فتمتمت: ربما. - بل هو مؤكد، جميع الناس يتكلمون ولكن من الذي يبلغ الكلام؟
فقلت بعد تردد: أنت أدرى بالمكان. - لا شك لدي في رجالي، عارف سليمان مدين لي بحياته، إمام الفوال فهو من رجال الله، وكذلك جمعة.
فقلت: وشيوخ المعاش في عزلة على شاطئ الحياة.
وتبادلنا نظرة طويلة ولكنها قالت: زين العابدين وغد، ولكن لا صلة له بالسلطة فضلا عن أنه يخشاها لانحرافه.
فقلت: يعبر بالمقهى كثيرون، ونحن لا نلقي إليهم بالا.
فتنهدت وقالت بامتعاض شديد: لم يعد في الدنيا أمان.
ورجع الصمت المشحون بالأسى، وقعدت قرنفلة على كرسي الإدارة كتمثال فاقد الحياة. أجل كانت أمثال تلك الحوادث تقع كل يوم ولكن تأثيرها يختلف إذا وقعت فيمن يعدهم الإنسان أسرته. وشككنا في كل شيء حتى الجدران والموائد. وعجبت لحال وطني؛ إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، يملك القوة والنفوذ، يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ، يبشر باتجاه إنساني عظيم، ولكن ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء. وفقد زين العابدين أعصابه فجأة وبلا سبب محدد وراح يقول: أنا حزين، أنا سيئ الحظ، أنا تعيس، اللعنة علي يوم ولدت ويوم عرفت هذا المقهى.
تجاهلته قرنفلة فمضى يقول متحديا: ما ذنبي؟ إني أحبك فما ذنبي؟ لماذا تسيئين إلي كل يوم؟! ألا تعلمين أنه يقتلني قتلا أن أراك وأنت تموتين حزنا؟ لماذا؟ لا تحتقري حبي، الحب لا يحتقر، إنه أسمى من ذلك وأعظم، أسفي عليك، تبعثرين الأيام الباقية من عمرك العزيزة بلا رحمة، وترفضين أن تعترفي بأن قلبي هو القلب الوحيد الذي يعبدك.
وخرجت قرنفلة من صمتها وقالت تخاطبنا نحن: هذا الرجل لا يريد أن يحترم حزني!
فقال زين العابدين بمرارة: أنا! إني أحترم أوباشا ومنافقين ومجرمين وقوادين ومرتشين فكيف لا أحترم حزن من علمني تقديس الحزن من حزني عليه؟! معذرة، احزني، استسلمي لقضائك، تمرغي في وحل الأيام، ربنا معك.
نامعلوم صفحہ