قرنفلة
إسماعيل الشيخ
زينب دياب
خالد صفوان
قرنفلة
إسماعيل الشيخ
زينب دياب
خالد صفوان
الكرنك
الكرنك
تأليف
نجيب محفوظ
قرنفلة
اهتديت إلى مقهى الكرنك مصادفة؛ ذهبت يوما إلى شارع المهدي لإصلاح ساعتي. تطلب الإصلاح بضع ساعات كان علي أن أنتظرها. قررت مهادنة الوقت في مشاهدة الساعات والحلي والتحف التي تعرضها الدكاكين على الصفين. عثرت على المقهى في تنقلي فقصدته. ومنذ تلك الساعة صار مجلسي المفضل رغم صغره وانزوائه في شارع جانبي. الحق أني ترددت قليلا بادئ الأمر أمام مدخله، حتى لمحت فوق كرسي الإدارة امرأة؛ امرأة دانية الشيخوخة ولكنها محافظة على أثر جمال مندثر. حركت قسماتها الدقيقة الواضحة جذور ذاكرتي فتفجرت ينابيع الذكريات. سمعت عزفا وطبلا، شممت بخورا، رأيت جسدا يتموج. راقصة، نجمة عماد الدين، الراقصة قرنفلة، حلم الأربعينيات الوردي، قرنفلة. هكذا مرقت إلى الكرنك بقوة سحر مبهمة وفؤاد طروب، من أجل شخص لم أمر بباله يوما. لم تقم بيننا علاقة من أي نوع كان؛ لعاطفة أو مصلحة أو حتى مجاملة، كانت نجمة وكنت أحد المعاصرين. لم تترك نظراتي المعجبة على جسدها العبقري أثرا أي أثر، ولا كان لي حق التحية العابرة. من مجلسي أجلت البصر فأحاط بالمكان. كأنه حجرة كبيرة ليس إلا ولكنه أنيق رشيق، مورق الجدران، جديد الكراسي والموائد، متعدد المرايا، ملون المصابيح، نظيف الأواني، يا له من مجلس ذي جاذبية لا تقاوم! ونظرت إلى قرنفلة طويلا، كلما وجدت فرصة. انطفأ سحر الأنوثة وجف رونق الشباب، ولكن حلت محلهما روعة غامضة وأسى مؤثر، ما زالت نحيلة رشيقة يوحي عودها بالنشاط والحيوية. وثمة قوة مهذبة مكتسبة من التجربة والعمل، أما خفة روحها فآسرة نفاذة، تحرك نظرتها الشاملة الساقي والجرسون وعامل النظافة، وترعى الرواد المعدودين - كأنهم لصغر المكان أسرة واحدة - بمودة وألفة. يوجد ثلاثة شيوخ لعلهم من أصحاب المعاشات، وكهل، ومجموعة من الشبان بينهم فتاة حسناء؛ لذلك شعرت بالغربة وبأنني دخيل، رغم نشوتي، وقلت اللهم إني أحب هذا المكان، القهوة فاخرة، والماء نقي عذب، والفنجان والكوب آيتان في النظافة. عذوبة قرنفلة، وقار الشيوخ، حيوية الشباب، جمال الفتاة، وموقع المقهى في وسط المدينة الكبيرة، يصلح استراحة لجوال مثلي. وثمة عناق حار بين الماضي والحاضر، الماضي العذب والحاضر المجيد، ثم سحر المصادفة المجهولة. فما إن تعطلت ساعتي حتى وقعت في غرام متعدد الأبعاد، وإذن فليكن الكرنك مستقري كلما سمح الزمان.
وحدث ما اعتبرته مفاجأة سارة، بدا أن قرنفلة أرادت مجاملتي بصفتي زبونا جديدا فقامت من مجلسها وجاءتني تخطر في بنطلون كحلي وبلوزة بيضاء، وقفت أمامي وقالت: شرفت.
تصافحنا وأنا أشكر لها مجاملتها فسألتني: هل أعجبتك القهوة؟
فقلت بصدق: جدا، بن ممتاز حقا.
فابتسمت بسرور، ورنت إلي مليا ثم قالت: يخيل إلي أنك تذكرتني؟ - فعلا، من ينسى قرنفلة؟ - ولكن هل تذكرت دوري الحقيقي في الفن؟ - أجل، كنت أول من جدد في الرقص الشرقي. - هل سمعت أو قرأت أحدا ينوه بذلك؟
فقلت بارتباك: تصاب الأمم أحيانا بفقدان الذاكرة، ولكن ذلك لا يدوم إلى الأبد. - كلام جميل ولا شيء وراء ذلك. - ولكنني قررت حقيقة لا شك فيها.
ثم تهربت من الحرج قائلا: أتمنى لك حياة سعيدة وهو الأهم.
فقالت ضاحكة: حتى الآن فالنهاية تبدو سعيدة.
ثم وهي تودعني راجعة إلى كرسي الإدارة: والعلم عند علام الغيوب!
هكذا وفي يسر تم التعارف بيننا، وتمخضت عنه صداقة جديدة سعدت وما زلت أسعد بها. هي جديدة بمعنى من المعاني ولكن جذورها الخفية توغل في الماضي على مدى ثلاثين عاما أو أكثر، وتتابعت اللقاءات وتراكمت الأحاديث وتوثقت المودة، وتذكرت يوما كم كانت محترمة بقدر ما كانت فاتنة بارعة فقلت لها: كنت فنانة بارعة ومحترمة معا، ألم يكن يعد ذلك معجزة؟!
فأجابت بزهو: كان الرقص الشرقي هزا للبطن والصدر والعجز فجعلته تصويريا. - وكيف تيسر لك ذلك؟ - لم تكن تفوتني حفلات الرقص الإفرنجي في البرجولا.
ثم هزت رأسها في دلال وقالت: أما الاحترام فقد قام سلوكي العام على ألا أقبل علاقة إلا عن حب ولا أمارسها إلا عن زواج.
فتساءلت بتهيب: دائما وأبدا؟
فضحكت هاتفة: ألا يكفي أن يكون الطابع العام هو الاحترام؟
فأحنيت رأسي بالإيجاب، وغمغمت هي بما لم أتبينه. ثم قالت: الحب الصادق يضفي على العلاقة شرعية غير منكورة. - لذلك لم تتعرض لك مجلة بسوء. - حتى المطرقة!
فقلت باسما: ولكن كثيرين انحرفوا بسببك!
فتنهدت قائلة: حياة الليل مترعة بالمآسي. - ما زلت أذكر موظف المالية.
فقاطعتني هامسة: اسكت، أتقصد عارف سليمان؟ إنه على بعد أمتار منك، هو الساقي الواقف وراء البار.
استرقت إليه النظر في وقفته التقليدية. مترهل، أبيض الرأس، تعكس عيناه نظرة ثقيلة وديعة، ولا شك أنها قرأت الدهشة في عيني فقالت: لم يكن ضحية لي كما قد تظن، كان ضحية ضعفه.
وقصت علي قصة عادية؛ فقد جن بها ولكنها لم تشجعه قط، ولم تكن موارده تسمح له بالتردد الدائم على الملهى، فامتدت يده إلى اختلاس أموال الدولة، وظهر بين الرواد كالوارثين ولكنها لم تنل منه مليما واحدا، ولم تنشأ بينهما إلا العلاقة الرسمية التي تنشأ بحكم تقاليد الملاهي الليلية، ولم يتقدم خطوة حتى ضبط متلبسا فقدم للمحاكمة ودخل السجن. - إنها مأساة ولكن لا ذنب لي فيها، ولما غادر السجن بعد سنوات جاءني في الملهى نفسه، وقال لي: لقد ضعت إلى الأبد. رثيت له، وتوجست منه خيفة، فتشفعت له عند صاحب الملهى فألحقه بوظيفة جرسون، ولما اعتزلت العمل وفتحت هذا المقهى اخترته لعمل الساقي، وهو يقوم به على ما يرام.
فمسحت على شاربي متسائلا: ألم يحن إلى غرامه القديم؟ - بلى، وهو جرسون في الملهى، وضايقني حتى تعرض لعلقة أليمة، وكنت يومذاك زوجة للفيل بطل رفع الأثقال، ثم تزوج بعد عام من راقصة في الكومبارس، ما زالت زوجته، وأما لسبع بنات من صلبه، وأعتقد أنه اليوم موفق وسعيد.
ثم وهي تغرق في الضحك: يحلو لنا أحيانا اليوم أن نتبادل الحب شفويا. - هكذا الماضي ينسى! - ولكن كان له زميل وثب على غير توقع إلى وظيفة وكيل المالية، كان ينقم على الحياة من أجله، حتى أحالته الثورة إلى المعاش فهدأ ثائره وعشق الثورة.
انضممت إلى أسرة الكرنك بصفة نهائية، ونفذت الأسرة في صميم حياتي. منحتني قرنفلة صداقتها ومنحتها، لعبت النرد مع الشيوخ محمد بهجت، ورشاد مجدي، وطه الغريب، عرفت الشباب وعرفوني خاصة زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، كما عرفت زين العابدين عبد الله مدير العلاقات العامة بإحدى المؤسسات، حتى إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية وعامل النظافة صارا لي صديقين، وعرفت سر الكرنك الاقتصادي؛ فهو لا يعتمد أساسا على زبائنه المحدودين، ولكن على أصحاب الحوانيت بشارع المهدي وزبائنهم، وهو السر وراء جودة مشروباته وامتيازها. ومن أسراره أيضا أنه كان - وما زال - مجمع أصوات عظيمة الدلالة، تفصح نبراتها العالية والخافتة عن حقائق التاريخ الحي. لا يمكن أن تنسى أحاديث القوم على عهد انضمامي إليهم، لا يمكن أن ينسى امتنان قرنفلة وهي تقول عند أي مناسبة: لنحمد الله الذي أنعم علينا بالثورة.
وكان عارف سليمان الساقي وزين العابدين مدير العلاقات العامة، يقدسان الثورة أيضا، كل بطريقته ونواياه. ولم يكن الشيوخ أقل حماسا، وإن رددوا أحيانا وبحذر شديد: لم يكن الماضي شرا خالصا.
ومن ركن الشباب انبعث الحماس فوارا كالهدير، عند أكثريتهم يبدأ التاريخ بالثورة مخلفا وراءه جاهلية مرذولة غامضة. إنهم أبناؤها الحقيقيون، ولولاها لتشرد أكثرهم في الأزقة والحواري والضياع. قد تند عنهم أيضا أصوات معارضة توحي بيسارية متطرفة، أو إخوانية حذرة هامسة، ولكنها لا تلبث أن تضيع في الهدير الشامل. ولفت نظري بصفة خاصة إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية، يتغنيان بعنتر وفتوحاته، يعاتبان مرارة العيش ولكنهما يتغنيان بعنتر وفتوحاته، كأن الفقر هان عليهما من أجل النصر والكرامة والأمل. على أن تلك النشوة لم يزهد فيها أحد حتى الحاسدون والحاقدون، لم يخل أحد من رواسب الذل والهزيمة والخذلان، فألهبهم الظمأ نحو الكأس المترعة بتحديات العدو القديم، نهلوا منها حتى الثمالة وراحوا يرقصون من وجد الطرب، وأي جدوى ترجى من النقد عند السكارى؟ أتقول الرشوة ... الاختلاس ... الفساد ... القمع والإرهاب؟ ... طظ، أو فليكن، أو أنه شر لا بد منه، أو ما أتفه ذلك، خذ رشفة من الكأس السحرية وارقص معنا. •••
عندما ترجع قرنفلة من عند الحلاق تسترد إلى حين قدرا من الجمال، وتشتعل الحيوية في عينيها العسليتين، وأغراني ذلك مرة لأن أسألها: لا زوج الآن ولا ذرية؟
ولكنها لم تجب وندمت على ما فرط مني، ولما لمست ضيقي قالت لتخفف عني وهي تشير إلى الزبائن: أحب هؤلاء ويحبونني.
وتمتمت لغير ما سبب واضح: الحب ... الحب.
فقالت بأسى: طالما تمتعنا بحب من نحب، ولكن لا يخلد من الحب إلا الخيبة. - الخيبة؟ - هي الحب الذي ينجو من مخالب الواقع ويبقى أملا خلابا.
فبحذر سألت: هل خاب لك حب؟ - ليس ذلك تماما، ولكن الحب يتدلل أحيانا. - أحدث ذلك أيام المجد؟ - قد يحدث في أي يوم.
تشوفت إلى سماع المزيد، ولكنها تجاهلت رغبتي ولحظت بطرف عينها زين العابدين عبد الله وقالت: انظر إليه، إنه يحبني، ماذا يريد؟ يقترح مشاركتي في المقهى وتحويله إلى مطعم، ولكنه يطمع أولا في فراشي! - إنه مكتنز بالدهن. - أحلام لن تتحقق. - لعله غني؟ - البركة في أموال الدولة!
فاتجه رأسي بحركة تلقائية نحو عارف سليمان الساقي ولكنها قالت: ذاك اختلس من أجل الحب، أما زين العابدين فينهب من أجل الطمع والطموح، إنهم أنواع يا عزيزي، منهم من يأخذ لضرورة العيش لتقصير الحكومة في حقهم، ومنهم الطامحون، ومنهم من يأخذ اقتداء بالآخرين! وبين هؤلاء وأولئك يجن الشبان المساكين.
فقلت بإصرار: نعود إلى موضوعنا الأصلي.
فقالت بتحد: أنت تعلم أنني أحب!
وكنت قد لاحظت أمورا فضبطتني متلبسا بمراقبتها فقالت: لا تسألني عنه فلست غبيا.
فقلت باسما: حلمي حمادة؟!
فمضت دون استئذان إلى كرسي الإدارة، ومن هناك رمتني بابتسامة عذبة. خيل إلي في وقت من الأوقات أنه إسماعيل الشيخ، وسرعان ما اكتشفت علاقته الحميمة بزينب دياب، ثم وضح الأمر، وحلمي حمادة فتى رشيق، ووسيم أيضا، وذو مناقشات عصبية. وقد اعترفت لي قرنفلة بأنها هي التي بادأته بالغزل، وأمام رفاقه أيضا، وتابعت مرة رأيا سياسيا يدلي به ثم هتفت له، وهي جالسة على مقربة منه: ليحي كل من تريد له الحياة، وليمت من تريد له الموت!
ولما لبى دعوتها لزيارة شقتها في الدور الرابع من العمارة التي تقع الكرنك في أسفلها استقبلته استقبالا فاخرا، زينت حجرة الجلوس بالورود، ومدت مائدة حافلة وتصاعدت أنغام راقصة من جهاز تسجيل. وقد قالت لي بثقة: وهو يحبني أيضا، ثق من ذلك.
ثم قالت بجدية: ولكنه لا يدرك مدى حبي العظيم.
ثم بامتعاض: ولا يبعد أن يمضي يوما بلا رجعة.
وهزت منكبيها وتمتمت: حكاية قديمة لا جديد فيها. - تعرفين كل شيء ثم تصرين على المضي في طريقك. - قول سخيف يصلح شعارا للحياة.
فقلت باسما: أشكرك نيابة عن الأحياء. - ولكنه جاد وكريم، وهو أول من تحمس لمشروعي. - أي مشروع من فضلك؟ - كتابة مذكراتي، إني متحمسة لدرجة الهوس، ولم يعفني إلا عجزي عن الكتابة!
