جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
اصناف
الأدب الساخر
أدب الظل
فرح أنطون
حول جبران ومي
الشدياق والجاحظ والمتنبي
قادة ذهبوا
في المضمار
يقظة ونهضة
الأدب الساخر
أدب الظل
نامعلوم صفحہ
فرح أنطون
حول جبران ومي
الشدياق والجاحظ والمتنبي
قادة ذهبوا
في المضمار
يقظة ونهضة
جدد وقدماء
جدد وقدماء
دراسات ونقد ومناقشات
تأليف
نامعلوم صفحہ
مارون عبود
لم نكن في أيامنا ننتقد بنزاهة كما يجب، كانت تأخذنا في بعضهم هوادة أحيانا، فكم غضضنا النظر، وكم غمرنا العالم والمتعالم بفيض من التقريظ والثناء.
إن واجب الناقد هو أن يعرف كيف يجد الخطأ، وأن ينتقد حيث يجب الانتقاد.
أناتول فرانس
الأدب الساخر
كما تقتضينا بعض الحفلات والسهرات طرازا معلوما من الثياب كالسموكن وغيره، أو لونا خاصا على الأقل كالأسود أو الكحلي، هكذا قضى نقادنا على أحفاد امرئ القيس، فأمسى الشاعر كالقطار الحديدي، إن تنكب عن سكته وخطوطه بضع سنتمترات، تدهور وتحطم.
وكما أن في أوروبا ثيابا معدة تستأجر لتلبس في الحفلات، هكذا استعار شعراؤنا بزاتهم من عند امرئ القيس ليمثلوا بها في ديوان العرب.
بقي مخزن الملك الضليل مشرع الأبواب مئات السنين، ينتقي منه الغادي والرائح ثوبا على قده، فتنفتح له أبواب القصور، ويهتك دونه الحجاب الصعب، وظلت صفة الطلول قيد التجويد والتنقيح أدهارا، كأنها أحد اكتشافات باستور التي نجت البشر من أعدائهم غير المنظورين.
وكان عنترة - ذلك الغراب الغريد - أول من شك في هذا المذهب الشعري، وما علينا لو سميناه: الطقس الأدبي، فللشعراء طقوس يمارسونها بورع وخشوع، شك عنترة وآمن في مطلع مطولته المشهور:
هل غادر الشعراء من متردم
نامعلوم صفحہ
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وكأنه لم يطمئن، ففتش عن مرعى لقريحته، فرآه في جلده فاستغله، والأرض السوداء مغلال.
واستيقظ العصر العباسي الأول، وهو عصر الثورة في الأدب العربي، فتفتحت عيون شعرائه الخلعاء على حضارة مجنونة بالترف والجمال، ففطموا أنفسهم عن الحليب واللبن، وعبدوا الأحمرين: الخمر واللحم، وكان شك وكان مجون، وكانت حرية بعيدة المدى، ولكن إلى أجل مسمى، فتقديس القديم من سجايا الناس الرئيسية، وهو منبع العبودية.
ثم همدت تلك الثورة بانطواء سجل هذه العصابة، وعاد الشعر بعدها إلى تزمته، فخلع ثياب المرافع ليلبس البجاد المفروض، فعاد الشعر إلى سمته، لا يتعداه إلا بمقدار محدود، فدار شعراؤنا على أنفسهم في حلقة ضيقة اختطها لهم القدماء، كأنهم أجرام النظام الشمسي، كل في فلك يسبحون.
وإذا كان النثر كالمشي، والشعر كالرقص، فجل شعرنا رقص الدراويش؛ أغراض موجزة كحياة البدوي، في ناقته تتجمع كل مرافق حياته، من وبرها يكتسي، ومن درها يغتذي، وبفحمها يصطلي، وهي مركبه إذا أسرى، وخيمته إذا لذعه الهجير، فمن يلومه إن وصفها جملة وتفصيلا، ومن ذا يعنفه إن استبدت صورتها بخياله، فتجلت لنا في تعابيره؟ فلو لم تخصه الطبيعة بذوق سليم لأضاف: لله وبرها وبعرها، إلى الله درها، وأورثناها.
ليس هذا عجيبا، ولكن العجيب الغريب هو أن يفرض أناس أوليون أساليبهم على من سكنوا الدور والقصور من ذريتهم، فانحلت الشخصية العربية، وذابت في خطة امرئ القيس، فلم يخرج عليه غير نفر قليل.
وقف هذا النفر في باب الصيرة وتنشقوا الهواء النقي قليلا، فلا يستسلمون إلى سجيتهم حتى يتذكروا الوقار والترصن المفروضين، فيخلعوا مباذلهم ليندسوا في بزة الشعر الرسمية، وهذا «مالوش» الأدب العربي و«فيلوكسيرا» الشعر.
تتراءى الشخصية في خلفاء امرئ القيس كوميض الحباحب في عتمة الغسق، فيسخر طرفة طرفة عين، ويتهكم زهير بآل حصن عابرا، ويهزأ ابن حلزة بإخوانه الأراقم مقتصدا، ويرشد الحطيئة إيثاره العافية إلى ذاته، من حيث لا يدري، فيقول لمهجوه التاريخي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
نامعلوم صفحہ
وانتشر نهار الإسلام، فاضمحلت ظلمات الجاهلية، وتراجعت لتقعد القرفصاء في دياميس الشعراء، لم ينسخ الدين الجديد روح الشعر الجاهلي، فظل الأخطل وجرير والفرزدق جاهليين قلبا وقالبا، أكبر همهم من الفن مضارعة الأقدمين، فعبروا عن الحياة الجديدة بالقوالب المعهودة، اللهم إلا ومضات تقل عند الأخطل، وتكثر عند جرير، أما الفرزدق فما انفك يقرع مروة الجاهلية وصفاتها.
