من الأدباء العباقرة ...! وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكرى الأديب الراحل، وطفحت أنهار الصحف الأدبية بالحديث عنه وتمجيد ذكراه! وانعقدت جماعات، وتألفت كتب، وبذل مال، وتزاحم الناشرون يزايدون بالمال لشراء مخلفاته الأدبية ... وجد البعداء من أهله يطلبون نصيبهم في تركته!
ومضى عام قبل أن يحدد يوم يقوم فيه الخطباء والشعراء لتأبينه، وكان يوما مشهودا ...
كان المدرج الكبير غاصا بأهل الأدب وسروات المدينة وذوي الجاه والرياسة، وقد نصت في صدره منصة عالية عليها كراسي مذهبة، يشرف عليها صورة مكبرة للفقيد العزيز مجللة بالسواد، تطل منها عينان ساخرتان على تلك الجموع الحاشدة. وكان في ركن من القاعة فتاة ذات جمال قد انتقبت بنقاب أسود شفيف مبتل بالدمع، وإلى جانبها فتيات، تلك صديقته سعدية. وجلس في الصف الأخير بضعة فتيان شعث غبر قد تأبطوا كتبا وصحفا ومجلات قديمة، تدل ثيابهم وهيأتهم على الفقر والقناعة، و... والعبقرية! وتنطق سماتهم وشارات الحداد في وجوههم بأنهم أكثر أهل الحفل إخلاصا لذكرى صاحبهم الذي مات ...!
أولئك أسرة الفقيد من أهل الأدب.
وكان على الباب بوابون من ذوي اليسار والنعمة يستقبلون القادمين ويدعون كلا منهم إلى مجلسه الذي يوائمه. وتدلت الأنوار ثريات تكسف الشمس وتبهر النظر، وكانت حفلة، لو أحصي ما أنفق في إعدادها لكان حياة من موت وغنى من متربة! وغص البهو والشرفات بالوافدين على الحفل من أهل الوفاء والأدب، وحل الموعد، وصغت القلوب وأرهفت الآذان؛ ووقف الخطيب الأول يذكر تاريخ الفقيد، وكان يلبس حلة سوداء غالية، وقد أحكم المنظار على عينيه، وتدلت سلسلته الذهبية على كتفه، وبرق الماس في إصبعه، وبدأ يخطب: «أيها السادة.»
وكان السادة منصتين في لهفة وتأثر ...
وتتابع الخطباء والشعراء يذكرون ما يذكرون من فضل الفقيد وعبقريته وعلمه وخسارة الأمة بفقده!
وقال قائل لصاحبه: «يرحمه الله!»
فقال صاحبه: «أما إنها لخسارة!»
وكان ثمة فتى رث الثياب، مخرق النعل، مرسل اللحية، يقتحم الصفوف صفا صفا يقصد إلى المنصة التي يتبارى عليها الخطباء ...
وتأفف الناس وزموا شفاههم استكراها وغيظا، لكنهم صمتوا إجلالا للحفل. وبلغ الفتى حيث أراد، وهم أن يصعد فاعترضته الأكف، ولكنه صعد ... وأخذته العيون من كل جانب، وكان يبتسم وفي عينيه سخرية وشماتة!
وفرغ الخطيب من خطبته فتنحى عن موقفه، فتقدم الفتى إلى موضعه وهم أن يتكلم ...
وتدافعته الأيدي ... ونظر إليهم ونظروا إليه ... وتعارفت وجوه وتناكرت وجوه، ووقف الفتى ثابتا في مكانه، وارتفع صوته يبث جلاجل نفسه، وهتف: «أيها السادة!»
وسمعها السادة وقوفا وأبصارهم إليه، ومضى يقول ... «أشكركم ...!»
وعرفه من عرف ولم ينكره من جهل، وتدافعوا إليه ... إنه هو ... الفقيد العزيز! «ذلك يوم البعث ولا ريب.» قالها كل مستمع لصاحبه ...
لم يمت أحمد، ولم تأكله وحوش الصحراء، ولم يحمله من حملوا إلى قبره يوم حملوا الرفات المجهول النسب من مجهل الصحراء إلى معلمها، ولكنه كان حيا يرزق. كان يهيئ نفسه ليلقي أبلغ خطبة جهر بها خطيب، وأبين قصيدة نظمها شاعر، وأبرع سخرية أبدعها أديب، فخطب، ونظم، وسخر ... واستمع لرأي الناس فيه ميتا حيا؛ وأسمعهم رأيه.
وبلغ المجد الذي أراد، وبلغ ما شاء من الانتقام لنفسه ومن السخرية بالناس! وعاش ...!
لقاء ...
كان الندي مزدحما بالسامرين على عادته كل مساء، قد تحلقوا حول الموائد جماعات جماعات، في البهو، وفي الشرفات، وعلى الطوار؛ وكان الميدان الفسيح الذي يشرف عليه الندي، مراد العيون ومستراح النظر؛ فما تقع العين منه إلا على منظر أنيق ومرأى فاتن، والسيارات تتهادى ذاهبة آيبة تحمل كل منها قصة حب أو تسر حديث هوى، وأسراب الملاح تتواكب في مطارف الفتنة وعطر الشباب غادية إلى ميعاد أو رائحة إلى أمل، ونسيم المساء الهادئ ينفح عطره ويهمس في كل أذن حديثه ... ... وكان ثمة بضعة نفر جلوسا إلى مائدة مستديرة في ظل وارفة لفاء يتجاذبون الحديث ويتبادلون الفكاهات في أنس ومسرة؛ أولئك «رفيق» وأصحابه.
بضعة نفر لا يشغلهم من هم الحياة ما يشغل الناس، جمعهم الشباب على هوى مشترك، وألفت بينهم الحياة على رأي جميع، واجتمع لهم من أسباب النعمة ما أغنى بعضهم عن بعض فقرب بعضهم إلى بعض، فهم قدم واحدة بكل سبيل، وقلب واحد في كل هوى، ورأي واحد في كل مغامرة من مغامرات الشباب. ذلك مجلسهم كل مساء حيث يلتقون فيقص بعضهم على بعض من حديث الهوى والشباب، فلكل فتاة من فتيات المدينة بينهم حديث، ولكل منهم من حديثها خبر، ولكل غادية ورائحة لحظة عين وبنت شفة!
على أن رفيقا وأصحابه لم يجتمعوا الليلة لمثل ما يجتمعون كل مساء؛ فإن لهم اليوم لشأنا يشغلهم عن لحظات العيون وبنات الشفاه وأقاصيص الهوى والشباب؛ فقد غدا عليهم «رفيق» يؤذنهم بخبر لم يكن لهم في حساب، لقد اعتزم أن يتزوج ...
وا أسفا! لم يكن يحسب هؤلاء الأصحاب أن سيصير اجتماعهم بعد تلك السنين إلى شتات، وأن سيكون رفيق أسبقهم إلى الفراق ... أتراه يكون لهم بعد الزواج كما كان لهم قبله؟ من يدري؟ بل إنهم ليكادون يدرون؛ فما يتأتى له أن يلقاهم بعد ويلقونه وإنه لزوج ورب دار ...
وتناولوه بألسنتهم وركبوه بالمزاح والدعابة، وهو يستمع إليهم مبتسما في صمت، ثم مضى ومضوا ...
لقد ذاق رفيق من ألوان اللذات ما ذاق، وباع في الحب واشترى، وربح وخسر، وتقلبت على عينيه مناظر لعل مثلها لم يجتمع لشاب آخر في مثل سنه؛ على أنه قد مل ذلك جميعا وضاقت به نفسه، وحن إلى حياة هادئة يحياها بين زوج تحنو عليه، وولد يجدد أمله؛ فاعتزم أن يتزوج!
وأتاح لرفيق ما لقي من تجارب الحياة أن يعرف من شئون المرأة أكثر مما يعرف الشباب، فلم يكن تعجبه فتاة ممن رأى وعرف فيرضاها زوجة يملكها داره ويأتمنها على سعادته؛ إذ كان يعرف أكثر من غيره ما وراء هذه القشور التي يتزين بها النساء في مجالس الرجال تجملا من غير جمال! فراح إلى أمه العجوز يسألها أن تختار له ويصف لها ما يحب في المرأة وما يكره.
وكان عجيبا من فتى مثل رفيق - رأى من رأى وعرف من عرف - أن يتوسل بأمه إلى اختيار زوجته، ولكن ما رأى وما عرف هو الذي دعاه إلى ذلك، فقد كان مما جرب لا يثق بواحدة ممن عرف، فراح يتوسل بأمه أن تكون سببه إلى من لم يعرف.
تلك مسألة أخفاها رفيق على صحابته حين حدثهم بما اعتزم، ولو أنهم عرفوا لزادوا في العبث به والسخرية منه، ونسبوه إلى الحمق والغفلة، وإلى فساد الرأي وأفن التفكير؛ فما ينبغي لفتى مثله من أبناء الجيل الجديد أن يخطب فتاة إلى نفسها من وراء حجاب، وأن ينظر إلى زوجته بعيني أمه؛ ولكن رفيقا كان موقنا يقينا لا شبهة فيه أن تلك الوسيلة التي ينسبها أصحابه إلى الرجعية والحمق وفساد الرأي هي أسد وأحكم من اختيار فتاة كبعض من يعرف، تقلبت على أعين الشبان وتنقلت بينهم من ذراع إلى ذراع كجارية النخاس!
لو أن أحدا رأى له هذا الرأي منذ سنين لسخر منه واستهزأ به ورماه بما يرميه به صحابته اليوم، ولكن تجارب الحياة لا تدع لذي رأي أن يثبت على رأيه إلا أن يكون أحمق ليس له رأي ولا إرادة!
وراحت أمه العجوز في حاشية من صواحبها تطرق الأبواب وتهتك الأستار لترى وتعرف وتتخير، ثم تعود إلى ولدها كل مساء فتقص عليه ما رأت وما عرفت؛ وكانت تعلم من شئون ولدها ما لا يجهل أحد، فمن ذلك كان حرصها على أن تتخير له فتحسن الاختيار، وعادت إليه ذات مساء تخبره: «لو رأيتها يا رفيق ...! لها غرة الصبح الطالع، وابتسامة الأمل المشرق، وحياء الزنبقة البيضاء تحت عيون الزهر ... لله هي يا بني! خار الله لك!»
وقال رفيق: «وددت لو رأيتها يا أمي!»
ومطت أمه شفتيها تنكر عليه، وقالت: «وددت يا بني! ولو أنك رأيتها ما زادت في عينيك على ما أصف، ولكن، من أين لك؟ ما أرى أباها يسمح يا رفيق، ولو سمح أبوها ما أطاقت هي أن تتراءى لك ... إنها ...»
وصمت رفيق وعاوده قلق الشباب، وراح يؤامر نفسه: كيف يطيق أن يقطع برأي في المرأة التي يهم أن يشركها في عمره وما رآها؟
ثم ثابت نفسه إلى الاطمئنان والرضا رويدا رويدا، وغلبه رأيه على هواه، فقال لنفسه: ذلك أحب إلي، وإن يقيني بطهارتها لأطيب لنفسي من اليقين بجمالها. وهل رضيت أن أخطبها من وراء حجاب إلا زهادة في الجمال المبذول لكل ناظر؟
وذهب رفيق يتقصى خبرها ويسأل من يعرف عما لا يعرف، وأتاه جواب ما سأل، ولم يبق إلا أن يراها ليبرم أمره. وأي حرج في ذلك؟
وعادت أمه تسعى مسعاتها بينه وبين عروسه، ثم عادت تحمل إليه الإذن في أن يراها يوم يقدم لها هدية الخطبة! ... لم ينقطع رفيق عن صحابته ولم يشغله أمره عن مجلسه وإياهم كل مساء، فما كانت له طاقة على فراق بائن إلى غير لقاء، وكذلك لم يهجر ما كان من عادته وإياهم حين يتحلقون حول المائدة المستديرة على الطوار، يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الفكاهات، أو يتبعون أعينهم كل غادية إلى عمل أو رائحة إلى ميعاد، أو يتداعون إلى سهرة حمراء في عش من عشاش الحب المأجور إلى أن تشيب ذؤابة الليل!
كان يعلم أنه عما قليل مفارق هذه الحياة الصاخبة التي عاش فيها عمرا من عمره، فلا عليه أن يتزود لما يأتي من لياليه، لا يمنعه عن ذلك ما يشغله من أمر يعد له عدته ويهيئ أسبابه ... وتوزعته شئونه، فنهاره تأهب واستعداد، وليله ليل الهوى والشباب!
أرأيت إلى الصائم يتأهب لنهار ظامئ جوعان بالمائدة الحافلة بأطايب الطعام والشراب؟ كذلك كان رفيق في إسرافه على نفسه وفي غلبة هواه!
وراح يوما لموعده فجلس يقص على صحابته من مغامراته: «... وكنت وحدي إلى هذه المائدة أنتظر، وغاظني أنني بكرت فلم أجد أحدا منكم آنس إليه، وتخايلت لعيني فتاة على مبعدة ... ثم تجاوزتني ومضت، ومضيت في أثرها ...»
وتقصف عليه أصحابه يستمعون إليه؛ فإنه لفارس هذا الميدان غير منازع، ومضى في قصته: «... وقلت لها وهي جالسة إلى جانبي على الصخرة الناتئة والأمواج تحت أقدامنا تصطفق على الشاطئ الغضبان: إنك أول من أحببت ...! فنظرت إلي ساخرة وقالت: صحيح ...؟ ثم انفجرت ضاحكة. قلت: وما يمنع؟ قالت وتكاد تغص بضحكتها: تلك كلمة ليست جديدة فيما أعرف ... كم مرة لفظتها شفتاك؟ وحدقت في وجهي بعينين فيهما تصميم وإرادة ، كأنما تتحداني لتبلو إرادتي، وزويت جبيني وتحولت ناحية أنظر إلى رشاش الماء يتواثب تحت أقدامنا، وقلت: ولكنك لن تسمعيها بعد! ولن أقولها! ورحت أجمع طائفة من الحصى فأقذف بها الماء وأصابعي ترتعد؛ إذ لم يكن يعنيني مما قلت إلا أن أثأر لكبريائي ...!»
