قلت: وهذا المعنى الأخير هو المقصود هنا، فالمعنى أن هذه مقدمة لهذا الكتاب قدمت قبل المقصود وهو الخوض في مسائل علم الكلام لارتباط له بها وانتفاع بها فيه من حيث أنها تتضمن التثنية على جلالة هذا الفن وعظم محله وكونه رأسا في العلوم وينطوي ذلك على الإشارة إلى موضوعه والغاية فيه، وتتضمن التثنية على ما ينبغي الإهتمام به وإمعان الفكر في طلب المقصود منه والنهي عن التباعد عنه وعن الإلتفاف إلى المثبطين عنه وذكر ما دعاهم إلى ذلك والإرشاد إلى ما فيه من الخطر وإلى طريق النجاة عن الهلكة فيه إن كل علم شرف يشرف معلومه، وذلك لأن العلم تاج تابع للمعلوم في أصل الحصول ويتبعه أيضا في شرفه فيشرف علم الفقه على قدر شرف التمييز بين الحلال والحرام وشرف علم النحو على قدر شرف معرفة التكاب والسنة، وهكذا غيرهما من الفنون، ويعظم نفعه بحسب الحاجة إلى مفهومه أي بقدر الإحتياج إلى ما يحصل به فهمه وحسب مفتوح السين وتسكينها لغة ويعلو قدره على وفق وضاعة ضده الوقف مع الموافقة بين السنين فقال: محلوبته وفق عياله أي لبنها على قدر كفايتهم لا يفصل عنهم، والمعنى أن علو قدر كل علم بحسب وضاعة ضده وهو الجهل بمتعلقه، تقل بقلتها وتكثر بكثرتها، ويعز وجدانه على عكس دناءة فقده أي ويكرم ويشرف من العزة إصانته من وجد الضالة إذا أصبهما بقدر دناءة فقده أي خساسية على العكس، فإذا كان فقده دنيئا أي خسيسا خبيثا لا خير فيه بكثرة كان وجدانه عزيزا كريما بكثرة، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم، المراد علم الكلام إلا أن علم التوحيد من أسمائه وليس المراد قصره على ما يتعلق منه بذات البارري وصفاته فقط، والمعنى فمن أحل ما ذكرناه حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا الفن رأس العلوم في الخير المأثور عنه وهو خير الأعرابي المتقدم ذكره؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، يعني ولا لبس في أنه أشرف كل معلوم، وقد قدمنا أن العلم يشرف شرف المعلوم؛ ولأن به يتميز الكفر من الإيمان، فمن أحاط علما بمعلومة كان مؤمنا بالله، ومن جهل معلومة كان كافرا لمولاه ، فتبين بذلك شدة الإحتياج إلى ماهذا حاله، وبذلك ثبت عظم نفعه، قد حكم بوجوبه وجلالته العقل. وسيأتي ما يدل على العقل على وجوبه، وأما وجه جلالته فما نحن الآن بصدده فحاصل ما دل على جلالته شرف معلومة ووثاقة البرهان عليه وشدة الحاجة إليه وشدة حاجة سائر العلوم الدينية إليه؛ لأنه لا معنى لشيء منها إلا بعد حصوله وما في ضده من الخساسة فقد يستفاد شرف الشيء من خساته ضده.
وقد قيل كل الوجوه القاضية بشرفه مرجعها إلى وجه واحد وهو شدة الحاجة إليه لجلب المنافع ودفع المضار ولا معنى للشرف سوى ذلك إذ لا شرف ضار ولا حاجة إليه وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتأكيد ذلك القول الفضل أراد قول الحكم جل وعز، والفضل مصدر وصف به القول للمبالغة وأشار بذلك إلى نحو قوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} وإنما تكون الشهادة عن يقين. وأهل الأصول هم المعنيون بهذه الآية والمخصوصون بشرفها، ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة، وحو ذلك فكل غافل قد أخذ بتحصيله أي كلف والزم أن تحصله لنفسه بالأنظار الصحيحة المفضية إلى حصوله، وكلف العلم بجملته وتفصيله، أي بجمله هذا الفن وتفصيله، أما الحملة فلا كلام في ذلك؛ لأن العلم بالله وصفاته جملة واجب معين على كل مكلف، وأما التفصيلي فهو إما واجب أو مندوب، والمندوب مما كلفنا به، ويعد تكليفا على خلاف فيه، والأصح عدم وجوب التفصيلي، وإن أصحاب الحمل الذين يعتقدون الحق بطريق صحيح على وجه الجملة ناجون إن شاء الله.
صفحہ 38