أرسل الأخطل نفسه على سجيتها في هذه الأبيات:
ونجى ابن بدر ركضه من رماحنا
ونضاحة الأعطاف ملهبة الخصر
كأنهما والآل ينجاب عنهما
إذا انغمسا فيه يجوبان في غمر
يسر إليها والرماح تنوشه
فدى لك أمي إن دأبت إلى العصر
عقاب يفديها وظلت كأنها
عقاب دعاها جنح ليل إلى وكر
نامعلوم صفحہ
تنق بلا شيء شيوخ محارب
وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت
فدل عليها صوتها حية البحر
وهو لو نحا في شعره هذا النحو لترك في صحراء الشعر الجاهلي قطعا من الرياض. أما جرير صاحب الهجاء الحلو المر، كما نعته القدماء، فكان أوقح من الأخطل وأفتح عينا، فلم يحفل بجبروت السلطان وأبهة سريره، فضحك في حضرته مادحا فقال:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وهزئ متغزلا:
وتقول «بوزع» قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
نامعلوم صفحہ
وامتاح البحور مازحا:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم
لم تحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
وهجا ساخرا:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وقال في خصمه الآخر:
قال الأخيطل إذ رأى راياتهم
نامعلوم صفحہ
يا مار سرجس لا أريد قتالا
وما زال ينحو هذا النحو، كلما انفتح له مجال، حتى نام عن السخر وتولى رعيه الأسد الأعمى، فأطلق لذاته العنان واستولى على الأمد.
سخر بشار من كل شيء، وفي كل شيء، سخر في المدح، وسخر في الرثاء، وسخر في الهجو، وسخر في الحديث وفي ... وفي ... فلم ينج من وخزاته المؤلمة وجراحاته الدامية إلا من لا يعرفه.
تهكم مر، وسخر مؤلم، لا الصداقة تقي، ولا الإحسان يعصم. غريب أمر هذا الضرير؛ فقد بذ البصراء في كل ميدان، اتخذ مما حوله مادة لصوره، ولم تتوار شخصيته في مجالات القريض جميعها، فهو في جده شخصي، وفي هزله شخصي، وفي مدحه ووقوفه على الأطلال شخصي، نفس عاتية متمردة، نفضت عنها رماد الماضي، وأضرمت نارا جديدة في هيكل الأدب.
ثم نام الجبار على أشواك تمرده نومة الأبد، راسما صورته للذرية في ثلاثة خطوط خالدة:
عميت جنينا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا
لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه
نامعلوم صفحہ
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وآلت زعامة السخر بعده إلى المستهتر أبي نواس، فضحك الأدب العربي حتى بدت نواجذه. وكانت ثورة أدبية قوضت الخيام، وكبت اللبن، وأحلت الخوابي والدوارق على دست الحكم. وما أغنانا عن سرد شيء من شعر أبي نواس، فكل عربي يلم بطرف منه.
ويطوي الدهر مدرسة الخلعاء فيخلع الشعر طيلسانه، ويستعيد عباءته، فتتجهم الوجوه حتى يطلع ابن الرومي بسخره الذي يكشر له القارئ ولا يبتسم، ثم ينطوي العلم مع المتنبي، ولو أسرف أبو الطيب في سخره لفاز بسهمي فاطمة امرئ القيس، ولكن كبرياءه أبت عليه إلا التزمت والتوقر، وقديما جنت الكبرياء على الملائكة فبدلت الأجنحة الخضراء بأذناب سوداء وآذان وطواطية.
ولزم الشعر وقاره، حتى الساعة، فما بانت له سن، وانتهت به هذه العبوسة إلى الجفاف فاليبوسة.
أما النثر فما نبه له شأن قبل الجاحظ، أنزله هذا الزعيم العبقري منزلة الشعر، فانفتحت بوجهه القصور. كانت عناكب الأقلام لا تنسج خيوطها إلا حول رجال الحول والطول والأبهة والوقار، فإذا بها في يد الجاحظ تدور حول عبد الرحمن وأضرابه، فخلق الأدب الشعبي. جد الجاحظ ضاحكا، وتفلسف ساخرا، وحل أخطر المعضلات وأدقها هازئا، فكان كل من جاء بعده عيالا عليه حقا، فهو أستاذ الأصبهاني في أغانيه، وهادي أبي العلاء إلى سلاح العميان وعتادهم.
قرأت في ملحق لكتاب اليتيمة قال فيه مؤلفه إنه عرف في المعرة شاعرا ظريفا، يعني أبا العلاء. لم أستغرب نعت أبي العلاء بالظرف، فالرجل ظريف أي ظريف، ولئن لبس الثوب المفروض ليدخل ديوان العرب، فقد خلعه في رسالة الغفران ووقف بين الخالدين.
ونام السخر نومة آل الكهف حتى أيقظه الشدياق في منتصف القرن التاسع عشر، فكتب «الفارياق» و«الواسطة» و«كشف المخبأ»، فأخرج العقل العربي من دياميس الحريري وكهوف القاضي الفاضل، فابتسم الأدب حينا، ثم عاد إلى تجهمه، لا يتجه زعماؤه إلى هذا الصواب كأنهم مسمرون على صلبانهم، ما خلا كاتبا واحدا طواه الموت منذ أعوام هو فيلسوف الفريكة، فدبت روح المرح، وفاضت الابتسامة على حفافي كتب رحلاته، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان».
ثم كانت الضحكات الغامضة النادرة في كلام الكاتب العبقري عمر فاخوري، رحمهما الله وخلف علينا.
أدب الظل
كان أقصى أماني الأديب أن يشارف قصر ملك أو أمير، والسعيد من ينفتح له الباب ويدنو من السدة والسرير؛ حيث ينعم بعيش أخضر فيوهب ويهب حتى الغلمان والجواري والضياع إن صار وزيرا؛ فحسن التحرير والتحبير كان سلما للوزارة، كما قال المأمون لأحدهم حين جود كتابا عرضه عليه.
نامعلوم صفحہ
وكذلك قل في الشعراء من أبي سلمى حتى شوقي؛ فالأدب، وخصوصا الشعر منه، ما نبت وجن إلا في ظلال القصور، وعنه نشأ هذا الأدب الذي نقرأ - أدب الظل - فما أشبهه إلا بتلك النباتات التي تغرس في الأصص زينة للدار، تصعر خدها إذا هش لها نور النافذة الحليم، وتستقيم أخادعها إذا ضربتها الشمس ضربة فرزدقية، فتعود إلى البوق كالحلزون.