قال رفيق: «وتخاذلت سريعا حين رأت وجهي مصروفا عنها، فدنت مني وهي تقول: انظر، أترى هذين الطائرين؟ ونظرت ونظرت، والتقت عينان بعينين، وشفتان بشفتين ... ثم ...»
قال الذي عن يمينه: «ثم صحوت من النوم!»
وعلت ضحكات الجماعة، وسكت رفيق، ومضى أصحابه يتجاذبون الحديث ... ... ودنا الموعد الذي حدده رفيق ليلقى عروسه فيقدم لها هدية الخطبة، وكأنما أحب أن يهيئ نفسه لهذا الحدث الجديد، فانقطع أياما عن موعد أصحابه، ومضى يزور في نفسه الكلام الذي يلقى به خطيبته يوم يلقاها. أتراه كان يخشى أن يخونه بإزائها بيانه وخلابته وما عجز قبلها في مجلس فتاة قط؟ ترى ماذا يقول الناس في هذا المقام؟ وتواردت على خاطره كلمات كثيرة طالما جرى بمثلها لسانه في مجالس الفتيات فكان لها في نفوسهن فعل السحر، ولكن هذه الكلمات جميعها - على لياقتها في هذا المقام وصدقها في التعبير عن حقيقة موضعها - لم ترق له، كأنما كان ينزه لسانه في خطابها أن يلقاها بكلمة لم ينطقها قط إلا كاذبا ولم يلق بها قط فتاة تستحق الاحترام!
وأعجزه القول حين الحاجة إليه؛ إذ كان كل جديد في لغة الحب الصادق قد حال في لسانه عن معناه الحقيقي إلى معنى وضيع من معاني الخداع والغش والتغرير، فما ثمة إلا كلام بال قد أخلقه التكرار، أو كلام ساقط قد نسخه الكذب وأحاله عن معناه ...
وضحك رفيق حين أحس من نفسه العجز عما يريد، وخطر بباله حديث الناس عن عجز المحبين عن التعبير حين يتراءى العاشقان وجها لوجه وتتناجى العيون، فسأل نفسه: أتراني عشقتها ...؟
ثم جاء الميعاد ...
وسبق البشير يؤذن بمقدمه، وجلست فتاة تنتظر وفي رأسها أخيلة تتراءى وفي قلبها أمل ...
وقال رفيق لنفسه والسيارة تقله إلى هناك: ينبغي أن تكون هي أول من أحب، أليس كذلك ...؟ بلى، ومن ذا يستحق الحب غير الفتاة التي أهم أن تشركني في عمري؟
وقالت الفتاة لنفسها وهي جالسة مجلسها تنتظر: نعم، ولمن تهب الفتاة قلبها غير الشاب الذي تشركه في عمره؟
ودق الجرس، ودخل رفيق تسبقه البشرى. وعلى الكرسي المذهب في صدر غرفة الاستقبال جلس ينتظر، وكان إلى جانبه كرسي خال، ثم انفتح الباب ودخلت ... وكان واقفا يتهيأ لاستقبال عروسه ...
وتراءيا وجها لوجه، وعرفها وعرفته ...
وهم الفتى أن يقول: «أنت أول من ...» ثم سكت!
وتهيأت الفتاة لتقول، ثم سكتت!
ووثب إلى خاطره وخاطرها في وقت معا ذكرى مجلس كان منذ قريب تصطفق فيه الأمواج تحت أقدامهما على الشاطئ الغضبان، ودوى في أذنيه مثل هدير الموج يتواثب رشاشه إلى وجهه ودوى في أذنيها، كمجلسهما هنالك ... وطأطأت الفتاة رأسها في خزي، وطأطأ الفتى رأسه، وثقل على الفتى والفتاة موقفهما، وأحسا مواقع النظرات تأخذهما من كل جانب، فمشيا صامتين إلى مجلسيهما، وتبادلا نظرة أخيرة أغنتهما عن الكلام.
ولم تتحرك شفتاه بكلمة، لكنها سمعته يهمس في أعماقها ساخرا: «أنت أول من أحببت!»
ولم تنطق شفتاها ولم تجب، ولكن صوتا من أعماق الماضي كان يهمس في نفسه: «... تلك كلمة ... كم مرة سمعتها أذناي قبل أن تلفظها شفتاك!»
وتحول وجهه إلى ناحية وهو يقول: «ولكنك لن تسمعيها بعد ولن أقولها!»
وراحت أصابعه تعبث بحبات العقد الغالي، فلولا الخيط يمسكها لتناثرت على البساط كأنها حصيات من رمل الساحل؛ وعاد هدير الموج يدوي في أذنيه ويتواثب رشاشه إلى وجهه، ونهض، ثم اتخذ طريقه إلى الباب في صمت ...
وعاد إلى صحابته ليستأنف حياته على ما تعود ...!
النائب المحترم
قصة الجاه والشفعاء ...!
لم يكن «حسان» يأمل يوما أن يبلغ هذه المنزلة التي صار إليها؛ ولا كان يبلغ به الوهم أن يصير يوما «نائبا محترما» له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة، وله سيارة خاصة تدرج به على الطريق العام بين داره ودار النيابة، وعجائز الحي يشرن إليه من الشرفات: هذا حسان! وهذه سيارة حسان ...!
ورحم الله أباه! هل كان إلا خوليا في ضيعة «منصور بك» يلبس ما يخلع عليه سيده، ويأكل ما يفضل من رزقه؟
وهل كان حسان يومئذ إلا ابن أبيه، يدرج من كرم سيده وسيد أبيه في قصر ذي أبهاء وشرفات، وينعم من عطفه بأطايب المتع واللذات ...؟ ... ودخل «حسان» المدرسة الابتدائية مع ولدي سيده، وتبرع له منصور بك بمصروفات المدرسة ونفقات الطعام واللباس والمأوى؛ إذ كان وجوده في المدرسة مع ولديه حماية لهما في الوحدة، وجاها من جاه أبيهما في دار الغربة لا يقوم بمال؛ ومضى ثلاثتهم في الطريق إلى المدرسة، طريق أوله أزهار ورياحين، وآخره ... وآخره مكتوب في لوح القدر ...!
ترى أين انتهى بهم الطريق؟
هذا حسان «نائب محترم» له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة، وله ...
فأين بلغ صاحباه بعد طول السنين؟
وكان «النائب المحترم» جالسا وحده وقد قام لتوه من نومة الظهيرة، فسرح بصره يمينا وشمالا، وتنفس تنفس الارتياح والرضا؛ وحضرته الذكرى ... «ما أسرع وثبات القدر!» قالها «النائب المحترم» لنفسه في خلوته وهو يبتسم؛ فما كان ليخفى عنه أنه لولا القدر ما بلغ هذه المنزلة. وهل كان بجده واجتهاده أن يجتذبه «الحزب الحاكم» وهو محام مغمور لا يكاد يجد رزقه؛ ليرشحه للنيابة في وجه أعظم «باشا» في الإقليم، ويحشد له الحزب كل قواه العاملة، وكل وسائله في الدعاية والترويج؛ ليفوز على منافسه الغني الوجيه؛ لأن الحزب الحاكم لا يريد أن ينجح ذلك الغني الوجيه ...؟
وهل كان بجده واجتهاده أن ينام ويصحو، فإذا «مكتبه» المنزوي في ركن من أركان المدينة لا يكاد يعرفه «شيخ الحارة» قبلة أنظار المتقاضين وأصحاب الدعاوى؛ لأن صاحبه محام ونائب محترم، له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة ...؟
لكأنما كان له وحده مغانم هذه «الديمقراطية» التي يتغنى الجميع بنظامها ومزاياها. وهل كان ما ينعم به من الجاه والغنى والسيادة إلا حسنة من حسنات هذه الديمقراطية؟ ... وذكر ماضيه، يوم كان تلميذا في المدرسة الابتدائية مع ولدي سيده منصور بك؛ لقد كان عليه يومذاك أن يحمل كل صباح وكل مساء ثلاث حقائب ، ذاهبا إلى المدرسة مع زميليه وآيبا. واستحيا حين تذكر، وغمرته موجة من الحقد والكبرياء كادت تعميه، ثم استيقظ ضميره؛ وهل صار إلى ما صار إليه إلا بفضل هذه الحقائب الثلاث ...؟
وتتابعت الذكريات على عينيه؛ وحضرته حادثة بعينها، فعض على شفتيه واختلجت أهدابه؛ إنه لم ينسها بعد وقد مضى عليها بضع وعشرون سنة، فما ذكرها مرة إلا غص بريقه كأنما حدثت منذ ساعات ...! ... كانت تلك الحادثة في «يوم الخميس»، وقد وقف التلاميذ الثلاثة ينتظرون الصبي الذي يحضر إليهم بالحمير الثلاثة يركبونها إلى القرية، حيث يقضون عطلتهم الأسبوعية. وطال بهم الانتظار في هذه المرة، فلم يحضر الصبي إلا بعد ساعات من موعده، ولم يكن معه إلا حماران، فقد تعطل الحمار الثالث في الطريق لشر أصابه ... ... ووثب الفتيان إلى ظهر حماريهما، وتركا حسانا يعالج همه، لم يفكر أحدهما في شأنه ولم يخطر لهما على بال؛ ومضى صبيان يعدوان وراء الركب، أحدهما حسان يحمل الحقائب الثلاث ... وتذكر الراكبان صاحبهما وقد أشرفا على القرية، فالتفت إليه «إبراهيم» فدعاه أن يرتدف له فيما بقي من الطريق، وحمل الثاني عنه الحقائب الثلاث يرتفق إليها بكلتا يديه نائما أو كالنائم ...!
ليت شعري أيذكر حسان هذه الحادثة حسنة من حسنات منصور بك وولديه أم سيئة من سيئاتهم؟!
إن في صدره الساعة لغصة لا يبلها الماء!
وترادفت على عينيه الصور فنونا وألوانا، وتعاقبت على وجهه مظاهر شتى، من الحزن والفرح، ومن الشقاء والسعادة؛ وبرقت عيناه بريقا ينبئ عن ثورة انفعال تضطرم بين جنبيه!
وفاء إلى نفسه لحظة فابتسم، وهمس: يرحمه الله! لقد كان رجلا، وإن له علي يدا ...
وراح يسأل نفسه: ترى أين ولداه الآن؟
لقد فارق تلك الدار منذ بضع عشرة سنة، منذ مات منصور بك ومات أبوه؛ وفارقه زميلاه في المدرسة من يومئذ، فقد خيلت لهما سورة الغنى بعد موت أبيهما أنهما بلغا من العلم ما فيه كفاية؛ ومضى كل منهم في الحياة يسلك السبيل الذي رآه لنفسه، فلم يعلم حسان من أمرهما شيئا بعد، إلا أن الضيعة التي كانت لهما تراثا من أبيهما قد آلت إلى مالك جديد، ولكن ما خلف لهما أبوهما من مال لم ينفد بعد وما زال يتحدى البذخ والإسراف وحياة الترف والرفاهية ...! ولكن أين هما الآن ...؟ أليس من واجبه أن يسأل عنهما وقد بلغ ما بلغ؟ وهل تراهما يعرفان من أمره ما تسامع به الناس جميعا: أنه «نائب محترم» له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة ...؟ ... ودق الجرس، واقتربت خطوات من الباب، ودخل الخادم ينبئه بقدوم زائر ...
والتقى في الغرفة الفاخرة الرياش رجلان لم يلتقيا منذ بضع عشرة سنة؛ وجلس «النائب المحترم» يحيي ضيفه مبتسما والكلمات تتزاحم على شفتيه؛ وجلس «الضيف» بإزائه يفتل أصابعه فتلا وهو صامت لا يكاد يتحدث إلا كلمات هامسة في نبرة تنبئ عن حياء وعزة!
وفرغ حسان من تحيته، وهم «إبراهيم» أن يتكلم فخذلته كبرياؤه، وصمت؛ ونظر إليه حسان نظرة الرجل الذي جرب الحياة وعرف الناس، ففهم ما أقدمه، ولكنه سكت ... لقد سره أن يكون مرجوا، وأن يكون راجيه هو ابن سيده القديم؛ وتذكر قصة الحمارين والتلاميذ الثلاثة، فراح يعبث بشاربه يحاول أن يخفي ابتسامة تتراقص على شفتيه، وقال لنفسه: وماذا علي لو أعنته على أمره فأردفته على حماري، ولكن ... ولكن في الشوط الأخير ...! وراح يفكر ويسأل نفسه: ليت شعري فيم قدم ...؟ إن في هيئته وبزته أمارات تنبئ عن شيء من غنى النفس، أتراه جاء يستشفع به في أمر؟ ماذا؟ ليته يستطيع أن يعرف! إنه ليريد إرادة خالصة أن يعينه ... في الشوط الأخير ... ولكن، فيم يريد أن يستشفع به؟ أتراه شيئا مما يمتد إليه نفوذه ويبلغه بجاهه؟ يا ليت ...! فإنه لحريص على ألا يظهر لسيده القديم بمظهر العاجز القليل الحول!
ومضت فترة، وحاول «إبراهيم» أن يقول فتأبى عليه القول وخذلته كبرياؤه، وعاد يفتل أصابعه فتلا، وعم الصمت!
وغاظ حسانا ألا يتكلم صاحبه، وتمنى لو استطاع أن ينفذ إلى صدره ليعرف سره، ولكنه لم يعرف؛ وعاد واحد يحيي وواحد يجيب؛ ثم نهض إبراهيم يتهيأ للانصراف، وتبادلا نظرتين على تفاهم ومودة، وافترقا كما يفترق اثنان على ميعاد إلى لقاء قريب؛ ولكنه ميعاد لم تنطق به شفتان ...!
