وهكذا يرتفع الإفراني بمطلب المعنى عن المفهوم المتداول بين الشراح، وهو نثر البيت وإعادة ترتيب كلماته ترتيبا (معقولا) يفرغها من جمالها الفني، ويجرهم إلى كثير من الحشو والفضول، فقد جعل "المعنى" تركيبا للجهد البلاغي في علاقته بالحالة النفسية، فنراه هنا يبحث عن الدوافع النفسية الكامنة وراء تغير اتجاه الكلام من "مقام الغيبة" إلى "مقام المشاهدة"، مستعينا بثقافته البلاغية في الالتفات، محاولا الاستغراق في النص ومشاركة ابن سهل في تجربته، فبقدر ما كان هذا الأخير "يستغرق في أوصاف محبوبه" و"يفنى في مشاهدة جماله"، كان الإفراني يستعيد التجربة ويستلذها في عملية نقد تأثري. وعندي أن الإفراني متأثر هنا بتجربة الغربة التي عبر عنها في أول المسلك، واعتبرها عائقا من عوائق التجويد في التأليف، تلك الغربة التي دامت عشر سنوات على الأقل. وهذه المعاناة والصدق جعلا الشارح ينظر إلى النص في وحدته، ويربط البيت بما قبله، وذلك نادر في الشروح التي تعتبر البيت وحدة مستقلة. وتقتضي هذه الطريقة في الشرح أول ما تقتضي، أن يكون الشارح مبدعا، [ص32] قادرا على إعادة الخلق، وهو ما برهن عنه الإفراني هنا، سواء في تصور اللحظة والتأثر بها أو في أسلوبه الذي رفع التجربة إلى أجواء السمو الصوفي، مستعملا كلمات من نوع المقام والاستغراق، والفناء، والحضور، والأرواح، والأجساد، والنفوس.
ولا غرابة في ذلك، فالإفراني واحد من كتاب العصر وخطبائه المرموقين. وتجويد الأسلوب سمة غالبة على هذا المطلب الذي يشيع فيه المجاز وانتقاء الكلمات المتجانسة، والمزاوجة بين السجع والاسترسال.
صفحہ 35