جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
اصناف
هذا الغرب الذي نقلده في الملبوس والمأكول وكل أساليب العيش، يكرم كبار أدبائه ويحيي ذكراهم من السنة إلى آخر الأرقام، إنه يحتفل بميلادهم وبذكرى تصانيفهم الخطيرة، فهل خطر لنا أن نذكر أديبنا الأعظم ولو بعد مرور ألف ومائة عام!
يسمع الناس أن للجاحظ كتاب الحيوان، أما من قرأه فيعلم أنه كتاب الإنسان، فهو مستودع كل ما عرفه الإنسان في ذلك الزمان، يسرد الجاحظ كل ذلك بأسلوب قصصي واقعي، وهو لا يلقي سلاح الجدل والمنطق في جميع جولاته، ميزانه منصوب دائما على منصة العقل، وهو لا يقبل إلا ما يسلم به تفكيره الصحيح.
كان الزمان أكبر مثقف لذلك الرجل، فحياته تاريخ قرن كامل، بل تاريخ زهرة العصور العباسية، فقد شهدت عيناه الكبيرتان أعظم صراع سياسي وفكري، وخرج هو من ذلك المعترك بنتائج باهرة، لم يظفر بمثلها أولئك الذين نعدهم فلاسفة وعلماء.
كان مولانا أقدر الناس حجة، تبرز لك شخصيته من وراء كل عبارة خطها قلمه، لا ترتيب ولا نظام عنده، ولا تبويب لما يكتب، مزج العلم بالأدب، والشعر بالفلسفة والحديث، فهو كرخ ألف ليلة وليلة، ينقلك من واد إلى جبل، ومن جبل إلى بطحاء، ثم يعيدك إلى حيث كنت، ولا تدري إلا أنك تقرأ الجاحظ، يتخير أجمل الألفاظ وأحسن التعابير ويفر سريعا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب حيث يتنفس بملء رئتيه.
وإذا سألتني تحديدا للأسلوب الجاحظي قلت لك ما قاله ديكارت لخادمه: لا «تخربط» عدم نظام مكتبي.
إن أسلوب الجاحظ هو عدم الأسلوب، فلا تحاول تقليده إلا إذا كنت ذا شخصية كشخصيته. (6) ليلة جاحظية
كنت أفكر في إحدى أمسيات تشرين بموضوع أكتبه بمناسبة انعقاد الأونسكو في لبنان فنمت مهموما، وكأنما الأحلام بائتة تحت مخدتي، فما أسندت رأسي إليها حتى سحت في دنيا الله الواسعة، وبعد طواف أضناني رأيتني في بيتي في عين كفاع، أنشر على مكتبي كتابا دهريا فيه نخاريب وأنفاق، وبينما كنت أتبين كلمة أكل أكثرها سمك المكاتب، إذا ببابي يدق دقا غريبا فقلت: من؟ فلم يجبني غير قلقلة المفتاح في القفل، كأن فاعلها لا عهد له بالأقفال الحديثة.
وطال الدق والقرع، فنهضت أرجف غضبا ورعبا وفهت بما يدور على لسان كل غضبان، وفتحت الباب بنزق فانشق عن رجل ما رأيت قط أبشع منه وجها بعينين مثل الكلوتين وشفة كقطعة من طحال، مربوع بدين، كل ما فيه راعب حتى الابتسامة ، فصحت من هلعي: اسم الصليب وذكر الصلبان.
فما راعني إلا زائري الجميل يرد علي بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
فصرخت به لما انكشف عن أنسي: وأنت تبسمل أيضا يا حلو!
نامعلوم صفحہ