مقدمة
من هو الرجل
عالم ومنهجه
تصنيف العلوم
سر اللغة وسحرها
فلسفة الكون
فعل البروج والكواكب
علم الكيمياء
جدل الفيلسوف
بين العلم والخرافة
نامعلوم صفحہ
مقدمة
من هو الرجل
عالم ومنهجه
تصنيف العلوم
سر اللغة وسحرها
فلسفة الكون
فعل البروج والكواكب
علم الكيمياء
جدل الفيلسوف
بين العلم والخرافة
نامعلوم صفحہ
جابر بن حيان
جابر بن حيان
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
كنت أحاضر طلابي في الجامعة ذات يوم، وكان موضوع المحاضرة متصلا بمناهج البحث العلمي، وكانت المادة التي أعرضها في المحاضرة مستمدة من علماء الغرب وفلاسفته؛ ذلك لأن العلوم الطبيعية حديثة النشأة، لم تكد تولد قبل عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، ولم نذكر العلوم الرياضية؛ لأنها أقدم نشأة وأسبق تطورا من العلوم الطبيعية، وأما قبل ذلك فقد كانت مختلطة بأصول فلسفية، معتمدة في أغلب الأحيان على تأمل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعقبة وتجريب دقيق صارم. ولما كانت الحضارة الإنسانية منذ النهضة الأوروبية قد اتخذت الغرب - أوروبا وحدها أولا، ثم أوروبا وأمريكا معا بعد ذلك - مقرا لها في طريقها الطويل الذي أخذت تنتقل خلاله من موطن إلى موطن، فقد بات الغرب - إبان الثلاثة القرون الأخيرة - هو مركز العلم، فلا مندوحة لمن يريد التحدث عن أصول العلم وفلسفته ومنهجه، عن الرجوع إليه ليستقي منه مادة حديثة.
غير أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها، حتى سألني طالب، وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يرجع إليه ويستفاد من مناهجه؟ ... وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى - في الشرق وفي الغرب على السواء - وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان لنقدره قدره أولا، ولنزداد به فهما لما هو كائن ثانيا، وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحا علينا بأن ينهض منا من يؤديه.
وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحين أن ألبي رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل؛ وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان.
لكني ما كدت أبدأ العمل حتى أخذت الصعاب تزداد أمام عيني ازديادا سد علي الطريق مرارا، فكم من مرة وهنت العزيمة يأسا، وكم من مرة ملأت نفسي بالعزيمة من جديد؛ وأصعب تلك الصعاب هو أن ليس بين أيدينا هنا إلا عدد قليل من مؤلفات ابن حيان التي يعدونها بالمئات، وأما بقيتها فهي لا تزال في صورها المخطوطة مبعثرة في مكتبات أوروبا؛ ولو أراد الباحث أن يوفي موضوعه حق البحث الصحيح، لالتزم أن يطلع على النصوص الأولية جميعا قبل أن يخط من بحثه سطرا واحدا؛ فما بالك وابن حيان يحذر قارئه في مواضع كثيرة من رسائله ألا يهم أحد بدراسته إلا إذا جمع مؤلفاته كلها، حتى لتراه يتهكم أحيانا على من يكتفي ببضعة من كتبه ليستدل منها مذهبه كاملا؛ فالجزء - كما يقول - لا يسوغ الحكم على الكل، وأحسب أن لو بعث ابن حيان اليوم ليلقي نظرة على كتابي هذا عنه، لألقاه مزورا مغضبا؛ لأنها دراسة لم توف الشرط الجوهري في بحث علمي، واستغنت بالقليل عن الكثير.
لكن شفيعنا عند ابن حيان لو ألقى إلينا بهذا اللوم، هو: أولا - أنه هو نفسه كثيرا جدا ما أنبأنا في رسائله أن طريقته في التأليف هي أن يعيد في كل كتاب ما قد أورده في سائر كتبه، ولكنها إعادة بصورة جديدة، فكأنما الكتب يوضح بعضها بعضا، ولا يضيف بعضها إلى بعض؛ فإذا كنا قد اكتفينا بما بين أيدينا من مؤلفاته - ومنها ما يقال عنه إنه أهم كتبه جميعا، وهو كتاب الخواص الكبير - فلم يفتنا شيء من مذهبه، وإن فاتتنا ألوان أخرى من التعبير كان يمكن لهذا المذهب نفسه أن يصور بها؛ وثانيا - لو أننا انتظرنا لا نكتب عنه إلا بعد أن تتكامل لنا مؤلفاته كلها، فالأرجح جدا أن يظل مهملا أمدا طويلا من الزمن، لا نعرف عنه إلا اسمه، فينهض من طلابنا من يسأل: لماذا لم تحدثونا عن علمائنا العرب بمثل ما تتحدثون به عن علماء الغرب؟
نامعلوم صفحہ
وأيا ما كانت الأسباب التي تشفع لي أو لا تشفع لي هذا الصنيع، فها أنا ذا قد صنعت ما صنعته، متقدما به إلى كل قارئ يود أن يذوق بطرف اللسان حسوة من عالم عربي أصبح اسمه في تاريخ العلم مرتبطا بعلم الكيمياء ارتباطا شديدا، لا في الشرق العربي وحده، بل وفي أوروبا كذلك، التي لم تكد تعرف جامعاتها مراجع تدرس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر إلا كتب جابر بن حيان.
كان جابر - شأنه في ذلك شأن رجال العصور الوسطى جميعا، يستمد أصوله الفكرية من تراث اليونان، ثم يبني عليها ما شاءت له قدرته أن يبني من علم جديد. ومن التراث الفلسفي اليوناني أخذ جابر فكرة الطبائع الأربع الأولية التي منها نشأت الكائنات جميعا، وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ ولو قلنا ذلك بلغة اليوم لقلنا إنها الحرارة بدرجاتها المختلفة والصلابة بدرجاتها المختلفة، وإذا كانت الحرارة في جوهرها حركة، وإذا كانت الصلابة في جوهرها تقاربا في ذرات الجسم الصلب، فالأصول الأولية - بلغة اليوم - هي حركة الذرات، التي إن ازدادت سرعة كانت حرارة، وإن قلت سرعة كانت برودة، وإن تزاحمت كانت صلابة، وإن تباعدت كانت ليونة - ومهما يكن من أمر، فقد أخذ جابر عن التراث اليوناني هذه الطبائع الأولية الأربع، وجعلها أصلا للكائنات جميعا.
هذه الطبائع الأربع الأولية تجتمع اثنتين اثنتين فتكون أجساما أربعة: فالحرارة واليبوسة معا يكونان النار، والحرارة والرطوبة معا يكونان الهواء، والبرودة واليبوسة معا يكونان الأرض، والبرودة والرطوبة معا يكونان الماء؛ وليس في الطبيعة كائن يخلو تركيبه من أن يكون واحدا من هذه الأجسام، أو مزيجا مركبا منها، لا فرق في ذلك بين جماد ونبات وحيوان إلا في نوع المركب ودرجة التركيب.