كان حسان على يقين بأن صاحبه سيعود؛ لأن له شأنا معه لم يحدثه به بعد؛ وكان إبراهيم على نية أن يعود؛ لأن ما أجاءه إلى صاحبه لم يفرغ منه بعد؛ وهكذا تواعدا في صمت!
كان لإبراهيم ولد واحد يدخره للزمان، وقد تقلبت به الحياة من تقلباتها حتى صار مسئولا في كل يوم أن يفكر في غده. ونال ولده «إجازة الجامعة» فأهمه أمره بعد تخرجه أكثر مما كان يهمه وهو تلميذ بين يدي معلميه؛ إن عليه أن يفكر في غده ومعاشه، فإن تكاليف الحياة اليوم غير ما كانت منذ بضع عشرة سنة؛ لقد كان يومئذ في يده غده!
وراح إبراهيم يطرق أبواب الدواوين يطلب عملا لولده؛ فإذا الأبواب موصدة، وإذا على كل باب مكتوب: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟»
ومضى يلتمس الشفعاء من ذوي الحسب الرفيع والنسب العالي، فإذا مكتوب على كل باب: «لكل زمان دولة ورجال!»
وسأل: «لمن الحكم اليوم؟» فإذا ضحكة ساخرة تتجاوب بها جدران أربعة ولها صريف كصريف الدينار، وارتد إليه الصدى بعيدا من بعيد فتذكر من غفلة ...
وتذكر صديقه حسانا وماضيه معه، يوم كانا جنبا إلى جنب في المدرسة، وكتفا إلى كتف في الطريق، ويدا إلى يد على المائدة، ولكل ثوب من ثيابهما تاريخ في الجدة وتاريخ في البلى ...!
وذهب إليه ... ... وعاد يزوره بعد أيام، وأفضى إليه بسره ...
وغامت في وجه حسان غائمة؛ إنه لم يكن يقدر أن صديقه القديم قد جاءه لمثل ذاك؛ لقد كان حسبه أن يستشفع به في تعيين خفير، أو إبدال عمدة بعمدة، أو رخصة في مناوبات الري؛ فإن ذلك شيء يطيقه ولا يكلفه رهقا، ولا عليه أن يرجو مأمور الضبط، أو وكيل المديرية، أو مهندس الري. أما هذه المشكلة المالية التي تقتضيه كلام الوزير، أو توصية اللجنة المالية، أو تهديد الوزارة كلها بسؤال أو استجواب؛ فذلك شيء لا طاقة له به؛ لأنه لم يبلغ من الجاه هذا المبلغ بعد!
وعز على «النائب المحترم» أن يعتذر؛ فطول لصاحبه في الأمل وطاوله ... وهل يهون عليه أن ينزل عن جاهه في وجه سيده القديم فيعتذر إليه من عجز؟ يا للهوان!
وراح يحاول سعيا يعرف آخرته من أوله، وواعد صاحبه موعدة ... وتكررت مواعيده، وتكررت زيارة إبراهيم ...!
وألف الناس أن يروا إبراهيم بن منصور بك رائحا مع حسان في المساء، وغاديا عليه في الصباح، وألف حسان أن يراه في ركابه مصبحا إلى المحكمة، وممسيا إلى دار النيابة، وكل زيارة تجد له أملا وتقطع مللا؛ واقترنت في خيال سكان الحي وفي مرأى عيونهم صورتان لا تكاد تفترق واحدة منهما عن واحدة: رجلان وجه أحدهما إلى الأرض وأنف الآخر إلى السماء، ولا يكادان يتقاربان في الطريق إلا ظلا يطأ ظلا!
وغبرت أيام وأسابيع، وعرف البواب والبستاني ووكيل المكتب وحاجب المجلس إبراهيم بن منصور بك، وتعود حسان رنته على جرس الدار والمكتب في الصباح وفي المساء في مواعيد راتبة لا تكاد تختلف؛ فإنه ليعرف متى يقدم إبراهيم هنا ومتى يقدم هناك؛ وكانت بشاشة وجه حسان تذهب عنه السأم والملالة وتجدد له الأمل!
ولكن حسانا لم يكن مستريحا إلى ذلك وإن اصطنع الرضا والارتياح؛ فقد كان يئوده ويثقل عليه أن يتبع إبراهيم خطاه في كل غدوة وروحة ليذكره بعجزه وضعف حيلته وقصور جاهه، ولقد كان إبراهيم أكثر وقته صامتا ولكنه صمت ناطق؛ فما يزوره ويعاوده إلا لأمر واحد يذكره إياه بوجهه حين يعجز بيانه، وما يسأله حين يسأله إلا على خجل واستحياء وفي صوته رنة المعتذر، على حين لا يتلقى صاحبه سؤاله إلا كالزجر والتأنيب والعتب القاسي ...! وماذا يملك «النائب المحترم» إلا أن يحتمل على مذلة أو يصرح بعجزه وقلة حيلته ...؟ وأحلاهما مر!
وود حسان أن ينظر مرة فلا يرى وجه إبراهيم بإزائه يؤنبه بنظرته ويعيره بعجزه!
ومضى شهران منذ خطا إبراهيم أول خطاه إلى «النائب المحترم» يستعينه على أمره، ولم يظفر بشيء إلا وعودا تترادف ومواعيد لا تختلف؛ وضاقت نفسه، وعز عليه أن يبتذل نفسه على هذا الوجه؛ وقالت له نفسه: «ما أنت وذاك؟ أتراه يواعدك إلا ليراك الناس في ركابه فيزهى ويستطيل وتذل أنت وتخزى ...! وإنك لسيده ومولاه وإن شالت كفة في الميزان ورجحت كفة!»
ودمعت عين إبراهيم واحتبس خطاه منذ اليوم! ... وظل «النائب المحترم» في فراشه إلى الضحى؛ إذ لم يدخل إليه الخادم في الصباح ينبئه بمقدم إبراهيم ... كعادته منذ شهرين!
وقطع الطريق من المكتب إلى المجلس ماشيا وحده لا يتبعه أحد ...
وخرج من المجلس في المساء لا ينتظره منتظر ...
وأحس لأول مرة منذ شهرين أنه ليس «النائب المحترم» الذي كان أمس وقبل أمس له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة، ولكنه رجل من الناس، بل رجل دون الناس؛ لأنه حسان التلميذ الفقير الذي أردفه يوما إبراهيم بن منصور بك على ركوبته في آخر الطريق!
وهل عاش ما عاش «نائبا محترما» إلا في أوهام الجاه الذي كان يزخرفه لنفسه وإبراهيم يتبعه ظلا يطأ ظلا على الطريق؟ فما هو اليوم وقد فقد الظل الذي كان يسند جاهه على أعين الناس؟
وهل زاد شيئا على ما كان يوم كان، إذا كان مجده وجاهه في حاجة إلى ما يسندهما من ظل الجاه الذي يمنحه إياه إبراهيم؟ هل زاد شيئا على التلميذ الفقير الذي أردفه ابن سيده يوما على ركوبته في طريق القرية؟ ... وافتقد النائب المحترم جاهه، فأرسل يدعو إبراهيم إلى لقائه وكان يتمنى قطيعته؛ ولكن إبراهيم حين وجد كبرياءه نسي حاجته؛ فظلت دعوة بلا جواب!
عابر سبيل
قالت له نفسه الكريمة: «سر يا رفيقي على هداك حتى تبلغ، لست من هؤلاء الناس، ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل ...!»
قبل أن يسفر الصبح من ليلة العيد، استهل الصبي صارخا لأول ما يرى الدنيا، وقالت القابلة: «يا بشرى هذا غلام!» فانبسطت وجوه، وابتسمت شفاه، ودب المرح في جنبات الدار!
وضمته أمه إلى صدرها النابض فقبلته وقالت: «ستكون سعيدا يا بني، إن الحياة لتبسم في وجهك، هذا يوم العيد أشرق صبحه ...!»
وعاد «الشيخ» من المسجد يدب على عصاه ، في لسانه تكبير وتسبيح، وفي قلبه صلاة قائمة ودعاء خاشع. واستقبلته ابنته بالبشرى: «إنه صبي يا أبت! أتريد أن ترى أخي؟» وسبقته إلى حجرة الوالدة!
وأدنى الشيخ من جبين الصبي فما يختلج بالشكر، فقبله والدمع يترقرق بين أهدابه، والكلمات تحتبس في لسانه؛ وأطال النظر في وجه الوليد فقال: «لقد أبطأت طويلا يا بني حتى أدركني الهرم، ولكني بك اليوم سعيد! لئن كنت موشكا أن أمضي إلى الدار الأخرى إنني لحي بك في دنياي جيلا جديدا، فعش واسعد يا ولدي وابتسم للحياة!»
ورفع الشيخ رأسه إلى السماء وقال: «اللهم هذا دعائي لهذا، وأنت أرحم الراحمين!»
مضى الطفل يعدو وراء الأيام تجاذبه أثواب الطفولة، فإذا هو غلام يلهو في فناء الدار مع لدات من الصبيان.
وقال له صبي: «ما هذا معك يا رفيقي؟» فانبسط وجه الغلام، وقاسم الصبي حلواه ومليماته! وعرف الأطفال أن صاحبهم جواد، فأقبلوا عليه واجتمعوا على وده. وهمس أحدهم فيمن يليه: «إن معه لكثيرا من ذاك!» فتعود الأطفال أن يسرقوه!
ومضى الصبي إلى أبيه يبكي: «ولدي! ما يبكيك؟» - «أبكي المليمات يا أبي!» - «غدا أعطيك غيرها يا بني، إن عند الله كثيرا من المليمات للأولاد الصالحين!»
ونظر الغلام إلى شيء في أيدي صحابته فاشتهته نفسه، أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى ما في أيدي الناس، وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال: أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي!
ورأى الأطفال شهوته في عينيه، فاستخفوا منه يلتهمون ما في أيديهم!
وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه وقد رجع من مدرسته: «إن هؤلاء يا بني أهلك هنا بإزاء أهلك هناك، فأحسن فيهم رعاية الود، وكن بينهم أخا في إخوانه!»
وقال له زميله في المدرسة ذات يوم: «هل تعينني على كتابة درسي؟» فلما أعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!
وسمع المعلم ذات مرة همسا بين تلميذين، وكان جاره يطلب منه قلما، وغضب المعلم وصاح: «من يتحدث؟» ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعة صامتا وجاره يبتسم فرحا بالنجاة من كف غليظة! وفي الطريق شاغب التلاميذ في أحد الأيام شيخا أعمى يدب على عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء، فلم تنل عصا الرجل أحدا غيره! لقد آلمته الضربة ولكنه تقدم ليهدي الرجل الطريق!
وأيفع الغلام، واستدناه أبوه إليه وهو مطوي في الفراش على نفسه من وهن الشيخوخة، ولبث الشيخ طويلا يصوب النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم: «ليتك يا بني ملء عيني كما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت تريني المرآة منذ عشرات وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني في مرآتك بعد عشرات وعشرات صورة أبيك! ستكون أميرا يا ولدي، سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ ولدت، فأحب الناس، وهب نفسك للجماعة! كن رجلا قويا يا بني، كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد الحياة ما لا تعطيك، السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب العطاء!»
وتكرر هذا من أبيه أياما، كأنه يريد ألا يموت إلا وقد وضع نفسه في ابنه!
ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار. يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسجى والنائحات تنوح! وأخفى الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جلدا، فليحفظ وصاة أبيه.
ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأى بينهم رجلا كالذي فقده، فعلم أنه فقده إلى الأبد، وتصور الدار الخلاء إلا من أمه وأخواته. يا للفاجعة! يجب أن يكون رجل الدار، لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبيا. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة: «يا أبي!» وغلبه الدمع فاستعصم وعاد يقول: «ستنام هادئا يا أبي، فإنني أنت هنا!»
وعاد إلى الدار مطرق الرأس، ليضع يد «الرجل الصغير» في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته: أجاءوا يعزون «الرجل الصغير» أم جاءوا يحصون ما خلف الميت وأنفسهم تسيل طمعا؟
وقالت له أمه: «ما بي خوف الوحدة يا بني وأنت لي، فقم على الدار والدرس، إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالما كريما. كن للناس ما كان أبوك: وجها طلقا، ونفسا سمحة، ويدا معطية، وقلبا يفيض بالحب!»
وخيل إلى الغلام أنه الرجل، وطمأنه إلى الناس أن أباه أوصاه بالناس، فلم يرد لأحد طلبة، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هم نفسه، مؤمنا بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دينه للإنسانية، مستيقنا أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!
وقال له جاره يوما: «إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضل من المال إلى حين؟» وأعانه ما قدر على إعانته، فإذا جاره لا يلقاه من بعدها إلا حاد عن الطريق، وإن في «الرجل الصغير» لقليلا من سوء الظن، وإن فيه لكثيرا من الحياء!
وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا استحياء من عسرته وضيق يده؟ وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة ...؟
وسأله صديق مرة: «هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقة على أن أدفعه إلى معلم بالمال، وما بي طاقة على أن أهمله من التعليم!»
واهتزت نفس الفتى؛ لأنه - فيما بدا له من صاحبه - قادر على أن ينفع الناس مثل أبيه. وشدا الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!
وقال رجلنا لنفسه: «يا للأب المكدود! لقد حزبته مشغلة العيال عن ذكري، ليته يستعينني على بعض أمره!»
ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مهين ...؟
وقال له واحد من قرابته ينصحه: «هلا ادخرت فضل اليوم للغد؟ إن المال عصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطية الأمل البعيد!»
وابتسم «الفيلسوف الصغير» وهو يقول: «المال؟ ما أحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد، إن البطن لشبر في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوب بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يؤويه إلا بيت في مساحة مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي غنيا أو فقيرا ، بطني هو بطني، وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما امتد من قدمي إلى رأسي حين أنام ...!
أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن يقول مقالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك الغني مما يملك إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذا قصري؟! أفلا يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معا فيقول مثله: هذه ضياعي وتلك قصوري؟ بلى يا صاحبي؛ إن الغنى لوهم من أوهام الناس، وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام راضي النفس!»
وافترقا وكلاهما يرثي لصاحبه!
وقالوا له: «هلا التمست لك زوجة تأوي إليها فتجمع ما تفرق من أمرك؟ لعلك أن تجد عندها راحة النفس وهدوء القلب!» قال: «حتى ألقاها، فأعرفها، فيدلني عليها قلبي! ما أريدها غنية، فما لي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فما لي وللجميلة تتوزعها قلوب الناس وعيونهم، ويتوزعني منها الشك والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول: كان أبي ورحم الله جدي! فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني!»
وخيل إليه أنه وجدها بعد أن أعياه المطاف، فوهب لها قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه، ونظرت الفتاة في مرآتها ثم لوت عنه معجبة مزهوة! أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصعر الخد، وجفوة الدلال قد أيقن أن المرأة لا تستوثق من حب صاحبها إلا غلبت، ولا تستمكن من زمامه إلا ركبت ...؟
يا للمسكين ...! لقد كان بريئا طاهرا كالطفل، وادعا مستكينا كالحمل، يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثل الأعلى من هؤلاء الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى من أناسي خياله؟ وأين هذا الوجود من عالم قلبه؟
لقد منحهم حبه، فهل لقي عندهم إلا الغدر؟ وأصفاهم وده، فهل رأى إلا الأثرة؟ ومحضهم إخلاصه، فهل عرف إلا الخديعة والمكر؟ وألان لهم جانبه، فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد ...؟
وأيقن «الرجل الصغير» أنه لم يكن في هذا العالم غير طفل كبير! وعرف أخيرا أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من الحقيقة، وأين المثل العليا التي جد ينشدها منذ كان صبيا فلم يجدها إلا في نفسه ...!
وراودته نفسه أن يكون بعض هؤلاء الناس، لعله يلقى بعض أسباب السعادة؛ فرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه: «ستكون أميرا يا بني، فأحب الناس، وهب نفسك للجماعة؛ إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!»
وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينة إلى قلبه، فقال: «نعم إنني لأمير؛ لأنني فوق الناس؛ لأنني أعطي ولا أستجدي، وإنني لسعيد؛ لأنني أملك الرضا، ولأنني أملك أن أجعل الحياة جميلة!»
وتلفت يمنة ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرورات الحياة، ثم مضى على وجهه يمد عينيه إلى الهدف البعيد، مستنيرا بالأمل، مستعينا بالرضا، مستيقنا أنه سيجد المثل الأعلى هناك، عند الغاية من هذا الطريق!
وقالت له نفسه: «سر يا رفيقي على هداك حتى تبلغ، لست من هؤلاء الناس، ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل ...!»
في عيد الربيع
منذ عام لم تكن «نضار» في مثل حالها اليوم ... شتان بين ما كانت وما صارت!
ها هي ذي تخرج اليوم من محبسها الذي اعتزلت فيه الناس أشهرا لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
لم يكن ثمة ما يربطها بالناس بعدما مات أبوها وهجرها خطيبها، فما شأنها وشأن الناس وماذا ترجو منهم؟ وماذا يرجون؟
لقد عرفت من طباع الناس وهي معتزلة بعيدة أكثر مما كانت تعرف وهي تخالطهم وتعيش بينهم، وكذلك لا تتكشف حقائق الأشياء إلا لمن ينظر إليها من بعيد!
منذ عام مات أبوها، وما كان لها في الحياة غير أبيها وغير خطيبها «رشيد»، وكانت تعيش من بيت أبيها في نعمة سابغة وظل وارف، ولم يكن لأبيها - منذ ماتت زوجته - غاية يسعى لها غير إسعاد ابنته، فقصر عليه عواطف قلبه ونوازع وجدانه وعاش لها، لا يرى لنفسه حقا في متاع من متاع الرجال ما دامت ابنته سعيدة!
وكان لأبيها وظيفة ذات أبهة ومظهر، وكان لها جمال يفتن ويسحر؛ فتهافت الشبان على التماس رضاها والحظوة عندها، ولكن فتى واحدا هو الذي استطاع أن يحملها على الإذعان والرضا، وعرفها رشيد وعرفته، وعرفه أبوها، وتواعدا على ميعاد تنتقل فيه نضار من بيت أبيها إلى بيت رشيد! ... وعاشت حينا سعيدة بأحلامها، لا يشغلها هم من هم الحياة، واستيقظت فجأة من أحلامها حين وجدت أباها مسجى في فراشه والطبيب بجانب سريره ناكس الرأس أسوان، ورأت في عيون الرجال من عواد أبيها دموعا تترقرق، فصرخت في لهفة: «أبي ...!» وتلاشى الصدى ولم تسمع جواب أبيها ... ودنا منها خطيبها يواسيها وفي صوته نبرة حزن، ولمعت دمعة بين أهدابه فأطبق جفنيه ولوى وجهه ...
وخرج أبوها من الدار إلى غير معاد، وخرج خطيبها يشيع الجنازة فلم يعد، ولبثت الفتاة وحدها تنتظر ...
وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد ... وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائدا من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادما لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها ...
بلى، لقد عرف رشيد من شئون صاحبته ما لم يكن يعرف ... فاتخذ طريقا غير الطريق التي كان يسلكها كل يوم، وماذا يحمله على الزواج من فتاة ليس لها جاه من أهل ولا غنى من مال، وهو لو شاء لوجد عند غيرها الجاه والمال والسعادة ...؟ هكذا قالت له نفسه، فمضى وخلفها ...!
لقد كان أبوها هو كل ما تملك من غنى وجاه، وقد مات أبوها، فماذا بقي؟
ومضى شهر، وراحت نضار تقبض «المعاش» الشهري الذي فرضته لها الحكومة بعد موت أبيها ... وعادت وفي يدها بضعة جنيهات ... ذلك كل ثروتها وكل العوض من أبيها الذي مات!
وفي اليوم التالي كانت عربة نقل كبيرة تحمل متاعها من البيت الذي عاشت فيه هي وأبوها ما عاشت ... إلى غرفة مفردة على سطح بيت كبير من بيوت الحي، وكانت الخادمة تحمل صرة ثيابها ذاهبة ...
وتغيرت منذ اليوم عيشة نضار، وانقادت صاغرة لما فرضت عليها الحياة!
ولزمت غرفتها على السطح لا تفارقها إلا لحاجة، واعتزلت الناس لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
ومضى عام ... وها هي ذي اليوم تفارق محبسها لغير حاجة، تلتمس جديدا في حياتها المملولة الجافة التي تحياها منذ مات أبوها ...
اليوم عيد الربيع ... وقد خرج الناس من بيوتهم جماعات مبكرين إلى شاطئ النيل، وإلى حدائق الجزيرة ورياض الجيزة والقناطر الخيرية، يتملون جمال الحياة ويتمتعون بما أحل الله وما حرم من طيبات وخبائث ...!
وذكرت نضار ما كان من ماضيها ... من ذا يراها في مجلسها ذاك على المقعد الخشبي في شارع «مسبيرو» وعليها ذلك الثوب الأسود الحائل، وفي عينيها تلك النظرة الساهمة، وفي وجنتيها هذا الشحوب ... من ذا يراها في مجلسها ذلك فيعرفها ويذكر ما كانت ...؟
لقد آثرت ذلك المكان القصي الذي لا يطرقه أحد ممن تعرف من سكان الحي؛ لتكون بنجوة من عيون الفضوليين. أفكانت المسكينة تحسب أن أحدا من أهل الحي يعرفها حين يراها أو يذكرها ...؟ ولكن فيها بقية من حسن الظن بالناس!
ومرت بها مواكب الأطفال في ثيابهم وزينتهم، يحملون في أيديهم طاقات الزهر، وينفح من أعطافهم عطر الربيع وريحانه، وتتابعت أسراب الفتيات في غلائلهن الموشاة وأزيائهن الفاتنة يتمايلن ضاحكات عابثات عبث الصبا والدلال، ومضت طائفة من الفتيان في آثارهن يغنون ويتطارحون أناشيد الهوى والشباب والأمل المنشود. وكان على الشاطئ فتيان يقرعان كأسا بكأس، وعلى المقعد القريب فتى وفتاة يتناجيان في همس، ومرت سيارة تتهادى وفيها اثنان ينشئان قصة حب ... ونضار جالسة على مقعدها وحدها، تسمع وترى وتذكر صورا من ماضيها، وذكرت فتاها الذي كان، وذكرت أباها ... في مثل هذا اليوم ... منذ عام ... وكانت وكان ... وعادت إلى ماضيها، واستغرقت في حلم طويل ...
ومر بها فتى، وتبادلا نظرتين، وأطرقت نضار من حياء وعادت إلى ذكريات ماضيها، وخطا الفتى إليها خطوة، وكان على شفتيه ابتسامة ... وفي عينيه نظرة تعبر عن معنى ... وقال لها: «أنت وحدك وأنا وحدي ...!»
وتضرمت وجنتاها حياء وغضبا، وسكتت، وعاد الفتى يتم حديثه ... ونظرت إليه ثانية وهمت أن تتكلم، ثم أمسكت ... فليقل ما يقول ثم يمضي لشأنه، ليس ينبغي لمثلها أن ترد على مثله ...! وخطا الفتى خطوة أخرى فجلس على طرف المقعد، فجفلت الفتاة ونهضت وفي عينيها غضب وسخرية ...!
واستيأس الفتى فمضى لشأنه، وعادت الفتاة لشأنها ... وتعاقبت على عينيها صور ... وترادفت مواكب الفتيان والفتيات، وتجاوبت أناشيد الهوى والشباب، ورن الصدى في أذنيها، وذكرت فتاها ... وحنت إليه، واصطرعت في نفسها عاطفتان، فرضيت ثم سخطت، وترقرقت في عينيها عبرة ... ... واتخذت نضار طريقها إلى مأواها وفي نفسها ألم، وإن ضحكات المرح والمسرة لتتجاوب حواليها، ومضت تحدث نفسها وتستمع إليها. وفجأة برز لعينيها منظر ... هذا رشيد وفتاة معه، يا ويلتا! إنه هو، وتلك صديقتها «سعدية»؛ وما لرشيد وسعدية ...؟ وأين ومتى اجتمعا ...؟ أتراه حين هجرها أبدل بها صديقتها ...؟ ولكن سعدية مسماة منذ سنوات على ابن عمها ... أتراها هجرت خطيبها هي أيضا بعد أن مات أبوه ...؟!
وخنقتها عبرة، ودار رأسها وكادت تسقط فاستندت إلى الحائط، وتوارى الفتى وفتاته في زحمة الناس، وثابت نضار إلى نفسها فاستأنفت السير، وكان فتيان وفتيات يزحمون الطريق مثنى مثنى، وكأن كل اثنين من نجواهما في خلوة ... ومضت تشق طريقها وفي نفسها عواطف تصطرع وتثور، وهتف هاتف في أعماقها: أكل أولئك ... وأنت وحدك ...؟
وهمت أن تعود من حيث أتت فتجلس ساعة على المقعد الذي كانت تجلس عليه، في شارع مسبيرو، على شاطئ النيل ... حيث قال لها فتى منذ قليل: «أنت وحدك ... وأنا وحدي ...!» فما لها طاقة بعد على مثل هذه الوحدة الذليلة ... واليوم عيد الربيع ...!
وصرت أسنان الفتاة، فقمعت خواطرها واستأنفت السير، وأخذت تسائل نفسها: أكذلك الحياة؟ ليتني لم أكن أعلم ...!
وراحت تصعد السلم درجة درجة وهي تعد، وكان البواب جالسا يهمس في أذن ضيفه، ورنت ضحكة البواب وصاحبه في أذنيها، فوقفت واحمر وجهها من الغضب، أتراه يحدث صاحبه عنها؟ فماذا يقول ...؟ أم تراه يحسبها فتاة كبعض من رأت اليوم؟ ومن أين له أن يعرف حقيقتها ...؟
وما ظن الناس بفتاة عزباء، تعيش وحدها في غرفة على السطح، وليس لباب السطح بواب، تخرج حين تخرج وحدها وتعود حين تعود، لا يعرف أحد أين ذهبت ولا من أين جاءت! ... وتماسكت من ضعف، واستأنفت الصعود ... وبلغت غرفتها فارتمت على سريرها باكية!
وأخذتها غفوة واستيقظت أحلامها. ولما صحت من غفوتها بعد ساعة كانت نظرتها إلى الحياة غير ما كانت ... وماذا يجديها أن تحرص على التزام الجادة والناس هم الناس وكل فتاة عندهم ككل فتاة؟ ... وجلست نضار إلى المرآة تتزين؛ المرآة التي لم تجلس إليها منذ عام مجلس فتاة إلى مرآتها! ونفضت الغبار عن حقيبتها وراحت تبحث فيها عن شيء من تراث الماضي ... وخلعت ثوب الحداد الذي لم تغيره منذ لبسته!
وسمعت طرقا على الباب ... وفتحت ... فابتدرها البواب يؤذنها أن فتى بالباب يسأل عنها، وابتسم ... وشحب لونها، وقالت في صوت يرتعش: ما اسمه؟ وماذا يريد ...؟
ولكن البواب لم يكن يعرف اسمه ولا ماذا يريد، فما كان يعنيه إلا أن يؤذنها أن زائرا يسأل عنها، ثم هبط مسرعا ... وأطلت الفتاة وراءه لترى، ولكنها لم تر ...! ... لقد غشيتها الدموع وحضرتها الذكرى فما تستطيع أن تسمع أو ترى أو ... تفكر!