وبحماس أيضا: أيهتم حقا بالفن وتاريخه؟ - هذا جانب من الجوانب، أما الجوانب الأخرى فتدور حول رجال مصر ونسائها في حياتهم الخفية! - أناس العهد الماضي؟ - والحاضر! - فضائح وما أشبه ذلك؟ - لا تخلو أحيانا من فضائح، ولكن أهدافها أخطر من ذلك.
فقلت محذرا: إنه مشروع له خطورته.
فقالت باهتمام وفخار: وستقوم له القيامة عند نشره!
فقلت ضاحكا: هذا إذا قدر له النشر!
فتجهم وجهها وقالت: يمكن نشر الجزء الأول دون متاعب. - عظيم، ودعي الجزء الثاني للزمن.
فتمتمت برجاء: لقد عاشت أمي تسعين عاما.
فقلت برجاء أيضا: ربنا يطول عمرك يا قرنفلة. •••
وجئت يوما في ميعادي فوجدت مقاعد الشباب خالية، تبدى المقهى في منظر غريب وخيم عليه هدوء ثقيل. وانشغل الشيوخ بألعابهم وأحاديثهم أما قرنفلة فجعلت تنظر نحو مدخل المقهى بترقب وقلق، وجاءت وجلست إلى جانبي وهي تقول: لم يجئ أحد منهم، ماذا جرى؟ - لعل موعدا شغلهم؟ - كلهم! ألم يكن بوسعه أن يخبرني ولو بالتليفون؟ - أظن أنه لا داعي للقلق.
فقالت بحدة: ولكن توجد دواع للغضب.
ومضت الليلة دون ظهور أحد منهم، وحتى مساء اليوم التالي لم يظهر لأحد منهم أثر، وتغير طبع قرنفلة ومضت تنتقل بين الداخل والخارج في عصبية.
وسألتني: ما تفسير ذلك في نظرك؟
فحركت رأسي في حيرة، وقال زين العابدين عبد الله : إنهم شبان لا يثبتون على حال، ولعلهم انتقلوا إلى مكان أنسب لهم.
فقالت له بغضب: يا لك من غبي! ولم لم تنتقل أنت إلى مكان أنسب لك؟
فضحك ببلادة منيعة وقال: إني في أنسب مكان لي.
وقلت على سبيل المواساة: سنراهم فجأة مقبلين.
فقالت لي همسا: الحزن يقتلني قتلا.
فسألتها برقة: ألا تعرفين أين مسكنه؟ - كلا، في مكان ما بالحسينية، وهو طالب بكلية الطب، ولكن الجامعة مغلقة لعطلة الصيف، لا أدري شيئا كما ترى.
وكرت الأيام والأسابيع حتى أوشكت قرنفلة على الجنون، وحزنت لها حزنا بالغا حتى قلت لها: أنت تهلكين نفسك بلا رحمة. - لست في حاجة إلى الرحمة ولكني بحاجة إليه.
وتجنب زين العابدين العاصفة بالصمت والانزواء، وكان يداري ارتياحه العميق بالتجهم والاستغراق في النارجيلة. ويوما قال طه الغريب: سمعت عن أنباء اعتقالات واسعة.
فوجمنا جميعا. وقلت: ولكن أغلبيتهم تنتمي للثورة.
فقال رشاد مجدي: ولكن توجد أقلية مخالفة لا يستهان بها.
فقال محمد بهجت: وضح الحق، قد أرادوا اعتقال المتهمين فساقوا أصدقاءهم معهم حتى يتم التحقيق.
وكانت قرنفلة تتابع الحديث بذهول كالبلاهة وترفض أن تفهم شيئا أو تقتنع بشيء.
وجرى الحديث بيننا تعليقا على الحدث: الاعتقال فعل مخيف حقا. - وما يقال عما يقع للمعتقلين أفظع. - شائعات يقشعر منها البدن. - لا تحقيق ولا دفاع. - لا يوجد قانون أصلا. - يقولون إننا نعيش ثورة يستوجب مسارها تلك الاستثناءات. - وإنه لا بد من التضحية بالحرية والقانون ولو إلى حين. - ولكن مضى على الثورة ثلاثة عشر عاما أو يزيد، فآن لها أن تستقر على نظام ثابت.
أما قرنفلة فقد أهملت عملها، كانت تغيب بعض النهار أو النهار كله وأحيانا اليوم بأكمله، تاركة المقهى لعارف سليمان وإمام الفوال، وقالت لي: لم أدع أحدا أعرفه من كبراء الماضي أو الحاضر إلا زرته وسألته، ولا جواب عند أحد، ولكنك تسمع كلاما غير متوقع مثل: «من أدرانا؟» أو «حذار من السؤال وإلا ساءت العواقب.» أو «لا ترحبي بالشباب في مقهاك.» ماذا حصل للدنيا؟!
وإذا بفكري يتقمص انطلاقة جديدة دافعها الأول الحزن العميق، قلت لنفسي حقا أن حياتنا تزخر بالآلام والسلبيات، ولكنها في جملتها ليست إلا النفايات الضرورية التي يلفظها البناء الضخم في شموخه، وأنها يجب ألا تعمينا عن العظمة في تولدها وامتدادها. هل عرفنا ما كان يعانيه ساكن الحارة في القاهرة عندما كان صلاح الدين يحقق انتصاره الحاسم على الصليبيين؟ هل تخيلنا آلام أهل القرى عندما كان محمد علي يكون إمبراطورية مصرية؟ هل تصورنا عصر النبوة في حياته اليومية والدعوة الجديدة تفرق بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجته، تمزق العلاقات الحميمة وتحل العذاب مكان التقاليد الراسخة؟ وبالمثل ألا يستحق إنشاء دولتنا العلمية الاشتراكية الصناعية التي تملك أكبر قوة في الشرق الأوسط، ألا تستحق أن نتحمل في سبيلها تلك الآلام؟! وكنت أشعر طيلة الوقت بأنه يمكن أن أقنع نفسي بضرورة الموت وفائدته بمثل هذا المنطق. •••
وما ندري ذات أصيل إلا والوجوه الغائبة المفتقدة تهل علينا بفرحة مباغتة، زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، وبضعة نفر آخرين، أما البقية فلم نر لها أثرا بعد ذلك. هللنا مرحبين، حتى زين العابدين عبد الله اشترك معنا، أما قرنفلة فتراخت في جلستها كأنما غفت أو أغمي عليها، لم تنطق بحرف ولم تتحرك، حتى مثل أمامها حلمي حمادة، فقالت له بصوت متهدج: سأنتقم منك!
ثم أجهشت في البكاء، وسأل سائل: أين كنتم يا جماعة؟
فأكثر من صوت أجاب: في نزهة.
وضجوا بالضحك، وعاد المرح ولكن الوجوه تغيرت، فالرءوس الحليقة أضفت على السحن غرابة، فضلا عن ذبول واضح في النظرة والحيوية. وتساءل صوت - لعله زين العابدين - قائلا: ولكن كيف حدث ما حدث؟
فصاح إسماعيل الشيخ: دعونا من هذه السيرة.
وهتفت زينب في غبطة: سلمى يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة.
وسمعت اسما يتردد، لا أدري كيف تردد، ولا من كان أول ناطق به، خالد صفوان ... خالد صفوان ... ولكن من هو خالد صفوان؟ ... محقق؟! ... مدير سجن؟! ... أكثر من صوت يردد: خالد صفوان ... وكنت أختلس من الوجوه النظرات، وأكاد ألمس المعاناة، والذهول وراء الأقنعة. وممكن أن أقول إن الحياة في الكرنك استعادت روتينها اليومي، ولكنها في الواقع فقدت قدرا لا يستهان به من صميم روحها. أسدل ستار كثيف على فترة الغياب المجهولة، فمضت كسر مثير تحوم حوله الأسئلة وترتد خائبة. ورغم المرح والأحاديث انتشر الحذر في الجو مثل رائحة غريبة مجهولة المصدر، وتحملت كل نكتة بأكثر من معنى، وكل إشارة أكثر من مغزى، وكل نظرة التبست فيها البراءة بالتوجس، وقالت لي قرنفلة: الأولاد عانوا كثيرا.
فسألتها بلهفة: هل قال لك شيئا؟ - إنه لا يتكلم وفي ذلك ما يكفي.
أجل، في ذلك ما يكفي. نحن في زمن القوى المجهولة وجواسيس الهواء وأشباح النهار. وجعلت أتخيل وأتذكر، تذكرت ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة. تذكرت سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود ومعارك الغابات. وقلت لنفسي مستعيذا من ذكرياتي إن الدناصير استأثرت بالأرض ملايين السنين، ثم هلكت في ساعة من الزمان في صراع الوجود والعدم، فلم يبق منها اليوم إلا هيكل أو هيكلان. وعندما يلفنا الظلام أو تسكرنا القوة أو تطربنا نشوة تقليد الآلهة؛ فإنه يستيقظ في أعماقنا تراث وحشي، ويبعث فينا العصور البائدة. وظلت معلوماتي ترتكز على الخيال حتى أتيح لي بعد ذلك بسنوات أن تفتح لي القلوب المغلقة في ظروف جد مختلفة، وتمدني بالحقائق المرعبة، وتفسر لي ما غمض علي فهمه من الأحداث في إبان وقوعها.
ولم يكف زين العابدين عبد الله يوما عن التحلي بالصبر، وترقب الفرصة المواتية، ولا شك أن رجوع حلمي حمادة قد أفسد خطته، وحرك مخاوف اليأس في أعماقه؛ فدفعه ذلك إلى تجاوز حرصه المعهود فقال مرة باستهتار على مسمع من قرنفلة: إن وجودهم بالمقهى خليق بالإساءة إلى سمعته.
فسألته قرنفلة: متى تنوي الرحيل؟
فتجاهل قسوتها ببرودة، وقال بنبرة الوعاظ: لي مشروع جم الفوائد يستحق العناية والجدية.
وسألني مستوهبا تأييدي: ما رأيك في المشروع؟
فسألت بدوري قرنفلة: ألا ترغبين في الإسهام بقوة أكبر في الرأسمالية الوطنية؟
فقالت بسخرية: ولكنه يطمع في المال وصاحبة المال.
فبادرها قائلا: اقتراحي يتعلق بالعمل وحده، أما القلوب فشئونها بيد الله ذي الجلال!
فلم تعن بمناقشته أكثر، وبدا أن العشق يستأثر بلبها كله. وطالما شعرت بأنها تمثل دور العاشقة العمياء، فامتلأ قلبي نحوها بالعطف والإشفاق. ولم أشك في أن الفتى يحبها حب مراهقة، هي تتقن كيف تفتنه وتسره وهو ينهل من منابع حنانها، ولكن حتى متى يدوم ذلك؟ وكانت إلى ذلك تساورني بعض الشكوك من ناحية أطماعه، ولكنها قالت لي بثقة لا حد لها: إنه نظيف بقدر ما هو ذكي، ليس من النوع الذي يبيع نفسه.
أفلحت لو صدقت، ولا أملك ما يدعوني للشك في صدقها، ثم إن منظر الشاب وحديثه يدعوان للثقة، وإن شابه الغموض أحيانا والعنف في كثير من الأحايين، ولكن ما جدوى كل ذلك حيال الحقيقة المجسدة وهي أن قرنفلة قد جاوزت خريف العمر، وأنه لم يبق لها من تراث الإغراء إلا المال والإخلاص؟! وقد قال لي زين العابدين مرة: لا يغرنك منظره.
فعلمت أنه يتحدث عن حلمي حمادة وسألته: ماذا تعرف عنه؟ - إنه برمجي عصري أو قناع خداع.
وصمت لحظات ثم واصل: وفي اعتقادي أنه يحب زينب دياب، وسوف يخطفها يوما من إسماعيل الشيخ.
وأثارت كلمته قلقي لا لأنني اعتبرتها افتراء، ولكن لأنها أيدت مشاهداتي عن المجاملات المتبادلة بين حلمي وزينب، وطالما ساءلت نفسي أهي مودة حميمة أم أكثر من ذلك؟
ولما كانت صداقتي لقرنفلة قد أصبحت راسخة، فقد واتتني الشجاعة لأقول لها: إنك خبيرة بالحياة والحب.
فقالت بزهو: لا يجوز لأحد أن يشك في ذلك.
فتمتمت: ومع ذلك ...؟ - ومع ذلك؟! - هل تؤمنين بنهاية سعيدة لحبك؟
فقالت بإيمان: عندما تحب حقا فإنما تستغني بالحب عن الحكمة والبصيرة والكرامة.
واقتنعت بأنه من العبث أن تناقش عاشقا في عشقه. •••
وللمرة الثانية اختفى الشبان.
وقع المقدور فجأة وبلا سابق إنذار كما حدث في المرة الأولى.
ولم يقع أحد منا في حيرة التساؤل، وعذاب الشك، ولكن اجتاحنا الانزعاج والذهول.
وترنحت قرنفلة تحت عنف الضربة وتأوهت قائلة: ما كنت أتصور أنني سأتعرض لمرارة التجربة مرة أخرى.
ومن شدة الأسى صعدت إلى شقتها.
وهيأ لنا غيابها حرية للمناقشة فقال طه الغريب: حتى أنا ورغم البراءة والسن بت أخشى على نفسي.
فقال رشاد مجدي متهكما بالرغم من شحوب وجهه: ممكن أن يشك في أمرك رجال الثورة العرابية لا هذه الثورة!
وتساءل محمد بهجت: ترى ما وراء ذلك؟
فقال زين العابدين عبد الله: إنهم شبان ذوو خطورة فما وجه العجب فيما يقع لهم؟ - ولكنهم من أبناء هذه الثورة!
فضحك زين العابدين وقال: الانتماء إلى الثورة حجة شائعة بين أعدائها، كنت في شبابي إذا ضبطني أحد في الطريق إلى درب طياب تعللت بأنني ذاهب للصلاة في الجامع الأحمر!
فقال طه الغريب: إنهم يبدعون في نشر الرعب سامحهم الله.
وبعد مرور أيام جالستني قرنفلة، طالعتني بوجه كئيب ثم سألتني باهتمام: خبرني عن معنى ذلك؟
قرأت خواطرها الخفية ولكنني تجاهلتها، فقالت: توجد حولنا أسرار!
فتمتمت: ربما. - بل هو مؤكد، جميع الناس يتكلمون ولكن من الذي يبلغ الكلام؟
فقلت بعد تردد: أنت أدرى بالمكان. - لا شك لدي في رجالي، عارف سليمان مدين لي بحياته، إمام الفوال فهو من رجال الله، وكذلك جمعة.
فقلت: وشيوخ المعاش في عزلة على شاطئ الحياة.
وتبادلنا نظرة طويلة ولكنها قالت: زين العابدين وغد، ولكن لا صلة له بالسلطة فضلا عن أنه يخشاها لانحرافه.
فقلت: يعبر بالمقهى كثيرون، ونحن لا نلقي إليهم بالا.
فتنهدت وقالت بامتعاض شديد: لم يعد في الدنيا أمان.
ورجع الصمت المشحون بالأسى، وقعدت قرنفلة على كرسي الإدارة كتمثال فاقد الحياة. أجل كانت أمثال تلك الحوادث تقع كل يوم ولكن تأثيرها يختلف إذا وقعت فيمن يعدهم الإنسان أسرته. وشككنا في كل شيء حتى الجدران والموائد. وعجبت لحال وطني؛ إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، يملك القوة والنفوذ، يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ، يبشر باتجاه إنساني عظيم، ولكن ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء. وفقد زين العابدين أعصابه فجأة وبلا سبب محدد وراح يقول: أنا حزين، أنا سيئ الحظ، أنا تعيس، اللعنة علي يوم ولدت ويوم عرفت هذا المقهى.
