قالت: إنك قد لقيت في شدتك هذه عناء كثيرا ولقد كنت فيما فعلت من القوم المحسنين، قال: ما كنت محسنا قبل اليوم، ولكنه الحب يملأ القلب رحمة وحنانا، ويصغر في عينيه عظائم الأمور وجلائلها، ويوحي إليه أفضل الأعمال وأشرفها، أما ما لقيت في ذلك اليوم فقد كان فوق ما يحتمل المحتمل، فقد خيل إلي أنني أهوى في منحدر لا أعرف له قرارا ، وأن جسمي يتفتح عن روحي تفتحا فتملس منه إملاس الفرخ من بيضته، فلما ذكرتك استروحت من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف، فلما نجوت علمت أنك سبب نجاتي، فما بلغت الشاطئ حتى جمعت تلك الزهرات فأرسلتها إليك تذكارا لتلك النعمة السابغة التي أسديتها إلي، فمدت يدها إلى صدرها، وأخرجت منه طاقة زنبق وقالت: إن أبي قد جمع لي هذه الأزهار صباح هذا اليوم فأنا أقدمها إليك ردا لتحيتك التي حييتني بها، فتناولها منها ونثرها بين يديه، وأخذ يؤلف بين أشتاتها وينظمها في سلك مستدير حتى صارت إكليلا جميلا، فوضعه على رأسها وقال: إن من يرى هذا الإكليل الزاهر فوق هذا الجبين الساطع لا يرى إلا أنه إكليل عرس على رأس عروس، فأخذت كلمته هذه مأخذها من نفسها، فأطرقت قليلا ثم رفعت رأسها فإذا دمعة رقراقة تترجح في محجريها، فقال: لا تبكي يا ماجدولين، فما في قوى هذا العالم كلها قوة تستطيع أن تحول بيني وبينك، قالت: إنما أبكي خوفا من الحب، وما أنا إلا فتاة مسكينة منقطعة، أشعر بالحيرة التي تشعر بها كل فتاة لا أم لها ترشدها، ولا ناصر لها يعينها، قال: ألا تعتقدين أن قلبك نقي طاهر؟ قالت: ذلك ما أعتقده وأشهد الله عليه، قال: إذن فالله هو الذي ينصرك ويعينك، وهو الذي يأخذ بيدك في حيرتك، وينير لك السبيل في ظلمات هذه الحياة.
لا تخافي من الحب يا ماجدولين، ولا تخافي من غضب الله فيه، واعلمي أن الله الذي خلق الشمس وأودعها النور، والزهرة وأودعها العطر، والجسم وأودعه الروح، والعين وأودعها النور، قد خلق القلب وأودعه الحب، وما يبارك الله شيئا كما يبارك القلبين الطاهرين المتحابين؛ لأنهما ما تحابا إلا إذعانا لإرادته، ولا تعاقدا إلا أخذا بسنته في عباده، فامددي إلي يدك، وأقسمي بما أقسم به أن نعيش معا، فإن قدر لنا أن نفترق كان ذلك الفراق آخر عهدنا بالحياة، فمدت إليه يدها فتقاسما وتعاهدا، وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها فافترقا. (15) من استيفن إلى ماجدولين
كتبت إليك كثيرا، فلم تكتبي إلي كثيرا ولا قليلا؛ لأنك تعتقدين ما يعتقده كثير من النساء من أن المرأة التي تكتب إلى حبيبها كتاب حب آثمة أو غير شريفة، أما أنا فأعتقد أنها إن لم تفعل فهي مرائية مصانعة؛ لأن المرأة التي وهبت قلبها هبة خالصة لا يخالطها شك ولا ريبة لا ترى مانعا يمنعها من أن تكتب لحبيبها في غيبته بمثل ما تحدثه به في حضرته.
إن الحيطة في الحب رأي تراه لنفسها المرأة البغي التي تتخذ لها كل يوم حبيبا تقسم بين يديه بكل محرجة من الأيمان أنها ما فتحت قلبها لزائر قبله، فهي تخاف أن تسجل بيدها على نفسها في يومها ما يفسد عليها أمرها في غدها، أما المرأة الشريفة فما أغناها عن ذلك كله؛ لأنها تحب فتخلص، فتقول فتكتب ما تقول.
اكتبي إلي يا ماجدولين، فإن الذي يستطيع أن يكتم سر حديثك لا يعجز عن أن يكتم سر كتابك، واعلمي أن رجلا غيري ذلك الذي يتخذ من رسائلك سيفا يجرده فوق عنقك إن بدا لك في الفرار منه رأي، وإن فتاة غيرك تلك التي ترضى لنفسها أن تهب قلبها إلى رجل يتجر بأسرار النساء. (16) البحيرة
مضت على «استيفن» وماجدولين بعد ذلك أيام كانا يلتقيان فيها في المنزل أو الحديقة أو في الغابة أو على ضفة النهر، وكثيرا ما كانا يجلسان بجانب شجرات البنفسج، ويذكران حادثة النهر، وطاقة الزهر، وأحيانا كانا ينزلان في زورق صغير يسيران به في البحيرة ساعة أو ساعتين ثم يعودان.
