مسألة
فإن قيل لك : أخبرني عن قول الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } (¬1) .
قال : فما وجه ذلك ؟
قلنا (¬2) : إن الله تبارك وتعالى احتجب عن خلقه بنفس الخلق لا بحجاب ثالث يكون بينه وبين الخلق، كما حجب الأبصار عن درك الأصوات، والمماسة، والطعم والروائح، وكما حجب السمع عن درك الروائح والألوان (¬3) .
¬__________
(¬1) - سورة الشورى : 51.
(¬2) - في المتن : قلت.
(¬3) - وهذا نظير لقوله تعالى(( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)) ( المطففين:15) أي عن رحمته وفضله وجنته، وليس هذا بحجاب ساتر يكون بينه وبين الخلق كما زعم أهل التشبيه ممن يزعم أنه كذا وكذا ، حجابا من نور ، وكذا وكذا حجابا من ظلمة، وكذا وكذا من غمام ، كما يحتجب ملوك الدنيا في قصورهم ، تعالى الله عما= = يقولون . والحجاب في لغة العرب هو المنع ، فكل ممنوع فهو محجوب ، ومن ذلك الحجب في الميراث. ويريد صاحب الكتاب بتفسيره الحجاب وتمثيله ذلك بحجب الحواس بعضهن عما يدرك بعض، أن الله - عز وجل - يدرك الأبصار ، والأبصار ليست تكون تدرك الله - عز وجل - . كما قال (( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )) (الأنعام:103).فلما كان من صفته - عز وجل - ما ذكرنا، وكان من صفات الأبصار ما ذكرنا ووصفناها به ،كان ذلك بمنزلة الحجاب،لأن الأبصار محجوبة عن درك الأصوات ، والأسماع محجوبة عن درك الألوان ، وكل الحواس كذلك . أما قوله - عز وجل - (( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا )) ( الشورى:51) . فقد قيل : إنهم الأنبياء الذين يوحى إليهم . وقوله ( أو من وراء حجاب ) يقال: موسى عليه السلام , لأن الله كلمه بلا واسطة ولا سفير، إلا أن الله كلم موسى وهو عن الرؤية محجوب ، بمعنى أن الله غير موصوف بأن يورى ، ولا يجوز عليه ذلك ، فقال : حجاب كما ترى . وأما قوله - عز وجل - (( أو يرسل رسولا))( الشورى:51) ..قد قيل : انه جبريل عليه السلام أرسله إلى محمد عليه السلام فكلمه عن الله - عز وجل - فسمي كلام الملك ، كلام الله - عز وجل - لأن الكلام من عند الله جاء . فكلام الله لخلقه إنما هو بأحد هذه الوجوه الثلاثة : إما بالوحي منه إلى الأنبياء عليهم السلام أو بالمخاطبة لموسى بغير واسطة، أو برسول= = من الملائكة ، وهو جبريل إلى محمد عليه السلام والى غيره من الرسل - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين . وقد يكون أن يكون إنما خص الله موسى تكليما أن كلامه لموسى عليه السلام لا بوحي منه ولا برسول أرسله إليه إلا بمخاطبة يسمعها موسى فقط . والله أعلم بهذا كله وبمعناه .وقد يكون والله أعلم أن يكون الله - عز وجل - أراد بقوله(( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا )) الآية(الشورى:51) . أنه - عز وجل - ليس من صفته أن يجاهر أحدا من خلقه ويكلمه مجاهرة ، لأنه ليس بجسم ولا صورة عز عن ذلك، ردا على المشركين لما قالوا (( لولا يكلمنا الله )) فرد عليهم فقال (( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا )) الآية(السابقة) . وكذلك قولهم (( أو نرى ربنا)) فرد عليهم - عز وجل - حين جهلوا صفة ربهم ، وهذا كله حجة على أهل التشبيه ، ونقض للذي ادعوا من ذلك .
صفحہ 88