تجاهلته قرنفلة فمضى يقول متحديا: ما ذنبي؟ إني أحبك فما ذنبي؟ لماذا تسيئين إلي كل يوم؟! ألا تعلمين أنه يقتلني قتلا أن أراك وأنت تموتين حزنا؟ لماذا؟ لا تحتقري حبي، الحب لا يحتقر، إنه أسمى من ذلك وأعظم، أسفي عليك، تبعثرين الأيام الباقية من عمرك العزيزة بلا رحمة، وترفضين أن تعترفي بأن قلبي هو القلب الوحيد الذي يعبدك.
وخرجت قرنفلة من صمتها وقالت تخاطبنا نحن: هذا الرجل لا يريد أن يحترم حزني!
فقال زين العابدين بمرارة: أنا! إني أحترم أوباشا ومنافقين ومجرمين وقوادين ومرتشين فكيف لا أحترم حزن من علمني تقديس الحزن من حزني عليه؟! معذرة، احزني، استسلمي لقضائك، تمرغي في وحل الأيام، ربنا معك.
فقالت بهدوء: لعله من الأفضل لك أن تذهب. - لا مكان لي إلا هنا، وأين أذهب؟ على الأقل يوجد هنا وهم جنوني إخاله أحيانا أملا.
وسرعان ما عاد إلى رشده وهدوئه وهو خجلان، ولكي يسدل ستارا على تهوره نهض بقوة ورشاقة جندي، فنظر نحو قرنفلة وقال: أعتذر.
وحنى رأسه تحية ثم جلس وراح يدخن نارجيلته.
وجاء الشتاء ببرده القارص ولياليه الطويلة؛ فتذكرت أن الشبان كانوا يتلاقون في المقهى حتى في الشتاء - وقت الدراسة - ولو ساعة واحدة، وقلت لنفسي إن المقهى بدونهم لا يحتمل، لم يبق إلا الشيوخ وقد نسوا المعتقلين وتناسوا الرعب والسياسة فعكفوا على همومهم الشخصية، وكأنه لم يعد لهم من عمل إلا انتظار الأجل. وراحوا يبكون الأيام الماضية ويتبادلون وصفات بقصد خفي واحد هو تأجيل الموت. - كل واشرب ولا تهتم فهذا خير شعار في الحياة. - غير ريقك على كوب ماء، ويا حبذا لو عصرت عليه نصف ليمونة. - قال حكيم قديم إني أعجب لآل مصر كيف يمرضون وعندهم الليمون. - الطب الحديث يقرر أن صعود السلم مفيد للقلب. - ومفيد له أيضا المشي. - ويقولون إن الجماع مفيد أيضا للقلب. - السياسة وأنباء الاعتقالات ومعاصرة العظماء. - الزبادي مدهش، والفاكهة ، أما العسل الممزوج بإفراز الملكة فحدث عنه ولا حرج. - والضحك، لا تنسوا الضحك. - وكأس واحدة بالثلج قبيل النوم. - والهرمونات لا يجوز الاستهانة بها. - ومنوم احتياطي للأخبار المزعجة. - وبعد كل شيء وقبل كل شيء قراءة القرآن.
أجل. المقهى بلا شباب لا يحتمل، وحتى قرنفلة لا تدري بأحزاني، ولا تدري أن الصداقة قوية وظمأى مثل الحب نفسه، وها أنا ذا أتجرع الملل وأعاني الوحشة، وأرمق الكراسي الجامدة الصامتة بقلب مشوق حزين، يتلهف على مناجاة أصحابها لتنقدح فيه نشوة الحماس والإبداع والآلام المقدسة. •••
ولدى إقبالي على المقهى ذات مساء لمحت وجه قرنفلة مشرقا على غير عادته. دهشت حقا واجتاحني فيض من الأمل فاندفعت نحو الداخل، وسرعان ما وجدتني حيال الأصدقاء المحبوبين؛ زينب، وإسماعيل، وحلمي، واثنين أو ثلاثة آخرين، وتعانقنا بحرارة وضحكة قرنفلة تباركنا، وتبادلنا الأشواق متجنبين أين وكيف ولماذا، ولكن تردد في همس اسم خالد صفوان الذي صار رمزا من رموز حياتنا لا تكمل إلا به. وقالت لي قرنفلة: تصور أنه قد وقع سوء تفاهم في مطلع الشتاء، وأن البراءة ثبتت في مطلع الصيف، ولا تسأل عن مزيد، حسبك أن تتصور إن استطعت.
ليكن. لا حيلة لنا في ذلك. وقلت لها: ولنتصور أيضا أن المقهى أذن كبيرة!
وتجنبنا حديث السياسة ما وسعنا ذلك، قلت لهم: إذا دعت ضرورة إلى الخوض في موضوع وطني؛ فلنتكلم متخيلين أن السيد خالد صفوان يجالسنا.
ولكن الخسارة تبدت ملموسة أكثر من المرة الماضية، هزلوا كأنهم خارجون من مجاعة، لاحت بأعينهم نظرة حزينة وساخرة، ورسب في زوايا أفواههم امتعاض راسخ. إن حرارة الحديث تذيب الرواسب، فإذا فرغوا منه وخلوا إلى أفكارهم اختفت الأقنعة، وتجلى الفتور والعزلة، حتى العلاقة الحميمة بين زينب وإسماعيل تعاني داء خفيا لا يكاد يرى عند النظرة العابرة، الأمر الذي أثار عواطفي وتساؤلاتي. يا ألطاف الله، إن الآلة الجهنمية تطحن أول ما تطحن أصحاب الرأي والإرادة، فماذا يعني هذا؟
وجالستني قرنفلة مرة فلاحظت أنها راضية ولكنها غير سعيدة، وكنت أعلم أنها لا تجالسني إلا للبوح بشيء فقلت أفتتح الحديث: لندع الله ألا يتكرر المكروه.
فقالت بأسى: ادع الله كثيرا جدا، قل له إننا في حاجة شديدة إلى دليل حي على رحمته وعدله.
فسألتها بإشفاق: ماذا وراءك؟ - الذي رجع إلى حضني خيال فأين إذن حلمي حمادة؟ - لعلك تقصدين الصحة، ولكنهم كلهم في البلوى سواء، وسوف يستردون العافية خلال أيام. - لعلك لا تدري أنه شاب شجاع ذو كبرياء، وأن مثله يكون عرضة للشر أكثر من غيره.
ثم قالت وهي تحدجني في عيني: لقد فقد القدرة على السعادة!
فلم أفهم تماما ما تعنيه فعادت تقول: لقد فقد القدرة على السعادة. - لعلك تبالغين في التشاؤم. - كلا، وأنا لا أحزن لغير ما ضرورة.
وتنهدت بعمق ثم استطردت: منذ ملكت هذا المقهى، وأنا دائبة على العناية به، الأرض والجدران والأثاث تنال حظها كاملا من اهتمامي الكلي، أما هم فينكلون بفلذات الأكباد، عليهم اللعنة.
ثم قبضت على ذراعي وقالت: لنبصق على الحضارة.
وترددت طويلا بين انبهاري بالعظمة ومقتي للفزع والإرهاب، ولم أدر كيف يمكن أن يتطهر من الحشرات ذاك البناء الشامخ.
وكان زين العابدين عبد الله أول من قال لنا: في الجو غيم!
إنه يستمع إلى الإذاعات الأجنبية، ويعرف أخبارا نادرة، فحدثنا عن نشاط للمتسللين من أبناء فلسطين وما يتوعد به العدو من ردع. قال: ليس بعيدا أن تنشب حرب هذا العام أو العام المقبل.
ولكننا كنا واثقين من قوتنا، فقال طه الغريب: لا خوف علينا إلا من تدخل أمريكا.
وفي ذلك النطاق دار الحديث، ولم يفسد الصفو في تلك الفترة إلا هبة عارضة من حلمي حمادة كادت تقوض أركان حبه الراسخ؛ فقد توهم أن قرنفلة تعامله بعطف لا يليق بكرامته، فرفض ذلك بإباء، وقرر هجر المقهى لولا أن أمسك به أصحابه، وذهلت المرأة وراحت تعتذر إليه وهي لا تدري بالدقة ما ذنبها. وراح يقول بعصبية: إنه لمقرف أن يضطر الإنسان إلى سماع نغمة واحدة.
واستطرد بحدة: وأنا أكره الأصوات الباكية.
وبحدة أعنف: ثم إنني ضقت بكل شيء.
واعتبرنا المسألة عرضا للحال العامة ، وتجنبنا إحداث أي مضاعفات حتى تمر بسلام، ولم يغن فرح زين العابدين الخفي عنه شيئا؛ فإن حلمي حمادة لم يتماد في غضبه، ولعله ندم على ما فرط منه، ونال التأثر من قرنفلة غايته، ولكنها لم تنبس بكلمة واحدة، وقد همست لي: آخر ما كنت أتوقع.
فسألتها بقلق: أتراه فطن إلى حديثك معي عنه؟
فنفت ذلك بهزة من رأسها. - أله سابقة في ذلك؟ - هي الأولى، والأخيرة كما أرجو. - يحسن بك أن تقلي من الشكوى والرثاء.
فتنهدت قائلة: إنك لا تدري كم أنه تعيس! •••
وفي أواسط ربيع العام وقع الاختفاء الثالث!
لم يثر تلك المرة أي تساؤلات ولا عنفا في ردود الأفعال، تبادلنا النظرات، هززنا رءوسنا، نطقنا بكلمات لا معنى لها: كالعادة. - نفس النتائج. - لا جدوى من التفكير.
أما قرنفلة فقد صمتت طويلا فوق كرسي الإدارة، ثم استرسلت في الضحك طويلا حتى دمعت عيناها، وجعلنا ننظر إليها من مجلسنا صامتين. - اضحكوا ... اضحكوا.
وجففت عينيها بمنديلها الصغير وواصلت: اضحكوا، جفت الدموع، ولكن لنا الضحك، الضحك أقوى من البكاء وأسلم عاقبة، اضحكوا من صميم القلوب، اضحكوا حتى يسمعنا أصحاب الحوانيت بشارعنا السعيد.
وسكتت دقيقة ثم استأنفت: هل نحزن لأمور تقع بانتظام مثل الشروق والغروب؟ ... سوف يعودون، وسيجلسون بيننا كالأشباح، وعهد الله أن أسمي المقهى وقتذاك «مقهى الأشباح».
ثم نظرت إلى عارف سليمان وقالت آمرة: قدم كأسا لكل زبون من زبائننا الكرام لنشرب نخب الغائبين!
وانطوت السهرة في كآبة شاملة.
على أننا سرعان ما نسينا همومنا القريبة التي تعد شخصية بالقياس إلى الأحداث الكبيرة التي اجتاحت الوطن؛ فقد تطايرت الشائعات وما ندري إلا والجيش المصري ينطلق بكل ثقله إلى سيناء، فاشتعلت المنطقة كلها بنذر الحرب، ولم يداخلنا شك في قوتنا ولكن ... - أمريكا، هي العدو الحقيقي. - إذا هجم الجيش انهالت علينا الإنذارات. - سيتحرك الأسطول السادس. - ستنطلق الصواريخ نحو الدلتا. - ألا يصبح استقلالنا نفسه في خطر؟
الحق أننا لم نشك في قوتنا. تداعت كثير من القيم أمام أعيننا، وتلوثت أيد لا حصر لها، ولكننا لم نشك في قوتنا، وإنه لتفكير لا يخلو من سذاجة، ولكن عذرنا أننا كنا مسحورين ومصرين على الأمل، وبدا أنه فوق طاقتنا أن نكفر بأول تجربة وطنية خالصة جاءت في ختام سلسلة من عصور الذل والاستعباد. ولبثنا متلهفين حتى استيقظنا على أعنف مطرقة صكت رءوسنا الثملة بنشوات العظمة. ولن أنسى ما زفره طه الغريب، وهو أطعننا سنا؛ فقد تجلى الأسى في عينيه وقال: ها أنا ذا على حافة القبر، وسيجيء الأجل بعد أسبوع أو شهر، فيا ربي لم لم تعجل به قبل أن يدركني هذا اليوم الأسود!
وأحرق الحزن قلوب الشعب البريء، ولم يعد له من أمل في الحياة، إلا أن يرد الضربة ويسترد الأرض، ولكني أنصت هنا وهناك إلى قلوب تخفق بالشماتة والفرح، وبدأت أدرك أن الصراع ليس صراعا وطنيا خالصا، وأن الوطن ينزوي حتى في أشد أحوال المحن في خضم صراع آخر يحتدم حول المصالح والعقائد، وجعلت أراقب هذه الفكرة فيما تلا ذلك من أيام وأعوام حتى وضحت جوانبها وتعرت جذورها، فإذا بيوم 5 يونيو يستوي في التاريخ هزيمة لقوم من العرب ونصر لقوم آخرين منهم أيضا، وأنه جاء ليهتك الستر عن حقائق ضارية، وليعلن حربا طويلة المدى بين العرب أنفسهم لا بينهم وبين إسرائيل فحسب. •••
وعقب وقوع الهزيمة بأسابيع عاد الغائبون أو بالأحرى عاد إسماعيل الشيخ وزينب دياب وآخران. وجدنا في عودتهم فرحة عابرة وسط الأحزان وتعانقنا طويلا.
وهتف إسماعيل الشيخ بصوت مضطرب: ها نحن أولاء نعود.
ثم بنبرة أعلى: وقد قبض على خالد صفوان!
فقال محمد بهجت: كثيرون انتقلوا من مقاعد الحكم إلى أعماق السجون؟
ووقفت قرنفلة وراء الخوان وتساءلت: أين حلمي؟
ولكن أحدا منهم لم يجب فعادت تسأل بإلحاح وضيق: أين هو؟ ولم لم يحضر معكم؟
لم ينبس أحد بكلمة بل وتجنبوا النظر نحوها فهتفت: ألا تريدون أن تتكلموا؟
ولما لم تسمع صوتا صرخت: لا! ... لا!
تم مخاطبة إسماعيل: تكلم، قل أي شيء يا إسماعيل.
ثم تقوس ظهرها فوق الخوان كأنما تعاني تمزقا في بطنها، لبثت كذلك مدة في صمت شامل، ثم رفعت رأسها وهي تتمتم: الرحمة ... الرحمة يا أرحم الراحمين!
وأوشكت أن تنهار لولا أن تلقاها بين يديه عارف سليمان، ثم مضى بها إلى الخارج. عند ذاك قال إسماعيل الشيخ: قيل إنه مات في أثناء التحقيق.
وقالت زينب: هذا يعني أنه قتل.
كان الحزن - كالفرح - ينسى بسرعة في تلك الأيام. وقد قدمت العزاء لقرنفلة، ولكنها لم تفقه لكلامي معنى.
وانداحت تلك الموجة الطارئة فعدنا نتابع الأحداث ونمضغ الأحاديث، ونعاني الأيام فنحملها فوق كواهلنا ثم نمضي بخطوات ثقيلة متعثرة. نستعيذ من وحدتنا بالتلاقي وكأننا نتقي ضربات المجهول بالتلاصق، ومخاوف الاحتمالات بتبادل الآراء، وهجمات اليأس العاتية بالنكات الساخرة الأليمة، والخطايا الكبرى بزفرات الاعتراف الحارة، وفظاعة المسئولية بتعذيب النفس، وتجهم الجو الخانق بالأحلام المفتعلة. لم نكف لحظة عما كنا فيه والساعات تمضي في أثر الساعات، ونحن نحترق ونتهالك ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات.