فلا يلومن أدباء اليوم زملاءهم أدباء الأمس، فلا يكون القماش إلا على هوى العصر. فصل أسلافنا نسيج الكلام وفقا للطراز المرغوب فيه، فكان منهم الخياط الماهر، وكان منهم كالذي خاط قباء لبشار فوقع في لسانه، فلا تظنن أنهم كانوا أقل عقلا منا، يقلدون ولا يطمحون إلى التجديد، فكم تبرم زعماؤهم بشهوة أمرائهم للمدح، فغرفوا لهم الثناء من بحور الشعر حتى صار المديح كالعبث والسخرية.
إنك تلمح الجديد في آثار هؤلاء الأدباء بين العتيق المعفن، فكأنك في دكان «سمانة» فيه كل ما يحتاج إليه البيت. ولا غرابة فيما أقول، فالشاعر أيضا كان من حوائج القصر، كالهراج والنديم والسمير، فالناس ألهية الناس.
فلو قرأت عمر بن أبي ربيعة، وبشارا، وأبا نواس، وابن الرومي، والبحتري، لرأيت أن كلا منهم قال شعرين: شعرا أرضى به نفسه، وشعرا رضي عنه كيسه، أنفق ما أجداه شعر الكيس على إنماء شعر النفس، والمضي في الطريق الحديث الذي هداه إليه وجدانه الحكيم.
مساكين الشعراء، فلا يغرك ما تقرأ في كتب الأدب عن الحفاوة بهم وإعظامهم، فقد كان يقف الشاعر بباب الأمير الشهر والشهرين، والعام والعامين، ولا تطأ رجله البساط ليقبل بين يدي سيد السرير، وينشده قصيدة سداها الكذب ولحمتها التمليق، وكم كان هؤلاء الأسياد يعبثون بالشعراء، بل كم كانوا يئدون بناتهم، فهذا صراخ ابن الرومي يجرح القلب على بعد العهد به، فيقول:
رددت إلي مدحي بعد مطل
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيري
ومن ذا يقبل المدح الرديدا
ولا سيما وقد أعقبت فيه
نامعلوم صفحہ
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعد ما امتلأت صديدا
أرأيت ماذا تعقب خيبة الشاعر؟! وإن تسمع بالأخطل المدلل فهذا واحد لا غير، وقد مات ذلك الدلال بموت ممدوحه عبد الملك، وعفى عليه عمر بن عبد العزيز، فطرد الشاعر، فانزوى في صحرائه القاحلة حتى مات، وهو يذكر بطن الغوطة و«الخبر» الذي أتى.
مساكين الشعراء! مات المتنبي وفي قلبه جرح أليم من ضربة الدواة التي خلد مدادها سيف الدولة، وإن قال: «فما لجرح إذا أرضاكم ألم»، فلا تصدقه، فقد رافقه ذلك الألم إلى القبر. وخيبة أبي نواس بالخصيب، والمتنبي بكافور، تنبئك كم كان يكدح قوالو الشعر في إدراك الرغيف، فتركض ويركضون، ويعلم الله من يسبق. وإن شبعوا حمدوا الله على تلك النعمة وقالوا في الأمير ما يزهى به كالغراب، والجسور منهم كان يهجو إذا استبطأ العطاء؛ فطورا يأتيه، وتارة يقضي عليه.
وما كانت حال الشعراء في غير أمتنا إلا كحالهم عندنا، فهذا كورنيل يسترحم القصر ليجري على بوالو قليلا من المال يتقوت به، كما أوصى قبله أبو تمام أمراء المعرة بابن البحتري، فأكرموه على بذاذته، وأخيرا نهض الغرب، فأبى أن يكون كالدجاج، يزرب في الحوش، وينثر له الحب، ويشرب الماء الآسن من الجرن، فطار في الأفق الفسيح، يفتش عن هواء طليق، وشمس حرة، وماء طهور، وألف الجنان، فألهمته غناء أطرب القصور والأكواخ، وزأر - والشعراء أسد وطير - فأرعد فرائص العروش، وشعر أنه ملك دولة الرأي العام فبسط عليها سلطانه ، وأوغل في طلب حريته، وذاقت الأمم حلاوتها، فتهافتت على ما يطبخ وينضج، فكان للنابغ الثروة والسعادة والمجد. ألم يتوجوا فولتير قبل موته بأشهر؟ ألم تمش فرنسا في مناحة هيغو؟ ... إلخ.
أما المتطفل على موائد الأدب، في كل جيل وأمة، فظل قلبه يتعصر مشتهيا عضة كسرة، كاليعازار، ولا يجدها، وإن يئس علل نفسه بالجلوس في حضن إبراهيم، ولكن ليس في الأدب لهؤلاء المعاتيه جنة يخلدون بها.
أما عندنا، فظل الأدب يتسكع في الظلال حتى كانت الحرب الكبرى التي نفخت في العالمين روحا جديدة، وخلقت أدبا جديدا، فأدرك أدباؤنا أنهم خلقوا لغير التسول والشحاذة، فأبت عليهم أنفسهم أن يظلوا راسفين في تلك القيود - إلا الذين ما برحوا مداحين نواحين - فنحوا منحى جديدا في كل ألوان الأدب، وإن لم يعرفوا بعد بصنف خاص، فإنهم سيظفرون بالطابع إن فكروا بعقولهم لا بعقول جيرانهم كأكثر الناس، وإن عبروا بلغة جيلهم وزمانهم تعبيرا صحيحا، ولم يروا مثلهم الأعلى في تلك الرواسم، التي يجدحون من سويقها ولا يتأبون، ولم يخالوا الأدب كله في عبارة مقفعية، وجملة جاحظية، وسجعة همذانية، فالجاحظ الأديب الساخر لم تقر له الأجيال بالإمامة إلا لأنه فكر بعقله، ونطق بلسان جيله، وأبى أن يتكلم كالمتقدمين، فقال للناس: أنا أبو عثمان، أنا الجاحظ، ولست قسا ولا سحبان، ولا أكثم بن صيفي.