منذ عام لم يهتف هاتف باسمها ولم يزرها زائر ... فمن يكون هذا الطارق ...؟
وعاد إليها البواب برسالة في يده قبل أن تجد نضار جواب سؤالها، وتناولت منه الرسالة بيد ترتجف، وراحت تقرؤها وهي في طريقها إلى غرفتها ... وسقطت دمعتان على القرطاس في يدها، وكانت تبتسم ... ولم تفطن إلا بعد حين أن البواب لا يزال منها على مقربة؛ ولأول مرة منذ سكنت هذه الغرفة المفردة، شعرت أن من الواجب عليها أن تمنح البواب شيئا ... ففتحت حقيبتها الصغيرة ومدت يدها إليه بقروش ...!
وأغلقت بابها وراحت تعيد قراءة الرسالة، ثم رفعتها إلى شفتيها فقبلتها قبلة، وهمست: نعم، أحبك لأنك أنت ...
وحتى في خلوتها لم تنس أنها امرأة، فعادت تقول: نعم ... لأنك أنت الذي يحبني حين لم يذكرني أحد!
ثم طوت الرسالة وأخفتها في صدرها ...
كان «سامي » يعرفها من زمان، وكانت تعرفه، ورآها ذات ليلة تحدثه في منامه ويحدثها، فطمع ... وكان مجمعا أمره على خطبتها حين جاءه النبأ بأنها سميت على رشيد، فطوى جوانحه على آلامه وسكت ...
وضربت بينهما الأيام فصعدت بها إلى غرفة في السطح، ورمت به النوى من بلد إلى بلد إلى بلاد، ثم عاد ليعرف من أمرها ما عرف ... فكتب إليها ... ... وتم أمرهما على ما أرادا وأظلهما سقف واحد، وابتسمت لها الأيام بعد عبوس!
ومضى عام ثان، وجاء عيد الربيع، وقال لها: أين تريدين يا عزيزتي أن تمضي يوم العيد؟
وتغشتها الذكرى فأطرقت وفي قلبها عواطف تصطرع، ثم رفعت رأسها وقالت وهي تبتسم: أتريد يا سامي ...؟ إنني أفضل أن نجلس على مقعد خشبي على شاطئ النيل، في شارع مسبيرو، ثم نعود ...!
وضحك سامي دهشا وهو يقول: على مقعد خشبي؟ في شارع مسبيرو؟ يا لها فكرة! بربك لماذا؟ وأي خاطر ألهمك؟
قالت وفي عينيها بريق وفي صوتها حنان وفي أعطافها نشوة: تسألني لماذا؟ لأنك كنت معي هناك ... حيث التقينا أول مرة في خطرة فكر وخفقة قلب، وكنت وحدي هناك ولكني كنت معك ...!
همام
عندما يهم قطار الصعيد أن يجتاز النيل من شاطئ إلى شاطئ عند قناطر نجع حمادي في طريقه إلى القاهرة، يرى الراكب عن يمينه قرية صغيرة يطيف بها الجبل الشرقي من ثلاث جهات، ثم ينفرج عن سكة متعرجة تصل بين القرية والنهر، وتقوم على جوانبها باسقات النخيل حدا فاصلا بينها وبين الصحراء الشاسعة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر.
في هذه القرية كان يعيش «همام» يكدح لنفسه ولزوجه عاملا في مزرعة العمدة، كما يعيش عشرات مثله، قانعين من العيش بالكفاف، راضين من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها!
ولكن هماما لم يكن من القناعة بحيث يرضى من الحياة بما يرضى به سواد الفلاحين الذين يعملون معه أجراء في مزرعة العمدة؛ فقد كانت له نفس طلعة تتسامى بها أماني جسام، وكان من المنزلة عند سيده بحيث يتهيأ له أن يكون أقرب إليه؛ فرأى ألوانا من العيش وفنونا من اللذة خيلت له ما خيلت من الأوهام وأنشأت في نفسه ما أنشأت من المنى.
ولم يكن قد مضى على زواجه ب «مسعدة» غير بضعة أشهر حين جلس إليها ذات مساء يحدثها وتستمع إليه: «مسعدة ...! وسيكون لنا دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، وسأكون وتكونين ...!»
واستمعت إليه زوجته فرحانة، وحلقت بجناحيه في وادي المنى، وراحت تعد له عدة الرحيل إلى القاهرة حيث يهاجر ليلتمس الغنى ثم يعود ...
وخرج همام من القرية يحمل على كتفه خرجا فيه زاده ومتاعه حتى بلغ شاطئ النهر، وخلف زوجته في القرية تنتظر، وكان ثمة رمث من جرار مشدودة عنقا إلى عنق يتأهب لرحلة نهرية إلى القاهرة، فوضع همام متاعه عن كاهله واتخذه مركبا إلى حيث ينشد أمانيه.
وأرسى المركب بعد أيام على ساحل «الفسطاط»، فنزل همام يضرب في شوارع القاهرة ومتاعه على ظهره، حتى انتهى إلى مستقره في غرفة من دار في حي «بولاق»، يساكنه فيها بضعة نفر قدموا لمثل غايته من بلاد متفرقة في الصعيد الأعلى، فألفت بينهم الغربة وجمعتهم وحدة الأمل!
ومضى يلتمس الرزق بساعد قوي وعزم صليب، فلم يلبث أن انضم إلى جماعة من الفعلة في أعمال البناء، يمضي شطر نهاره يحمل مكتل الآجر صاعدا هابطا على خشب مشدود من أسفل البناء إلى أعلاه ومن أعلاه إلى أسفله، ينضح العرق جبينه، ولسانه لا يفتر عن الغناء، يصف أشجان الغريب النازح إلى أمل يرجوه ومن خلفه حبيب ينتظر؛ فإذا حميت الظهيرة فاء إلى ظل جدار قائم يتناول طعامه: لقمة من خبز قديد وملح جريش وماء؛ ثم يستأنف عمله ...
لم يكن العمل الذي يزاوله همام مما ألف حين كان يعيش بين أهله في القرية المطمئنة في أحضان الجبل الشرقي، ولكنه كان أحب إليه؛ لأنه كان أكثر جدوى عليه. واستطاع أن يجمع من فضل أجرته بعد شهرين جنيها وبعض جنيه، أرسل منه ما أرسل إلى زوجته وادخر الباقي لنفسه، ودأب على ذلك من بعد؛ فكان لزوجته من فضل أجرته كل شهر نصيب معلوم، ولصندوق الادخار ما بقي ...
ولما جاءه النبأ أن زوجته قد وضعت، أرسل إليها بهدية وعلاوة تشتري بها كسوة للصبي، ولكنه لم يغفل أن يضع في صندوق الادخار ما يضع في كل شهر، رجاء أن يكون له يوما دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، هناك، حيث تنتظر زوجته وأم ولده ...!
لقد مضى عام منذ هجر همام القرية يسعى إلى الغنى، وإنه هنا وزوجته هناك، وولده؛ أما هو فكان له شأن يشغله عن الفكر والحنين، وأما هي فكان لها أمل تأمله في يوم قريب يربط على قلبها ويزيل وحشتها. وأما الصبي ... وماذا يدري الصبي بعد؟
وتتابعت الأعوام وشب الغلام، لم ير أباه ولم يره أبوه. وماذا يهم الفتى من ذلك وليس بدعا هناك، وفي كل قرية من قرى الصعيد عشرات من مثل همام نزحوا عن أهليهم وولدانهم يلتمسون مثل ما يسعى له، لا يتواعدون على لقاء ولا يتراءون منذ الشباب إلا على هرم ...؟
ومضت بضع سنين قبل أن يفكر همام في زيارة زوجته وولده، وراحت «مسعدة» تستقبله على شط النيل حيث ترسى به السفينة؛ وقال الفتى لأمه وهو يشير إلى رجال على ظهر المركب: أيهم هو؟ ونظر همام إلى غلمان وقوف على الشاطئ وقال لنفسه: أيهم هو ...؟ ثم التقيا فتعارفا وحن الدم إلى الدم ... ... وعاد الزوجان إلى حديثهما، وعاد همام يقول: «بلى، وسيكون لنا دار ونخيل ... وسأكون ...»
وهمت المرأة أن تقول شيئا ثم أمسكت، ورفعت إليه عينين فيهما ظمأ وشوق، وفيهما إعجاب وزهو، وأنستها حلاوة اللقاء مرارة الفراق، وعادت الأماني تخيل لها، وحلقت بجناحيه في واديه، وقالت لنفسها هامسة: «سيكون لنا دار ونخيل ومزرعة، وسيكون وأكون ...» ثم فاءت تنظر إليه وفي عينيها لهفة وحنين ...!
وقضى همام في القرية أياما، ثم استأنف رحلته يسعى إلى أمله، وخلفها وخلف ولدين: أما أحدهما فغلام لم يكد يرى أباه حتى فقده، وأما الثاني فإنه لم يره قط؛ لأنه لا يزال بينه وبين الحياة تسعة أشهر ...!
لم يكن عبثا ما تحمل همام من مشقة البعد سنين وما لقي من جهد الحياة؛ فلم يكد يمضي عليه في القاهرة بضع عشرة سنة حتى تغير من حال إلى حال؛ فلم يعد العامل الذي يمضي بياض نهاره حاملا مكتل الآجر، صاعدا هابطا على خشب مشدود بين السماء والأرض، ليس له إلا وجبة واحدة من طعام؛ إنه اليوم رجل غير من كان؛ لقد عاد ذلك الثوب الخلق جديدا على جسد ناعم، وعاد البطن الخاوي شبعان ريان من طيب الطعام والشراب، وعادت الغرفة المشتركة بين بضعة نفر يفترشون الأرض، شقة ذات أثاث ورياش؛ وعاد الأجير الفقير سيدا يجري النفقة على أجرائه وخوله؛ وتلاقحت دراهمه فنتجت وأصبح ذا مال!
وتصرمت بضع سنين لم تره زوجته ولم يرها. أما هي فعاشت هناك صابرة قانعة بما يرسل إليها كل شهر من نفقة، تمسي وتصبح حالمة بالدار والنخيل والمزرعة، ويوم تكون ويكون؛ وأما هو فتبدلت حياته بما تبدل من حاله، وأجدت له النعماء أماني فأنسته أماني، وعاش لنفسه ولماله!
وشب الغلام واخضر شاربه، ونهدت البنت وكعب ثدياها، وشابت الأم وتخدد لحمها، ولكن شباب قلبها لم يزل يجد لها أملا بعد أمل، وينشئ لها في كل مشرق شمس ومغربها حنينا ولهفة؛ والرجل هناك يبيع ويشتري ويتعوض ويراوح بين جنبيه من فراش إلى فراش ...!
وفجأة، أظلمت القاهرة بعد نور، وهمدت بعد نشاط، وسكنت بعد حركة، ونعب النذير يوقظ النائم ويحرك الساكن ويبدد الشمل المجتمع ليجمع الشمل المتفرق؛ وكسدت سوق همام بعد نفاق، فأزمع الغريب الإياب!
لم يعد همام في هذه المرة إلى القرية على رمث في البحر تدفعه الريح، ولم يكن على كتفه خرج فيه زاده ومتاعه، ولم تكن رحلته طويلة موحشة تقاس بالليالي والأيام، ولكنه عاد في القطار السريع يصحبه أنيس غير مملول، في يمناه حقيبة سفره، وفي يسراه زوجته الحضرية المصقولة!
وكانت «مسعدة» وولداها ينتظرونه لميعاده ... ونظرت امرأة إلى امرأة ثم أغضتا، أما واحدة فصبرت وشكرت؛ لقد سلخت شبابها متزوجة ولا زوج لها، فإنها لنعمة أن تظفر اليوم بنصف زوج ...! وأما الأخرى فحنقت وسخطت؛ لقد كان لها زوج يؤثرها ففقدت نصفه!
وأغلق الباب على رجل وامرأتين؛ وعرفت كل واحدة منهما مكانها من صاحبتها ومن صاحبها؛ أما مسعدة فراحت تتحبب إلى صاحبتها وتتعبد لها لتنال رضاها ورضا همام، وأما صاحبتها فراحت تشمخ وتتأمر لتتسلط وتحظى؛ واقتسمت المرأتان الدار، فواحدة لها الفراش وواحدة للمهنة والعمل؛ وقالت المرآة لكل منهما: لقد عرفت مكانك ...! ولكن أحظاهما كانت أسخط لحظها وأشقى؛ لأنها لم تألف الحياة في القرية ولم ترض الشركة في رجل ...
وأصبح همام ذات صباح فإذا امرأة واحدة في الدار وقد فرت الأخرى ... وثارت نخوة الرجل وغضب لعرضه غضبة أهله، فأزمع أمرا؛ وغضب الولد لأبيه وأقسم ليغسلن العار بالدم ... ... وعاد «حمدان» بن همام من القاهرة بعد أيام وسكينه يقطر دما ... واستقبله أبوه مزهوا فخورا فضمه إليه وقبل جبينه، واستقبلته أمه وأخته ...
وجلست الأسرة الأربعة مجلسهم لأول مرة، مجلسا لم يجمعهم مثله منذ كانوا على صفاء ومودة، وقالت مسعدة: «همام ...!»
وكان في عينيها عتاب وفيهما رضا واطمئنان.
وقال همام: «مسعدة! معذرة إليك؛ إنك أنت وحدك ... وكانت غلطة ...!»
وابتسمت مسعدة وعاد الشباب يتألق في جبينها بشرا ومسرة، وانبعثت الأماني تحدثها حديثها، وحلقت بجناحين في وادي المنى، وقالت: «... ويكون لنا دار ونخيل، ومزرعة!»
وافترت شفتاه وقال: «ذلك أولى لك يا مسعدة وأنت له أهل؛ وهذا المال ...»
ودق الباب فانقطع الحديث، ودخل الداخل ثم خرج، وخرج وراءه همام وزوجته وابنته يشيعون حمدان وفي يديه الحديد مسوقا إلى السجن!
لم يشتر همام دارا ولا نخيلا، ولا مزرعة على الساحل؛ ولم يبق له من ماله باق، وأنفق ذخيرة العمر ليفتدي ولده من زلة ساعة فلم يجد عليه!