وكان أشدنا مناعة حيال الوباء إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية؛ فهما يرفضان الهزيمة ويصدقان الراديو، ويحلمان بيوم النصر، ولكنهما بمرور الأيام مضى شعورهما بالكارثة يفتر، واهتمامهما بالحياة اليومية يتصاعد، ثم انحدرا في طريق اللامبالاة إلا ما استقر في أعماق النفس من حزن دائم خفي، وأما جماعة الشيوخ فقد ارتدت مع الأيام إلى الماضي. - لم نصل إلى مثل هذه الحال في أي عهد من العهود. - حسبنا ما كنا نستظل به من حماية القانون. - وحتى أعنف أيام الاستبداد لم تخل من صوت معارضة حر. - وأيام الجهاد والنفي والفداء المجيدة كيف يمكن أن تنسى؟!
وما لبثوا أن رجعوا إلى الوراء أكثر وأكثر حتى استقروا في عهد ابن الخطاب والرسول، فتنافسوا في نبش الماضي يستخرجون أمجاده يتسلون بها عن حاضرهم.
وكان زين العابدين عبد الله يتابعهم بين الاهتمام والاستهانة ثم أفصح عن رأيه قائلا: الحل تملكه واحدة هي أمريكا!
وصادف رأيه هوى في نفس عارف سليمان الساقي فقال: صدقت.
ثم أشار إشارة شاملة وقال: سيتغير كل شيء من جذوره، وما هذه الصحوة إلا الانتفاضة الأخيرة قبل تسليم الروح.
وبقي الشبان وحدهم لا يسلمون أنفسهم للماضي، ولا يأملون خيرا في أمريكا، ورويدا رويدا، وفي أعقاب إفاقتهم من الصدمة، راحوا يتكلمون عن معركة بعيدة المدى، وصراع على مستوى العالم بين قوى التقدم والإمبريالية، وعن تغييرات أساسية جوهرية في الداخل. وهكذا ... وهكذا ... وهكذا.
وبخلاف المسألة العامة لم يحركني شيء سوى ما طرأ من تغيير ملموس على العلاقة بين زينب دياب وإسماعيل الشيخ. تسلل مرض مجهول إلى روحيهما فباتا غريبين أو كالغريبين حتى بت أعتقد أنهما واريا حبهما القديم التراب، وأن كليهما قد استقل بحياته وأحزانه. وعند ذاك رجعت إلى ظني الأول عن حبها لحلمي حمادة، فملت إلى الأخذ به أكثر وأكثر.
وسرني أن أرى قرنفلة وهي تستعيد نشاطها المألوف، واجمة متحفظة أغلب الوقت، تصغي إلينا بلا مشاركة ولا اندماج، وتبدت أكثر جدية وأوغل في الكبر.
وبمرور الأيام غابت وجوه، وترددت وجوه بين الغياب والحضور، واستمر الحال لا يكاد يتغير. وفي تاريخ متأخر نسبيا تهيأت لي ظروف وثقت ما بيني وبين بعض أصدقاء الكرنك، وعند ذاك علمت منهم ما لم يكن لي به علم، فاطلعت على خبايا الأحداث والقلوب وشربت الكأس حتى الثمالة.
إسماعيل الشيخ
حقا علمت ما لم يكن لي به علم.
وقد أثار إسماعيل الشيخ اهتمامي من أول لقاء ببنيانه القوي، وقسماته الكبيرة الواضحة. لم أر عليه سوى بدلة واحدة يرتديها صيفا وشتاء، يخلع جاكتتها صيفا ويعيدها شتاء بالإضافة إلى بلوفر. ورغم فقره الظاهر حظي بالاحترام، وقد نال أخيرا الليسانس رغم اعتقالاته المتقطعة. - إني ابن بيئة فقيرة جدا، هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟ أبي عامل في مطعم كبدة، أمي بياعة سريحة، وهي تبيع أيضا الخوص والريحان في مواسم القرافة، إخوتي الكبار صبي جزار وسواق كارو وإسكافي، مسكننا مكون من حجرة وحيدة في فناء ربع، الربع كأنه أسرة كبيرة يجاوز أفرادها الخمسين عدا، وليس به حمام ولا ماء، وبه مرحاض واحد في ركن الفناء تحمل إليه المياه بالصفائح، وفي الفناء يجتمع النساء، والنساء والرجال أحيانا، يتبادلون الأحاديث والنكات وربما الشتائم واللكمات ويأكلون ويصلون.
وينظر إلي بتجهم ويقول: لم يتغير شيء جوهري في حارة دعبس حتى اليوم.
ولكنه يستدرك: غير أن المدارس فتحت أبوابها، تلك نعمة لا يمكن إنكارها، دخلت مع الداخلين، ولعل أبي كان يتمنى لي الفشل حتى يتخلص مني بإلحاقي بحرفة مثل إخوتي، ولكني خيبت ظنه، وواصلت النجاح حتى نلت الثانوية العامة، وأمكنني الالتحاق بكلية الحقوق، وعند ذاك غير الرجل رأيه وداخله زهو وعجب، أيمكن حقا أن يصير ابنه وكيل نيابة؟ وثمة وظيفتان معروفتان جيدا في حارتنا: الشرطي ووكيل النيابة. وأهل حارتنا يتعاملون معهم كثيرا كما تعلم، وصممت أمي على أن أستمر «ولو بعت عيني» .. والله وحده يعلم كم كلفها أن تبتاع لي بذلة تليق بطالب في الجامعة، ولكنها اعتبرتها كعقار يجب المحافظة عليه، ويجوز إصلاحه أو ترميمه أو حتى تجديده، ولكن لا يجوز الاستغناء عنه.
ثم بحدة: الحارة اليوم مكتظة بالتلاميذ والتلميذات، ولكن مستقبلهم مشكلة متداولة بين الأمم!
وقد قامت الثورة وهو ابن ثلاثة أعوام؛ فهو ابن من أبناء الثورة بكل معنى الكلمة ... ولذلك لم أخف عنه دهشتي لما حل به من آلام وقلت له: لقد ظنك البعض شيوعيا أو من الإخوان.
فقال بيقين: لا هذا ولا ذاك، وانتمائي الوحيد كان إلى ثورة يوليو، أما الآن ... وجعل يهز رأسه صامتا كأنما لا يدري ما يقول، ثم قال: وقد عشت دهرا وأنا أظن أن تاريخ مصر يبدأ بالثالث والعشرين من يوليو، ولم أتجه للبحث عما وراء ذلك إلا بعد النكسة.
واعترف لي بأنه آمن بالاشتراكية المصرية، وأن إيمانه بالدين لذلك لم يتزعزع فسألته: خبرني عن إيمانك بها الآن؟
فقطب قائلا: كثيرون يصبون غضبهم عليها باعتبارها سببا من أسباب الهزيمة، ولكن الحقيقة التي يجب أن تعرف هي أنه لم تكن توجد في حياتنا اشتراكية حقيقية؛ لذلك فإنني لم أتخل عنها، وإن تمنيت أن أقطع الأيدي التي تطبقها، وذلك ما فطن إليه من بادئ الأمر حلمي حمادة الله يرحمه. - لماذا؟ - كان شيوعيا! - إذن كان يوجد بينكم غرباء؟ - أجل، ولكن ما ذنبنا نحن؟
وحدثني عن زينب طويلا: عرفت زينب في الحارة منذ الطفولة، هي تقيم في نفس الربع أيضا، وكانت لنا ألعاب مشتركة تعرضنا بسببها للضرب بالعصا، ولما استوت صبية تجلت ملامحها، كانت تسير فتجذب الأنظار وتحرك الأشواق، فأتصدى أنا للدفاع عنها مستمدا الشجاعة من ذكريات الفتونة في حارتنا، وفي المرحلة الثانوية حال بيننا الرقباء والتقاليد ولكن حبنا كان قويا، يلهب المشاعر ويفرض ذاته على الجميع، وأخيرا وجدنا حريتنا في الجامعة وأعلنا خطوبتنا وانتظرنا الزواج باعتباره ملاذنا الأخير، وها هي الأحلام تتبدد ويموت كل شيء.
وجدا في الجامعة حرية لم يحلما بها من قبل، فوقت الطلبة لا يمكن أن يخضع لسيطرة حارة دعبس وتزمتها، وكل غيبة ستجد لها عذرا أو مبررا؛ لذلك أمضيا ساعات طويلة معا، وتعرفت بأصحابه، وأصبحت من أهل الكرنك، واعتقلت معه، ونضجت شخصيتها فوق ما كان يتصور.
وضحك عاليا وقال: طحنتنا أزمة الجنس، وتخبطنا حيارى طويلا، وأحاطت بنا مغريات تجارب حرة تجري من حولنا، وقلت لها يوما «لا شك في حبنا أو إخلاصنا، وسوف نصبح زوجين، فما رأيك؟» وكنت أحتويها بين ذراعي في عناق حار، ولكنها قالت لي: «لقد أقسمت لوالدي.» فقلت لها: «هذا سخيف ولا معنى له، ألا تسمعين ما يقال؟» فقالت في ارتياب: «لست واثقة ... ولا أنت!» وكنت أعاني آلاما عنيفة وكانت أيضا تعاني.
وساءلت نفسي إلى أي درجة تعتبر هذا الثوري ثوريا؟ إنه ثوري من نوع خاص وهو لا يخفي إيمانه بالدين. وددت أن أسأله عن موقفه من الحرية الجنسية، ولكنني خشيت أن يظن بي رغبة في التسلل إلى أسرار زينب، فأبيت أن أستدرجه إلى البوح بما لا يريد البوح به. - ومع ذلك فالحب الحقيقي يهب مناعة بخلاف ما يتصور كثيرون.
ولكنني ما زلت أذكر قوله أيضا: في السجن اجتاحنا الضياع، فاهتز بناؤنا المتين من أساسه.
وتذكرت أن الهزات العنيفة في حياة البشر تعقبها استغاثات جنسية تشارف حد الجنون، فماذا يعني يا ترى؟ ولكنه عاف - فيما بدا - الرجوع إلى الموضوع ... وسألته: وحلمي حمادة؟
فهتف: كان يتخطى التقاليد بكل عنف. - أكان من نفس البيئة؟ - كلا، كان أبوه مدرس لغة إنجليزية، أما جده فكان عاملا بالسكك الحديدية. - أكان يحب قرنفلة حقا؟ - أجل، لا يداخلني شك في ذلك، لقد عرفنا المقهى مصادفة، ولكنه أصر على العودة قائلا: «لنعد إلى مقهى المرأة.» فعجبت لذلك ولكنه قال: «إنها جذابة ألم تلاحظ ذلك؟» وكنا راغبين في العودة كذلك، وقد أحببناها أيضا كأصدقاء.
ولم تكن جاذبية قرنفلة موضع شك عندي؛ فقد وقعت أنا نفسي في إسارها، ولكن هل يكفي ذلك لأعدل عن ظني القوي فيما يتعلق بحب حلمي حمادة لزينب؟ ... ألا يجوز أنه صرح بما صرح به مداراة لعاطفته الحقيقية؟! - كان يحب قرنفلة، لعله لم يكن سويا في عواطفه، لعله كان يروم عاطفة كالحب، ولكنها ليست الحب نفسه، ولكنه على أي حال عاملها معاملة أمينة صادقة، لم يستجب قط لإغراء استغلالها رغم تيسره له، وهو لا يخلو من مثالية في سلوكه، ومن ناحية أخرى كانت أحواله المادية حسنة، وحسبك أن تعلم أننا ندين في ثقافتنا العامة للكتب المعارة من مكتبته. - لعله عطف على تاريخها المجيد.
فضحك وقال: كان يصغي إليها متظاهرا بالتصديق، ولكنه لم يؤمن بكلمة واحدة، وكان يحبها كما هي، ولكنه طالما سخر من مزاعم التجديد في الفن والتفرد بالسلوك المثالي.
فقلت له كشاهد محايد: لقد كانت مثالا طيبا في الفن والأخلاق!
فقال بحزن: فاتت فرصة إقناعه!
ولكن لماذا قضي على إسماعيل الشيخ بالاعتقال؟ خفت أن يجيب على سؤالي - كما في الماضي - بالصمت، غير أنه قال مستأنسا بتغير الظروف والأحوال: كانت ليلة، وكعادتي في فصلي الربيع والصيف كنت أنام على أريكة في الفناء تاركا حجرتنا الوحيدة لوالدي، وكنت مستغرقا في النوم، عندما شعرت بنهار ينهمر على روحي كحلم، واستيقظت على هزة شديدة، فتحت عيني فضاع بصري في ضوء باهر يتدفق في عيني، جلست فزعا فإذا صوت يسأل: أين مسكن الشيخ؟
فقلت: هنا، ماذا تريد؟ أنا ابنه إسماعيل.
فقال بارتياح: عظيم.
وأطفأ الكشاف فساد الظلام، وبعد حين تبينت أشباحا: قم معنا. - من أنتم؟ - لا تخف ... نحن من رجال الأمن. - ماذا تريدون؟ - ستجيب على بعض أسئلة ثم تعود قبل طلوع النهار. - دعوني أخبر والدي وأرتدي بدلتي. - لا داعي لذلك ألبتة.
وقبضت يد على منكبي فاستسلمت، وسرت بينهم حافيا بجلباب النوم، ثم دفعوا بي داخل سيارة فجلست محاصرا باثنين، ومع أن الظلمة كانت كثيفة إلا أنهم عصبوا عيني وأوثقوا يدي، فسابت ركبتاي وتساءلت: لماذا تعاملونني هذه المعاملة وأنا بريء؟ - اصمت. - خذوني إلى مسئول وسترون! - إنك في الطريق إليه.
ركبني رعب مميت، مميت بكل معنى الكلمة، ورحت أتساءل عن التهمة المأخوذ بها، لست شيوعيا ولا من الإخوان ولا إقطاعيا، ولم يلفظ لساني بكلمة تنال هيبة العهد الذي أعده عهدي مذ وعيت ما حولي.
توقفت السيارة في مكان ما، أخرجت منها، ثم سرت معصوب العينين بين اثنين يقبضان على ذراعي، حتى دفع بي إلى مكان، انفكت القبضتان عن ذراعي. سمعت وقع الأقدام وهي تبتعد وصرير الباب وهو يغلق. كانت يداي قد تحررتا كما رفعت العصابة عن عيني، ولكنني لم أر شيئا كأنما قد فقدت البصر. تنحنحت فلم يجبني أحد. توقعت أن تخف الظلمة باعتياد النظر فيها، ولكنها لم تخف، ولم يند عن المكان صوت، ترى أي نوع من المكان هو؟! مددت ذراعي أتحسس المجال، تحركت بحذر شديد، سرت برودة الأرض في قدمي، لم أعثر بشيء إلا الجدران، لا يوجد في الحجرة شيء، لا كرسي ولا حصيرة ولا أي قائم، الظلام والفراغ والحيرة والرعب، والزمان في الظلام والصمت يتوقف تماما، وبخاصة وأنني لم أعرف متى ألقي القبض علي، ولا فكرة لي عن متى تنقشع الظلمة أو متى تبعث الحياة في تلك الجثة الشاملة. ولكن أحب أن أخبرك أن الإنسان يتحايل على المعاناة إذا تخطت حدودها، وأنه في أعماق العذاب يتوثب لطرح همه باستهتار يستوي أن تعده قوة أو يأسا، فاستسلمت للمقادير وقلت ليأت الشيطان إن كان مقدورا له أن يأتي، وليأت الموت أيضا. وكففت عن طرح الأسئلة التي لا جواب لها، ولكن طاب لي أن أذكر سلوك فيروس الإنفلونزا الذي يواجه مضادات الحيوية بخلق جيل جديد ذي مناعة ضد المضادات.