لسنا نبحث الآن تطور الأدب ونهضته الحديثة - هذا بحث طويل كشهر الصوم، وأنا صائم دائما ولا أرتجي أجرا - ولكنها كلمة عرضت، ساقنا إليها فرحنا ب «بنك مصر» الواهب الألف الجنيه، ولمن يأخذونها المنة والشكر، فلا عذر بعد اليوم، ولا شكوى لأدباء القطر الشقيق. فإلى الميدان أيها الجياد، وأرونا فتحا لا غزوا، أرونا تأليفا لا ترجمة ونقلا.
قلنا فيما مضى للأستاذين الرافعي والعقاد إن المستقبل للقصة، فليتركا الشباب وشأنهم فيها، فجادلا وماحكا لأن ليس لهما قصة، فما يقولان اليوم وقد رددت أجواء مصر صدى النفير العام، عفوا بل النفير الخاص، ينفخ فيه بنك مصر داعيا الكتاب إلى الجهاد القلمي، وما علينا نحن إلا أن نردد : نصر من الله وفتح قريب.
نامعلوم صفحہ
أية كلمة تفي بالثناء الواجب لبنك مصر، فتشت فما وجدت إلا كلاما مبتذلا، فلو كلنا المدح بالمد لمن حقق آمالنا لقصرنا، فخير من المدح تمنيات قلبية لهذه المؤسسة، وحث كل عربي ليجعلها بيت ماله فيستثمره ويفيد أمته، فهي رافعة رأس العرب، إن شاء الله.
كنا نحس ألما حين نقرأ في صحف الغرب عن الجوائز الأدبية التي جلت صدأ العقول، وفتحت للإنتاج الفكري أبوابا، فعقد القوم لكل لون من الأدب جوائز، أما نحن فكنا نلهو بالتفاهة، كأن الأدب سباق أطيفال يجريهم فكه في المضمار، وللمجلي كرة أو ليمونة.
فكرنا منذ أشهر بخلق جائزة ولو زهيدة، وطرقنا باب كثيرين فعدنا من عندهم نردد قول الحطيئة:
لقد مريتكم لو أن درتكم
يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لم يخطر على بالنا أن نقرع باب «بنك»، لعلمنا أن صناديق البنوك حديدية، وليقيننا أنها لا تعنى إلا ب «من وإلى»، حتى طلع علينا بنك مصر بهذه الأريحية، ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
نعم إن الجائزة للكتاب المصريين، كما يدل ما قرأت، والموضوعات أيضا قصص مصرية محضة، فنحن لا يعنينا من يأخذ المال، فسواء أعندنا مصريا كان أم عراقيا أم مراكشيا، ما دام اللسان عربيا، فكل ما نحلم به ونصبو إليه أن تربو ثروة الأدب العربي ويرزق مولودا جديدا ولو أنثى.
وإن كان لي ما أقول في هذا الصدد، فرجاء إلى طلعت حرب باشا ألا تكون لغة «الحوار»؛ لأن القصص تفقد طرافتها متى عرضت في الأقطار العربية التي لا تفهم اللسان المصري العامي، على ظرافته وحسن جرسه، فكم كنت أتألم - لا لشيء إلا لأني لم أفهم - حين أسمع حديثا تنطق به أشباح السينما المصرية.
أما الذين هززناهم للجائزة الصغيرة وظلوا جامدين كالصنم فليعذرونا، ظننا بهم خيرا فأزعجناهم، وما علمنا أنهم لا ينفقون مالهم إلا على جاه باطل، وصيت زيف، على موائد خضر، ودفاتر غير دفاترنا السوداء.
نحن لم نكلفهم أريحية بنك مصر، فليتهم أرونا عذرهم ولم يرونا بخلهم، ما طلبنا منهم إلا فلس الأرملة لأدبنا اليتيم، فكنا من المفلسين، والسادة معذورون؛ لأنهم لم يتعودوا الإنفاق على الأدب.
نامعلوم صفحہ
1
فرح أنطون
(1) سيرته وآثاره وأثره
في صيف عام 1937 أذيعت في القاهرة هذه الكلمة:
في الشهر القادم يكون قد مضى على وفاة فرح أنطون خمسة عشر عاما، ويحسن برجال الأدب الذين يعرفون فضل هذا الأديب العظيم في النهضة الحاضرة أن يحتفلوا به، فإن في الاحتفال تنويها بألوان التجديد التي قام بها في توجيه الأدب الحديث نحو الثورة، واعترافا بفضله على التفكير المصري. ونحن لا نعرف أديبا ممن يؤبه بهم في مصر لم يتأثر بأحسن التأثيرات من فرح أنطون، وكثير من النزعات الحسنة في أدبنا يعود إليه. وقد كان دأبنا في كل فرصة أن نعترف بفضله؛ ولذلك نحن ننتهز الفرصة الحاضرة لتنبيه الوجدان الأدبي في مصر إلى ضرورة الاحتفال بمرور خمسة عشر عاما على وفاته.
سلامة موسى
هذه كلمة سلامة موسى في عدد حزيران من مجلته «الجديدة» عام 1937، وسلامة هذا من رءوس كتاب مصر، أديب ثائر من الطراز الأول، يبغض كل قديم حتى نفسه إذا عمر طويلا، ويرى الخير كله في الغرب الذي يبدل كل يوم ثوبا، ويؤلمه الشرق المنكمش القابع في قميصه وسراويله كأنه السلحفاة. يحذو سلامة في العادات والآداب واللغة حذو مصطفى كمال في الدولة، يريد أن يلحقنا بالغرب في كل شيء، حتى دعا إلى استعمال الحروف اللاتينية بدلا من العربية، وقلع الطربوش ولبس القبعة، وحجته أن لبس البرنيطة يصير تفكيرنا غربيا، كأنما عقل الإنسان في رأس طربوشه، كما يقول المثل اللبناني.
إن سلامة يسير إلى التجديد طافرا، ونحن نعجب بالكثير من آرائه الطريفة، وإن شجبنا دعوته إلى الحروف اللاتينية وما أشبهها، أما الطربوش فحسبه أحمد حسن الزيات نصيرا.