وعاد همام كما بدأ: أجيرا يكدح لنفسه ولزوجته وابنته، عاملا في مزرعة العمدة، قانعا من العيش بالكفاف، راضيا من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها ...
وخرج حمدان من السجن بعد عشر سنين لتستقبله أمه الأيم العجوز وحيدة، فتصحبه إلى قبر أبيه يترحم عليه؛ أبوه الذي لم يره إلا مرة ثم مضى كل منهما لوجهه، كما يلتقي اثنان اتفاقا في طريق ثم يتدابران فلا لقاء!
عمامة الأفندي!
طال بنا انتظار صاحبنا «الشيخ محمد المأذون» في هذه الليلة حتى دقت العاشرة ولم يجئ، وكنا نرقب مقدمه علينا كل مساء رقبة المشتاق، فما تخلف عن مجلسنا ليلة منذ عرفناه، وإنه ليقدم فيحل البشر ويستخفنا السرور، سرور النفس بدعابته، وسرور المعدة بحلواه! فقلما كان يوافينا إلا ومعه هدية من عرس نتوزعها بيننا. ولم يكن لمقدمه ميعاد، فإنه لعلى تجوال دائم، يتأبط دفتره من دار إلى دار، رسول سلام وحب، أو رسول فرقة وقطيعة! وتوزعتنا الظنون من غيبته، وحسبناه قد أصاب الليلة حظا من عرس، فبخل علينا بحلواه ومرق إلى الدار، فما كنا لنتركه حين يقدم علينا إلا فارغ الجيب من الحلوى وغير الحلوى مما يجمع من الأعراس، وما كان ليتركنا إلا فارغة رءوسنا من الضحك من دعابته وهزله!
وجاء بعد انتظار فحيا وجلس، ولكنه كان عابسا مبهورا لا يكاد يطرف جفنه، فحسبنا وراء مظهره العابس نكتة مبتكرة، فقد كان في الفكاهات صاحب تدبير وسياسة، وما عهدناه يألم من الحياة لشيء، وإن الهموم لتصطرع عن يمينه وشماله!
وهممنا به نتناوله بما أعددنا له من عبث، فإذا كلماتنا تتساقط حواليه ولا تصيبه، وظل على حاله من العبوس والهم!
وسرت إلينا نفسه، وتقمصنا مما به روح الكآبة والوحشة، فأمسكنا عن الحديث لحظات ...
ورفع الشيخ رأسه بعد هنيهة، وتحركت شفتاه بكلام، فتقصفنا عليه نستمع لما يقول ...
وسأل: «ماذا لديكم من أنباء صاحبنا عاطف؟»
قلنا: «لقد انقطع عن نادينا من زمان بعيد، فلعله على شغل ببعض شأنه، وإن لذات الحياة لحبيبة إليه، فما نراه قد منعه لقاءنا إلا لهو آثره علينا، أو لذة دعته فلباها، أو لعله يتفيأ من دنياه الجديدة ظلال الحب والسعادة!»
قال: «بل دنياه الجديدة، ولكن ليس فيها من السعادة والحب ولا ظلهما، ولكن مكابدة الأحزان، وألم الوحدة، ومشقة الحرمان، وظلام اليأس ...!»
ورنت كلمات الشيخ في آذاننا رنينا مفزعا أحسست صداه في قلبي، فقد توثقت صلتي بعاطف صبيا وغلاما وشابا، فأي أمل كان يجيش في تلك النفس؟ وأي روح كان يحمل ذلك الجسد؟ وأي حيوية كانت تصطرع من ذلك الشباب؟
فما كربني كرب ونظرته إلا عادت الحياة في عيني باسمة نضرة، وما أهمني هم فلقيته إلا تعلمت منه فلسفة الرضا بما هو كائن، وكان من بهائه وإشراق طلعته، إلى كمال خلقه وعفة لسانه، كأنه فتنة مستحيية ...
وأخذ الشيخ يقص علينا من نبئه ونحن نستمع إليه في صمت: كان عاطف على ما انبسط له من النعمة، وما اتفق له من حسن الرأي؛ لا يؤمل في الزواج إلا من فتاة ذات مال. ولقد كان عجيبا عندنا أن يكون على هذا الرأي وهو من نعرف من شباب الجيل الجديد، ولكنا لم نكن لنستطيع على ما نسرف في مهاجمة رأيه أن نصرفه عن بعض ما كان يعتقد. وراح في سبيل غايته يبحث عن الزوجة الغنية على أبواب المجلس الحسبي ...!
ووجدها بعد جهد ناصب؛ ولم تكن جميلة، ولكنها كانت بعيدة من الدمامة، وقد مات أبواها وخلفا قصرا وضيعة، وأخا يقوم عليها وعلى القصر والضيعة جميعا!
واستوثق الفتى من غنى صاحبته، فأقبل يخطبها إلى أخيها وقد اجتمعت له الأسباب، وأدى المهر: مهر الضيعة والقصر والعروس ...! وعقد له على فتاته!
لقد غبطناه يومئذ على النعمة، نعمة الثروة والجاه والزواج، وما عنانا كم دفع وكم أنفق، فقد كنا على ثقة بأن حبته مردودة إليه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ورحنا نتهم أنفسنا بفساد النظر وأفن الرأي وسوء التدبير!
ومضى أسبوع، وشهر، وأشهر، وأوشك العام أن ينتصف، وعاطف متهلل الوجه ضاحك السن، يحلم بالغد القريب يوم تزف زوجته إليه، وتزف ثروتها إلى خزانته ... وسعى إلى صهره يستعجله، فإذا هو يبسط له المدى ويفسح الأجل ويستشفع بالتقاليد ...
وعاد الفتى إلى نفسه يطمئنها ويترضاها. وما عليه من ذاك؟ أليست ستزف إليه لا محالة في يوم قريب أو بعيد؟ بلى، وإنها لزوجته، ما في ذلك شك ولا إنكار، فلا عليه أن ينتظر!
ودار دولاب الزمن فأتم دورة، وراح الفتى يستنجز صهره الوعد ، فقابله وهو يبتسم ويبسط له وجهه ومجلسه، وأخذ يتنقل به في الحديث من فن إلى فن حتى زالت وحشته وأنست روحه ولم يظفر بجواب ...!
وتوالت الأيام بعضها في أعقاب بعض، وتصرمت الأشهر شهرا في أذيال شهر، وما يزال صاحبنا يراوح النفس في فراش الوحدة، وعروسه هناك من دونها الأبواب والحارس العتيد!
ومل الفتى مقامه، وضاقت نفسه، وأراد أن يسمع الرأي الصريح، وعاد الأخ يعتذر ويجدد الميعاد وهو يربت على كتف الزوج الغاضب!
وخرج عاطف من الدار والقدر تغلي في رأسه؛ لقد ابتدأ يعرف ما هنالك ولكنه لم يجرؤ على التصريح ... أيكون ذلك من قوانين البر؟ أهو كذلك ناموس الرحمة والعدل؟ أيعضل الأخ أخته فيحرمها الاستمتاع بالحياة من أجل المال، من أجل مالها الذي يخشى أن يفلت من يده إلى الزوج يتصرف فيه كيف يشاء؟!
وهم عاطف أن يعود فيصرح في وجهه بما عرف من خبيئته، ولكنه كظم الغيظ على ألم وضيق.
وتلاقيا بعد أيام، وكانت القدر ما تزال تغلي، فعلا الزبد يترشش مصرحا عن غيظ وغضب ... وافترق الرجلان على عداوة ...!
ودق عاطف باب المحكمة لعلها أن تحمل زوجته على«الطاعة».
أين هي المسكينة؟ وعلى طاعة هي أم على عصيان؟ إنه لم يرها إلا مرسومة في ورقة، أتراها في الأحياء؟ أم هي من وراء جدران سجنها جثة بلا روح، وجسد بلا عاطفة، وطاعة بلا إرادة، ومعدة بلا وجدان ...؟
وا رحمتا للمسكينة! أتشعر أنها في الأحياء؟ لعل في الموتى من هم أقرب منها إلى الحياة؛ لأنهم يعيشون من عواطف أهليهم في ذكرى حية وحب مشبوب ...!
وفي المحكمة رأى الفتى عروسه لأول ما يراها وقد جاءت تسعى عن أمر أخيها تطالب زوجها بالغذاء والكساء والمأوى!
وكأنما ضاق بها أخوها طاعمة كاسية من مالها عنده، فدفعها إلى القضاء تلتمس القوت والكساء!
وكان بينهما ما يكون دائما بين كل زوجين يعرفان المحكمة الشرعية: في كل حين بينهما «جلسة» للقضاء، وليس لواحد منهما هم إلا فيما يفتن من فنون ليكيد لصاحبه ويغيظه، والغالب منهما من ينال من صاحبه من غير عائدة عليه، والمال يتسرب من بين أيديهما للمحامي والكاتب ورسوم الدعاوى وأجرة الشهود ...
وامتدت بينهما الفتنة، ولجت بهما الخصومة، وطالت إجراءات التقاضي، ومضى عام ثالث، وأخذ الزوج المسكين يبيع ما يملك قطعة قطعة؛ وفاء لنفقة الزوجة ونفقة القضاء، وأوشك الرجل الذي راح يطلب الغنى من تحت أقدام امرأة أن تصفر يداه ...
واصطلحا في النهاية على الطلاق ...!
قال المأذون: «وقلت للفتاة: أراغبة أنت في الطلاق على ما اشترط لك من مال؟»
وزاغت نظرة الضحية العذراء من يمين إلى شمال، ثم استقرت نظرتها على أخيها الجالس هنالك ثم نكست رأسها ولم تجب ...
قلت: إنك إنما تفصلين في أمر مستقبلك، فليس هنا لأحد عليك سلطان!
فحدقت في طويلا كأنما تلتمس المعونة، ثم حولت النظر ثانية إلى أخيها فإذا في عينيه كلام طويل، فأطرقت وهي تقول في همس: نعم، أريد الطلاق ...!
ونظر إليها الفتى دهشا حيران، ثم نطق بالكلمة الفاصلة ...
وتحولت إلى صاحبي فأنكرته، وأقسم لكأنني لم أكن أعرفه من قبل، وما كان في بالي أنه صديقي عاطف؛ لقد انطفأ بريق عينيه كأنما ينظر من خلف زجاجة، وغاض ماء الشباب من وجهه فما تراه إلا كوردة الخريف، وقد أطلق لحيته، كأنما تركت لطمات القدر في عارضيه سواد حظه، وكانت في يده سبحة، أحسبه كان يحصي عليها همومه وأحزان نفسه، وما رأيت شيئا أبيض فيما رأيت، إلا عمامته ...!
قلنا: «عمامته ...؟ عهدنا به يلبس الطربوش ...!»
قال: نعم عمامته ... فاستأنوا ... قلت له: ما فعلت بك الأيام يا عاطف؟
قال: ذاك ما ترى! ولقد أقسمت أن أفرغ لله، فلم تعد لي في الزواج إربة، ولن تراني إلا بين المسجد والبيت حتى ألقى الله. حسبي، حسبي ما لقيت من دنياي ...!
وانكب على سبحته يتمتم والحبات تتساقط في الخيط واحدة فوق واحدة، ورأسه يهتز كأنه يقول: كذلك تتعاقب الأيام كما تتساقط الحبات حبة وراء حبة، حتى تكون النهاية!
وما وجدت عندي جوابا إلا أن أتحول عنه وأدعه حيث جلس يداعب سبحته؛ أتراه كان يذكر ربه، أم يحصي على الدنيا ذنوبها ...؟!
لقد راح المسكين يبحث عن الزوجة الغنية ليضاعف بمالها ماله، فآب فقيرا من مالها ومن ماله، وذهب يسعى لأن يضاعف بالزواج مسرات الشباب، فرده الزواج شيخا في الثلاثين!
أمنية تحققت!
كانت «سمية» جالسة إلى مكتبها في الغرفة العليا من إدارة «شركة المبيعات الوطنية» وبين يديها الآلة الكاتبة تنقر عليها بأصابعها وهي تترنح وتهتز في مرح ونشوة، كأنما توقع لحنا موسيقيا تناجي به أمنية عزيزة من أمنيات الشباب، وكان على شفتيها ابتسامة راضية، كأنها من الأمل الذي تأمله على ميعاد. وإنها لجالسة مجلسها ذلك منذ ساعات لم ترفع رأسها ولم تبرح مقعدها، ولكن في وجنتيها حمرة ناضرة كأنما هي عائدة لساعتها من مجلس قصف وشراب. وكان في السماء برق ورعد ومطر، ولكن في قلبها هدوء الثقة وروح الاطمئنان!
وفرغت «سمية» من نقش الرسالة التي بين يديها، فكفت أصابعها عن الحركة وراحت تخلص الورقة من بين أضراس الآلة الكاتبة وهي تغني في صوت هامس أغنية من أغنيات الهوى والشباب. ثم نظرت في ساعتها وهمت أن تنهض لميعاد الغداء. ودق الجرس، وهبت سمية واقفة لترد تحية المدير الشاب، ثم استأذنت ومضت معجلة إلى مثواها حيث تتوقع أن يكون أخوها في انتظارها لموعده على الغداء ...
لقد كانت سمية سعيدة بحياتها على ما فيها من نصب وجهد ورزق محدود؛ إذ كان لها نفس راضية قنوع، لا تتطلع إلى ما لا تملك، ولا تعرف من أيامها غير اليوم الذي تعيش فيه، فلا هي تذكر ماضيا تأسى عليه، ولا غدا تتشوف إليه؛ فوجدت سعادة الرضا حين فقدت سعادة المال ورفاهة الغنى، وتعوضت من شيء بشيء.
على أنها لم تكن كذلك في ماضيها، فقد كان أبوها رجلا من رجال المال، وكان له جاه وصيت وشفاعة، ولكنها لم تدركه حين أدركته إلا شيخا حطمة قد لبسه الدهر فأخلقه وذهب بماله وجاهه، فلم يترك لها حين آن أوانه إلا حطاما من الذكريات، وخلفها وأخاها وحيدين فقيرين تتدافعهما أمواج الحياة من شاطئ إلى شاطئ، غثاء من غثاء البحر أو زبدا طافيا على الماء!