وسألته: لبثت واقفا؟ - عندما أنهكني الإرهاق قرفصت، ثم تربعت على الأسفلت، وبقدرة قادر نمت، هل تتصور ذلك؟ ولما استيقظت، وتذكرت، أدركت أنني فقدت موقعي من الزمن، أي وقت نمت؟ في أي لحظة أنا من ليل أو نهار، وتحسست ذقني، وقلت ستكون هي ساعتي الكسيحة. - تركت طويلا؟ - نعم. - والطعام؟ - كان الباب يفتح ويدفع إلي بطبق به جبن أو مادة مملحة ورغيف. - والضرورة؟ - في ساعة محددة يفتح الباب أيضا، فيدعوني عملاق كمصارعي السيرك، ويقودني إلى مرحاض في نهاية طرقة، فأتبعه مغمض العينين تقريبا تفاديا من ألم الضوء، وما إن يغلق الباب ورائي حتى يصيح بصوت كالرعد «أسرع يا بن الكلب ... هل تبقى النهار بطوله يا بن العاهرة؟» ولك أن تتصور حالي في الداخل. - ولا تدري كم يوما لبثت؟ - الله وحده يعلم فلحيتي عند كثافة معينة لم تعد تسعفني. - ولكنهم حققوا معك ولا شك؟
فقال متجهما: أجل ... وجدتني يوما أمام خالد صفوان!
وسكت مضيقا عينيه في تأثر حتى شدني إلى مجال انفعاله. - مثلت أمام مكتبه حافيا رث الجلباب مهدم الأعصاب، ورائي شخص أو أكثر، وغير مسموح لي بالتلفت يمنة أو يسرة، فضلا عن النظر فيما ورائي، فلم أر من المكان شيئا، وتركز بصري الكليل في شخصه، وتحللت البقية الباقية من آدميتي في رهبة شاملة.
وارتسم الامتعاض في قسماته مليا ثم واصل: ورغم كل شيء انطبع منظره في أعماقي بقامته الربعة، ووجهه الضخم المستطيل، وحاجبيه الغزيرين الناميين إلى أعلى، وعينيه الواسعتين الغائرتين، وجبهته العريضة البارزة، وفكيه القويين وسحنته الخالية من أي تعبير، ورغم كل شيء أيضا خلقت بقوة اليأس أسطورة أمل في ذاته فقلت: أحمد الله على أنني أجد نفسي أخيرا أمام الرجل المسئول.
فأسكتتني لكمة جاءتني من وراء، فتأوهت عاليا، أما هو فقال: لا تتكلم إلا إذا طولبت بجواب.
وسألني عن اسمي وسني وعملي فأجبت وعند ذاك سأل: متى انضممت إلى الإخوان؟
فذهلت لغرابة السؤال، وأدركت لأول مرة نوعية التهمة الموجهة لي وقلت بصدق: ما انضممت إلى الإخوان في يوم من الأيام. - ما معنى هذه اللحية إذن؟ - لقد نبتت في السجن. - أيعني هذا أنك عوملت معاملة غير طيبة؟
فأجبته في شبه استغاثة: كانت معاملة مرعبة يا سيدي وبلا أدنى مبرر. - ما شاء الله!
أدركت أنني أخطأت ولكن بعد فوات الفرصة أما الرجل فرجع يسأل: متى انضممت إلى الإخوان؟
فشرعت في الإجابة قائلا: ما انضممت ...
ولكن الكلام انقطع. غصت في الأرض بطريقة مذهلة ثم ارتفعت الأرض متحدية ضعفي بما يشبه السحر، وسرعان ما ذاب خالد صفوان في الظلام. أخبرني حلمي حمادة فيما بعد أن ماردا يقف ورائي صفعني بقوة فأغمي علي، إذن قد أغمي علي، ثم وجدتني في الظلام الذي أخذت منه على الأسفلت.
قلت برثاء: يا له من عذاب! - وقد انتهى فجأة وعلى غير انتظار، في حجرة خالد صفوان أيضا، ساقوني إليه فبادرني قائلا: ثبت أن اسمك دون في السجل لأنك تبرعت بقرش لبناء جامع ودون أن تكون لك صلة بهم.
فقلت بانفعال وتهدج: ألم أقل ذلك يا سيدي؟ - الخطأ له عذر أما التهاون فلا عذر له.
ثم بقوة: نحن نحمي الدولة التي تحرركم من كافة أنواع العبودية. - وإني من أبنائها المؤمنين. - اعتبر الأيام التي أمضيتها هنا ضيافة، وتذكر دائما أنك عوملت معاملة طيبة، أرجو أن تتذكر ذلك دائما، وأن عشرات الرجال سهروا الليالي في جهد متواصل حتى ثبتت لهم براءتك. - الشكر لله ولكم يا سيدي.
وضحك إسماعيل الشيخ بمرارة عند تلك الذكرى فسألته: وهل قبض على الآخرين لنفس السبب؟ - كان يوجد بيننا اثنان من الإخوان، أما زينب فقد حققوا معها لعلاقتها بي وسرعان ما أفرج عنها، وبسببي أيضا قبض على حلمي حمادة، فلما ثبتت براءتي ثبتت بالتالي براءته.
كانت التجربة قاسية جدا، وبسببها كفر بجهاز من أجهزة الدولة هو المخابرات أما إيمانه بالدولة نفسها، بالثورة، فلم يتطرق إليه الشك أو الفساد وتصور أنها - المخابرات - تمارس أساليبها في خفاء من المسئولين. - فكرت عقب الإفراج عني في أن أرفع شكوى للمسئولين، ولكن حلمي حمادة منعني بقوة. - واضح أنه لم يكن يؤمن بالدولة نفسها؟ - بلى.
وفي أعقاب النكسة اتجه إسماعيل لأول مرة لدراسة تاريخ مصر الحديث: لا أخفي عنك أني أعجبت بقوة المعارضة وحريتها، وبالدور الذي لعبه القضاء المصري، لم يكن العهد شرا خالصا، وكان به عناصر فكرية جديرة بالاستمرار والنمو والازدهار، وكان التنكر لها من أسباب نكستنا. •••
وحدثني بعد ذلك عن اعتقاله الثاني: كنت في زيارة لحلمي حمادة في منزله، غادرته عند منتصف الليل، ألقي القبض علي فور خروجي من البيت، هكذا رجعت إلى حجرة الظلام والفراغ. وتساءل في حيرة عن التهمة التي ستوجه إليه، وطال انتظاره لذلك، وهو يعاني عذابات الجحيم حتى مثل مرة أخرى أمام خالد صفوان. - وقفت صامتا مستفيدا من تجربتي السابقة، متوقعا الشر - رغم ذلك - من جميع الجهات الأصلية، وتفرس خالد في وجهي وقال: يا لك من داهية، حسبناك يوما من الإخوان.
فقلت بنبرة ذات مغزى: وظهرت براءتي! - ولكن ما خفي كان أعظم.
فقلت بإخلاص: إني مؤمن بالثورة، هذه هي الحقيقة الوحيدة.
فقال بسخرية: الجميع مؤمنون بالثورة، في هذه الحجرة يجهر الإقطاعيون والوفديون والشيوعيون بإيمانهم بالثورة!
وحدجني بنظرة قاسية ثم سأل: متى انضممت إلى الشيوعيين؟
ووثب الرفض إلى حلقي، ولكنني كتمته وارتفع منكباي بحركة عكسية، كأنما ليخفيا قفاي، ولم أنبس.
عاد يسأل: متى انضممت إلى الشيوعيين؟
وشعرت بالتأزم يلتف حول عنقي، ولم أدر ماذا أقول فواصلت الصمت. - ألا تريد أن تعترف؟
استسلمت للصمت كما تعودت أن أستسلم للبلاء في الحجرة المظلمة فتمتم: طيب!
وندت عنه إشارة من يده. سمعت وقع أقدام تقترب فاقشعر بدني. وإذا بشخص يقف إلى جانبي، بطرف عيني أدركت أنه أنثى، التفت نحوها في دهشة وبدافع من شعور قهر خوفي، ورغما عني هتفت: «زينب!» - ها أنت تعرفها ويهمك أمرها فيما يبدو.
ونقل عينيه الغائرتين بيننا ثم تساءل: ألا يهمك أمرها؟
تمزقت روحي دقيقة كاملة. - أنت مثقف ولك خيال، فهل تتصور ما يمكن أن يحل بهذه الفتاة البريئة فيما لو أصررت على الصمت؟
سألته بنبرة رثاء موجهة للدنيا جميعا: ماذا تريد يا سيدي؟ - إني أسأل متى انضممت إلى الشيوعيين؟
فقلت دافنا آخر شعاع من أمل: لا أتذكر تاريخا معينا، ولكنني أعترف بأنني شيوعي.
وسجلت اعترافي على ورقة ثم غادرت الحجرة بين حراسي.
أعيد إلى زنزانته فلم يلق تعذيبا إضافيا كما توقع بادئ الأمر، ولكنه أيقن من الضياع.
ومضى عليه زمن لا يدريه حتى مضى به حارس يوما إلى باب مغلق وقال: لعلك اشتقت إلى رؤية صديقك حلمي حمادة!
وأزاح غطاء عن عين سحرية وأمره أن ينظر. - نظرت فرأيت مشهدا غريبا تعذر علي احتواؤه لأول وهلة، كمن يرى صورة سريالية، ثم تبين لي أن حلمي حمادة معلق من قدميه، وهو صامت ساكن، مغمى عليه أو ميت فتراجعت فزعا أترنح وغمغمت: هذا غير ...
وانحبس صوتي لدى التقائي بنظرته المصبوبة علي، وتساءل: غير ماذا؟
شعرت بغثيان فعاد يسأل: هذا غير ... غير ماذا؟
دفعني أمامه بعنف وهو يقول: غير إنساني أليس كذلك؟! والأحلام الدموية التي تحلمون بها أهي إنسانية؟
ومضى زمن أصيب في أثنائه بإنفلونزا حادة عقب نزلة برد في ذلك الشتاء. واستدعي للقاء خالد صفوان، وهو في دور النقاهة، وكانت أقصى أمنياته في ذلك الوقت أن ينقل إلى أي سجن أو معتقل خارجي، ولكن الرجل بادره قائلا ببرود: إنك سعيد الحظ يا إسماعيل.
فرفعت إليه عيني بذهول فقال: ثبتت براءتك أيضا هذه المرة!
خارت قواي وشعرت برغبة عميقة في النوم. - وكانت زيارتك لحلمي حمادة بريئة، أليس كذلك؟
فقلت بصوت لا يكاد يسمع: بلى يا سيدي. - إنه شيوعي متحمس، أليس كذلك؟
لم أدر ماذا أقول وعاودني الخوف. - لقد اعترف، ومن حسن حظه أيضا أنه قد ثبت أنه لا ينتمي لتنظيم أو حزب، ونحن نصيد اليوم العاملين لا الهواة!
فاستعدت الأمل في النجاة فقال: واضح أنك تلتزم بالصمت احتراما لعهد الصداقة!
وسكت لحظة ثم استطرد: وذاك الإيمان بالصداقة يجعلنا نطمع في صداقتك!
ترى متى يأمر بالانصراف؟ - كن صديقا لنا، قلت إنك تنتمي للثورة وأنا أصدقك، فلتكن صديقا لنا، ألا يرضيك ذلك؟ - إنه ليسعدني يا سيدي. - كلنا أبناء ثورة واحدة وواجب علينا أن نصونها بقوة، أليس كذلك؟ - طبعا. - ولكن لا بد من موقف إيجابي، نريد صداقة إيجابية! - إني أعتبر نفسي صديقا منذ البدء. - أيرضيك أن تعلم بأن شرا يتهدد الثورة وتسكت عنه؟ - كلا! - هذا ما نطالبك به، وستذهب إلى زميل ليهديك سواء السبيل، ولكنني أحب أن أذكرك بأننا قوة تملك كل شيء، ولا تخفى عنها خافية، تكافئ الصديق وتنكل بالخائن!
وعند تلك الذكرى اسود وجهه واشتد أساه فتساءلت لأخفف عنه: أكان بوسعك أن ترفض؟
فقال بحزن: ستجد دائما عذرا ما، ولكن ذلك لا يجدي!
هكذا رجع من معتقله مرشدا ذا مرتب ثابت وضمير معذب، وحاول أن يسوغ عمله بانتمائه الثوري، ولكن القلق لم يفارقه أبدا. - لأول مرة أجتمع بزينب وأنا غريب لدرجة، لي حياتي السرية الخاصة المجهولة لها والتي يجب أن تظل مجهولة. - أخفيت عنها الأمر؟ - نفذت الأوامر والإرشادات. - لتلك الدرجة آمنت بقوة تسلطهم؟ - أجل، وهو إيمان حقيقي، يضاف إليه الخوف الذي استهلك روحي ... وشعوري بالسقوط، ولم أفلح في إقناع نفسي بالشرف، فكان علي أن أستهتر بكل شيء، ولم يكن ذلك باليسير علي نظرا لتركيبي الأخلاقي واستقامتي الروحية فوقعت في التخبط والعذاب ... والأدهى من ذلك أنني وجدت زينب في صورة جديدة تغشاها كآبة عميقة، ولا أثر فيها للشعور بالنجاة فزدت إحساسا بالغربة. - ولكنها صورة متوقعة كما أنها قابلة للتغير. - ولكني لم أعثر على زينب الأصلية أبدا، وكانت ذات روح مرحة وثابة، وكان يخيل إلي أن روحها لا يمكن أن تقهر، ولكنها انتهت، وحاولت تشجيعها، ولكنها فاجأتني مرة بقولها: ما أحوجك أنت إلى من يشجعك!
وحدث أمر خارق في الأسبوع الأول عقب الإفراج عنه. كانا يسيران معا بعد الانصراف من الكلية فسألته: أين تذهب؟ - إلى الكرنك ساعة ثم إلى البيت.
فقالت وكأنما تخاطب نفسها: أود أن أخلو إليك بعض الوقت.
خيل إليه أن ثمة سرا يريد أن ينجلي فقال: نذهب إلى حديقة. - أريد مكانا آمنا!
وحل حلمي حمادة المشكلة بأن دعاهما إلى شقة قرنفلة - وهي شقته أيضا - وتركهما منفردين، وقال إسماعيل بقلق بريء: ستظن قرنفلة بنا الظنون.
فقالت باستهانة: لتقل ما تشاء!
وعبث به الشك، وأخذ يدها بين يديه فقبضت على يده ورفعتها إلى عنقها، وتلاقيا في قبلة طويلة، وجدها بعدها مستسلمة بين يديه. قال: كان الأمر مفاجأة، غمرتني سعادة ولكن شابها قلق، وانعقدت فوق رأسي تساؤلات مبهمة، وكدت أسألها عن سر استسلامها ولكنني لم أفعل.