ليست هذه ساعة تحليل سلامة موسى وتصويره بالألوان، ولكنها خطوط نرسمها، لعلها تطبع شيئا من صورته في أذهان قرائنا، فهذا الأديب الذي يريد أن يخلق مصر خلقا جديدا يتم بحماسة رسالتين اثنتين: رسالة الشميل وصروف، ورسالة فرح أنطون في الجامعة. وهو ينقل لنا في كل ساعة ما يبتدعه الغرب، وبحسبنا «العقل الباطن» الذي فتن سلامة موسى، ففتن به عقل العالم العربي.
لست أضع الأستاذ سلامة على محك الشدياق، وابن خالويه، بل أقول فيه كلمة قبل الانتقال إلى فرح أنطون: إن سلامة موسى كاتب يجري إلى غاية، وهدفه تجديد الشرق اجتماعيا وأدبيا، ومجلته التي يدل اسمها عليها نشرة ثمينة لا يسد مسدها غيرها، وإذا انطوت - وقد انطوت - كان في الشرق فراغ كالفراغ الذي أحدثه انطواء جامعة فرح أنطون ومقتطف صروف.
نامعلوم صفحہ
إن سلامة مجدد من مزراب برنيطته إلى شريط بوطه، والأيام كفيلة بتحقيق الكثير من أمانيه، قد أحسن هذا الأديب بتذكير مصر بأديب أفضل عليها، وهو - بعد الشدياق - من رسل هذه اليقظة الفكرية في الشرق، كما قلنا عنه مرة في «عكاظ مدرسة الحكمة»، وهذه كلمتنا بحروفها:
وإذا نظرنا إلى المدارس الفكرية رأيناها أيضا بنت هذا البلد الطيب - لبنان - فقبل الشميل وصروف لم يتحرك لسان في الشرق العربي بحديث النشوء والارتقاء، وقبل فرح أنطون لم يعالج أحد المشاكل الاجتماعية العويصة، ففرح فتح باب التفكير الحر وشرعه للناس، ولكنه جاء قبل أوانه، فحولته الحاجة عن مجراه، إلى مسرحي سطحي يكتب ليعيش ... إلخ.
وكتبنا أيضا بتاريخ 29 تشرين الثاني سنة 1934 في جريدة «صوت الأحرار» ما يلي:
وهذا فرح أنطون، ماذا لقي في هذا الوطن؟ وا خجلة التاريخ منك يا أبا المدرسة الحرة! فمن نشر آراء رنان، وروسو، وتولستوي، وروسكين، ونيتشه، وغيرهم قبل فرح؟ وماذا فعلنا نحن له غير الإغارة على آثاره التي اتخذ سويداء قلبه مدادا لتحبيرها؟ فهذا المنفلوطي - غفر الله له - صديق فرح، قد قرظ قصة بولس وفرجيني التي ترجمها فرح، وعملها قصيدة يوم كان ينظم الشعر، حتى إذا ما مات فرح، شن الغارة على بيت صاحبه، فسبى بناته وكساها ثوبا عربيا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ملحفة ولا فرنجية مشمرة.
وفي ذاك المقال عتبت عتبا عنيفا على خليل مطران؛ لأنه كتب مقالا في هلال حزيران سنة 1934 عنوانه «رواد النهضة الحديثة»، لم يذكر فيه فرح أنطون وجبران وولي الدين، ثم لمت فيه مؤلفي «المفصل»؛ لأنهم أغفلوا ذلك، فقلت في فرح: «وفرح يحيا بآثاره الخالدة يوم يؤرخ الأدب تأريخا نزيها لا عوج فيه.»
فليراجع المقال من يحب التفصيل، أما نحن فقد طابت الآن نفسنا، واليوم الذي ظنناه بعيدا كان قريبا جدا؛ إذ قام أديب خطير كسلامة موسى، بارك الله في عمره، ودعا الغافلين إلى إحياء ذكرى فرح، ليس أبلغ في مجال شكرنا للأستاذ سلامة من الكلمة العربية المأثورة: الفضل يعرفه ذووه.
والآن فإننا نتساءل: إذا لبت مصر نداء أديبها الحر، وشاءت أن تزور ضريح فرح أنطون، فهل تعرف أين هو؟ هل لفرح ضريح خاص، أليس فرح في ضيافة أحد أنسبائه كبودلير قبل أن نهض أدباء الأمة الفرنسية وبنوا له ضريحا؟ فهل من يعمل هذا لفرح في مصر العزيزة، منبع الخير والبركة؟
ولكي نعرف فرح أنطون إلى شبابنا الذين يجهلونه - كما جهلوا الشدياق من قبل - لا بد من كلمة موجزة في سيرة حياته، نكتبها ونسأل صديقنا الأستاذ جرجي نقولا باز أن يتفضل علينا بترجمة للرجل، فهو يستحقها كالذين يؤرخهم صاحبنا. ومن الرب نطلب أن يوفق إلى إلحاق نسبه بغسان أو قريش، كما يفعل في كتابة «السير» غالبا.
ولد فرح في طرابلس سنة 1874 وتخرج في مدرسة كفتين يوم كان جبر ضومط وأنطون شحيبر أستاذين فيها. كان أبوه من تجار الخشب في طرابلس، فأراد أن يجعله مثله تاجرا، فجرب فرح ثم أبى، وعكف على مطالعة روسو، وتولستوي، ورنان، وسيمون، وكارل ماركس، وبرناردشو وغيرهم ... ودعي لرئاسة مدرسة للروم الأرثوذكس بطرابلس فتولى إدارتها بضع سنين، وشرع يكتب في تلك الأثناء فأعجب الناس، ورأى مجال القول ضيقا في طرابلس، فنزح إلى مصر سنة 1897، وهناك أنشأ مجلة الجامعة التي ملأ صيتها الشرق وديار هجرة العرب، وكانت بوق الحرية الصارخ في أذن الراقدين، ثم ضاقت عليه مصر، فنزح إلى نيويورك سنة 1907، فقال أحمد محرم أحد شعراء مصر قصيدة في هجرته، هذا مطلعها:
إن كنت لا تبغي لنفسك راحة
نامعلوم صفحہ
فأرح مطيك والدنى وبنيها
وفي نيويورك وسع البيكار، فأصدر الجامعة: يومية بثماني صفحات، وأسبوعية، وشهرية، ولكن إقامته لم تطل هناك فعاد إلى مصر، وأصدر الجامعة - المجلة - سنة أو أقل، ثم حجبها عن الناس. وانصرف فرح الأديب إلى تحرير الصحف الوطنية السياسية، وأخذ يؤلف الروايات ويترجمها، ووضع الروايات التمثيلية الغنائية، وألف جوقة منيرة المهدية فقامت بتمثيلها، وأخيرا انضم إلى صفوف الوفديين المجاهدين، فعاون الأستاذ عبد القادر حمزة في تحرير جريدة الأهالي إلى أن مات بغتة قبل صياح ديك ثالث تموز سنة 1922.
