مسألة
فإن قيل لك : ما معنى قول الله عز وجل : { على العرش استوى } (¬1) .
فقل : استوى عليه بالحفظ والقدرة كما قال : { قائم على كل نفس بما كسبت } (¬2) وقوله : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } (¬3) ومثل قوله : { ثم استوى إلى السماء/[27] فسواهن سبع سماوات } (¬4) . وقد سأل موسى ربه على وجه الأعذار لأنهم قالوا : لو سألت ربك أن يريك إياه لفعل. فهذا على وجه الأعذار لهم، وهو يعلم أنه لا يراه فصنع [الله] (¬5) به ما اقتص [على ] (¬6) محمد في كتابه.فلما أفاق قال : { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } (¬7) ، فإنك لا ترى في الدنيا ولا في الآخرة [لا] (¬8) على ما ظن الجاهلون (¬9) .
¬__________
(¬1) - سورة طه : 5.
(¬2) - سورة الرعد : 33.
(¬3) - سورة هود : سورة طه : 5.
- سورة الرعد : 33.
- سورة هود : 56.
(¬4) - سورة البقرة : 29.
(¬5) -+ من الشرح، ص369.
(¬6) -+ من الشرح، ص369.
(¬7) - سورة الأعراف : 143.
(¬8) - + من الشرح، ص 369/370.
(¬9) - اعلم أن المشبهة تتعلق في آية الاستواء في ثلاثة معان : ما تأويل الاستواء ؟ وما تأويل (على) ؟ وما تأويل العرش ؟ فأما على في لغة العرب فقد تتصرف على معان كثيرة : يقولون : علا فلان الجبل ، وعلا البيت. فعلا على الاستعلاء والفوق وهو الذي تذهب إليه= =المشبهة في تأويل قوله تعالى : ( على العرش استوى) وتريده . ويقولون : علا فلان على بني فلان ، بمعنى قهرهم . قال الله - عز وجل - (( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا )) (القصص:4) بمعنى غلب أهلها . وقال المشركون يوم أحد : علا هبل (اسم صنم) وقال المسلمون: الله أعلا وأجل . ويقولون : مررت على بني فلان، ليس على أنه وطئهم ومشى عليهم . قال الله - عز وجل - (( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها )) (البقرة:259). يريد أنه مر من جانبها ولم يرد أنه مر من فوق القرية ، قال الشاعر :
مررنا على قيسية عامرية لها بشر صافي الأديم هجان .
وقال آخر :
علوناهم بالسب حتى تركناهم حجارة واد لا تمر ولا تجلو
يعني أفحمناهم بالسب فسكتوا ، وربما جاء ت على معنى أنه جاءه من فوقه.قال الشاعر:
علاه بالعمود أخو بجير فأوهى الرأس منه والجبينا .
وقف تخرج على معنى الإغراء كقوله تعالى (( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل))(المائدة:105) وقد يقول الرجل علي نذر وعلي دين . فإذا كانت على تتصرف بهذه المعاني التي ذكرنا والتي لم نذكر ، فلم حملت المشبهة قول الله - عز وجل - (( على العرش استوى)) على الالتزاق والفوق ، دون ما ذكرنا وعددنا ، فالتأويل في قوله - عز وجل - = =(( على العرش استوى)) أي يعلو العرش بالغلبة والسلطان ، وأن العرش في تدبيره وتقديره لا يمتنع منه على ما أراد - عز وجل - . ويقال : إن فلانا على بني فلان ، يريدون أنه يلي أمرهم ويدبره ، وهو أكثر من أن يستشهد عليه . وأما العرش فان المتكلمين اختلفوا فيه ، فقال منهم قوم : إن ذكر الله للعرش على المثل والبديع لا على أن العرش جسم من الأجسام. وزعموا أنه على مثل قولهم : قد ثل عرش بني فلان ، وشالت نعامتهم ، يريدون بذلك هلاك أمرهم . وهؤلاء من المتكلمين فروا من شيء ليس ينقض عليهم من كلامهم ذلك الذي منه فروا شيئا. وليس في كون الشيء جسما من الأجسام ما يوجب الجلسة عليه ، كما قد يقال : بيت الله لا على معنى أنه سكنه ، ومساجد الله لا على أنه يصلي فيها. وسماؤه وأرضه وبحاره ، لا على أنه سكن شيئا من ذلك ، وكذلك عرشه ، ولو كان جسما من الأجسام فليس في ذلك ما يوجب الجلسة عليه كما قالت المشبهة ، زعموا ألا فرق بين قوله (( ورفع أبويه على العرش ))، وبين قوله (( استوى على العرش )) ويقال للمشبهة : ما معنى قول الله - عز وجل - (( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ))(فصلت:11) كيف تتوهمون الاستواء على الدخان ، إذا كان الاستواء عندكم لا يعقل إلا على الجلسة تعالى الله عن ذلك . ويقال : إن الله استوى على العرش لا على ما يعقل ولا على المعقول ، ومن قال : انه استوى على العرش= = على ما يعقل أو على المعقول فهو كافر مشرك . أما قول صاحب الكتاب عند ذكره قصة موسى ومسألة ربه على وجه الأعذار إلى قومه لأنهم قالوا له : لو سألت ربك أن يريك إياه لفعل ، فهذا على وجه الأعذار لهم وهو يعلم أنه لا يراه ، وصنع الله به ما اقتص على محمد - صلى الله عليه وسلم - (( فلما أفاق ، قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ))(الأعراف:143) بأنك لا ترى لا على ما ظن الجاهلون من أهل التشبيه ، لأنهم حملوا مسألة موسى ربه على رؤية الأبصار فجهلوا صفة ربهم وجعلوا مراد ولي الله ورسوله موسى عليه السلام في الذي سأل. فهم بذلك أجهل الجاهلين .فان قال قائل : فان كان موسى عندكم غير مسيء ولا مجاوز، فمن ماذا تاب ؟ ومن ماذا أخذته الصاعقة ؟ قيل: فان أهل التفسير قالوا: إن ذلك لتقدمه بين يدي الله بالمسألة قبل أن يؤذن له في ذلك . فان زعموا أن الصاعقة والتوبة إنما كانتا من أجل طلبه الرؤية ؟ قيل لهم: فان الصاعقة لا تصيب أحدا إلا على أمر لا يجوز له ولا يحل . وكذلك التوبة لا تكون من صاحبها إلا على أمر غير جائز له. فهذا أجمع داخل عليكم لأنكم جوزتم المسألة للرؤية وزعمتم أن ذلك لموسى جائز سائغ .
صفحہ 87