وتبادلنا النظر حتى قال: لعلها الأحداث قد هزتها! - لعلها ... - وساورني ندم، واتهمت نفسي بأنني انتهزت فرصة ضعف وانهيار. - هل تكرر ذلك؟ - كلا. - بلا محاولة من جانبك أو جانبها؟ - بلا أي محاولة، وظلت روابطنا الخارجية وثيقة ولكن روحينا انفصلتا. - موقف غريب. - إنه الموت البطيء، وهو من ناحيتي له ما يفسره أما من ناحيتها فلغز من الألغاز. - لاحظت تغيرا ما في علاقتكما في الكرنك ولكنني حسبته عارضا. - سألتها عما عانت في السجن في المدة القصيرة التي قضتها فيه، ولكنها أكدت لي أن معاناتها كانت قصيرة وتافهة .. وقد شاب إيماننا الثوري امتعاض راسخ، أصبحنا أكثر استعدادا للإصغاء للنقد، انطفأ الحماس، تضاءلت الشعلة، أجل إن الإيمان الأساسي لم يقتلع، ولكننا قلنا إن الأسلوب يجب أن يتغير وإن الفساد يجب أن يستأصل، وإن الأعوان الساديين يجب أن يذهبوا، الثورة المجيدة أصبحت محاصرة.
وذات مساء عادا إلى مناقشة الموضوع مع حلمي حمادة في مسكنه، وقال حلمي حمادة: إني أعجب كيف أنكما ما زلتما تؤمنان بالثورة!
فقال له إسماعيل: إن وجود الأمعاء بالجسم البشري لا يقلل من جلال العقل.
فقال حلمي ساخرا: إننا نلجأ عند العجز إلى التشبيه والاستعارة.
ثم قال لهما: علينا أن نعمل.
وأطلعهما على منشور سري سيقوم بتوزيعه مع بعض الرفاق، قال لي إسماعيل: فوجئت بتصريحه، فزعت فزعا شديدا، تمنيت أنني لم أسمعه، وتذكرت عملي السري الذي يطالبني بالإبلاغ عنه فورا، تذكرته فتزلزل كياني كله، وتراءت لعيني أعماق الهاوية التي سأتردى فيها.
ومضت ساعة بعد ذلك، حلمي يتكلم ونحن نصغي أو نعلق بكلمات مقتضبة، عقلي شارد تماما وحزني ثقيل، وقلت له: اعدل عن النشاط ومزق المنشور.
فضحك هازئا وقال: يا لك من ماجن حقا!
ثم مستدركا: إنه ليس الأول ولا الأخير!
وغادرنا بيته حوالي العاشرة، سرنا صامتين، أصبحت أشق الأوقات علينا تلك التي نخلو فيها إلى أنفسنا. وافترقنا، هي بحجة العودة إلى الربع، وأنا بحجة الذهاب إلى الكرنك، وضربت في الشوارع على غير هدى، عجزت عن اتخاذ قرار، وطيلة الوقت عذبني الخوف على نفسي، على زينب، لم أتخذ قرارا. رجعت إلى الربع حوالي منتصف الليل، استلقيت فوق الأريكة بملابسي، قلت لنفسي: «لأتخذن قرارا أو أجن.» ولكنني لم أتخذ القرار، قررت تأجيل ذلك إلى الصباح ولكنني لم أنم، وكنت ما أزال مسهدا حين اقتحموا علي خلوتي. - تعني رجال الأمن؟ - أجل. - في نفس الليلة؟ - في نفس الليلة. - ولكنه أمر مذهل وغير مفهوم. - إنه السحر، ولا تفسير له إلا أنهم كانوا يراقبوننا معا ويتصنتون علينا من بعيد.
فقلت له مواسيا: على أي حال فإنك رفضت أن تبلغ عن صديقك. - حتى ذلك لا أستطيع أن أدعيه بصدق لأنني لم أتخذ قرارا.
هكذا وقع الاعتقال الثالث. ومثل أمام خالد صفوان قبيل الفجر فاستقبله بوجهه البارد وقال: خنت الأمانة وسقطت في أول امتحان.
فلم أنبس. فقال: حسن، نحن لا نقسر أحدا على صداقتنا.
وجلد مائة جلدة ثم ألقي به في الزنزانة، في الظلام الأبدي.
وحدثني عن مصرع حلمي حمادة، فقال: إنه مات في حجرة التحقيق، كانت به عصبية وجرأة، استفزتهم إجاباته، تلقى صفعات فهاج غضبه، وحاول أن يرد الاعتداء بمثله؛ فانهال عليه حارس باللكمات حتى أغمي عليه؛ ثم تبين أنه فارق الحياة. - وعشت في الظلام زمنا لا أدريه حتى ذبت في الظلام.
واستدعي ذات يوم فظن أنه ماض لمقابلة خالد صفوان، ولكنه رأى وجها جديدا، فأبلغه بنبأ الإفراج عنه. - وقبل أن أغادر المبنى علمت بكل شيء.
ولاذ بالصمت مليا ثم استطرد: بقصة الطوفان من أولها إلى آخرها. - تعني الحرب؟ - أجل، مايو، يونيو، حتى خبر القبض على خالد صفوان نفسه! - يا لها من ساعة! - تخيل حالي إن استطعت! - أجل ... أستطيع ذلك. - وكانت الدنيا قد عبرت ذروة النكسة، وأفاقت من الذهول الأول، فوجدت الميدان مكتظا بالأشباح والأحاديث والحكايات والشائعات والنكات ... وانعقد الإجماع على أننا كنا نعيش أكبر أكذوبة في حياتنا. - وهل شاركت في ذلك الإجماع؟ - بكل قوة العذاب الذي كان يفتت مفاصلي، تبخر إيماني وفقدت كل شيء. - أظنك اليوم جاوزت ذلك الموقف؟ - درجات ولا شك، على الأقل فإنني حريص على تراث الثورة. - وكيف كان موقف زينب؟ - مثلي تماما، ولكنها تكلمت قليلا ثم صمتت إلى الأبد، أذكر أول لقاء لنا عقب الإفراج عني، تعانقنا بميكانيكية، قلت لها بمرارة: لنتعارف من جديد فنحن بإزاء دنيا جديدة. فقالت لي: إذن دعني أقدم لك نفسي، أنا شخص بلا اسم ولا هوية. فقلت لها: إني أعرف الآن تماما معنى قبض الريح. فقالت لي: الأفضل أن نعترف بحماقتنا وأن نحترمها فهي كل ما بقي لنا. فأخبرتها عن مصرع حلمي حمادة فانخطف لونها وشردت طويلا، ثم قالت: نحن الذين قتلناه كما قتلنا الألوف غيره. فقلت - غير مؤمن بما أقول - ولكننا ضحايا ألا يمكن اعتبار الحمقى ضحايا. فقالت بامتعاض وسخرية: إن ذلك يتوقف على درجة حماقتهم. ثم وقعنا جميعا في الدوامة كما تعلم، ومضت تتقاذفنا خطط الحرب، ومشاريع السلام، ولا يلوح لنا شاطئ. وثمة بارقة أمل وحيدة حيث يوجد الفدائيون. - إذن فأنت تؤمن بالفدائيين؟ - وعلى اتصال بهم وأفكر جادا في الانضمام إليهم، ولا ترجع أهميتهم إلى أعمالهم الخارقة، ولكن إلى مزاياهم الفريدة التي تمخضت عنها الأحداث، إنهم يقولون لنا إن الإنسان العربي ليس كما يعتقد الكثيرون ولا كما يعتقد هو في نفسه، ولكنه يستطيع أن يكون معجزة في الشجاعة إذا شاء. - ولكن هل توافقك زينب على ذلك؟
فسكت طويلا ثم تساءل: ألم تدر بأنه لم يعد بيني وبين زينب إلا ذكريات زمالة قديمة؟!
ودهشت لاعترافه بالرغم من أنني توقعته، وأنه جاء مؤيدا لملاحظاتي واستنتاجاتي، وسألته: هل حدث ذلك فجأة؟ - كلا، ولكن ليس من اليسير اختفاء رائحة جثة إلا بدفنها، في وقت ما وبخاصة عقب تخرجنا شعرنا بأنه آن لنا أن نشرع في الزواج، وتحدثت معها في ذلك رغم مشاعري الأليمة الدفينة، فلم تعترض ولكنها لم توافق، أو قل إنها لم تتحمس، وتحيرت في معرفة السر، ولكنني ارتحت إلى الموقف بصفة عامة، ثم لم نعد نطرق الموضوع إلا في فترات متباعدة، ولم نواظب على اللقاء كما كنا نفعل، وفي الكرنك كنا نتجالس كزميلين لا كحبيبين، ولم أنس أن بوادر تلك الحال بدأت في أعقاب الاعتقال الثاني، ولكنها استفحلت بعد الاعتقال الثالث، ومضت العلاقة الخاصة تهن وتتفتت حتى ماتت تماما. - مات الحب إذن؟ - لا أظن. - حقا؟ - نحن مرضى، أنا مريض على الأقل، وأعرف أسباب مرضي، وهي مريضة أيضا، وقد ينتعش الحب يوما وقد يستسلم لموت أبدي، ونحن على أي حال ننتظر ولا يؤرقنا الانتظار.
إنهما ينتظران، ومن ذا الذي لا ينتظر؟
زينب دياب
من أول نظرة جذبتني زينب بحيويتها وملاحتها، بوجهها الخمري الرائق وقسماتها النامية في حرية وعذوبة، وجسمها القوي الرشيق. ولعل استشفافها لإعجابي بها بغريزتها الفطنة هو ما مكن لصداقتنا أن تتوطد وأن تتناهى إلى ذروة الثقة، وهي قد نشأت في بيئة إسماعيل وفي ربعه. أبوها بياع لحمة رأس وأمها في الأصل غسالة ثم صارت دلالة بعد كفاح طويل، ولها أخ سباك، وأختان متزوجتان. وبفضل مهنة الأم الأخيرة وفرت للأسرة بعض ضرورات العيش وابتاعت لزينب الحد الأدنى مما يلزمها من ملابس. وكان نجاح زينب في المدرسة أمرا غير متوقع بقدر ما كان مثيرا للعجب والمتاعب. ولم يجدوا بأسا من تركها تلهو بتلك اللعبة حتى يجيء ابن الحلال؛ ولذلك فإن الأم لم ترحب من بادئ الأمر بإسماعيل الشيخ، وكانت تعتبر التلميذ متعطلا بلا نهاية، وعقبة في سبيل أي فتاة جميلة. وكانت أم زينب هي القوة الحقيقية في الأسرة، أما الأب فكان يكدح نهاره نظير بضعة قروش ما يلبث أن يبددها في خمارة البوظة، ويختم سعيه بمشاجرة عائلية عنيفة. ومن عجب أن الأب المتدهور كان وسيما، يمكن أن يتكشف وجهه الكالح النابت الشعر المغبر الأخاديد عن قسمات مليحة ورثتها زينب، أما الأم القوية فكانت أشبه برجل خشن.
ونشبت الأزمة المتوقعة وزينب في الثانوية العامة إذ تقدم لطلب يدها تاجر دجاج، يعتبر في الحي الفقير من الأغنياء. كان في الأربعين، أرمل، أبا لثلاث إناث متزوجات، رحبت به الأم لينتشل بنتها من الربع والتعب الفارغ، ويهيئ لها حياة سعيدة. وعندما رفضت زينب العرض غضبت الأم، ولفح غضبها إسماعيل وأسرته، ثم قالت لابنتها: ستندمين، ستبكين بالدموع الغالية.
ولم تمر الواقعة بسلام فقد أطلق التاجر لسانه فيما بين زينب وإسماعيل، ففجر بذلك عاصفة في الربع، ولكن إرادة زينب انتصرت. وكان للتجربة أثرها في سلوكها؛ فتحديا للاتهامات الباغية قررت أن تحافظ على نفسها. ولم تبال أن تتهم بالرجعية في نظر «البعض»، ولم تؤثر ثقافتها الواسعة في موقفها. - نحن نمثل المحافظة في تقدميتها الوئيدة؛ ولذلك وجدت في صيغة ثورتنا ما ترتاح إليه نفسي وبه تستقر.
وكانت تفهم نفسية إسماعيل بقدر ما تحبه، وتؤمن بتماثل موقفهما، وبأنه لن يغفر لها تهاونها معه لو حدث مهما ادعى من أقوال لا يؤمن بها في قرارة نفسه. - وعم حسب الله تاجر الدجاج كان يريدني بأي ثمن في تلك الأيام، ولم ييئس من رفضي يده، وتشفع عندي بعجوز من المتعاملات معه ولكني لقنتها درسا! - أرادك بغير زواج؟ - وبثمن غال.
وكانت تروي ذلك بفتور يتناقض مع الموقف، فلم أفهم وقتذاك سر فتورها. - وكذلك زين العابدين عبد الله فيما بعد. - لا.
ندت عني في دهشة فقالت بثقة: بلى. - ولكنه مجنون بقرنفلة؟
فهزت منكبيها فتساءلت: أكان يداري طمعه في مالها بالتظاهر بالحب؟ - كلا، كان يحبها وما زال، ولكنه طمع في مسرة يتسلى بها، ولعل الوغد ظنني فتاة مستهترة. - متى أعلن رغبته؟ - مرات ولكني أقصد المرة الأولى عقب أول اعتقال. - رغم عناده أعتقد أنه يائس من ناحية قرنفلة. - ولماذا ييئس؟ إنه قابع ينتظر رزقه.
ثم ختمت قصصها العاطفية قائلة: وغيرهما كثيرون!
وعند ذاك سألتها باهتمام خفي: ألم يكن المرحوم حلمي حمادة واحدا منهم؟
فأجابت بدهشة: كلا! - أصارحك بأنني تخيلت بينكما حكاية!
قالت بأسى: كنا صديقين حميمين.
ثم بلهجة اعترافية: لم أحب في حياتي إلا إسماعيل. - أما زال هذا الحب قائما؟
ولكنها تجاهلت سؤالي.
وقصتها مع الثورة مكررة لقصة إسماعيل. وعن أول اعتقال قالت لي: قبض علي لصلتي المعروفة بإسماعيل، ولم تكن توجد شبهة ضدي، كما أقسمت لهم بأنه لم يكن يوما من الإخوان، ولم أحجز أكثر من يومين، ولم توجه إلي إساءة.
وابتسمت في أسى وقالت: المتاعب الحقيقية صادفتني في البيت، وقالت لي أمي هذا هو إسماعيل، وهذه هي المصائب التي تجيء من ناحيته.
وتجهم وجهها وهي تستطرد: وتصادف أن جاء اعتقالي بعد أسبوع واحد من القبض على أبي بتهمة العربدة والاعتداء على شرطي!
فقلت لها بإكبار: إن تقدمك خلال تلك الظروف نجاح باهر! - وقلت لخالد صفوان لم تشكون فينا؟ ألا ترى أننا أبناء الثورة، وأننا مدينون لها بكل شيء؟ فكيف تتهموننا بالعداوة؟!
فقال بسخريته الباردة: تلك حجة 99٪ من أعدائنا!
وحدثتني عن إيمانها القديم بالثورة، كيف أن الاعتقال لم ينل شيئا من صميمه: غير أننا كنا نشعر بأننا أقوياء لا حد لقوتنا، أما بعد الاعتقال فقد اضطرب شعورنا بالقوة وفقدنا الكثير من شجاعتنا وثقتنا في أنفسنا وفي الأيام، واكتشفنا وجود قوة مخيفة تعمل في استقلال كلي عن القانون والقيم الإنسانية، وبسبب ما عانيته من عذاب في فترة اختفاء إسماعيل قلت له: أليس من الحكمة أن ننطوي على أنفسنا حينا، وأن نتجنب المجتمعات والأصحاب؟
ولكنه أجابني ساخرا: لقد قبض عليهم بسببي وليس العكس.