وإذا كانت أصول الأشياء مشتركة بينها جميعا، جاز أن نحول بعضها إلى بعض، لا نحتاج في ذلك إلا إلى دراسة الجسم الذي نريد تحويله والجسم الذي نريد الحصول عليه، لنرى فيم يتفقان وفيم يختلفان، فنضيف الناقص ونحذف الزائد حتى نحصل على ما نريد الحصول عليه.
ولعل أهم ما شغل جابرا من ذلك هو تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ ونظريته في ذلك مؤداها أن للمعادن مقومين أساسيين هما: الكبريت والزئبق - وهذان بدورهما قد تكونان في جوف الأرض على مر الزمن الطويل من العناصر الأساسية: النار والهواء ... إلخ، وما من معدن بعد ذلك إلا وهو تركيب من زئبق وكبريت بنسب مختلفة؛ وعمل الكيموي في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها، لولا أن الطبيعة قد استغرقت آمادا طوالا في تكوين ما كونته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها، على حين يستطيع العالم بتجاربه أن يختصر الزمن إلى برهة وجيزة - وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب.
لكن جابرا لم يكن كيمويا وكفى، بل كان كذلك فيلسوفا، يتصور الأمور كما يتصورها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة، يبحثون لها عن مبدأ أول ثم يفرعون منه الفروع، وهكذا فعل جابر، فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الأول.
وقد قسمت هذا الكتاب تسعة فصول لأصور بها جابرا من شتى نواحيه، تصويرا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرف شيئا عن شخصه متى عاش، وبمن تأثر، وأي كتب ألف؟ وفي الفصل الثاني والفصل الثالث معا ألقيت الضوء على منهجه العلمي، حتى تسهل المقارنة بعد ذلك بينه وبين فلاسفة المناهج العلمية الذين ألفنا دراستهم في هذا الباب؛ وفي الفصل الرابع تحدثت عن فلسفته اللغوية لأهميتها الشديدة بالنسبة إلى نظرياته الكيموية؛ وذلك لأن الرأي عند ابن حيان هو أن الاسم دال على طبيعة مسماه، فالعلاقة وثيقة بين اللغة من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فلا مندوحة لمن أراد تصريف الأشياء الطبيعية عن معرفة الأسماء والعبارات التي جاءت لتدل على تلك الأشياء، وهي لم تجئ جزافا، بل جاءت من إملاء العقل الذي اهتدى بطبيعة المسمى قبل أن يضع له اسما يدل عليه؛ فإذا ما فرغنا من فلسفته اللغوية، خرجنا إلى حيث الكون الخارجي، وقد جعلنا الفصل الخامس مجالا لذكر فلسفة جابر الكونية، وألحقناه بالفصل السادس عن البروج والكواكب التي فضلا عن كونها جزءا من الكون واجب الدراسة لذاته، لكنها أيضا ضرورية لدراسة طبائع الأشياء نفسها، ما دامت البروج والكواكب تحدد الزمن، والزمن أمر حيوي في تكوين أي شيء مهما كانت طبيعته. وهنا نجد الطريق قد مهد تمهيدا صالحا لنبدأ الحديث في أخص خصائص جابر بن حيان، ألا وهو علم الكيمياء عنده، وقد تحدثنا عنه في الفصل السابع؛ وأردفناه بفصل يصور جابرا الفيلسوف، ثم ختمنا الكتاب بفصل تاسع وأخير يبين كيف لم يسلم هذا العالم من شطحات الخيال.
وأنه لواجب علينا في هذا المقام أن نحيي ذكرى «بول كراوس» الذي لولا ما قدم إلينا من مخطوطات لجابر، جمعها من مختلف المكتبات في أوروبا، ونشرها في كتاب «مختار رسائل جابر بن حيان»، وذلك بالإضافة إلى مجلدين ألفهما في جابر بن حيان، تحدث فيهما حديثا مستفيضا عن كتبه ومذهبه، أقول إنه لولا هذه الآثار العلمية الجليلة التي تركها «كراوس»، لكانت الكتابة عن ابن حيان - بالنسبة لي على الأقل - ضربا من المحال؛ فقد اعتمدت كل الاعتماد على مجموعة المختارات التي نشرها من رسائل جابر، بالإضافة إلى ما هو موجود من رسائله في دار الكتب بالقاهرة مما لم ينشره «كراوس»، وهو قليل.
فلست أطمع في أن يعد كتابي هذا عن جابر بن حيان أكثر من محاولة متواضعة لإلقاء يسير من الضوء على حقيقته، وهي - فيما أعلم - أول محاولة من نوعها لمؤلف عربي.
زكي نجيب محمود
نامعلوم صفحہ
الجيزة في 24 يناير 1961
من هو الرجل
(1) شيء عن حياته
ها هو ذا علم من أعلام الفكر الإسلامي، كنا نتوقع أن نجد عنه الرواية المستفيضة والخبر اليقين، لكننا لا نصادف في ذلك إلا أقوالا متعارضة، قد بلغ فيها اختلاف الرأي حدا ينكر معه المنكرون أن رجلا كهذا قد شهده التاريخ، وهي قصة تتكرر مع كثيرين من نوابغ الفكر، كأنما الإنسانية تستكثر على نفسها أن ينبغ من أبنائها أحد يجاوز بنبوغه هذا حدا معلوما، فإن جاوزه قال عنه الخلف إنه أسطورة لفقها الخيال؛ فهوميروس قد وجد - وما يزال يجد - من أنكر وجوده؛ وشيكسبير قد وجد - وما يزال يجد - من أنكر وجوده، وامرؤ القيس قد وجد من تشكك في وجوده، وها هو ذا صاحبنا جابر بن حيان: «تقول عنه جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين إنه لا أصل له ولا حقيقة.» وقال بعضهم إنه حتى إن كانت له حقيقة تاريخية فهو لم يصنف هذه الكتب الكثيرة التي قيل إنه مصنفها، واستثنوا كتابا واحدا من كتبه نسبوه إليه، هو «كتاب الرحمة»، وأما بقية مصنفاته فقد صنفها غيره ثم نحلوه إياها - هذه رواية يرويها صاحب «الفهرست»
1
ثم يعقب عليها قائلا: «إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب، فيصنف كتابا يحتوي على ألفي ورقة، يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره - إما موجودا أو معدوما - ضرب من الجهل؛ وأن ذلك لا يستمر على أحد، ولا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا، وأي عائدة؟»
2
ولا يتردد ابن النديم في رفض هذه الدعوى، معترفا للرجل بأقل ما ينبغي الاعتراف به، وهو وجوده، قائلا إن أمره أظهر وأشهر من أن يخفى، وتصنيفاته أعظم وأكثر من أن ينكر وجود صاحبها؛ وكذلك أيضا فعل «كار دي فو» عند ذكره للرواية نفسها التي تزعم عن جابر أنه أسطوري لا حقيقة له في التاريخ؛ إذ قال: «إنها رواية نرفضها بغير تردد.»
