ويذكر جابر اعتراضا قد يوجه إليه في قوله: إن الجزء لا يؤتمن في الحكم على الكل، يذكر هذا الاعتراض ليرد عليه؛ فقد يعترض معترض بقوله: إن الجزء والكل أمران متضايفان لا يعقل أن يوجد أحدهما بغير الآخر؛ فمجرد قولك عن شيء إنه جزء يقتضي بالضرورة أن يكون هناك الكل الذي يحتويه، وكذلك مجرد قولك عن شيء إنه كل يقتضي بالضرورة أن له أجزاء تدخل فيه. لكن الاعتراض مردود بما يأتي: هذا كله صحيح على شرط أن يثبت لنا أن النموذج المقدم هو جزء، ومن أين يجيئنا هذا اليقين إذا قدم لنا شيء ما أنه ليس هو الجنس كله، وليس جزءا يندرج في جنس يضمه مع غيره من الأجزاء التي تجانسه؟ (6-2) الاستدلال المنبني على جري العادة
هذا هو الاستدلال الاستقرائي الذي يصل به صاحبه إلى التعميم عن طريق مشاهدته لعدة أمثلة يراها متشابهة في ناحية من نواحيها فيعمم عليها الحكم تعميما يجعلها زمرة واحدة؛ فكأنما يبني المستدل تعميمه في هذه الحالة على عادة يتعودها في مشاهداته؛ إذ يتعود أن يرى صفتين - مثلا - مقترنتين دائما، فيتوقع بعد ذلك إذا ما رأى إحداهما أن يرى الأخرى. وبطبيعة الحال لا يكون هذا التوقع قائما إلا على أساس احتمالي؛ إذ ليس هناك ما يمنع أن تجيء الحوادث على غير ما قد شهدها الإنسان في الماضي، وعلى غير ما يتوقع لها أن تكون. وإنه لمما يستوقف النظر في هذا الصدد أن نرى تطابقا تاما بين ما يقوله جابر بن حيان في هذا الضرب من الاستدلال، وما قاله ديفد هيوم في القرن الثامن عشر، مما يعد أبرز طابع في فلسفته؛ فكلاهما ينبه إلى أن الاستدلال الاستقرائي قائم على أساس «العادة» وحدها، وبالتالي فهو استدلال احتمالي لا تحتمه الضرورة العقلية؛ فليس فيه بعبارة ابن حيان: «علم يقين واجب اضطراري برهاني أصلا، بل (فيه) علم إقناعي يبلغ إلى أن يكون أحرى وأولى وأجدر لا غير.»
37
ويمضي جابر بن حيان في الحديث عن الاستدلال الاستقرائي فيقول ما معناه: إن الناس يكثرون من استخدام هذا الاستدلال ويستندون عليه في أمورهم أكثر مما يستندون إلى أي ضرب آخر من ضروب الاستدلال؛ لأنه قياس واستقراء للنظائر واستشهاد بها على الأمر المطلوب إقامة الحجة على صوابه؛ وليس هذا الضرب من الاستدلال المبني على الشواهد ما يطلق عليه في المصطلح المنطقي ب «البرهان»؛ إذ البرهان لا يكون إلا في حالة الاستنباط الذي نولد به النتيجة مقدماتها توليدا يجعلها صريحة بعد أن كانت مضمرة في المقدمات؛ فإذا كانت المقدمات صحيحة لزم بالضرورة أن تكون النتيجة صحيحة كذلك؛ فالاستقراء والبرهان ضربان متعارضان: الأول احتمالي والثاني يقيني، الأول يتفاوت قوة وضعفا «بحسب كثرة النظائر والأمثال المتشابهة وقلتها والثاني لا تفاوت فيه بين قوة وضعف؛ لأنه لا تفاوت في درجات اليقين». ويقول ابن حيان: إن قوما قد ظنوا أن الاستقراء يمكن أن يكون مؤديا إلى علم برهاني يقيني؛ وذلك إذا اطردت النظائر المتشابهة اطرادا لا يشذ فيه مثل واحد.
38
ولهذا يرى «ابن حيان» أنه جدير بالقول المفصل، لا يختلط أمره في عقول الباحثين، فيقول:
39
إن أضعف استدلال من هذا القبيل هو ذلك الذي لم يوجد له إلا واحد نقيس عليه حكمنا العام؛ «كرجل قال مثلا: إن امرأة ستلد غلاما؛ فسألناه عن الدليل من أين علم ذلك؟ فأجابنا قال: من حيث إنها ولدت في العام الأول غلاما؛ ولم تكن المرأة ولدت إلا ولدا واحدا فقط ...» هذه هي أضعف حالات الاستقراء. وأما أقوى حالاته فهي تلك التي نجد جميع ما في الوجود مطردا فيها على مثال واحد، ولا نجد أبدا ما يخالف؛ كرجل قال: «إن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها ويكون بعقبها؛ فسألناه من أين علم ذلك فأجاب بأن قال: من قبل أني لم أجد ليلة إلا وانكشفت عن يوم.»
40
تلكما هما أضعف الحالات وأقواها بين حالات التدرج في القوة والضعف «وأما ما بين هذين فقوية وضعيفة في الدلالة بحسب كثرة النظائر وقلتها، وليس في هذا الباب علم يقين واجب»، فإذا جاز لنا أن نستشهد في أمثال هذه الحالات بحيث نحكم بالحاضر على الغائب، فما ذاك إلا «لما في النفس من الظن والحسبان، فإن الأمور ينبغي أن تجري على نظام ومشابهة ومماثلة؛ فإنك تجد أكثر الناس يجرون أمورهم على هذا الحسبان والظن، ويكاد أن يكون ذلك يقينا، حتى إنه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الأخرى؛ فإن حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك أن سيحدث مثله في السنة الثالثة؛ وإن حدث في السنة الثالثة أيضا، حتى إذا حدث ذلك مثلا عشر مرار في عشر سنين، لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة تكون من بعد، وإذا كان هذا مقدار ما يقع في النفس من هذا المعنى، فما ترى يكون فيما لم يشاهد قط إلا على ذلك الوجه.»
نامعلوم صفحہ