فقلت لها معزيا: هكذا يعاني الإنسان عادة ثمنا للثورات الكبرى.
فتساءلت وهي تتنهد: متى يمكن أن تمضي الحياة عذبة بلا تعاسات مريرة؟!
ثم حدثتني عن اعتقالها الثاني. شعرت منذ البدء أنني مقبل على سماع قصة عنيفة للذكريات. - كانت التهمة تلك المرة هي الشيوعية!
ثم بتأثر عصبي: وكانت فترة لا يمكن أن تنسى.
ولما مثلت أمام خالد صفوان قال لي ساخرا: ها هي الصداقة بيننا تتوطد.
فقلت له: لا أدري لم قبض علي! - ولكنني أدري. - فما هو السبب يا سيدي؟ - السبب يرجع إلى مبادئ السيدين الجليلين ماركس ولينين!
وصمت وهو يتفرس في وجهي بحدة ثم قال: أجيبي تحت شرط ألا ترجعي للحجة البالية؛ حجة كيف تشكون فينا ونحن أبناء الثورة إلخ ... إلخ.
فقلت له وأنا يائسة تماما من إقناعه: لسنا شيوعيين وأقسم لك على ذلك.
فتمتم بغموض: يا للخسارة!
ورميت في الزنزانة معرضة لعذاب مهين لا تقدر أذاه إلا امرأة فكان علي أن أحيا وأنام وآكل وأقضي الحاجة في مكان واحد!
فغمغمت بأسى: لا. - وكنت عرضة في أي لحظة لأن ينظر إلي الحارس من خلال منفذ في الباب، ويتفرج علي ساخرا، هل تدرك معنى ذلك؟ - نعم للأسف! - وذات يوم استدعيت إلى مكتب خالد صفوان في أثناء التحقيق مع إسماعيل، ولما رأيته في ذله ويأسه طفرت الدموع إلى عيني، ولعنت من صميم قلبي الدنيا، ولكنني لم أبق هناك إلا ريثما هددوه بتعذيبي، ثم رجعت إلى زنزانتي القذرة لأبكي طويلا، ولأتعذب يوما بعد يوم.
واستدعيت مرة أخرى إلى حجرة خالد صفوان فقال لي: أرجو أن تكوني راضية عن ضيافتنا.
فقلت بجرأة: كل الرضا يا سيدي، شكرا لكم. - ها هو صديقك قد اعترف بشيوعيته!
فهتفت: تحت تأثير تهديدكم. - ولكنه حقيقي بصرف النظر عن الوسيلة. - قطعا لا يا سيدي، إنها لفظاعة!
فقال بغموض: إنها لروعة! - روعة؟!
فقال وهو يشير بيده إشارة خاصة: سنرى!
وسمعت أقداما تقترب حتى طوقتني تماما، ما عسى أن أقول؟!
توقفت عن الكلام، تصلبت عضلات وجهها، وتوقعت سماع شر يفوق ما سبق، قلت: فلننه الحديث إذا شئت؟ - كلا، إنه مما يسر سماعه.
ثم وهي تنظر في عيني بتحد: قرر أن يرى مشهدا مثيرا وممتعا وخارقا للمألوف.
فخفق قلبي بارتياع وتساءلت: ماذا تعنين يا زينب؟ - ما أدركته تماما! - كلا! - بالتمام والكمال. - أمام عينيه؟ - أمام عينيه!
وساد صمت كأنه بكاء أخرس حتى تمتمت: أي رجل ذلك الرجل!
أقصد خالد صفوان. - لا غرابة في منظره، يصح أن يكون أستاذا في الجامعة أو رجلا من رجال الدين.
فقلت بذهول: المسألة تحتاج لدراسة!
فهتفت بعنف: دراسة؟! هل ترد الدراسة إلي عرضي؟
فاستحييت ولذت بالصمت. •••
وبعد مرور أسابيع استدعيت إلى حجرة خالد صفوان أيضا، وجدته كعادته هادئا أو أكثر هدوءا من المعتاد كأن لم يقع شيء. وباقتضاب قال: لقد ثبتت براءتكم!
نظرت إليه طويلا فجعل ينظر إلي بثبات ولا مبالاة، ثم صحت: أرأيت؟
فأجاب بهدوء: إني أرى ما يمكن رؤيته!
فهتفت بحنق: ولكني فقدت كل شيء. - كلا، كل شيء يمكن إصلاحه، ونحن قادرون على كل شيء.
فصرخت بجنون: لا يصدق أن ما يحدث هنا مما ترضى عنه الثورة! - إنها حماية الثورة، وهي أهم على أي حال من الأخطاء المحدودة، ونحن نبادر إلى إصلاح ما ينبغي إصلاحه منها، وسوف تذهبين وقد اكتسبت قيمة جديدة هي صداقتنا.
أفحمت في بكاء عصبي طويل عجزت تماما عن مقاومته، فتصبر هو هادئا حتى سكت ثم قال: ستذهبين الآن إلى أحد معاوني، وسيعرض عليك مشروع صداقة لا يقدر بثمن.
وصمت لحظات ثم استطرد: نصيحتي لك ألا ترفضيه، إنه فرصة العمر! •••
أصبحت زينب مرشدة. عرضت عليها امتيازات. تقرر أن يكون إسماعيل رهينة حتى بعد الإفراج عنه، طولبت بالسرية المطلقة، أفهموها أنها تعمل لحساب قوة قادرة على كل شيء. - وعندما رجعت إلى بيتي وخلوت إلى نفسي هالني ما خسرته، خسارة حقا لا تعوض بأي ثمن، ولأول مرة في حياتي وجدتني أحتقر نفسي حتى الموت.
قلت معزيا: ولكن ...
فقاطعتني: إياك وأن تدافع عني، إن الدفاع عن الهوان من ضمن الهوان.
ثم بحدة: وجعلت أردد بإصرار، إني جاسوسة وعاهرة! وعلى تلك الحال قابلت إسماعيل. - طبعا أخفيت عنه أسرارك؟ - أجل. - لقد أخطأت يا عزيزتي. - كان عملي السري أخطر من أن أفشيه لأي إنسان. - أعني المسألة الأخرى؟ - منعني الخوف والخجل، والأمل أيضا، توهمت بعد أن أصلح الخطأ بالجراحة أنني يمكن أن أطمح إلى السعادة مرة أخرى. - ولكن ذلك لم يحصل، حتى الآن؟
فتمتمت بحزن عميق: هيهات!
فقلت برجاء: لعلي أستطيع أن أصنع جميلا.
فقالت بنبرة ساخرة: هيهات، انتظر حتى أكمل قصتي، ربما أكون قد أخطأت ولكنني اندفعت في الطريق الوحيد المتاحة لي وهي تعذيب النفس ، وإنزال أقسى العقوبة بها، واعتمدت على منطق غير عادي، قلت إنني ابنة للثورة، ورغم كل ما حدث لم أكفر بجوهرها، وإذن فإنني مسئولة عنها ومتحملة لمسئوليتها بالكامل، وضمنا فإني مسئولة عن كل ما حل بي؛ لذلك رفضت التظاهر بحياة الشرفاء وقررت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة. - شد ما ظلمت نفسك. - وكنت أحتمل كل شيء إلا أن يحتقرني إسماعيل، وفي الوقت نفسه لم أرد أن أخونه، ثم اضطرب تفكيري فضل ضلالا كبيرا.
وهزت رأسها في أسى وقالت: وحدثت أمور كثيرة تعذر معها إصلاح الحال، أو الرجوع إلى نقطة الصواب ... ورآني في تلك الأثناء عم حسب الله تاجر الدجاج.
رمقتها بقلق شديد فقالت: وجد الطريق ممهدة تلك المرة. - لا. - لم لا؟ قلت هكذا ينبغي أن تمضي حياة الساقطة، ولا يجوز السقوط بلا ثمن. - لا أصدق. - وقبضت الثمن.
شعرت بقرف الدنيا كلها وجعلت تحدجني بنظرة ساخرة ثم قالت بتحد: وزين العابدين عبد الله أيضا!
فاعتصمت بالصمت فقالت: وسط لدي إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية. - طالما اعتقدت في شرفهما ووطنيتهما.
فقالت بدهشة: كانا كذلك، ولكنهما تدهورا مثلي تماما، ماذا حصل للناس؟ يخيل إلي أننا صرنا أمة من المنحرفين، تكاليف الحياة والهزيمة والقلق تفتت القيم، إنهما يسمعان عن الانحراف في كل مكان، فماذا يمنعهما منه؟ ... أؤكد لك أنهما يحترفان القوادة الآن، وبلا حياء.
فتنهدت متسائلا: هل نيئس يا زينب؟ - كلا، إنها فترة كالوباء ثم تتجدد بعدها الحياة.
فواصلت تقول دون اكتراث بكلامي: وقررت أن أعترف لإسماعيل!
فقلت دهشا: ولكنك قلت غير ذلك؟ - قررت أن أعترف له بطريقة مبتكرة فسلمته نفسي! - الحق أني عاجز عن فهم ما بينك وبين إسماعيل؟ - من العبث أن تحاول الوصول إلى منطق ثابت من خلال عاصفة. - هل تحبين إسماعيل؟ - لم أحب أحدا سواه. - ماذا عن الآن؟ - إني أشعر الآن بالموت لا الحب. - زينب، إنك ما زلت شابة في مطلع الحياة وسوف يتغير كل شيء. - إلى أحسن أم إلى أسوأ؟ - لا يوجد أسوأ مما نحن فيه، فلا بد أن يكون التغيير إلى الأحسن. - لنعد إلى قصتنا، كان لي عزاء فيما أفعل بنفسي هو الشعور بعذاب العقوبة حتى ارتكبت ما لا يمكن التكفير عنه بأي عقوبة. - حقا؟ - أجل، بدأت تفزع مني؟ - إني أرثى لك يا زينب. - ذهبت ذات مساء أنا وإسماعيل إلى بيت حلمي حمادة، وجدناه ثائرا، واعترف لنا بأنه يوزع منشورات سرية.
وتوقفت عن الكلام تأثرا للذكرى فرحبت بالاستراحة باعتبارها هدنة في معركة العذاب. - بوغت باعترافه وتمنيت لو أنني تخلفت عن الاجتماع. - إنني أفهمك جيدا. - وتذكرت القوة القادرة على كل شيء، ركبني الخوف، وخفت أول ما خفت على إسماعيل!
آه ... لقد اعتقد إسماعيل أنهم اكتشفوا تقاعسه عن الإبلاغ بوسائلهم الخاصة، ولم يخطر بباله أن التي أوقعته هي زينب، وأنها أوقعته وهي تتوهم أنها تدفع عنه الأذى!
وتبادلنا النظرات في صمت مثقل بالحزن حتى قالت: أنا التي قتلت حلمي حمادة!
فقلت بصدق: قتله من قضى عليك بالعذاب. - أنا التي قتلته، ورغم كل شيء قبض على إسماعيل أيضا، لماذا؟ لا أدري، وطال اعتقاله أكثر من المرتين السابقتين، ورجع أشد تهدما، لماذا؟ لا أدري، لقد سجلت في تقريري أنه عارض صاحبه ونصحه بالعدول عن مشروعه، ولكن من العبث محاولة الاحتكام إلى المنطق. - كنت أنت طليقة في تلك الأثناء؟
فقالت بسخرية: كنت حرة، أستمتع بحريتي، وبالوحدة والعذاب، ثم جاءت مقدمات الحرب ونذرها، ومثل الناس جميعا وثقت بقوتنا إلى غير حد وقلت لنفسي: إن كل شيء بخيره وشره سيخلد إلى الأبد، فلما وقعت الواقعة ...
وصمتت في ذهول فقلت: لا داعي للشرح فقد عانيناه بأنفسنا ولكن هل أيدت جماهير 9، 10؟ - نعم، بكل قوة. - إذن ظل إيمانك لا يتزعزع؟ - بل لقد انهار من أساسه، وآمنت بأنه كان قصرا من رمال. - اسمحي لي بأن أصارحك بأنني لا أفهم موقفك. - الأمر بسيط جدا، لقد أشفقت من حمل المسئولية فجأة، خفت الحرية بعد أن استنمت طويلا إلى اللامبالاة، وأنت أكنت من الجماهير تلك اللحظة؟ - نعم، كنت أتعلق بآخر رمق من الكبرياء الوطني!
فقالت بحدة: عندما علمت بخبر الإفراج عن إسماعيل قلت لنفسي «سأراه مرة أخرى بفضل الهزيمة!»
وتفكرت في قولها بحزن وألم بالغين.
وحدثتني عن هذيان أول لقاء تم بينها وبين إسماعيل عقب الإفراج عنه: ولما تخرجنا وتوظفنا طغى حديث الزواج كضرورة يفرضها الحياء، كنا نردده بلا إيمان ونعبره إلى العزلة، وليس غريبا أن أتغير وأن أتخلى عن حلم الماضي، ولكن ماذا غيره هو؟ ... ماذا حدث له في أعماق السجن؟
كل منهما مقتنع بتغيره هو، ولكنه يتساءل عن تغير الطرف الآخر، وكل منهما مقتنع بأنه غير صالح للحياة الطبيعية، وأنا مقتنع معهما بذلك على الأقل في هذه الفترة التعيسة؛ إذ يلزم وقت كاف لتضميد الجراح وتطهير النفس، بل يلزم عمل يكون من شأنه إعادة الثقة إلى النفس والاحترام إلى الشخصية. غير أن مناقشة تلك الأمور تعذرت علي بطبيعة الحال، ولكنني قلت متسترا بالعموميات: الإنسان لا يتغير - أعني إلى أحسن - لا بالاستسلام ولا بالانتظار.
فقالت بامتعاض: ما أسهل التفلسف! - ربما، ولكن إسماعيل يتوجه بقلبه هذه الأيام نحو الفدائيين. - أعرف ذلك.
فتساءلت بعد تردد: وفيم تفكرين أنت؟
فصمتت فترة غير قصيرة ثم قالت: قبل أن أجيبك علي أن أصحح واقعة تخص إمام الفوال وجمعة، فالحق أن وساطتهما بين زين العابدين وبيني عقب الاعتقال الثاني تمت بجهل وبراءة. - أتعنين أنهما بريئان مما رميتهما به؟ - كلا، ولكنهما سقطا في الأعوام الأخيرة لا قبل ذلك، وقد التبس علي الأمر، وأرجو أن تذكر أنني إنما أروي قصتي من الذاكرة، وأني لا أضمن الدقة في تفاصيلها.
فهززت رأسي في أسى وكررت سؤالي: فيم تفكرين الآن؟ - أيهمك حقا أن تعرف؟ - الحق أني لا أتصور أنك مستمرة في ...
وتوقفت رغما عني، فقالت تكمل كلامي: ممارسة البغاء؟
فلم أنكر ولم أوافق فقالت: أشكر لك حسن ظنك.
فلم أعلق بكلمة فقالت: إني أمارس حياة متقشفة بكل معنى الكلمة. - فتساءلت بفرح: حقا؟ - أجل. - وكيف حدث ذلك يا زينب؟ - سرعان ما حدث، بثورة مضادة، ونتيجة لقرف لا يزول.