3
ولا نكاد نقرر للرجل وجوده حتى نصطدم باختلاف آخر يسير حول اسمه، فهو آنا: «أبو عبد الله جابر بن حيان»
نامعلوم صفحہ
4
وهو آنا آخر: «أبو موسى جابر بن حيان».
5
وقد يكون مصدر الاختلاف في أن له ولدين بهذين الاسمين
6
ويقال إنه سمي «جابرا» لأنه هو الذي «جبر» العلم، أي أعاد تنظيمه.
وكذلك كان مسقط رأسه وتاريخ مولده موضع اختلاف؛ «فهنالك ما يسوغ لنا الظن بأنه فارسي ولد في طوس من بلاد خراسان.»
7 - وهي مسقط رأس الفردوسي الشاعر الفارسي، لكن رواية أخرى تقول: إنه من طرسوس، ورواية ثالثة تجعله صابئا من حران
8
ورواية رابعة يرويها «ليو الأفريقي» الذي أرخ سنة 1526 ميلادية لرجال الكيمياء في أفريقيا فيقول: إن كبيرهم هو: «جابر» الذي هو يوناني اعتنق الإسلام وكانت حياته بعد زمن نبي الإسلام بقرن من الزمان؛ وكذلك يرد اسم «جابر» مرة واحدة عند «ألبرت الكبير» منسوبا إلى مدينة إشبيلية، لكن جابرا المقصود هنا هو بغير شك جابر بن الأفلح الذي عاش في إشبيلية خلال القرن الحادي عشر الميلادي وألف في علم الفلك.
نامعلوم صفحہ
9
أما صفة «الكوفي» الذي ينعت بها في روايات كثيرة
10
فليست تدل على مكان مولده، ولكنها ترجع إلى مقامه فيها زمنا - وعلى كل حال فليس الأمر مقطوعا فيه برأي - فيقول ابن النديم: «وزعموا (أي الشيعة) أنه كان من أهل الكوفة ... وحدثني بعض الثقات ممن تعاطى الصنعة (أي الكيمياء) أنه كان ينزل في شارع باب الشام في درب يعرف بدرب الذهب (وذلك في الكوفة)، وقال لي هذا الرجل إن جابرا كان أكثر مقامه بالكوفة ... لصحة هوائها.»
11
وتمضي الرواية فتقول إنه قد حدث بعد وفاة جابر أن هدمت الدور في الحي الذي كان يسكنه، فكشفت الأنقاض عن الموضع الذي كان فيه منزله، ووجد معمله، كما وجد هاون من الذهب يزن مائتي رطل، وتقول الرواية إن هذا حدث في أيام عز الدولة ابن معز الدولة، والظاهر أن ما قد دعا جابرا إلى الإقامة في الكوفة زمنا، هو فراره من خطر كان محدقا به في عهد هارون الرشيد، والقصة - كما يرويها الجلدكي
12 - هي أنه: «قد أفضى بأسرار صناعته إلى هارون الرشيد وإلى يحيى البرمكي وابنيه: الفضل وجعفر، حتى لقد كان ذلك سببا في غناهم وثروتهم؛ فلما ساورت الرشيد الشكوك في البرامكة، وعرف أن غرضهم هو نقل الخلافة إلى العلويين، مستعينين على ذلك بمالهم وجاههم، قتلهم عن آخرهم، فاضطر جابر بن حيان أن يهرب إلى الكوفة خوفا على حياته، حيث ظل مختبئا حتى أيام المأمون، فظهر بعد احتجابه.»
وها هنا تنهض أمامنا نقطة أخرى من نقط الاختلاف عن حياة جابر، وهي تاريخ مولده؛ فعلاقته بالبرامكة - في عهد هارون الرشيد - يكاد يكون عليها إجماع، فإذا ذكرنا أن البرامكة قد لبثوا يتمتعون بثقة هارون الرشيد سبعة عشر عاما، منذ ولايته سنة 786 حتى سنة 803م - قبل موته بستة أعوام - تبين لنا خطأ التاريخ الذي ذكره حاجي خليفة في «كشف الظنون» من أنه قد توفي سنة 160ه (أي ما بين سنتي 776 و777م)، فلو فرضنا أن ولاية هارون الرشيد قد أدركت جابرا في صدر رجولته، كانت ولادته حوالي 750م أو قبل ذلك؛ وإذن فيمكن القول على وجه يقرب من اليقين أنه عاش خلال النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي والجزء الأول من القرن التاسع؛ وعن ذلك يقول هولميارد
13
الذي عني بدراسته: أن حياته امتدت خلال الشطر الأكبر من القرن الثامن.
نامعلوم صفحہ
وكما اختلف الناس في حقيقته التاريخية، واختلفوا في مولده مكانا وزمانا، واختلفوا في اسمه، فكذلك اختلفوا في أمره وإلى أي فئة أو مذهب ينتمي: «فقالت الشيعة إنه من كبارهم ... وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنفات؛ وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره، وأن أمره كان مكتوما.»
14
وحقيقة الأمر - كما سنرى في غضون هذا الكتاب - أنه كان الثلاثة معا: فهو من الشيعة سياسة، وهو من الفلاسفة جدلا، وهو من الكيمويين علما، ثم هو فوق هذا وهذا وذلك صوفي، حتى لقد لصقت صفة الصوفية باسمه كأنما هي جزء منه، فيدعى حيثما ورد ذكره جابر بن حيان الصوفي.
وإن جابرا ليتصل ذكره برجلين هما: خالد بن يزيد بن معاوية (توفي 704م)، وجعفر الصادق (700-765م تقريبا).
أما أولهما: «فهو أول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب ... ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام»
15
وقد أخذ جابر عن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان العلم،
16
وإن تكن شهرة جابر فيما بعد قد ألقت ظلا كثيفا على أستاذه.
ويروي ابن النديم عن خالد بن أبي سفيان أنه لم يكن هو الذي ترك الخلافة، ولكن الخلافة هي التي صرفت عنه واختزلت دونه؛ فقد جاء في الفهرست عن خالد أنه: «أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادا. يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة (الكيمياء)، فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني فلم أجد منها عوضا إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة (الكيمياء)، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة، ويقال - والله أعلم - إنه صح له عمل الصناعة، وله في ذلك عدة كتب ورسائل ...»