آثاره الأدبية
الجامعة:
مجلة شهرية أصدرها سبع سنوات.
فلسفة ابن رشد:
جدال بين فرح والإمام محمد عبده.
أورشليم الجديدة:
قصة فلسفية اجتماعية.
مريم قبل التوبة:
نامعلوم صفحہ
قصة اجتماعية مات ولم يتمها.
الوحش الوحش الوحش:
قصة خلقية لبنانية.
الدين والعلم والمال:
قصة.
بولس وفرجيني، الكوخ الهندي:
لبرنردين ده سانبيار.
أتالا:
لشاتو بريان.
نهضة الأسد:
نامعلوم صفحہ
رواية ديماس عن الثورة الفرنسية.
تاريخ المسيح:
لرنان لخصه تلخيصا.
أما رواياته التمثيلية فعديدة: «البرج الهائل»، «ابن الشعب»، «الساحرة»، «أوديب الملك»، «المتصرف في العباد»، «صلاح الدين»؛ مثلها جميعها الأستاذ جورج أبيض. «كرمن»، «كرمنينا»، «روزينا»، «تاييس»؛ هذه الروايات الأربع مقتبسة، مثلها جوق منيرة المهدية. «مصر الجديدة»، «بنات الشوارع وبنات الخدور»؛ روايتان غنائيتان، مثلهما جوق آخر. «أبو الهول يتحرك»، رواية غنائية وهي أبدع ما ألف في التمثيل، ورواية «ذات الورد» لديماس.
أما ما أودعه فرح في «جامعته» فكنز ثمين، بل ذخيرة للذين يرغبون في مرافقة الفكر الإنساني واتباع تطور الخلق والدين. وفرح أول كاتب عرف العرب بالفيلسوف الألماني نيتشه والمعلم كارل ماركس.
عندما قرأت في رسالة الزيات أن صديقي ورفيقي الأستاذ فيلكس فارس عزم على ترجمة كتاب فردريك نيتشه «هكذا تكلم زاراتوسترا»، فرحت كثيرا لعلمي أن فيلكس يحذق اللغتين، وهذا أول شرط الترجمة، ثم توقعت أن أقرأ لفيلكس كلمة يترحم بها على فرح وينوه به، فإذا به يقول: «لم يفكر أحد بترجمة هذا الكتاب العظيم ... إلخ.» مع أني كنت أقرأ وفيلكس ما ترجمه فرح من زاراتوسترا، وما كتبه من الفصول عن نيتشه وفلسفته.
إن في صدور أدبائنا حبا شديدا للاحتكار ورغبة في الاستبداد بالأصناف، ففي كل بلاد ألوف من الشعراء والقصصيين والمؤرخين والكتاب، ولكنهم لا يتزاحمون هذا الزحام المزعج، ولا ينسى المتأخر المتقدم، وأول ضحايا هذه الأنانية الجائعة كان فرح أنطون، فقد أكلناه ميتا، ونسيناه نسيانا مشينا. (2) في مجلته الجامعة
كلما رأيت دير كفتين الناظر إلى طرابلس، تذكرت فرح أنطون، وكلما مررت في الشمال، تذكرت قصته «الوحش الوحش الوحش»، وتأملت الأمكنة التي وصفها هذا الأديب الثائر، من دير حماطورة إلى الحدث والأرز.
فرح ابن الشمال، ولد في طرابلس، وتعلم بدير كفتين، رأى التعصب الديني في طرابلس والكورة والجبة، فثار على محيطه - ومحيطه محيط الشرق كله - ثم أغرق في مطالعة كتب المحررين، فخلع النير.
قال بول بورجه: «كل من يصفيه التفكير والمطالعة يتعرض لعدم الامتزاج بجماعته، فإما أن يثور على بيئته التي يتألم منها، أو يحاول الدخول في غيرها، فهو كالنبتة التي تشق جذورها الإناء الذي نشأت فيه، فيجب أن تنقل منه.»
نامعلوم صفحہ
وهكذا فعل فرح، نزح إلى مصر وأنشأ الجامعة، كانت في عامها الأول عثمانية تدعو الشرق إلى الالتفاف حول عرش الأستانة وتكرهه بأوروبا، فكان فيها فرح شرقيا يحب الكثير من عقائد الغرب الاجتماعية، كان كالبستاني الخبير يؤصل ويطعم، أذاع مبادئ جول سيمون، بل أعلن في مقدمة مجلته أنها لسان حال هذا الفيلسوف، ورأى معه أن تربية المرأة والنشء تمنع كل فساد، فانصرف إلى بحث التربية فرآها في ثلاثة أقانيم: بدنية، وعقلية، وروحية، وحيث لا تتجمع ثلاثتها يظل الإنسان ناقصا.
ونظر فرح إلى التعليم فرأى المدارس كافية، فكان أول الداعين إلى إصلاح تربيتها وتعليمها، لا إلى زيادة عددها، والإكثار منها. وأنشأ في السنة الأولى بابين يدلان على ذوقه السليم؛ الأول: غذاء المعد القوية، وفيه نشر حكم مفكري الشرق والغرب (وخصوصا لابروير)، والثاني: غذاء المعد الضعيفة، وهو للفكاهات والنوادر.
وما أطلت الجامعة حتى قالت فيها مجلة الهلال: «إن الجامعة جاءت الشرق في إبان حاجته إليها.» ورأى فرح في القصة معلما ومهذبا للناس، فدعا إلى إنشائها، وألف قصة «الحب حتى الموت»، أقامها دليلا على أمانة المرأة المحصنة، وعرب رواية البرج الهائل، لتكون برهانا على خيانة الفاجرة وقتلها النفوس إشباعا لشهوتها.