ثم تساءلت بحنان: أين أيام البراءة والحماس أين؟!
خالد صفوان
في الكرنك يسيطر حديث واحد ، يوما بعد يوم، أسبوعا بعد أسبوع، شهرا بعد شهر، عاما بعد عام، لا حديث لنا سواه. الجميع في ذلك سواء ... محمد بهجت، رشاد مجدي، طه الغريب، زين العابدين عبد الله، إسماعيل الشيخ، زينب دياب، عارف سليمان، إمام الفوال، جمعة، وشبان جدد هم آخر عينة في تعاقب الأجيال، أما قرنفلة فقد انزوت في ثوب الحداد تراقب وتصغي أحيانا ولا تخرج من الصمت.
ويضنينا الملل كثيرا حتى يقول قائلنا: اختاروا موضوعا آخر قبل أن نجن.
فنتحمس لاقتراحه بالألسنة، نطرق موضوعا ما، نعالجه بفتور فسرعان ما يلفظ أنفاسه فنعود إلى موضوعنا الباقي، نقتله ويقتلنا بلا توقف، بلا نهاية. - الحرب، لا سبيل إلا الحرب. - بل العمل الفدائي، ونركز على الدفاع. - الحل السلمي ممكن أيضا. - الحل الوحيد الممكن هو ما تفرضه الدول الكبرى مجتمعة. - المفاوضة تعني التسليم. - المفاوضة ضرورة، كل الأمم تتفاوض، حتى أمريكا والصين وروسيا وباكستان والهند. - الصلح معناه أن تسيطر إسرائيل على المنطقة وتزدردها لقمة سائغة. - كيف نخشى الصلح؟ هل ازدردنا الإنجليز أو الفرنسيون؟ - إذا أثبت المستقبل أن إسرائيل دولة طيبة عايشناها، وإن ثبت العكس أزلناها كما أزلنا الدولة الصليبية من قبل. - المستقبل لنا، انظر إلى عددنا وثرواتنا. - المسألة علم وحضارة. - إذن فلنحارب، لا حل إلا الحرب. - روسيا لا تمدنا بالسلاح الضروري. - لم يبق إلا حالة اللاسلم واللاحرب. - هذا يعني الاستنزاف الدائم لنا. - معركتنا الحقيقية معركة حضارة، السلم أخطر علينا من الحرب. - فلنسرح الجيش ولنبن أنفسنا من جديد. - لنعلن الحياد ونطالب الدول بالاعتراف به. - والفدائيون؟ ... أنت تتجاهل القوة الفعالة في الموقف. - لقد انهزمنا وعلينا أن ندفع الثمن، ونترك الباقي للمستقبل. - عدو العرب الحقيقي هو العرب أنفسهم. - قل الحكام. - قل أنظمة الحكم. - كل شيء يتوقف على اتحاد العرب في العمل. - لقد انتصر نصف العرب على الأقل في 5 يونيو! - لنبدأ بالداخل، لا مفر. - عظيم، الدين، الدين هو كل شيء. - بل الشيوعية! - بل الديمقراطية. - لترفع الوصاية عن العرب. - الحرية ... الحرية. - الاشتراكية. - لنقل الاشتراكية الديمقراطية. - لنبدأ بالحرب ثم نتفرغ للإصلاح. - بل نبدأ بالإصلاح ثم تتقرر الحلول في المستقبل. - يجب أن يسير الاثنان معا.
وهكذا إلى ما لا نهاية.
وذات مساء جاء المقهى رجل غريب يتأبط ذراع شاب، فجلس على كثب من المدخل، وقال للشاب بصوت آمر: سأنتظرك هنا حتى تشتري الأدوية، أسرع.
وذهب الشاب ولبث الآخر جالسا، كان متوسط القامة، ذا وجه ضخم مستطيل وحاجبين غزيرين عريضين - وعينين واضحتين غائرتين، وجبهة بارزة، وكان شاحب اللون كأنه مريض أو في دور النقاهة، وسرعان ما همس إسماعيل الشيخ في أذني: أرأيت الرجل الغريب عند المدخل؟ ... انظر إليه.
وكان قد لفت نظري كأي غريب يطرأ على المقهى، فسألته: ما له؟
فأجاب بصوت متهدج: إنه خالد صفوان!
فاجتاحني الذهول وغمغمت: خالد صفوان! - دون غيره. - هل أفرج عنه؟ - انقضت مدة سجنه وهي ثلاث سنوات ولكن أمواله مصادرة.
ورحت أسترق إليه النظر بحب استطلاع وتعجب، أود أن أشرحه لأعثر على العضو الزائد أو الناقص في كينونته، وانتقل الخبر من فرد إلى فرد حتى ساد الصمت وتناوبته الأبصار. وغفل عنا حينا ثم مضى يستشعر التطلعات المبهمة من حوله، فتنبه إلينا كمن يستيقظ من نوم. تحركت عيناه الغائرتان ببطء وحذر، رأى - ولا شك - وجوها يعرفها حق المعرفة مثل زينب وإسماعيل، ونظر باهتمام إلى قرنفلة، ثم مد ساقيه، وتقلصت شفتاه، لعله ابتسم، أجل لقد ابتسم، ولكنه لم يضطرب كما توقعت، لم يخف، وعنه ند صوت ضعيف يقول: هاللو!
ونظر إلى الوجوه التي يعرفها وقال: وقد يلتقي الشتيتان ...!
وأغمض عينيه لحظة، ثم قال وكأنما يخاطب نفسه: شد ما تغيرت يا دنيا، إني أعرف هذا المقهى، ها نحن نجتمع في مكان واحد مع أسوأ الذكريات.
فقالت قرنفلة ولم نكن سمعنا صوتها من زمن طويل: حقا أسوأ الذكريات!
فوجه إليها الخطاب قائلا: لست الحزينة وحدك اليوم.
ثم بصوت أقوى: كلنا مجرمون وكلنا ضحايا.
فقالت بحدة: المجرم شخص والضحية شخص آخر. - كلنا مجرمون وكلنا ضحايا، من لم يفهم ذلك فلن يفهم شيئا على الإطلاق.
وعند ذلك رجع الشاب فسلمه لفافة الأدوية، وأشار إلى الروشتة وهو يقول: هذا الدواء غير موجود في السوق.
فنهض خالد قائلا: عظيم، المرض موجود أما الدواء فغير متوفر.
ونظر إلينا وهو يهم بالذهاب وقال: لعلكم تتساءلون ما قصته؟ ما قصة ذلك الرجل؟ تجدونها في هذه الكلمات المنثورة:
براءة في القرية.
وطنية في المدينة.
ثورة في الظلام.
كرسي يشع قوة غير محدودة.
عين سحرية تعري الحقائق.
عضو حي يموت.
جرثومة كامنة تدب فيها الحياة.
ثم مضى يقول: إلى اللقاء.
وخلف وراءه ذهولا شاملا، قال قوم: إنه يهذي. وقال آخرون: إنه يهزأ بنا. وغير هؤلاء وأولئك قالوا: إنه يحاول الدفاع عن نفسه، إنه يقول إنه بدأ من البراءة وإن قوى غشومة أفسدته، ولكن ما العين السحرية؟ ما العضو الحي الذي مات؟ ما الجرثومة الكامنة التي دبت فيها الحياة؟! •••
وبعد مرور شهر فاجأنا بحضوره كأول مرة، تساءلنا لماذا يعود؟ لم لم يختر مكانا آخر لينتظر فيه؟ ... أهو يتحدانا؟ ... أهو يستعطفنا؟ ... أثمة قوة خفية تدفعه نحونا؟
قال وهو يجلس: أسعد الله مساكم.
ثم وهو يقلب عينيه في وجوهنا: عندما يأمر الله بالشفاء سأنضم إلى مجلسكم.
فسأله منير أحمد وهو آخر من انضم إلينا من أحدث الأجيال: هلا فسرت لنا كلماتك المنثورة؟
فقال بيقين: إنها واضحة بنفسها ولا تحتاج إلى تفسير، ثم إنني أكره الخوض في ذلك!
فقالت له قرنفلة: يا خالد بك ... إنك تزعجنا!
فقال بهدوء: أبدا، لا شيء يقرب بين الناس مثل العذاب المشترك!
ثم بعد صمت قصير: أعدكم بالانضمام إليكم في أول فرصة!
وضحك ضحكة خافتة وتساءل: فيم تتحدثون؟
وسكتنا عن حذر، فقال: إني أعرف ما يقال، إنه يقال في كل مكان، اسمحوا لي أن أوضح لكم البواعث.
واعتدل في جلسته ثم واصل حديثه: يوجد في وطننا دينيون، وهؤلاء يهمهم قبل كل شيء أن يسيطر الدين على الحياة، فلسفة وسياسة وأخلاقا واقتصادا، وهم يرفضون التسليم للعدو ويأبون المفاوضة معه ولا يرضون عن الحل السلمي إلا أن يحقق لهم ما يحققه النصر نفسه، أو فإنهم ينادون بالجهاد، ولكن أي جهاد؟ تراهم يحلمون بخوارق الفدائيين أو بمعجزة تنزل من السماء ، وقد يقبلون السلاح الروسي وهم يلعنون الروس، وبشرط أن يجيء دون قيد أو شرط، ولعلهم يفضلون حلا سلميا مشرفا يتحقق بتدخل من أمريكا وينهي علاقتنا بروسيا الشيوعية نهائيا.
وصمت لحظات ثم واصل: ويوجد يمينيون من نوع خاص، يتمنون التحالف مع أمريكا وقطع العلاقات مع روسيا، ويرضون بحل سلمي مع تنازلات لا مفر منها، ثم يحلمون بالتخلص من النظام الحالي، والعودة إلى الديمقراطية التقليدية والاقتصاد الحر.
ويوجد شيوعيون - والاشتراكيون فصيلة منهم - يهمهم قبل كل شيء الأيدولوجية وتوثيق العلاقات بروسيا، ويرون أن خير الوطن وتقدمه لن يتحققا إلا من خلال الأيدولوجية، ولو طال الانتظار؛ ولذلك فهم يرحبون بالحل الذي يرسخ الاتجاه نحو الشيوعية وروسيا، سلما كان أو حربا، أم الحالة التي يطلق عليها اللاسلم واللاحرب.
ومن عجب أنه اكتسب شعبية عقب انصرافه، ونوه كثيرون بقيمة عرضه، وبثراء مخزونه من الأسرار، بل وجد من يدافع عنه فيقول إنه لم يكن مسئولا عن جرائمه، أو لم يكن يتحمل المسئولية الأولى، حتى قالت قرنفلة محتدة: زحزحوا المسئولية من شخص لشخص حتى تستقر في النهاية فوق كاهل جمعة مساح الأحذية!
ولكن وجد استعداد لقبوله إذا قرر حقا الانضمام إلى الكرنك. •••
ونسي أمره تماما خلال ثلاثة أشهر، ولما جاءنا مع تابعه في نفس الميعاد من المساء استقبل استقبالا عاديا كأنه فرد عادي من الناس، ووجد نفسه في شبه عزلة؛ ولذلك فتح هو الحديث من ناحيته فتساءل مقتحما لامبالاتنا: أما زلتم تتحدثون؟
فقال له زين العابدين عبد الله: كالعادة!
فأصر على إقحام نفسه قائلا: لقد حدثتكم عن آراء الطوائف ولكنني لم أحدثكم عن رأيي.
فسأله منير أحمد: عن الحرب؟
فقال بعجلة: هذه النقطة بالذات تحير العقول، ولكني أراها بسيطة. فثمة هزيمة وعدم استعداد للحرب، فيجب أن نحلها دون إبطاء، ولو دفعنا الثمن، لننفق كل مليم على تقدمنا الحضاري، ولكني في الحق أريد أن أتكلم عن حياتنا بصفة عامة.
ونجح في أن يلفت الأنظار إليه فقال: سأعترف لكم في الدقائق الباقية لي هنا بخلاصة تجربتي، لقد خرجت من الهزيمة أو قل من حياتي الماضية مؤمنا بمبادئ لن أحيد عنها ما حييت، ما هي هذه المبادئ؟
أولا:
الكفر بالاستبداد والدكتاتورية.
ثانيا:
الكفر بالعنف الدموي.
ثالثا:
يجب أن يطرد التقدم معتمدا على قيم الحرية والرأي العام واحترام الإنسان، وهي كفيلة بتحقيقه.
رابعا:
العلم والمنهج العلمي هو ما يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أما ما عداه فلا نسلم به إلا من خلال مناقشة الواقع متحررين من أي قيد قديم أو حديث.
ثم تثاءب وهو يقول: هذه هي فلسفة خالد صفوان التي تعلمها في أعماق الجحيم، والتي أعلنها في الكرنك حيث يجمعنا النفي والجريمة. •••
ملت نحو منير أحمد وقلت: لعل أيامكم تكون أفضل.
فقال: أمامنا جبل شاهق علينا أن نزيحه.
فقلت بصدق: الحق أنكم - أنت وزملاءك - ثمرة لم تكن متوقعة، فمن ظلام شامل انبعث نور باهر كأنما تخلق بقوة السحر. - إنك لا تدري بآلامنا. - ولكننا شركاء.
رمقني بشدة فسألته: خبرني ما أنت؟ - ماذا تعني؟ - تحت أي صفة سياسية يمكن أن أصنفك؟
فقال بضجر: اللعنة على الصفات جميعا. - من حديثك اقتنعت بأنك تحترم الدين؟ - ذلك حق. - وفهمت أيضا أنك تحترم اليسارية؟ - ذلك حق. - إذن فما أنت؟ - أريد أن أكون أنا بلا زيادة ولا نقصان.
فتفكرت قليلا وقلت: أهو شوق للأصالة؟ - ربما. - أيعني إذن الاتجاه نحو الحضارة الغربية؟ - كلا. - إذن فأين توجد الأصالة؟
فأشار إلى صدره وقال: هنا.
فتفكرت مرة أخرى ثم قلت: لعل الأمر يحتاج إلى مزيد من المناقشة.
فقال ببراءة: أعتقد أنه ينبغي أن نتناقش طويلا.
وأعلنت إعجابي بالشاب كثيرا حتى برم بي زين العابدين عبد الله فقال لي مرة هازئا: سيجد نفسه بعد عامين أو ثلاثة موظفا بمبلغ زهيد فيختار بين أمرين لا ثالث لهما؛ الانحراف أو الهجرة؟
فغضبت قرنفلة وقالت له بحدة: متى تخطئ فتنطق بكلمة طيبة ولو مرة؟
فابتسم الرجل في استسلام وقال: الحقيقة مرة يا صاحبة السعادة.
فقالت بعناد: يوجد سبيل ثالث.
فسألها بخضوع: ما هو يا مولاتي؟ - هو الذي سيختاره صاحبنا!
سررت جدا بانفعالها، وعددته علامة طيبة على بدء العودة إلى الحياة مرة أخرى، ولكن خطر لي خاطر مثير، وتساءلت ترى هل شرعت قرنفلة تميل إلى الطالب؟ هل سيحل يوما محل حلمي حمادة؟ إني لا أجهل حال بعض النساء في تلك السن وولعهن بالمراهقين، والتفاني في ذلك لحد المغامرة والهوس. ووجدتني أتمنى - لو وقع شيء مما دار بخاطري - أن يمضي على صراط متوازن بلا أنانية من جهة ولا استغلال من الجهة الأخرى، ليتحقق للحب النقاء والبراءة.
ديسمبر، 1971
نامعلوم صفحہ