نامعلوم صفحہ
17
وأما «جعفر» الذي كثيرا ما يرد اسمه في كتابات جابر مشارا إليه بقوله: «سيدي»، فهنالك من يزعم أنه جعفر بن يحيى البرمكي، لكن الشيعة
18
تقول - وهو القول الراجح الصدق - إنه إنما عني به جعفر الصادق، وتقول إنه مرجح الصدق لأن جابرا شيعي، فلا غرابة أن يعترف بالسيادة لإمام شيعي.
19
هذا إلى وفرة المصادر التي لا تتردد في أن جعفرا المشار إليه في حياة جابر ونشأته، هو جعفر الصادق، فيذكر حاجي خليفة جابرا مصحوبا بعبارة: «تلميذ جعفر الصادق»،
20
ويقول كارا دي فو، وهو يتحدث عن جابر: «ومعلماه هما: خالد بن يزيد بن معاوية ... وجعفر الصادق.»
21
وفي مقدمة كتاب «الحاصل» لجابر
نامعلوم صفحہ
22
يقول هو نفسه: «... وقد سميته كتاب الحاصل؛ وذلك أن سيدي جعفر بن محمد - صلوات الله عليه - قال لي : فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب (الكتب التي ألفها جابر) وما المنفعة منها؟ ... فعملت كتابي هذا وسماه سيدي بكتاب الحاصل ...» وواضح أن هذا التوقير كله لا يكون موجها إلى برمكي؛ إذ كان جابر ذا مكانة ممتازة في بلاط الخليفة هارون الرشيد، وخالط أسرة البرامكة مخالطة الند للأنداد
23 - وإنما يوجه مثل هذا التوقير من شيعي إلى إمامه؛ على أن صلة جابر بجعفر لا بد أن تكون قصيرة الأمد؛ لأن وفاة جعفر كانت سنة 765م، وهو بعد مولد جابر بما لا يزيد عن عشرين عاما. (2) مزلته في علم الكيمياء
جابر هو كيموي العرب الأول، فهو أول من اشتهر علم الكيمياء عنه
24
وهو أول من يستحق لقب «الكيموي» من المسلمين
25
والظاهر أنه قد أصاب من ارتفاع المكانة وضخامة الثراء وبعد الصيت ما جعله موضع التقدير آنا وموضع الحسد والاضطهاد آنا؛ وأما التقدير فهو الذي أحاط اسمه بهالة من الجلال أزاغت عن حقيقته أبصار الكاتبين فيما بعد، حتى لتجد من يصفه منهم تارة بأنه: «ملك العرب»، وتارة أخرى بأنه: «ملك العجم»، وتارة ثالثة بأنه: «ملك الهند»
26
وقال عنه رسل الذي ترجم بعض مؤلفاته إلى الإنجليزية (لندن 1678م) إنه: «أشهر علماء العرب وفلاسفتهم.»
نامعلوم صفحہ
27
وقال عنه القفطي إنه: «كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيميا، وله فيها تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة.»
28
وحسبنا أن الرازي يشير إليه في كتبه الخاصة بعلم الكيمياء بقوله: «قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان.»
29
لكنه مع ذلك لا بد أن يكون قد لقي من الاضطهاد والحسد ما يلقاه كثيرون ممن ينبه ذكرهم في كل مكان وكل زمان، وإلا فما الذي دفعه إلى: «التنقل في البلدان، لا يستقر به بلد، خوفا من السلطان على نفسه؟»
30
وما الذي أطلق لسان القائل:
هذا الذي بمقاله
غر الأوائل والأواخر
نامعلوم صفحہ
ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر
31
بل إن الحقد قد تخطى أبعاد الزمن، حتى أدرك مؤرخا للعلم في العصر الحديث، أراد أن يضع جابر بن حيان في موضعه من تاريخ الكيمياء ، فاستكثر عليه أن يكون هو صاحب النظريات الكيموية ذات القيمة التي تنسب إليه في أوروبا، فراح يشطر إنتاجه شطرين: شطر فيه الدسم العلمي، نسبه إلى مؤلف قال عنه إنه مجهول، وإنه انتحل لمؤلفاته اللاتينية في العصور الوسطى اسم «جابر» ليحتمي بسمعته وشهرته، وشطر فيه تفاهة وغثاثة هو الذي يجوز نسبته إلى جابر العربي؛ أما هذا المؤرخ للعلم الذي أشير إليه، فهو «برتلو»
32
الذي زعم أنه حلل المؤلفات المنسوبة إلى جابر بن حيان في علم الكيمياء، وبعض هذا المؤلفات عربي خالص، وبعضها لاتيني وله أصل عربي، وبعضها لاتيني ولا توجد له صورة عربية؛ حلل «برتلو» هذه المؤلفات وزعم أن ثمة تفاوتا في مادتها وفي أسلوبها يتطلب التفسير.
ويتخذ «برتلو» من كتاب «الخالص»
33
لجابر بن حيان في ترجمته اللاتينية نموذجا للجانب الناضج من المؤلفات التي تنسب إلى العالم العربي، ويقول إن دراسة هذا الكتاب تدل على أنه ليس ينتسب إلى أصل عربي، لا في منهجه المتميز بإحكام السير في طريق الاستدلال حجة في إثر حجة إحكاما من شأنه أن يجمع المادة العلمية في سياق موحد متسق، ولا في الحقائق الواردة فيه، ولا في مفرداته اللغوية ولا في الأشخاص الذين يرجع إليهم في الفقرات المقتبسة. كل هذه جوانب من الكتاب يراها برتلو قاطعة بأن الكتاب لا يرتد إلى أرومة عربية؛ فعلى الرغم من أنه يشتمل - في رأي برتلو أيضا - على طائفة من الكلمات والعبارات التي ربما تكون مستعارة من جابر العربي، ألا أن المرجح هو أن الكتاب في جملته من عمل مؤلف لاتيني مجهول في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، لم يرد أن ينسب الكتاب إلى نفسه، ونسبه إلى أشهر الأسماء المعروفة عندئذ في علم الكيمياء، ألا وهو اسم «جابر» ليستفيد الكتاب شهرة بشهرة مؤلفه المزعوم.