على أن من كرم الله على سمية أنها لم تفتح عينيها للحياة إلا على نور ذبالة توشك أن تنطفئ، وباكرها اليتم والفقر قبل أن تذوق سعادة الاجتماع ورفاهة الغنى، فلم تشعر بمرارة لما صارت إليه؛ إذ كانت لم تشعر قبل بما كانت فيه، وتناولت الحياة كما عرضت لها ...
وراحت سمية وأخوها يسعيان لرزقهما في رضا واطمئنان كما يسعى كل ساع إلى رزقه في غير تبرم ولا سخط؛ ووجد أخوها عملا في مصرف من مصارف المال يضمن له الكفاف؛ واستخدمتها شركة المبيعات الوطنية كاتبة حاسبة لقاء أجر معلوم يقوم بحاجتها ويفضل؛ وزادها شعورها بأنها كاسبة مأجورة - وإنها لفتاة - زهوا وسعادة واعتدادا بنفسها. ولم يكن هينا أن تجد فتاة مثل سمية عملا في مثل الشركة التي استخدمتها، لولا أنها ابنة أبيها، وأنه كان وكانت له على الشركة أياد تقتضيها الوفاء، فاستخدمت سمية عطفا عليها وعرفانا بأيادي أبيها، ولكنها لم تكن تدري، وكان أكثر من تعرف عطفا عليها وتشجيعا لها المدير الشاب «شفيق». ... إن غدا يوم العيد، هذه أسراب الفتيات يزحمن الطريق ويملأن السيارات العامة ومراكب الترام، رائحات غاديات من متجر إلى متجر ينتقين ثياب العيد، وهذه أفواج الشباب تخطر في مرح ونشوة على أرصفة الشوارع وعلى أبواب المتاجر يتأهبون لاستقبال العيد، وهؤلاء آباء وأمهات، وصبيان وبنات، في عيونهم نظرات البشر، وعلى قسماتهم آيات المسرة، وسمية بين هؤلاء وأولئك لا تلقي بالا إلى أحد منهم، مسرعة عجلى إلى مثواها؛ حيث تتوقع أن تلقى أخاها في انتظارها لموعده على الغداء ...
لقد أوشك شهر أن ينتهي ولم تجلس معه مرة واحدة إلى المائدة، فإن مواقيتهما لمختلفة، وإن عملها في المكتب ليقتضيها أن ترابط هناك كل ليلة إلى المساء، فلا تلقى أخاها إلا رائحا إلى فراشه، أو غاديا على عمله في الصباح وهو عجلان. ولكن غدا يوم العيد، فما أحرى أن تفرغ له قليلا ويفرغ لها، وأن تعد له المائدة التي يشتهيها، وأن يجلس إليها ساعة وتجلس إليه!
وهيأت سمية المائدة وجلست تنتظر، وأذنها إلى كل خفقة نعل على سلم الدار تترقب مطلعه ... وسرحت عينيها على المائدة بين ألوان الطعام فاستشعرت الرضا؛ إنها لمائدة حافلة، ولكن أين أخوها؟ إنه لم يحضر بعد وقد مضى على موعده ساعة ... وسمعت طرقا على الباب فخفت إليه، وكان الطارق ساعي المصرف يؤذنها أن أخاها لن يحضر لموعده؛ لأن عمله هناك يشغله اليوم عن مشاركتها في مائدة العيد!
وأغلقت سمية الباب ودخلت الدار وحيدة، ووقفت في الشرفة برهة تنظر عيدها وعيد الناس، وكان في الشرفات المقابلة رجال ونساء، وبنون وبنات؛ وهتفت: «يا أخي! الله لك ولي ...!»
نعم لم تكن سمية من بنات جيلها، ولكن في أعراقها من دم أمها حواء؛ وألقى الشيطان في قلبها أمنية ...
وعز عليها أن يكون غدا عيد الناس جميعا ولا عيد لها، فتمنت، وكانت متواضعة في أمنيتها ... فلم تبلغ بها المنى أن تكون مثل فلانة وفلانة ممن رأت وعرفت، ولم تتسام إلى الأمل بأن تكون من ذوات الغنى والجاه والدلال، ولم تنس الحقيقة التي تعيش فيها فتأمل أن تتغير حياتها من حال إلى حال، ولكنها تمنت ... تمنت على الله الذي يهب للناس سعادة العمر أن يذيقها حلاوة هذه السعادة حينا ثم ... ثم يسلبها ...
ورفعت يديها إلى الله داعية: «يا رب! لا أريدها إلا مذاقا أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك ...!»
وأومضت في حواشي الأفق بارقة من نور، ثم خبت ...
وسمعت سمية طرقا على الباب، فأسرعت إليه لترى ... «شفيق ...!»
وظل المدير الشاب واقفا بالباب وعلى شفتيه ابتسامة مستحيية وفي عينيه رجاء، وهمس: «أتأذنين يا سمية؟»
وأذنت له، فدخل ودخل وراءه ساعيه يحمل إلى سمية هدية العيد؛ وقال الفتى وقد اطمأن به المجلس: «لعل زيارتي لا تسوءك يا آنسة! لقد طالما راودتني نفسي فنهنهتها، ثم ها أنا ذا ...»
وتضرجت وجنتاها من حياء ثم أطرقت، واستطرد شفيق: «ولعلي إذ اخترت هذه الليلة لأزورك هنا أن يكون رجائي مقبولا لديك ... وألا يضيق صدرك بي؛ إن علي لك حقا، ولعلني أستطيع أن أتحدث إليك في يوم قريب.»
وخفق قلب سمية وترادفت أنفاسها؛ وأحس الفتى خجلها فلم يثقل، وتهيأ للنهوض، ورضيت أن يزورها في غد ...
وتمتمت الفتاة شاكرة وفي عينيها دموع التأثر!
وخلت سمية إلى نفسها تفكر ... وخرج الفتى يفكر ...
أما هي فتبدلت نفسها منذ الساعة واستغرقها حلم عميق، فراحت تعرض ماضيها وحاضرها وما تأمل أن يكون في غد، وذاقت أول ما ذاقت من طعم السعادة معنى القلق ...!
وأما هو فقد خفت نفسه وحلقت في سماواتها، وأحس شعور الراحة والرضا والاطمئنان، فمضى يدبر أمره أطيب ما يكون نفسا بما فعل وبما يريد أن يفعل من أجل الفتاة التي رفعه أبوها وهيأ له سبيل الغنى والجاه والرياسة؛ فإنه ليحس بأن له عليه دينا ثقيلا يقتضيه الوفاء لابنته!
واسترسلت الفتاة في أحلامها ...!
لقد شعرت منذ زارها شفيق وأهدى إليها هديته شعورا لم يكن لها به عهد، فراحت تذكر ماضيها منذ رأته أول مرة، ثم كيف كانت تراه بعد؛ ومضت تعلل وتفسر وتستنبط وتستشف حجاب الغد: هذه الابتسامة التي كان يلقاها بها كل صباح، وتلك النظرة التي يودعها بها كل مساء، وذلك الإحسان في المعاملة، وهذا السخاء في المكافأة، وهذه الهدية في ليلة العيد ... إنها آيات بينات، وإنها لتزعم لنفسها أنها تعرف دلائلها، بل إنها لتحاول الليلة أن تقنع نفسها أن ذلك الشعور الذي تشعره منذ قريب ليس جديدا عليها، ولكنه سر يستعلن وضمير يتكشف وحب كان يستره الحياء فانكشف عنه حجابه. بلى، إنها لتحبه حبا صريحا رسخت جذوره على الأيام في أعماق قلبها إلى إبانه! هكذا قالت لنفسها قبل أن تأوي إلى فراشها لتتم في منامها الحلم اللذيذ الذي بدأته في يقظتها ...! ... وقال شفيق لنفسه وهو في طريقه إلى داره: حسن! لقد فعلت اليوم شيئا ولكن علي أشياء، إن روح أبيها لتتمثل لي لتذكرني بواجبي، فأكون لها كما كان أبوها لي؛ زهرة غضة لفحتها أعاصير الحياة الهوج فاقتلعتها من منبتها إلى حيث ألقتها دامية على الشوك، فلم تشك حظها ولم تتسخط. ما أحراها وأحر بي أن أذيقها طعم السعادة التي حرمتها، وأن يكون لها عيد مثل عيد الناس ...! هؤلاء الفتيات اللاتي يغدون ويرحن مع أزواجهن أو آبائهن يحملن هدايا العيد ويرفلن في مطارف الشباب وأبراد السعادة، لسن أولى من سمية بما يتمتعن به ...! دين طالما هممت بالوفاء به، ثم نهنهت نفسي مخافة أن أجرح كبرياءها إن مددت إليها بالإحسان يدا، ولكنه دين الحي للميت، لا حل منه ولا براءة، وقد استأذنتها فأذنت ...
وراح شفيق لموعده صبيحة يوم العيد، وخرجا معا يرودان مغاني الشباب ومجالي الأنس والمسرة ذراعا إلى ذراع، وفي كل قلب حديثه ونجواه ...
عاطفتان من أسمى ما غرس الله في قلوب البشر. أما قلب فيخفق بالحب وسعادة الأمل؛ وأما قلب فتغمره سعادة الرضا وتملؤه عاطفة أسمى وأنبل. وإن في الحياة ما هو أسمى من الحب وأنبل ...
وشعر كلاهما أن الله يظلهما بجناحي رحمته حين تحققت لكل منهما أمنيته ...
ومضيا وإنها لسعيدة وإنه لسعيد، لا يكاد يشغلهما عن أمرهما شيء، والشباب يجدد لسمية كل يوم مناها ويوقظ أحلامها وهي نائمة، ثم استيقظت فجأة ...
وغدا عليها شفيق ذات صباح ينبئها ... ... كانت سمية قد ذاقت في أيام قلائل من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع أن يتهيأ لها في عمر مديد؛ ونالت - بمعونة صديقها - حظوة ورياسة في العمل الذي تتولاه لا تتسنى لمثلها بعد سنين من المثابرة والدأب، وزاد أجرها زيادة مرموقة تهيئ لمثلها العيش الرغد في أمان وثقة بالمستقبل. ولكن الغد السعيد الذي كان يتخايل لها في أحلامها ويقظتها، وتتنوره على البعد قريبا قريبا دون مد ذراع؛ ذلك الغد كان يشغلها عن الشعور بما هي فيه؛ فلم تكن من كانت، فتاة تعيش ليومها بلا ماض تأسى عليه ولا أمل تتشوف إليه؛ فقد أجد لها هذا الشعور الطارئ أملا ترقب له الغد، ولكن هذا الغد الذي كانت تتوهم أنها تنظر إليه - حين تنظر - من وراء ستر رقيق، لم يكن إلا صورة في إطار ليس وراءه إلا الحائط الصلب، على حين كانت تظن أنها بالغة إليه بين صبح ومساء؛ ومدت يدها تهتك الستر لترى، فإذا الإطار الذي يمسك الصورة الخادعة يردها إلى حقيقة دنياها فيوقظها من أحلامها ... ... وقال لها شفيق: «أنت مدعوة غدا يا صديقتي إلى حفل زفافي ...!»
وفغرت الفتاة فاها مدهوشة وهتفت: «حفل زفافك!»
إذن ففيم كانت هذه العناية بها ...؟
وعرفت بعد لأي فسكتت، ثم خلت إلى نفسها فأرسلت عينيها أسفا وندامة!
نعم، إنها لم تخسر شيئا، ولكنها فقدت الأمل الذي عاشت له أياما من حياتها كانت كفيلة بأن تنشئها خلقا آخر؛ ولم يخدعها صديقها أو يزور لها الحقيقة، ولكنها هي خدعت نفسها فباءت بالخسران والحسرة!
قلبان كانا يخفقان لمعنيين متباعدين لم يتكاشفا معنى لمعنى، ألقى الشيطان بينهما أمنية فرقت بينهما، على حين كان يرجى بقاء الوداد؛ ما ذنبها؟ وما ذنبه؟ ذلك حكم القدر!
وعادت سمية وحيدة إلى مثواها، كعادتها يوم كانت، ولكنها اليوم فتاة غير من كانت!
لقد نالت كثيرا مما كانت تتمنى، وحظيت من نعماء الحياة بما لم تكن تأمل، ولكن ...
وذكرت موقفها ذات ليلة، يوم رفعت يديها إلى الله داعية: «يا رب! لا أريدها إلا مذاقا أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك ...!»
هكذا كانت دعوتها، فهل كان شيء غير ما أرادت؟
لقد استجاب الله دعاءها، فأذاقها من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع، وزادها على ما أرادت، ولكنها لم تكسب شيئا ...
لقد باعت الغالي بالخسيس، يوم باعت سعادة الرضا بسعادة الأمل ...!
عرس القرية
كانت «راجية» تعلم أنها مفارقة المدينة غدا، ما من ذلك بد؛ لقد حاولت ما حاولت أن تنسأ الأجل إلى الرحيل فلم تظفر بطائل، وافتنت في الاحتجاج لرأيها ما افتنت فلم يستمع لها أحد. وأجمعت الأسرة أمرها على السفر إلى الريف؛ لتكون بمنجاة من ويلات الحرب ... حقا؟ أيكون الريف أبعد من المدينة عن ويلات الحرب؟ هكذا زعم أبوها وأخوها وليس لرأيهما معقب ...
وراشت راجية آخر سهم في كنانتها؛ فاصطنعت العزم والقوة، وتماسكت من ضعف ورخاوة، وقالت: «ولكن، يا أبي، إن للوطن علي حقا يقتضيني الوفاء. ليس من المروءة أن أفر والوطن يدعوني إليه ... ينبغي أن أبقى لأقوم بواجبي في التمريض والإسعاف إذا لم تكن لي طاقة بحمل السلاح للدفاع والمقاومة، ينبغي ...»
