ماذا صنعت يا «استيفن»؟ إنك سلبتني الليلة الماضية راحتي وسكوني، فإني كلما تذكرت تلك القبلة التي وصمت بها جبيني شعرت كأن نارا مشتعلة تتأجج بين أضالعي، وأن صحيفتي التي لم تزل بيضاء حتى ليلة أمس قد أصبحت تضطرب في بياضها الناصع نقطة سوداء، فأحاول أن أطردها من أمامي فأكون كالأرمد الذي يحاول أن يطرد الغشاوة السوداء من عينيه فلا يستطيع، لقد سكبت عيناي كثيرا من العبرات، وتوسلت كثيرا إلى الله تعالى، أن يغفر لي ذنبي، ولا أدري ما هو صانع بي؟ ولا كيف أستطيع أن أقف بين يديه يوم الحساب بهذا الجبين المسود من الإثم، وهذا الوجه المحمر من الخجل؟ لا أكتمك يا سيدي أنني لولا أن عزيت نفسي عن هذه النكبة بأنك أخذت مني تلك القبلة أخذا ولم أمنحها لك منحة لقتلت نفسي بيدي، لا تعد إلى مثلها يا «استيفن» إلا إذا أردت أن تراني يوما من الأيام بين يديك جثة هامدة. (18) من استيفن إلى ماجدولين
ما كنت أعلم قبل اليوم أن الفتاة التي تحب وتعاهد من تحب، وتقسم بين يدي حبيبها يمين الإخلاص والوفاء على أن تكون له كما يكون لها، وألا تجعل ليد غير يد الموت سبيلا إلى التفريق بينهما، تستكثر عليه قبلة شريفة يأخذها من جبينها كما يأخذها الأخ من جبين أخته، والمتعبد من يد كاهنه.
ما أحسب إلا أنك قد خدعت نفسك بنفسك يا ماجدولين حين ظننت أنك عاشقة، وما أنت من الحب في شيء؛ لأن الفتاة التي تحب لا ترى بأسا في أن تمنح القبلة لحبيبها منحة، ولا تنتظر أن يأخذها منها أخذا.
الآن عرفت أن بكاءك بين يدي، واضطراب يدك في يدي، وخفوق قلبك عند رؤيتي، إنما كان أثرا من آثار الخوف لا مظهرا من مظاهر الحب، وأن عطفك علي وتحببك إلي ولصوقك بي لم يكن لأنك كنت تحبينني، بل لأن فتاة مسكينة ضعيفة مثلك لا بد لها أن تشعر بالميل إلى كل رجل قوي بجانبها.
تقولين لي إنك قضيت ليلك أمس معذبة، لا يهنأ لك مضجع، ولا يغتمض لك جفن، أما أنا فأقول لك: إني لم أقض في حياتي ليلة أهنأ من تلك الليلة؛ لأني بت أتخيل تلك القبلة التي تناولتها من جبينك كأنها ثغر منضد يبتسم إلي أرق ابتسام وأعذبه، فأشعر بروح الحب تدب في أعضائي دبيب الحميا في وجه شاربها؛ أما اليوم فإني أصبحت أتخيلها تمثالا جامدا من الحجر الصلد ماثلا بين يدي لا يتحرك ولا ينطق.
عفوا يا ماجدولين، فإني ما تناولت تلك القبلة من جبينك إلا وأنا أعتقد أني أقبل زوجتي؛ لأني لا أرى فرقا بين عهد الإخلاص الذي يؤخذ بين يدي الحب وعقد الزواج الذي يعقد بين يدي الكاهن، وأشكر لك تلك الساعات القليلة التي سعدت فيها على يدك، وإن كانت سعادة موهومة، ويمكنني أن أقول لك إني ما نقضت - حتى الساعة - ذلك العهد الذي عاهدتك عليه، وإني لا أزال أحبك كما كنت؛ لأني ما كنت أحببتك لأجازيك على حب بمثله، ولا لأنك جميلة أو عاقلة أو ذكية، ولا لشيء مما يحب الرجال له النساء، بل أحببتك للحب نفسه، والسلام. (19) من ماجدولين إلى استيفن
عفوا يا «استيفن»، فما كنت أحسب أن كلمتي بالغة منك ما بلغت، أو أنها ذاهبة بك هذه المذاهب كلها، فاغفر لي ذنبي، فوالله ما احتفظت بعرضي إلا لك، ولا منعتك نفسي اليوم إلا لأبذلها لك غدا، أنت اليوم حبيبي وغدا تكون زوجي، وكل ما صنعته أني توسلت إلى حبيبي أن يزفني طاهرة نقية إلى زوجي، أما الخداع الذي تذكره في كتابك فأنا أعتقد أنك تعلم من أمري غير ما تقول، ولكنك غضبت فقلت غير ما علمت. (20) من مولر إلى استيفن