ومضى برتلو يبحث في المخطوطات التي وجدها في باريس وفي ليدن، والتي تشتمل على مادة في الكيمياء تنسب إلى جابر بن حيان، ثم انتهى إلى أنه على الرغم من أنه لا يجد ما يسوغ نسبتها إلى جابر، إلا أنه لا يرتاب في أن مؤلفها عربي، ألفها بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر الميلادي - في فترة سابقة على اتصال اللاتين بالعرب - فقد وجد هذه الرسائل تختلف أسلوبا عن كتاب «الخالص» الذي أسلفنا ذكره والذي قلنا عنه إنه يحتوي على مادة علمية تتسم بالتفكير المحكم، ولماذا يقطع برتلو بأن هذه الرسائل المخطوطة - غير كتاب «الخالص» - من تأليف رجل عربي مسلم؟ الجواب عنده هو أن لغتها غامضة ومهوشة، وفيها نزعة مشبهة (أي تشبه الطبيعة بالإنسان) فضلا عن اشتمالها على إشارات وابتهالات إسلامية، ولا ينفك مؤلفها يقول في سياق حديثه: إنه سيرسل الكلام في غير تحفظ ولا ألغاز، ومع ذلك فلا تراه أبدا يذكر التفصيلات عن الموضوعات التي يعد قارئه بأنه سيكشف عنها الأسرار والأستار. إن مؤلف هذه الرسائل ليأخذ بالمذهب القائل بأن لكل شيء كيفية ظاهرة وأخرى باطنة، وأن الواحدة منها نقيض الأخرى - وهو المذهب الذي كان شائعا بين الكتاب اللاتين في القرون الوسطى - لكنه لم يذكر شيئا عن توليد المعادن بالكبريت والزئبق على النحو الذي يقال إن جابرا عرف به، أضف إلى هذا كله أن مؤلف هذه الرسائل يختلف عن مؤلف كتاب «الخالص» في أن الأول لا يتردد في أن يجعل للنجوم تأثيرا في توليد المعادن، على أن الثاني يرفض هذا المبدأ. واختصارا، فإن المستوى العلمي لهذه الرسائل، وهي الرسائل التي ينسبها برتلو إلى مؤلف عربي ما، والمستوى العلمي لكتاب «الخالص»، وهو الكتاب الذي ينكر برتلو نسبته إلى جابر العربي مختلفان اختلافا بعيدا؛ مما يدل - في رأي برتلو - على أن الكتب الكيموية المكتوبة باللاتينية والتي طبعت منذ القرن الخامس عشر، لا تنتسب إلى جابر العربي، على الرغم من أنها تحمل على الغلاف ما يفيد بأن مؤلفها هو جابر.
نامعلوم صفحہ
ولست في الحقيقة أجد ما أعلق به على رأي برتلو بأن اسم جابر منحول على هذا الكتاب أو ذاك، وأن المؤلف الحقيقي المجهول هو الذي انتحله ليشتد به أزرا، أقول إني لا أجد ما أعلق به على هذا الرأي أفضل من عبارة ابن النديم التي أسلفت ذكرها، والتي رد بها على القائلين بأن جابرا لم يكن له وجود، وأن اسمه منحول على الكتب التي تنسب إليه، وها أنا ذا أعيدها مرة أخرى: «إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب، فيصنف كتابا يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره - إما موجودا أو معدوما - ضرب من الجهل، وأن ذلك «العمل» لا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا وأي عائدة؟»
وماذا يجدينا بعد هذا التشكيك في شخصية جابر العربي من قبل برتلو، أن يقول برتلو بعد ذلك عن هذا الاسم - اسم جابر - إنه ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم أرسطو في تاريخ المنطق؟ وهو بذلك يريد بالطبع أن يقول إنه أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه، كما كان أرسطو أول من وضع لعلم المنطق قواعده وأصوله؛ أنه إذا كان برتلو قد وجد تفاوتا في أسلوب الرسائل التي تنسب إلى جابر، وفي مادتها، فليس التفسير الوحيد لهذا التفاوت أن يكون لهذه الرسائل أكثر من مؤلف واحد؛ بل يفسر هذه الظاهرة نفسها أن يفرض وجود التفاوت بين قدرات الشخص الواحد في أوقات مختلفة، ثم يفسرها تفسير ثالث، وهو أن يكون المؤلف أحيانا صاحب ظاهر وباطن - وهو أمر مألوف في المؤلفين القدامى - فقد يظهر المؤلف شيئا ويخفي شيئا. ومما يرجح عندنا هذا التفسير، أن جابر بن حيان كان صوفيا، وكان شيعيا، ورغبته في الخفاء والإخفاء واردة في كتبه ورودا بينا واضحا في كثير جدا من المواضع. وفي ذلك يقول الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة، يقول عن جابر بن حيان إنه قد يعقد الحديث في ظاهر الأمر على شيء ما - كالكلام في التناسخ مثلا - لكنه يجعل باطن الحديث منصرفا إلى علم الكيمياء، حتى لا يفطن إلى هذا العلم الكيموي عنده إلا من يريد لهم هو أن يفهموه. ويقول الطغرائي: وما أشك أنه أضل عالما من الناس لم يعرفوا مغزاه الباطن فحملوه على ظاهر معناه ... وأنا أضيف: أفلا يكون برتلو من هؤلاء المضللين عندما قرأ رسائل جابر العربي فوجدها غامضة، ثم استبعد بعد ذلك أن يكون صاحبها هو نفسه صاحب كتاب «الخالص»؟
روى الجلدكي في «شرح المكتسب»
34
بعد أن بين انتسابه إلى جابر، أنه أراد أن يتعلم الكيمياء على جابر، فأخذ هذا يصرفه ويراوغه. ولما ألح عليه الجلدكي في الطلب، قال جابر: «إنما أردت أن أختبرك، وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك؛ ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك، واعلم أن من المفترض علينا (أي على رجال الكيمياء) كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألا نكتمه عن أهله؛ لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خراب العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعا لهم؛ وقد رأينا الحكمة صارت في زماننا مهددة البنيان، لا سيما وطلبة هذا الزمان من أجهل الحيوان، وقد اجتمعوا على المحال، فإنهم ما بين سوقة وباعة وأصحاب دهاء وشعبذة، لا يدرون ما يقولون، فأخذوا يتذاكرون الفقر ويذكرون أن الكيمياء غناء الدهر ...» فجابر هنا واضح التعبير عن رغبته في إخفاء علمه إلا على من يحسنه.
إلا أن جابرا ليعتز بعلمه اعتزازا بلغ به حد الغرور، فما أكثر ما يقول عن هذه الرسالة أو تلك من رسائله العلمية: إنها مستحيلة على غيره من البشر، فاسمع إليه - مثلا - وهو يوجه الخطاب إلى سيده في سياق «كتاب الأحجار»: «... وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي - صلوات الله عليه - لما وصلت إلى حرف من ذلك آخر الأبد، لا أنت ولا غيرك، إلا في كل برهة عظيمة من الزمان.» أو اسمع إليه يقول في كتابه «إخراج ما في القول إلى الفعل»: «ليس على وجه الأرض كتاب مثل كتابنا هذا، ولا ألف ولا يؤلف آخر الأبد.»
