وبها وبأمثالها يتبين: أن ما يقوله القائلون بالحدوث من أهل الملل وغيرهم وإن كانوا جهمية معطلة للصفات، أو للصفات والأفعال القائمة به؛ فهم أقل خطأ وضلالا من هؤلاء / (¬1) المتفلسفة الذين ضموا إلى التجهم ما مضمونه تعطيل الفعل والخلق والخالق بالكلية، ووصفوا الوجود الواجب بما يمنع أن يكون موجودا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: أن جواب سؤالهم ممكن بالتزام التسلسل وقيام الحوادث بذاته. لكن القائلون بقيام الحوادث بذاته؛ منهم من ينكر التسلسل ويقول: في الأزل لم يكن يفعل ولا يتكلم ولا ... (¬1) فلا يثبت شيئا ما بما في نفسه، ولا شيئا منفصلا عنه كما يقول الكرامية وغيرهم.
ومنهم من يقول: لم يزل متكلما، بل لم يزل متحركا، ويقولون: الحركة من لوازم الحياة، وكذلك التكلم.
فإن القول بأنه لم يزل متكلما إذا شاء؛ قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم، وكذلك القول بالفعل القائم بذاته، وكثير منهم يصرح بلفظ الحركة.
والفلاسفة القائلون بقدم العالم ظنوا أنهم بالتزام التسلسل نجوا من المحذورين المتقدمين، وليس الأمر كذلك، بل خصومهم المتكلمون والمعتزلة ونحوهم الذين جوزوا حدوث الترجيح بلا سبب حادث مرجح أبعد عن الباطل منهم، وأقرب إلى الحق، وإن قيل: إن في قولهم ما هو باطل.
وبيان ذلك: أن الفلاسفة إذا قالوا بالتسلسل؛ فإنما قالوا به في الحركات القائمة بالممكنات؛ كحركات الفلك، إذ كل حركة مسبوقة عندهم بحركة. وعندهم: أن مجموع العالم صدر عن علة تامة قديمة واجبة الوجود بنفسها، وهي وجود مجرد ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، وإما إضافة، وإما مركب منهما.
صفحہ 91