فنزلا في الزورق يوما وكانت الشمس قد لبست ثوبها الثالث، ثم ما لبثت أن هوت إلى مستقرها على أن ترسل من خلفها سليلها القمر إلى هذا الوجود ليقوم عنها بحراسته حتى تعود إليه، فأمعنا في البحيرة، وكانت هادئة ساكنة كصفحة المرآة، وكان النسيم باردا رطبا يترقرق فيلامس الوجوه بخفة كما تلامس يد الحسناء وجه حبيبها، وقد سكن كل شيء إلا صوت قطرات الماء المنحدرة من المجاذيف إلى البحيرة، ونقيق الضفادع من حين إلى حين، ثم هتك القمر ستر الظلام وأرسل أشعته الزرقاء إلى الزورق والبحيرة والشاطئ وما وراء ذلك، فكانا يريان على ضوئه بعض الأشجار كأنها أشباح متحركة، ويتخيلان أن عيون الحشرات السارية بين لفائف الأعشاب شرر ينقدح، فلذ لهما هذا المنظر البديع، وذلك السكون العميق، وتلك الوحدة التي لا يكدرها عليهما مكدر، وتركا الزورق يمشي بهما حيث يشاء، وينحدر كما يريد.
وظلا يتحدثان، فقال «استيفن»: إني أوثر يا ماجدولين أن يكون البيت الذي نسكنه في المستقبل على شاطئ بحيرة كهذه البحيرة، وأن يكون لنا زورق أوسع من هذا الزورق وأجمل منه شكلا، نقضي فيه الليالي المقمرة بين الرياضة والصيد والاستحمام، ولا بد أن يكون للمنزل حديقة صغيرة ونغرس بها ما نشاء من الكروم والأعناب والأزهار والأنوار، وسأتولى بنفسي غرس شجرات البنفسج لك، وسأنشر على جدران الحديقة والمنزل غلائل رقيقة من الخضرة اليانعة، أما المنزل فأرى أن يكون مشتملا على طبقتين، طبقة عليا يكون فيها أربع غرف، غرفة للأضياف، وأخرى للمكتبة، وأخرى للملابس، وصمت لحظة، ثم قال: أما الرابعة فهي التي تكون لي ولك، فاحمرت ماجدولين خجلا ثم قالت: لقد فاتك أن تذكر غرفتين أخريين: إحداهما لأخيك، والثانية لأبي، قال: نعم، لقد فاتني ذلك، فلا بد إذن أن تكون الطبقة العليا مشتملة على ست غرف، أما الطبقة السفلى فتشتمل على قاعة الطعام، ومخزن المئونة، وبيت الخدم والحمام، إلى ما يلحق ذلك من مرافق البيت وحاجاته، قالت: لقد فاتك أيضا أن الحديقة لا يجمل منظرها إلا إذا كان في وسطها حوض صغير يتدفق ماء نميرا، قال: نعم وسنتخذه لتربية الأسماك الملونة، ولا يفوتنا أن نحوطه بسياج عال من الأغصان المشتبكة وقاية لأطفالنا الصغار.
فأخذت هذه الكلمة مأخذها من نفس ماجدولين، واصفر لها وجهها، ثم أطرقت برأسها طويلا، فحنا عليها «استيفن» وسألها عما بها، فرفعت رأسها فإذا هي تبكي، فقال: ما بك يا ماجدولين؟ قالت: إن الدهر يا «استيفن» أضن بالسعادة من أن يهبها كلها لشخص واحد، وأخاف أن نكون كاذبين في آمالنا، أو مخطئين في تصور مستقبلنا، فليت الدهر - إن كان يعلم أنه سيحول بيننا وبين سعادتنا في المستقبل ويكدر علينا صفو عيشنا بفاجعة من فواجعه أو نازلة من نوازله - أن يمد إلينا يده في هذه الساعة فيستل حياتنا من يدي أجلنا؛ لتخف في أفواهنا مرارة الموت! قال: لا تخافي يا ماجدولين، فإن سلطان الدهر لا يمتد إلى مواقف الحب إلا إذا أراد المحبون أنفسهم أن يكون له هذا السلطان عليهم، فكوني معي أتخذ من حبك عدة أنازل بها حوادث الدهر وأرزاءه، وأفسد عليه حوله وقوته، فصمتت واجمة، ثم ألقت نظرها على البحيرة ومجرى الزورق منها وقالت: لو أن لامرئ أن يتمنى لنفسه ما يشاء لتمنيت أن يكون هذا الطريق الذي نسير فيه طريق الأبدية، وأن يظل هذا الزورق مطردا بنا في مسيره، لا يقف في طريقه شيء حتى يلج بنا أبواب السماء.
ثم تنفست الصعداء وقالت: حسبنا يا «استيفن» فقد أوشك القمر أن يغيب، وأنا لا أحب أن أرى مغيبه؛ لأني أخاف أن تغرب سعادتنا بغروبه، فنظر إليها واجما مكتئبا، كأنما دار بنفسه ما دار بنفسها من المخاوف والأوهام، ثم قام إلى المجاذيف يحركها، واضطجعت تحت قدميه، وما زالا كذلك حتى بلغا الشاطئ، ثم مشيا حتى بلغا المنزل، فلما أرادا أن يفترقا أدنى يدها من فمه يحاول أن يقبلها فأبت، فقبلها في جبينها فارتعدت، وألقت عليه نظرة عتب أخذت من نفسه مأخذها وانصرفت. (17) من ماجدولين إلى استيفن
نامعلوم صفحہ