35
وأمثال هذا كثير جدا في مختلف رسائله. (3) كتبه
ينسب إلى جابر بن حيان عدد كبير جدا من الكتب والرسائل، يقول في بعضها ما لا يقوله في بعضها الآخر أحيانا، وأحيانا أخرى يلخص في بعضها ما قد بسطه في بعضها الآخر. قال الجلدكي في نهاية الطلب:
36 «إن من عادة كل حكيم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها، ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم، كما خص «جابر» من جميع كتبه كتابه المسمى بالخمسمائة.» وقال الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة
نامعلوم صفحہ
37
في وصف الطريقة التي انتهجها جابر في تأليفه لكتبه، أنه يعرض مذهبه بصور مختلفة في كتبه المختلفة، أي إن المادة التي يعرضها في هذا الكتاب هي نفسها المادة التي يعرضها في ذلك، والاختلاف إنما يكون في صورة العرض وحدها؛ فأحيانا يطيل وأحيانا يوجز؛ ومرة يصرح وأخرى يلجأ إلى الرمز، وهكذا. يقول الطغرائي: «انظر إلى هذا العالم كيف يتلاعب بالناس ويخرج هذه الصناعة الشريفة في المعاريض المختلفة ومغزاه واحد، وكيف يعرض مرة ويصرح أخرى.»
وسنعرض فيما يلي قائمة كاملة بكتبه ورسائله كما وردت في فهرست ابن النديم، مثبتين أمام كل كتاب منها أو رسالة ما قد يفيد من الملاحظات، على أن قائمة ابن النديم يعيبها عيبان: (1) فهي أولا قد تثبت أسماء بغير مسميات، أعني أنها مجرد عناوين لكتب غير موجودة. (2) وهي ثانيا قد تهمل كتبا موجودة فعلا. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن ثمة مؤلفات باللاتينية تنسب إلى جابر بن حيان، دون أن تكون هنالك مقابلاتها العربية، وهذه هي التي قال عنها «برتلو» - كما أسلفنا - إنها لمؤلف لاتيني انتحل لنفسه اسم جابر وأخفى اسمه الحقيقي، وهي على وجه العموم تمثل مرحلة في علم الكيمياء أكثر تقدما من المرحلة التي تصورها الأصول العربية الموجودة والمنسوبة إلى المؤلف نفسه، أي إلى جابر.
وفيما يلي قائمة بأهم ما عرفناه من مؤلفاته:
38 (1) كتاب أسطقس الأس الأول إلى البرامكة، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (2) كتاب أسطقس الأس الثاني إليهم، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (3) كتاب الكمال، وهو الثالث إلى البرامكة، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (4) تفسير كتاب أسطقس، لم يذكره صاحب الفهرست، وذكره يوسف إلياس سركيس في معجم المطبوعات العربية والمعربة، على أنه واحد من مجموعة أحد عشر كتابا يضمها كتاب واحد «في علم الإكسير العظيم». (5) كتاب الواحد الكبير، منه نسخة بالقسم العربي من المكتبة الأهلية بباريس في المجموعة رقم 2606. (6) كتاب الواحد الصغير، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة 2606. (7) كتاب الركن، والأرجح أنه هو بعينه كتاب الأركان، وقد أخذت مقطوعات منه في القسم السابع من كتاب «رتبة الحاكم» للمجريطي، ويقول هولميارد: إن كتاب «رتبة الحاكم» نسب خطأ إلى المجريطي، وقد ذكر جابر نفسه كتابا له باسم كتاب الأركان الأربعة في كتابه «نار الحجر»، أما المجريطي المشار إليه فهو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي الذي عاش في مدينة مدريد أيام الحكم الثاني (961-976م).
39 (8) كتاب البيان، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891، وموجود بدار الكتب بالقاهرة ضمن مجموعة رقم 583، 631 مع ملاحظات لهولميارد. (9) كتاب النور، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891، وموجود بدار الكتب بالقاهرة ضمن مجموعة رقم 583، 631 مع ملاحظات لهولميارد. (10-12) كتاب التدابير، وكتاب التدابير الصغير، وكتاب التدابير الثالث. هذه الكتب الثلاثة ورد ذكرها عند جابر نفسه في المقالة الثانية والثلاثين من كتابه «الخواص الكبير».
40 (13) كتاب الملاغم الجوانية، من مجموعة تسمى بالمائة واثني عشر كتابا، ذكره كراوس. (14) كتاب الملاغم البرانية، من مجموعة تسمى بالمائة واثني عشر كتابا، ذكره كراوس. (15-16) كتاب العمالقة الكبير وكتاب العمالقة الصغير، ذكرهما كراوس. (17) كتاب الشعر، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 7722. (18) كتاب التبويب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة 2606، وذكره الطغرائي، راجع المجموعة رقم 8229 بالمتحف البريطاني. (19) كتاب الأحجار على رأي بليناس (بليناس هو أبولونيوس)، نشره بول كراوس، وهو أربعة أجزاء. (20) كتاب أبي قلمون - وأبو قلمون اسم لحشرة تأكل الذباب - ذكره جابر في المقالة الرابعة والعشرين من كتابه: (الخواص الكبير)، مختار كراوس ص318. (21) كتاب الباهر، ذكره كراوس. (22) كتاب الدرة المكنونة، مخطوط في المتحف البريطاني ضمن مجموعة 7722. (23) كتاب البدوح، وهي مجموعة أحرف: ب، د، و، ح، وهو طلسم يفيد السرعة والإنجاز. (24) كتاب الخالص، ويرجح أنه هو الكتاب الذي ترجم إلى اللاتينية باسم (
Summa Perfectionis ) والذي أشار إليه «برتلو» بقوله إنه ليس من تأليف جابر العربي، بل هو منسوب إلى اسم جابر على سبيل الانتحال، والمؤلف الحقيقي أوروبي. (25) كتاب القمر، أي كتاب الفضة ، منه نسخة بمكتبة باريس مجموعة 2606. (26) كتاب الشمس، أي كتاب الذهب.
ذكرهما جابر في كتابه «الميزان الصغير»، (مختار كراوس، ص450)، وقال عنهما إنهما يشتملان على ما قد ذكر قبل ذلك في كتابه «الأصول». (27) كتاب التركيب أو (التراكيب) منه نسخة بمكتبة باريس ضمن مجموعة 2606. (28) كتاب الأسرار، ويرجح أنه هو كتاب «سر الأسرار» المحفوظة منه نسخة بالمتحف البريطاني - مجموعة رقم 23418 نمرة 14 - وأنه هو الذي ذكر منه الطغرائي عدة مقطوعات في عدة مواضع (راجع مجموعة المتحف البريطاني رقم 8229) وفي اللاتينية مخطوطة تنسب إلى جابر بنفس العنوان وهو (
Secreta Secretorim ). (29) كتاب الأرض (أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة، وسادسة، وسابعة) ولعله هو «أرض الأحجار» الذي طبعه برتلو نقلا عن المخطوط الموجود في مجموعة ليدن رقم 440، ومنه نسخة بمكتبة باريس مجموعة رقم 2606. (30) كتاب المجردات، ذكره «جابر» في المقالة الثالثة والثلاثين من كتابه «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص324) وهو يقول عنه: «إنا جردنا فيه جميع الأبواب التي ذكرناها في المائة والاثني عشر كتابا، ومبلغ الأبواب التي فيه خمسة آلاف باب، وهو قاعدة كتبنا المائة والاثني عشر، وبه تتم وتصح أبواب المائة والاثني عشر كتابا، فاطلبه واعمل بما فيه فهو في نهاية الحسن والشرف لمن علم ... فأما لمن جهل فمشقة وتعب وحسرة.»