وقاطعها أبوها: «نعم، ينبغي، ولكن واجبك هناك، في القرية؛ إن إخوتك وأخواتك هناك في حاجة إلى التمريض والإسعاف أكثر من جرحى الحرب!»
وابتسم ابتسامة عابسة؛ لقد كان يعلم أي فتاة هي في رخاوتها وضعف احتمالها، ولكنه يقاوم حجة بحجة ...
وصمتت الفتاة برهة وهي تنقل النظر بين أبيها وأخيها وأمها، ثم همت أن تتكلم حين ارتفع صوت المذياع يعلن أنباء الحرب في الميدان القريب، ويصف مواقع القتال على الحدود في الصحراء الغربية. ثم سكت المذياع، وتلاشى الصدى في الغرفة المغلقة على أربع أنفس قلقة مضطربة تتنازعها أهواء وعلل وآمال على خشية وحذر ورقبة. وقال الفتى بعد صمت: «لقد بدأت البادئة فما بد من الخاتمة ...!»
وحدقت أمه في وجهه مذعورة، وهتفت: «صلاح، أتعني ...؟»
قال صلاح: «نعم يا أمي؛ إنه فرض علي يجب أن أتهيأ للوفاء به.»
وأطرق أبوه وشفته تختلج، وعم الجميع الصمت ... وشعرت راجية لأول مرة أنها بإزاء أمر خطير يقتضيها أن تفكر في هدوء وروية ... وعادت تنظر إلى أبيها وأخيها وفي عينيها سؤال ليس معها جوابه، وأحست إحساس المفارق يودع أحبابه إلى حيث لا يدري متى يكون اللقاء، ووجدت حاجتها إلى الدمع فأسرعت إلى خلوتها!
وأغفت راجية لحظات واستيقظت ذكرياتها وأمانيها، فتعاقبت عليها الرؤى والأحلام، ثم أصبحت ... ونسيت ما كان من حديث الأمس ومن خبره، فلم تعد تذكر شيئا إلا أنها مفارقة المدينة بعد قليل لأمر لا تكاد تعرف له وجها ولا علة، وأنها لن تذهب إلى السينما بعد اليوم، ولن تلقى أصدقاءها وصديقاتها، ولن تستمتع بما كانت تستمتع به من اللهو حين كانت تخرج كل يوم إلى رياضتها بين حدائق الجيزة والجزيرة ومصر الجديدة، وحضرتها صور عدة، وانثالت عليها ذكريات ... وذكرت ... إن ثيابها الجديدة ما تزال عند الخياطة لم تفرغ منها بعد، وقد كانت حقيقة بأن تفرغ منها منذ أيام لولا أن راجية كانت تؤثر الروية في تفصيل ثيابها ريثما ترى أحدث الأزياء فتقيس عليها. ماذا تفعل اليوم؟ أف للحرب! لولاها لكانت اليوم - على عادتها في كل سنة - جالسة تحت الشمسية الظليلة على شاطئ سيدي بشر، أو رائحة غادية في معرض زينتها بين كليوباترا وخليج ستانلي. ولكن الإسكندرية اليوم منطقة حرام، فمن ذا يخاطر بعمره بين الموت الأحمر من أجل ساعة على الشاطئ العريان؟ ومن ذي تحاول أن تشتري بعمرها كلمة إعجاب من شاب طائش تستهويه بزيها وزينتها؟ ... ثم ذكرت القرية ... ياه! منذ كم لم تذهب راجية إلى القرية؟ القرية التي نمتها ونمت أباها وما تزال تغذوهما بخيرها وبرها الدائم على عنف ما تلقى منهم من العقوق ونكران الجميل!
لقد فارقت راجية القرية منذ سنوات بعيدة، لعلها لا تذكرها، أو لعلها تذكرها وتنكرها لئلا يكون ذلك نميمة على عمرها الذي تحرص على كتمانه ... ولم تذهب راجية بعد ذلك إلى القرية التي فارقتها طفلة، إلا مرة، مرة واحدة صحبت أباها في موسم الحصاد، وكانت يومئذ فتاة في أول صحوة الشباب، فما كادت تهبط القرية حتى لمت متاعها للرحيل، ثم لم تعد، فكيف يريدونها اليوم أن تهيئ نفسها لإقامة طويلة هناك، لا تدري متى تنتهي، وكيف تنتهي؟
وضاق صدر الفتاة، وخيل إليها أن يدا تشد على رقبتها فتمنعها أن تتنفس، وكانت أمها في حجرتها تعد حقائب السفر!
وأخذت الفتاة زينتها وخرجت لأمر من أمرها، ولم تنس أن تنظر في صندوق البريد قبل أن تجتاز الباب! وكانت الظهيرة حامية، والشمس تفرش الشوارع من أشعتها الحمراء، وقد خلت مركبات الترام إلا من الموظفين العائدين إلى بيوتهم يتأبطون صحفا وأضابير من أوراق الحكومة، أو يحملون إلى أهليهم من الفاكهة والحلوى، أو من الفجل والجرجير ...
واتخذت الفتاة مقعدها في الترام، وكان ثمة عينان تلحظانها من مقعد قريب، ولكنها كانت في غفلة بنفسها وبما يصطرع في قلبها من ألم ...
ولما همت الفتاة أن تهبط من الترام عند بيت الخياطة، نظرت، فرأته لم يزل ينظر إليها، فقنعت رأسها وتضرجت وجنتاها حياء، ثم مضت في طريقها لا تكاد تحملها رجلاها ...
وأجدت لها عيناه ذكرى وألما، وأطاف بها هم جديد ...
وحاولت الفتاة أن تمحو صورته من خيالها فما أطاقت، وكأنما تراءى لها في تلك اللحظة على غير ميعاد ليكون آخر ما يصحبها إلى القرية من صور المدينة! ... لم يكن «عابد» فتاها الذي تؤمل، ولكنها كانت فتاته. لقد كانت تعلم من أمره ما يحسبه هو سرا من سره، فإن له عينين لا تستطيعان الكتمان، تعبران عن معنى لا يبوح به لسانه ولا طاقة له به، على أنه لم يستطع بكل ما أطاق من قوة الحب أن يشغلها بأمره، ولا هو حاوله، ولكنها كانت تعرفه، وتحس وقع نظراته، وكان ذلك حسبها وحسبه، فإنها لتكبر نفسها وهي من هي وحيث هي، أن ينتهي أملها عنده، وإنها لترى كل يوم من ترى وتسمع ما تسمع، فإن لها في كل يوم أملا تأمله بالنهار وتحلم به في الليل ... كان ذلك وهي في المدينة المتراحبة التي لا يغيب نهارها حين تغيب الشمس ... أين هي غدا من أمانيها؟ وا أسفا! لكأنما ارتكبت إثما جوزيت عليه بالسجن إلى أجل غير مسمى!
لم تكن راجية تعرف من الفرق بين القرية والمدينة إلا هذه الأضواء الساطعة، وتلك الملاهي الساهرة، ثم صديقاتها اللائي تراهن كل يوم ويرينها، ليس لهن من حديث إلا عن الأزياء والسهرات وأخبار الفتيان والفتيات. وأنشأت لها هذه الحياة التي كانت تحيا أماني وأحلاما تراوحها وتغاديها في يقظتها وفي منامها، وحين جاءتها «الخاطبة» بأول فتى يطلب يدها أيقنت أنها قريبة من الغاية التي تهدف إليها، فراحت تبالغ في الطلب وتشتط في الشرط، وحرصت من يومئذ على أن تعرف ما لا يعرف إلا القليل عن طبقات الموظفين، ودرجات الوظائف، وسلالم الترقية لكل طبقة، ثم مضت تسترسل في أمانيها وحلقت في أفق بعيد، وراحت تتبع عينيها كل منظر، وترعي أذنيها كل نبأ، فاجتمع لها من المعارف بشئون الطبقة العليا من أهل المدينة ما خيل إليها أنها أوشكت أن تبلغ ... ... وعلى حين غفلة انطلقت زمارة الإنذار تدعوها إلى الرحيل ...!
وعادت الأسرة إلى القرية التي هجرتها منذ بضع عشرة سنة تلتمس حياة جديدة بين أنوار المدينة. لقد هجروا القرية يوم هجروها أربعة نفر، وعادوا إليها ثلاثة، وخلفوا رابعهم هنالك مرابطا ينتظر الآونة التي يدعوه فيها الوطن ليبذل شبابه!
واستيقظت راجية على صياح الديكة من وراء جدار، فنهضت من فراشها وفتحت النافذة تستروح روح النشاط والقوة ... ومر الراعي بنافذتها يسوق ماشيته ... فما إن رآها حتى طأطأ رأسه وأوفض في السير، ونظرت في أعقابه ثم ارتدت عن النافذة ...
يا لله! وفي القرية كثير من مثل هذا المسكين؟ عظم معروق في ثوب خلق يوشك أن يحطمه عصف الريح، يقود ماشية تكاد تنشق شبعا وريا، إنه يؤثر ماشيته على نفسه لتعيش فيعيش بها!
ثم تتابعت أفواج الفلاحين سارحين إلى حقولهم يتبعهم ولدانهم، قد أوقرت ظهورهم بما يحملون، ومضى النساء إلى عملهن ...
ووجدت راجية ما يشغلها، فنسيت شيئا بشيء.
ومر يومها الأول وهي ترى وتوازن وتحكم. ولما جلست في المساء على حافة القناة بين لدات من بنات القرية يسامرنها ويحتفين بها، أحست في نفسها عاطفة جديدة تنمو شيئا فشيئا، ورأت في حديث هؤلاء القرويات روحا ومعنى غير ما كانت تجد من حديث صواحبها في المدينة ...
وأشرق القمر عليها وعليهن وذاب في ماء القناة شعاعه، ونظرت إلى صواحبها ونظرن إليها فكأنما سكب القمر على قلبها من شعاعه الطهور فغسله مما فيه، وأحست فيضا من الحنان والحب يغمرها فيدنيها إلى رفيقاتها قلبا إلى قلب وروحا إلى روح، وذكرت كلمة أبيها: «نعم يا بنيتي ... ولكن واجبك هناك ... إن إخوتك وأخواتك في القرية أحوج إلى التمريض والإسعاف من جرحى الحرب!»
بلى، وإنها لتشعر الساعة بثقل هذا الواجب على عاتقها أشد ما شعرت بشيء في حياتها منذ كانت. إن عليها لهؤلاء المساكين حق الإرشاد والمعونة بكل ما تملك يدها من مال وما يملك قلبها من الحب.
وتبدلت راجية منذ طرقها هذا الشعور الجديد، فعادت فتاة غير من كانت!
وأحبت القرية أكثر مما كانت تبغضها، حتى لو أن أحدا راودها أن تعود إلى المدينة لتأبت ! وتزينت لها القرية زينة عروس، فكل ما فيها جميل فاتن!
ومضت أيام، وبعث «صلاح» إلى أبيه: «أبي! ... وكل شيء هادئ، فليس ثمة خطر مما توقعت أن يكون ...
وإني لأخشى أن تكون حياة القرية بحيث لا تطيب لكم فيها الإقامة، فإن رأيت ...»
وقرأ الأب رسالة ولده فصبأ، لقد كان يقدر - وهو ربيب القرية منذ كان - أنه يستطيع أن يعود إلى ماضيه فيعيش في الريف عاما أو بعض عام حتى تهدأ العاصفة ويعود السلام والطمأنينة إلى المدينة، ولكن ... ها هو ذا يحس السأم والملالة ولما تمض أيام ...!
واجتمعت الأسرة حول عميدها تفكر وتدبر، وقالت راجية: «أبي ... ولكن المدينة ...»
وقاطعها أبوها: «لا يا بنيتي؛ لقد كنا مغالين في تقدير الأمر، وأظن خيرا لنا أن نعود ...»
ولكن راجية لم تعد إلى المدينة، ولم يعد أبوها؛ لأن ضيفا عزيزا هبط عليهم في القرية فتلبثوا لاستقباله ...
لقد أجمع «عابد» رأيه على أمر، فكتب إلى الأسرة يستزيرها في القرية، وكان معه صلاح ...
وتحلق حول المائدة ثلاثة نفر يتشاورون في أمر ذي بال. وقال عابد، وقال صلاح، وقال أبوه ... وتركوا لراجية أن تقول الكلمة الأخيرة؛ وقالتها، وانتهى النبأ إلى الجيران فتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق!
وقال الفتى لفتاته: «والأمر لك يا عزيزتي من بعد، فإن شئت كان العرس في المدينة، فإني لأعرف كيف تريدينه أن يكون، وإني ليسرني أن أرضيك ...»
وابتسمت راجية وقالت: «شكرا يا عزيزي، ولكني حريصة كل الحرص على أن تكون صديقاتي جميعا إلى جانبي، هنا، وأن يشاركننا جميعا في الفرح والمسرة!»
قال عابد: «يسرني ... ولكن ... أترين من الممكن أن يلبين الدعوة ... هنا؟»
قالت: «لا تبعد يا عزيزي! ماذا فهمت ...؟ إن صديقاتي اللاتي أعني ليلبين الدعوة مسرعات ولو كان موعدها غدا!»
قال: «غدا؟»
قالت: «نعم، والليلة إن أردت، إنهن غير بعيد!»
واحتفلت القرية كلها بعرس راجية، لم يتخلف منها أحد!
لم تكن هناك ثريات، ولا أعلام، ولا سرادق منصوب، ولا موسيقى تعزف، ولا مطرب يغني؛ ولكن رجالا أربعة كانوا جلوسا إلى نضد صغير في دوار العمدة ينظرون في توزيع خمسين جنيها على أهل القرية؛ احتفالا بزفاف راجية. أولئك أصدقاؤها وصديقاتها الجدد، لم تنس أحدا منهم ولم يتخلف عن دعوتها منهم أحد!
نامعلوم صفحہ