ففرح أنطون أديب اجتماعي قبل كل شيء، وفي كل شيء؛ في مجلته، ومقالاته، وقصصه، ومسرحياته، وهو رسول الديمقراطية في الشرق العربي، نشر تراجم الرجال، شرقيين وغربيين، ليجعلها أمثولة للشرق الغافي، وكثيرا ما كان يذكر مزايا الحيوان ليبكت أخاه الإنسان، وإن ذكر خبرا علميا فليعجب بالعقل البشري ويتفاءل.
شكا في أول عدد من الجامعة قلة الإيمان بالله وضعف الثقة به، ولكنه نسي ذلك أخيرا حين اعتنق مبادئ نيتشه كما سيأتي، ولم يهمل فرح الشعر والشعراء، فهو أول من أطرى أحمد شوقي، لا لأنه شاعر الأمير، بل لأنه رأى أنه سيكون عظيما إذا كد واجتهد، ونشر كثيرا من سير الشعراء المتقدمين والمعاصرين حتى حشر الأمير عبد القادر الجزائري في هذا المضيق وأورد شيئا من نظمه.
فرح كاتب ثوري وعملي بروح رومنتيكية، فالتربية والمدرسة حديثه الدائم منذ مولد الجامعة حتى موتها، يشبهه من كتابنا اليوم الذين لهم عقيدة لا ينفكون عنها، الكاتبان الشهيران أمين الريحاني ويوسف يزبك، وكلاهما يتفقان معه في التأليف عن الثورة الفرنسية، الريحاني في نبذته، وهي أول آثاره الأدبية، ويزبك في «14 تموز»، كما لا يختلفان عنه في المثابرة على خطة لا يحيدان عنها.
كل ما خطه قلم فرح أنطون يتفق وروحه، بل قل لم يكتب كلمة تخالف عقيدته، وروحه الحية ظاهرة في جامعته، فكأنها كتاب خاص لا مجلة جامعة.
طبع على نصرة الضعفاء، فما نشبت حرب البوير حتى كتب تحت عنوان «الترانسفال ظالمة أم مظلومة»؛ سلسلة مقالات طار فيها على أجنحة الخيال، وعنف الإنكليز تعنيفا معقولا، وتكلم بلغة أشعيا وأرميا ينذر الدنيا بالويل. ثم رأى حاجة الشرق إلى معرفة سير أصحاب الأديان؛ فنشر المقالات الضافية عن بوذا وفلسفة الصينيين ... إلخ، فأثار الأذهان وفتح العيون.
وكان حرم السينودوس - المجمع المقدس - للفيلسوف تولستوي، فقام فرح يكتب عن هذا المعلم العظيم، نشر سيرة حياته، وحلل فلسفته ومحيطه، ولخص رواية «البعث» رأس كتبه، ثم أذاع ما دار حول «حرمه» من مناقشات، ورده على المجمع ودفاع زوجته عنه، وبعض رسائل تبادلها الفيلسوف ومعاصريه.
ففي الجامعة يتعرف القارئ رجال الفكر العظام، ولا أظلم صاحبي فرح أنطون إن قلت - معرفة وجه - أو كما يلم ناظر السينما بما يعرض عليه من مشاهد، لخص فرح كتبا كثيرة في فصول، وهو إن أساء إلى أصحابها والفن، فقد أحسن إلى الجمهور؛ إذ كان كمن يعطي المريض درهم كينا بدلا من حزمة قنطاريون.
نامعلوم صفحہ
أرانا فرح برنردين دي سان بيار في الكوخ الهندي، وبولس وفرجيني، وشاتوبريان في أتالا، وحدثنا طويلا عن الإسكندر، وبحث نظرية داروين، وتكلم عن الحلقة المفقودة، ولم يهمل شيئا حتى سكان الكواكب، ولكن ليس بتعمق المقتطف؛ فهدفه تنوير العقول وتعريفنا بأحبابه من الكتاب الغربيين مثل جون روسكن، رسول الفنون الجميلة، والمبشر بحب الطبيعة، والمنادي ببدعة ملكة أيار - الاحتفال بعيد الربيع الذي نعظمه اليوم.
يرى روسكن أن الفن ضرب من العبادة؛ لأن الإنسان لا يبلغه إلا بعد فهم الطبيعة وحبها (ص567، سنة ثانية)، أما رأيه الاجتماعي فينحصر في أن سبب الفساد والشقاء هو استبداد أرباب الأموال بالشعب، وحفظهم هذا الاستبداد بواسطة المعامل والآلات.
وينشر قاسم أمين كتابه «المرأة الجديدة»، فينصره فرح ويلخص الكتاب لقراء الجامعة كما يلخص أشهر الكتب العالمية، ويعير هذا الكتاب اهتماما عظيما، فيقابل بين آراء قاسم وجول سيمون. ويموت الحمولي، موسيقي زمانه، فيكتب عنه فرح ويعتبره عظيما، ويتكلم بهذه المناسبة عن الطفل «أريولا» الذي صار موسيقيا في عامه الثاني.
هذا شأن فرح في كل مناسبة تعرض. أما حبه للتمثيل فشديد، وقد كتب عنه كثيرا في الجامعة مناصرا هذا الفن الرفيع، وإن عده الزيات من الأدب الخفيف في مجلة «الرسالة».
وتدخل الجامعة في الحول الثالث، فيصدرها فرح بمقال «تاريخ الأندلس من أوله إلى آخره»، فيستبكي الرافعي، فينظم قصيدة ندية القافية. وكأنما كان أقصى هم فرح تعريف الشرق بالغرب، فيلخص كتيبا لريدر كبلنغ، وينشر مقالات علمية ترمي كلها إلى غرضه، حتى إذا عرف أرنست رنان الشهير، ترجم له ونوه به تنويها عظيما ، ونقل كتابه «حياة يسوع» مع مراعاة مقتضى الحال، متصرفا حتى في عنوان الكتاب، فجاء أشبه بالشبية: «كتاب صلوات وتأملات روحية».