نامعلوم صفحہ
وعن هذا الكتاب نفسه يقول جابر أيضا في المقالة الثامنة والثلاثين من كتابه: «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص327): «... فما لك كتاب مثله في فك الرموز المستصعبة ... وهو من أمهات كتبنا التي لا يسع لأحد أن يجهله.» (31) كتاب الحيوان، ويذكره الجلدكي منسوبا إلى جابر. (32) كتاب الأحجار، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (33) كتاب ما بعد الطبيعة، ذكره جابر في كتابه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» (مختارات كراوس ص31).
وتمضي هذه القائمة - بذكر أسماء لكتب أخرى - حتى تبلغ 112، وبهذا تتكون المجموعة المسماة باسم «المائة واثني عشر» من مؤلفات جابر.
ويلي ذلك - فيما قد أورده ابن النديم - مجموعة أخرى مؤلفة من سبعين عنوانا تعرف باسم «السبعين»، وهي معروفة في اللاتينية باسم (
Liber LXX )، نذكر منها:
كتاب الخمسة عشر، وهو معروف في اللاتينية باسم (
Liber XV ) ومنه نسخة عربية في مكتبة كلية ترنتي بأكسفورد رقم 363.
الروضة، ذكره الجلدكي في الجزء الثامن من كتابه نهاية الطلب.
وتمضي قائمة ابن النديم فتذكر عشرة كتب يقول عنها إنها مضافة إلى السبعين المذكورة سابقا.
ومن هذه العشرة المضافة نعرف:
الإيضاح، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م.
نامعلوم صفحہ
وبعد ذلك تأتي قائمة بعشر مقالات تسمى بالمصححات نذكر منها:
مصححات سقراط، ومنه نسخة بالمكتبة البودلية بأكسفورد تحت رقم 1416.
مصححات أفلاطون، ومنه نسخة بالقسطنطينية بمكتبة راغب باشا، مجموعة 96 رقم 4.
ويتلو هذه المقالات العشر في قائمة ابن النديم عشرون اسما، ويلحق بها ثلاثة أخرى تتصل بها، ونذكر من هذه الثلاثة كتابا نعرفه هو:
كتاب الضمير، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس، بالمجموعة 2606، وذكره الجلدكي في الجزء الثاني من نهاية الطلب باسم «كتاب الضمير في خواص الإكسير».
ثم يجيء بعد ذلك في قائمة ابن النديم مجموعة من سبعة عشر كتابا، وكذلك تلحق بها ثلاثة كتب تتصل بها، وأهم هذه المجموعة، بل من أهم مؤلفات جابر على الإطلاق: (40) كتاب الموازين، طبعة «برتلو» عن نسخة موجودة بليدن، ويظن هولميارد أن هذا الكتاب هو المعروف في اللاتينية بعنوان (
Liber de ponderibis artis ).
ثم تتوالى القوائم مجموعات مجموعات، وتختم بقوله: «قال أبو موسى: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة، وألفا وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب، ثم ألفت في الطب كتابا عظيما، ثم ألفت كتبا صغارا وكبارا، وألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب ... ثم ألفت كتب المنطق على رأي أرسطاليس، ثم ألفت كتاب الزيج اللطيف نحو ثلاثمائة ورقة ... ثم ألفت كتابا في الزهد والمواعظ، وألفت كتبا في العزائم كثيرة حسنة ... وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتبا كثيرة، ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقضا على الفلاسفة، ثم ألفت كتابا في الصنعة يعرف بكتب الملك، وكتابا يعرف بالرياض.»
من هذا يتبين أن الكتب والرسائل التي يظن أن جابرا قد ألفها كثيرة، قد تحقق لنا وجود بعضها
41
نامعلوم صفحہ
ولم يتحقق لنا وجود بعضها الآخر؛ وليس هذا الكتاب موضعا لتفصيل كامل لما تحقق وما لم يتحقق، كلا ولا في وسع مؤلفه أن يؤدي في ذلك شيئا أكمل مما أداه العاملون في هذا الميدان: «برتلو» و«هولميارد» و«كراوس» - فحسبنا أن نختم قائمتنا الموجزة بطائفة أخرى من كتبه المهمة المعروفة: (41) كتاب الزئبق، طبعه «برتلو» في كتابين، أحدهما عنوانه: كتاب الزئبق الشرقي، والآخر باسم الزئبق الغربي، نقلا عن مخطوط في مكتبة ليون رقم 440، وهناك أيضا نسختان بالمكتبة الأهلية بباريس، مجموعة رقم 2606. (42) كتاب الخواص، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 4041، وبالمجموعة رقم 23419، نشر كراوس نخبا من كتاب «الخواص الكبير».
42 (43) كتاب الاستتمام، ذكر الطغرائي بعض مقطوعات من هذا الكتاب، (محفوظات المتحف البريطاني رقم 8229)، وكذلك ذكره الجلدكي في كتابه نهاية الطلب، ويقابل هذا الكتاب ما هو معروف في اللاتينية باسم:
Liber La investigatione perfectioni . (44) كتاب الملك، طبع «برتلو» هذا الكتاب عن نسخة بليدن رقم 440 من المجموعة العربية، وتوجد نسخة أخرى مختلفة في المكتبة الأهلية بباريس رقم 605، وهاتان النسختان تختلفان عن نسخة نقلت بالزنكوغراف في الهند سنة 1891م، ويرجح هولميارد أن هذا الكتاب نقل إلى اللاتينية، وذكره بورليوس
Borrellius - راجع محفوظات الجمعية الكيماوية بباريس رقم 1654 ص103؛ وكذلك ذكره كاريني بعنوان
Rivista Sicula
43
وقد أشار جابر نفسه إلى هذا الكتاب في المقالة الثالثة والثلاثين من كتاب «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص326). (45) كتاب التصريف، وهو المعروف في اللاتينية باسم
Liber mutalorium ، وقد ذكره جابر نفسه في عدة مواضع من كتبه الأخرى: ذكره في كتابه إخراج ما في القوة إلى الفعل (مختارات كراوس ص92)، وفي كتاب الخواص الكبير (مختارات كراوس ص329)، وفي كتاب التجميع (مختارات كراوس ص342) وفي كتاب الحاصل (مختارات كراوس ص537). هذا إلى أن بول كراوس قد اختار من كتاب التصريف نخبا أثبتها في مختاراته، ص392-425.