أكتب إليك كتابي هذا ويدي ترتعد خجلا، ونفسي تسيل حزنا؛ لأني ما كنت أقدر في نفسي أن ستمر بي ساعة من ساعات حياتي أرى نفسي مضطرا أن أقول لصديقي الذي أجله وأعظمه وأنزله من نفسي خير منزلة: إني لا أستطيع أن أستقبلك في منزلي بعد اليوم، بل لا أستطيع أن أحتمل بقاءك في المنزل الذي أسكنه وتسكنه ابنتي؛ لأن لي شرفا أبقي عليه أكثر مما أبقي على صداقة الأصدقاء، على أنني أرجو ألا تزال تعدني صديقك المخلص إليك، كما أني لا أزال أعدك كذلك، وإن فرقت بيننا الأيام. (21) حديث
جلست ماجدولين في غرفتها تخيط ثوبا لها، ربما كانت تعده لليلة عرسها، فندرت إبرتها من يدها، فرفعت رأسها فإذا أبوها ماثل بباب الغرفة، فدهشت لمرآه، وراعها منظر سكونه وجموده، ثم مشى إليها بقدم مطمئنة حتى وضع يده على عاتقها وقال: أتعلمين يا ماجدولين أني أرسلت «جنفياف» الساعة بكتاب إلى «استيفن » أمنعه فيه من دخول بيتي، بل أمنعه من البقاء في منزلي؟ قالت: لا أعلم من ذلك شيئا، ولا أعرف لصنيعك هذا سببا، قال: لا سبب له إلا أنه يحبك، قالت: إنه لا يحبني، ولكنه يحب أن يتزوج بي، قال: ذلك ما لا أريد أن يكون، قالت: ولماذا؟ قال: لأنه لا يصلح أن يكون زوجا لك، قالت: أنا أعلم أنك اتخذته لنفسك صديقا، وأنك تعرف له مكانه من الفضل والنبل، فكيف ترضى أن تتخذ لنفسك صديقا من لا ترى أنه لا يصلح أن يكون لابنتك زوجا؟ قال: إني أصادقه لأنه شخص كريم، ولا أحب أن أصاهره؛ لأنه بائس فقير، فقد عثرت اليوم بكتاب سقط منه فقرأته فعرفت أنه لا يملك ما يقوت به نفسه، فأحرى ألا يملك ما يقوت به أهله، قالت: إنك حدثتني عنه أنه فتي ذكي متعلم، ومن كان هذا شأنه لا يكون بينه وبين الغنى إلا بضع جولات يجولها في ميدان هذا العالم، فيعود من بعدها رجلا غنيا، وزوجا صالحا، قال: إن في أخلاقه من الأنفة والترفع ما يحول بينه وبين النجاح، قالت: إن الحب يقوم ما اعوج من الأخلاق، ويحيي ميت الأمل في نفس المحب، فلا تطفئ جمرة الحب التي تشتعل في قلبه، فإنك إن فعلت قتلته وقتلت أمله وأتلفت عليه حياته، قال: يا بنية، إني أعلم من أخلاق الناس وشئونهم ما لا تعلمين، وقد رأيت أني أكون مخاطرا بك وبمستقبلك وبكل ما أرجو لك من سعادة في العيش وهناء إن أنا رضيت لك هذا الزواج الذي أعلم أن شره أكثر من خيره، بل أعلم أنه شر كله لا خير فيه، فانظري يا بنية في أمر نفسك بعين غير عين الحب، فإنها دائما حولاء، واذكري أن أباك الذي يحبك وينزلك من نفسه منزلة لا يغلبك عليها غالب لا يمكن أن يكون غاشا لك أو خادعا، فركعت بين يديه ومدت يدها إليه ضارعة، وأنشأت تسترحمه بالبكاء مرة والدعاء أخرى، فكانت كأنها تستنبط الماء من الصخر، أو تستنبت الربيع في المهمه القفر حتى وهت قوتها، فسقطت تحت قدميه، فتركها مكانها ومضى لسبيله وهو يقول: إنك اليوم تجهلين وغدا تعلمين. (22) الخبر
دخلت «جنفياف» على «استيفن» في غرفته وقد جلس إلى مصباح ضعيف يقرأ في كتاب، فأعطته كتاب سيدها ورجعت أدراجها، وكان أول كتاب جاءه من «مولر»، فمر بخاطره - وهو يفض غلافه - كل شأن إلا الشأن الذي كتب فيه، فما أمر نظره عليه حتى فهم كل شيء.
نامعلوم صفحہ