ولم يلهه كل هذا عن شئون مصر وسورية خاصة، والشرق عامة، كما لم يغفل عن نشر سير العصاميين، فكتب سيرة فليكس فور بعنوان: «من معمل الدباغة إلى رئاسة الجمهورية»، ولا ينسى برتلو الكيماوي فيترجم له ويهتف: المجد للعلماء.
ولا يهاب النظر في الشعر، على قلة بضاعته منه، فيحدد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي تحديدا جديدا جيدا، ويتكلم عن باكون وشكسبير بإسهاب مبتدئا هكذا: «مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد إلا بعد الممات.»
وتحتفل فرنسا بذكرى ميلاد هيغو المئوية، فيكتب درسا مطولا يفتتحه بكلمة كاتب دنمركي شهير: «إن ظهور أعاظم الرجال في الأرض منحة إلهية من السماء.» كذا كان ظهورك يا فرح، يرحمك الله.
ويجول في الموضوع جولة صادقة كأنه من كبار النقاد - أقول هذا ولا أشك في أنه ممن طالعوا كثيرا النقد الفرنسي في أهم مصادره - ولا يترك فرح مقالته هذه بلا استنتاج، فيقول لكتاب الشرق وشعرائه: «إن رجلا كهيغو لا ينبت من الأرض، ولا يهبط من السماء، بل هو ينشئ نفسه بنفسه، وذلك بالصبر والعمل والسهر» (ص452، سنة 3).
قلت: هلا يسمع شعراؤنا الذين يريدون أن يكونوا كبارا غصبا عنا!
نامعلوم صفحہ
وقبل أن يختم فرح مقاله عن هيغو يتذكر مهمته التربوية، فيدير وجهه صوب النساء ويقول لهن بلسان روستان: «أيتها النساء، لا تهملن ولدا؛ إذ من يعلم متى يمر في الأرض ذلك الولد الذي سيكون إلها. ومتى أخذتن رأس ولدكن لتقبيله، فلا تضغطن عليه كثيرا، فإنه ربما كان هذا الرأس وحده يضم عالما عظيما.»
ويعطف على رنان فيعرب «حرمه» لحارميه، ويذيع صلاته المشهورة عند الأكروبول، ثم جواب أناتول فرانس عليها بلسان آلهة الحكمة يوم الاحتفال بتمثال رنان. وهنا ينتقل فرح إلى دارة جديدة فيلخص فلسفة ابن رشد ويذكر محنته، فتتجه الجامعة اتجاها جديدا تتجلى فيه أبهى خدماتها للفكر العربي، وهي إذاعة أعقد المسائل والقضايا بلغة يفهمها كل قارئ، فكان فيها فرح من أولئك الذين ينشرون العلوم بلغة القراءة المصورة، فما انتشر عدد ابن رشد حتى نشبت معركة جدلية حوله، فينصرف فرح إلى الرد على الإمام محمد عبده.
خبرنا فرح بهذه المناسبة قال: ««وعصبت رأسي» كما يقال، وانصرفت ثلاثة شهور إلى درس هذا الموضوع وحده حتى فقدت النوم والقابلية.» إن الأشهر الثلاثة التي صرفها فرح في الرد على الإمام لا شبيه لها في التاريخ إلا مناظرة الخوارزمي والهمذاني، بيد أن فرح أنطون الشاب أظهر أسمى الاحترام للشيخ الذي يستحقه، وهكذا ذاعت شهرة فرح، الذي نسيناه، في العالم العربي وتجاوزته إلى الغرب؛ فطلب المتمشرقون تآليفه.
قال حافظ إبراهيم شاعر الإمام في هذه المناقشة:
وأنت لها إن قام في الغرب مرجف
وأنت لها إن قام في الشرق مرجف
يعني حافظ بالمرجفين: هانوتو وفرح أنطون، أما فرح فعلق على هذا البيت بقوله: حافظ، حافظ، إنك لم تحاسب نفسك لما نظمت هذا البيت.
وتدخل الجامعة في السنة الرابعة (1903)، فيبدؤها فرح بإذاعة الفلسفة الحسية، ناشرا ترجمة «أوغست كنت» واضع ديانة الإنسانية والعلم، ثم يلخص تاريخ الرسل لرنان، ويقترح على حكومة مصر إحداث مدارس زراعية، كما دعا السوريين في أميركا إلى الزراعة فيما بعد. ونظر فرح إلى السماء فلخص لقرائه شيئا من كتاب فلامريون الفلكي الشهير، وظهرت اكتشافات بابلية فنشر سيرة حمورابي وشريعته، وما أحدثه اكتشاف ألواحها من قلق فكري وشك في التوراة، وترجم رسالة الإمبراطور غليوم لأحد أصحابه العلماء، فكأنما كان فرح مذياعا ينقل خطة الفكر في العالم.
كان يعلن أحيانا ولا ينجز، لكثرة أشغاله واضطرابه العصبي، بدأ أشياء كثيرة ولم يتمها؛ ككتاب فلامريون، ورواية مريم قبل التوبة، وقصة إسبانية تحب عربيا، وعد بها ولم ينشر شيئا منها.
وفي هذه السنة - الرابعة - ألف فرح ثلاث قصص أهداها إلى قرائه، ونامت الجامعة على إثرها سنة كاملة حتى استيقظت في نيويورك سنة 1905، وهناك أرخى فرح لقلمه العنان، فحيا تمثال الحرية تحية حارة ضمنها أصدق عواطفه الاجتماعية، وكتب بعدها عن عظمة أميركا فصولا ضافية، ودرس مدنيتها ، ولكنه لم ينس الشرق بل ظل يحن إليه، واستماله روسو فكتب عنه ونشر رسوما عدة له ولمدام دي وارين التي أحبته، وعرب رواية ابن الشعب ونشرها متقطعة، وفتح بابا جديدا نشر فيه روائع الفن التصويري، وكتب عن القصة فصلا جميلا (306، سنة خامسة)، وتحدث عن مشاهير أميركيين مثل تافت وهارست، ونشر ترجمة مار بولس؛ حبيب الأميركيين.
نامعلوم صفحہ