جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
اصناف
قد يعجب من لم يقرأ كتب الجاحظ إن قلنا له: الجاحظ عالم يدرس طبائع الحيوان والنبات والمعادن، ولاهوتي يقضي عن الله في الأرض فيجعل بعضنا لجهنم وقودا، ويجلس البعض على سرر متقابلين، حكم عقله في القضايا السماوية، وعينه في المشاكل الأرضية، فبنى بيته على البصيرة والبصر، يوم كان الناس لا يفكرون، رحل في سبيل تمحيص العلم إلى الأقطار حتى شرفنا بزورة يوم كان يقال: السفر قطعة من العذاب.
لم يعرف العرب قبل هذا الرجل المظلم الملامح أدبا نيرا ضاحكا، أدبا يترقرق فيه طيب الحياة فتقرأه كأنك في مجلسه الراقص، كان معلما صادقا فأفاد الأدباء، أما المقلدون فرجعوا من عنده رجعة الحمار من العرس.
ما رأيت لعظيمنا شبيها إلا فولتير، أديب أوروبا الأعظم، فكأنهما جبلان من طينة واحدة حتى اتفقا في ابن الأخت، صبهما الباري في قالب واحد ثم كسره وهيهات أن يبدع ثالثا، من يجعل من الحبة قبة غير الجاحظ، فلله بشاعته ما أحلاها، وما أكثر خير دمامة خلعت على أدبنا العربي جمالا وظرفا، فهل لنا ببشع آخر يملأ عالمنا الأدبي حقا ونورا بعد ما ملئ مواء وهريرا.
لقد كبر عقل الجاحظ عن السفاسف، فما هال امتداد الظل ذلك الذي يحدق إلى الشمس ويراعيها، لقد حطم النطار الذي يفزع ثعالب الحقول ومشى بحرية الفكر خطوات، ما عاق رجله القيد الذي كسره جد الإنسانية الطالع ولا خنق عنقه الغل، فلم يكن والحمد لله «ثاني اثنين إذ هما في التنور»، بل عاش للعلم والحق والحياة والأدب الحي، فلولا بقية وجدان في صدر القاضي ابن أبي دؤاد لانحدر النور، وطمر كنز الثقافة في القبور إلى يوم يبعثون، وكان العرب بلا جاحظ، قيل إن إنكلترة قد تتنازل عن أحد مستعمراتها ولا تتنازل عن شكسبير، أفلا يصح هذا في الجاحظ؟
ليس الجاحظ إلا تلك النبعة التي تخيلها الأخطل في مدح أصحابه الأمويين، بل تفوقها الشجرة الجاحظية سموا، ففي كل فرع منها جمال، وفي كل ثمرة طعم خلقه فيها كوثر الجاحظ.
إن إكسير «الحدقي» حقق أحلام العرب وحول أتفه المعادن ذهبا إبريزا، ونفخ من روحه فيما كتب فأرانا في كل كلمة عرقا ينبض، وفي كل جملة دما حارا يحترق ويحرق، إن ذاك المركب الشنيع مستودع جمال لا ينضب، ظل حتى مضى لسبيله في موعة الشباب، ولا تزال جدته القديمة تهزأ حتى الساعة بظرف هذه الأيام، أليس بيننا وبينه ألف ومائة عام؟ اجلس إليه لترى كيف أنك تحدث ابن اليوم لسانا ومعرفة، وتعلم أن لغة العرب تصلح لكل عصر لو أحسن التفكير ولكنهم قليلو المروءة.
أبى الجاحظ أن يكون تعبير العربي كعباءته، تصلح لكل شخص ولا تلائم أحدا، فعبر بلسان فصيح يتصل بالحياة والأحياء، فحرك القلوب وأنعص النفوس، وأبى إلا العمل ب
كلوا من طيبات ما رزقناكم ، فأكل أكل غير محتشم، ممتع بالحياة استمتاعا عريضا، وشاء بخته فكان طويلا، وعاش للأدب قرنا كاملا كتب في أخرياته بشق واحد، فحقق أسطورة العرب في كاهنيهما سطيح وشق أنمار.
ليت شعري، هل عندنا رجل يحد من الجهات الأربع غير الجاحظ! والغريب أننا نرى - كيف التفتنا - رجلا كاملا متين العضلات، هو البحر من أي النواحي أتيته.
يعجز القلم عن تصوير الجاحظ في كتاب ضخم، وأشهد أني ما رسمت لأعظم شخصية أدبية إلا صورة شمطاء كلحية الأشيب المحناة.
نامعلوم صفحہ