جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
وفي الوجوه صفرة وإبلاس
يعني به اكتئابا وكسوفا. فإن قال قائل: فإن كان إبليس كما قلت «إفعيل» من الإبلاس، فهلا صرف وأجري؟ قيل: ترك إجراؤه استثقالا إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري، وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يجروه، وهو من أسحقه الله إسحاقا، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه، وهو من أسماء العجم في الإعراب، فلم يصرف.
وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب. وتأويل قوله: { أبى } يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. { واستكبر } يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوته والإذعان لطاعته، بغيا منهم له وحسدا، فقرعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدا وبغيا. ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: { وكان } يعني إبليس { من الكفرين } من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل: من إطعام الله أسلافهم المن والسلوى، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصا ما خص الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوته حسدا وبغيا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين، فجعله من عدادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال:
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
[التوبة: 67] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال، فكذلك قوله في إبليس: { وكان من الكفرين } كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم. ومعنى قوله: { وكان من الكفرين } أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ. وقد روي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله: { وكان من الكفرين } في هذا الموضع وكان من العاصين. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { وكان من الكفرين } يعني العاصين. وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه. وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله، لا عبادة لآدم. كما: حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم } فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.
[2.35]
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: { وقلنا يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }. فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله، بعد أن لعن وأظهر التكبر لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة. كما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليغوين آدم وذريته وزوجه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض، وعلم الله آدم الأسماء كلها. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها، فقال:
يآءادم أنبئهم بأسمآئهم
[البقرة: 33] إلى قوله:
إنك أنت العليم الحكيم
نامعلوم صفحہ