فقالت بهدوء: لعله من الأفضل لك أن تذهب. - لا مكان لي إلا هنا، وأين أذهب؟ على الأقل يوجد هنا وهم جنوني إخاله أحيانا أملا.
وسرعان ما عاد إلى رشده وهدوئه وهو خجلان، ولكي يسدل ستارا على تهوره نهض بقوة ورشاقة جندي، فنظر نحو قرنفلة وقال: أعتذر.
وحنى رأسه تحية ثم جلس وراح يدخن نارجيلته.
وجاء الشتاء ببرده القارص ولياليه الطويلة؛ فتذكرت أن الشبان كانوا يتلاقون في المقهى حتى في الشتاء - وقت الدراسة - ولو ساعة واحدة، وقلت لنفسي إن المقهى بدونهم لا يحتمل، لم يبق إلا الشيوخ وقد نسوا المعتقلين وتناسوا الرعب والسياسة فعكفوا على همومهم الشخصية، وكأنه لم يعد لهم من عمل إلا انتظار الأجل. وراحوا يبكون الأيام الماضية ويتبادلون وصفات بقصد خفي واحد هو تأجيل الموت. - كل واشرب ولا تهتم فهذا خير شعار في الحياة. - غير ريقك على كوب ماء، ويا حبذا لو عصرت عليه نصف ليمونة. - قال حكيم قديم إني أعجب لآل مصر كيف يمرضون وعندهم الليمون. - الطب الحديث يقرر أن صعود السلم مفيد للقلب. - ومفيد له أيضا المشي. - ويقولون إن الجماع مفيد أيضا للقلب. - السياسة وأنباء الاعتقالات ومعاصرة العظماء. - الزبادي مدهش، والفاكهة ، أما العسل الممزوج بإفراز الملكة فحدث عنه ولا حرج. - والضحك، لا تنسوا الضحك. - وكأس واحدة بالثلج قبيل النوم. - والهرمونات لا يجوز الاستهانة بها. - ومنوم احتياطي للأخبار المزعجة. - وبعد كل شيء وقبل كل شيء قراءة القرآن.
أجل. المقهى بلا شباب لا يحتمل، وحتى قرنفلة لا تدري بأحزاني، ولا تدري أن الصداقة قوية وظمأى مثل الحب نفسه، وها أنا ذا أتجرع الملل وأعاني الوحشة، وأرمق الكراسي الجامدة الصامتة بقلب مشوق حزين، يتلهف على مناجاة أصحابها لتنقدح فيه نشوة الحماس والإبداع والآلام المقدسة. •••
ولدى إقبالي على المقهى ذات مساء لمحت وجه قرنفلة مشرقا على غير عادته. دهشت حقا واجتاحني فيض من الأمل فاندفعت نحو الداخل، وسرعان ما وجدتني حيال الأصدقاء المحبوبين؛ زينب، وإسماعيل، وحلمي، واثنين أو ثلاثة آخرين، وتعانقنا بحرارة وضحكة قرنفلة تباركنا، وتبادلنا الأشواق متجنبين أين وكيف ولماذا، ولكن تردد في همس اسم خالد صفوان الذي صار رمزا من رموز حياتنا لا تكمل إلا به. وقالت لي قرنفلة: تصور أنه قد وقع سوء تفاهم في مطلع الشتاء، وأن البراءة ثبتت في مطلع الصيف، ولا تسأل عن مزيد، حسبك أن تتصور إن استطعت.
ليكن. لا حيلة لنا في ذلك. وقلت لها: ولنتصور أيضا أن المقهى أذن كبيرة!
وتجنبنا حديث السياسة ما وسعنا ذلك، قلت لهم: إذا دعت ضرورة إلى الخوض في موضوع وطني؛ فلنتكلم متخيلين أن السيد خالد صفوان يجالسنا.
ولكن الخسارة تبدت ملموسة أكثر من المرة الماضية، هزلوا كأنهم خارجون من مجاعة، لاحت بأعينهم نظرة حزينة وساخرة، ورسب في زوايا أفواههم امتعاض راسخ. إن حرارة الحديث تذيب الرواسب، فإذا فرغوا منه وخلوا إلى أفكارهم اختفت الأقنعة، وتجلى الفتور والعزلة، حتى العلاقة الحميمة بين زينب وإسماعيل تعاني داء خفيا لا يكاد يرى عند النظرة العابرة، الأمر الذي أثار عواطفي وتساؤلاتي. يا ألطاف الله، إن الآلة الجهنمية تطحن أول ما تطحن أصحاب الرأي والإرادة، فماذا يعني هذا؟
وجالستني قرنفلة مرة فلاحظت أنها راضية ولكنها غير سعيدة، وكنت أعلم أنها لا تجالسني إلا للبوح بشيء فقلت أفتتح الحديث: لندع الله ألا يتكرر المكروه.
نامعلوم صفحہ