كتاب شرح المجسطي، ترجمه «جيرارد الكريموني»
Gerard of cremona
نامعلوم صفحہ
ومنه مخطوطة بأكسفورد في مكتبة كلية
Gorpus Christi ، وأخرى بأكسفورد أيضا في المكتبة البودلية، وثالثة بمكتبة جامعة كيمبردج.
44
كتاب الوصية، منه نسخة بالمتحف البريطاني بالمجموعة 7722، وله ترجمة لاتينية بعنوان
Geberi testamentum
موجودة في كلية ترنتي بكيمبردج (مجموعة 925 و138).
45
كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، نشره بول كراوس في مختاراته، ص1-97.
كتاب الحدود، نشره بول كراوس في مختاراته، ص97-115.
كتاب كشف الأسرار، منه نسخة بالمتحف البريطاني في المجموعة 7722 رقم 54، ونسخة بمكتبة القاهرة، ترجمه إلى الإنجليزية
نامعلوم صفحہ
R. Stule
عام 1892
46 - وقد يسمى هذا الكتاب بأسرار الكيمياء. (51) كتاب خواص إكسير الذهب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس مجموعة 2625 رقم 6، وترجمه «هولميارد» إلى الإنجليزية. (52) كتاب الرحمة، طبعة برتلو عن مخطوطة بمكتبة ليدن رقم 440، ويذهب هولميارد إلى أنه من تأليف أبي عبد الله محمد بن يحيى، وذكر فيه مقطوعات كثيرة عن جابر، غير أن جابرا أشار إلى هذا الكتاب على أنه كتابه، وذلك في المقالة العشرين من كتابه الخواص الكبير؛ إذ يقول: «... أنى دفعت إلى زمان ... فيه طلاب هذه الصناعة (أي الكيمياء) كثير جدا ... ووجدت قوما خادعين ومخدوعين، فرحمت الجميع وعملت لهم ما قد حكيته مجردا في صدر كتابي الرحمة» (مختارات كراوس، ص314). (53) كتاب التجميع، نشره بول كراوس في مختاراته، ص341-392. (54) كتاب الأصول، موجود في المتحف البريطاني بالمجموعة 23418 رقم 13، وقد ترجم إلى اللاتينية بعنوان
Liber Radicum
وقد أشار إليه جابر عدة مرات في كثير من كتبه، قائلا عنه: «إنه والله من نفيس الكتب» (مختارات كراوس، ص74، 322، 342، 450).
ونكتفي بهذا القدر من مؤلفات جابر؛ لأن غايتنا ليست هي الحصر الكامل المحقق لهذه المؤلفات، بل هي تقريب الصورة إلى القارئ عن هذا العالم العربي.
عالم ومنهجه
(1) إيمانه بالعلم «والعلم» هنا مقصود به علم الكيمياء بصفه خاصة؛ و«الكيمياء» مقصود بها الوسائل التي يستطيع بها الكيميائي أن يبدل طبائع الأشياء تبديلا يحولها بعضها إلى بعض، وذلك إما بحذف بعض خصائصها أو بإضافة خصائص جديدة إليها؛ لأنه إن كانت الأشياء كلها ترتد إلى أصل واحد، كان تنوعها راجعا إلى اختلاف في نسب المقادير التي دخلت في تكوينها، فليس الذهب - مثلا - يختلف عن الفضة في الأساس والجوهر، بل هما مختلفان في نسبة المزج، فإما زيادة هنا أو نقصان هناك، وما على العالم إلا أن يحلل كلا منهما تحليلا يهديه إلى تلك النسبة كما هي قائمة في كل منهما، وعندئذ يرتسم أمامه الطريق واضحا إذا أراد أن يغير من طبيعة هذا أو ذاك؛ لأن مدار التغيير هو - كما قلنا - حذف أو إضافة.
وكان رجال الفكر من هذا العلم فريقين: فأكثرية تذهب إلى بطلانه واستحالته، وقلة تؤكد إمكانه عند العقل وفي الفعل على حد سواء.
فمن المنكرين الشيخ الرئيس ابن سينا الذي حاول في كتابه الشفاء أن يقيم الحجة على بطلانه، وكانت حجته هي أن الصفات التي يقال عنها إنها إذا أضيفت هنا أو حذفت هناك تحولت الأشياء بعضها إلى بعض، صفات محسوسة عرضية لا تمس جواهر الأشياء، فليست هي بالفواصل الحقيقية التي تميز نوعا من نوع وأما الفواصل الحقيقية فمجهولة، فلسنا ندري ماذا في الذهب مما يجعله ذهبا ولا ماذا في النحاس ما يجعله نحاسا، وإذا كان الشيء مجهولا فكيف يتاح لنا أن نوجده إيجادا أو أن نفنيه إفناء؟
نامعلوم صفحہ
1
وكان الفيلسوف الكندي كذلك من المنكرين لا مكان قيام هذا العلم، وأقام إنكاره هذا على أساس أن الطبيعة قد انفردت - دون الإنسان - بأشياء محال على الإنسان أن يأتي بمثلها كما انفرد الإنسان - دون الطبيعة - بأشياء أخرى، ومن الخلط بل من الخداع أن يحاول الإنسان فعل ما قد انفردت الطبيعة بفعله،
2
فكما أنه محال على الطبيعة أن تصنع سيفا أو سريرا أو خاتما فكذلك محال على الإنسان أن يصنع ذهبا أو فضة أو نحاسا.
والظاهر أن أبا نصر الفارابي قد وقف موقفا وسطا بين إمكان علم الكيمياء واستحالته، مستندا في ذلك إلى أرسطو وموقفه من هذا الموضوع نفسه. وخلاصة هذا الموقف الوسط، هي أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض متوقف على نوع الصفات المراد حذفها أو إضافتها، فإن كانت ذاتية تعذر التحول، وأما إن كانت أعراضا عرضية التحول، هذا إلى أن إمكان التحول قد يكون مقلوب الوجه الصورية النظرية، لكنه عسير من الوجهة العملية.
3
لكن هناك فريقا آخر هم أكثر إيمانا بما يستطيعه العلم هؤلاء الإمام «فخر الدين الرازي» الذي عقد فصلا في المشرقية يبين فيه إمكان علم الكيمياء، ومنهم الشيخ نجم ابن البغدادي الذي رد على ابن تيمية وزيف ما كان؟ استحالة علم الكيمياء، ومنهم كذلك أبو بكر محمد بن الرازي الذي تصدى للرد على الكندي في الموضوع، وصنف «الطغرائي» كتبا يثبت فيها إمكان قيام هذا العلم على ما كان «ابن سينا» قد ذهب إليه من عدم إمكان ذلك.
4
وعلى رأس المثبتين لعلم الكيمياء بالقول وبالفعل معا هو «جابر بن حيان» الذي كان أول من اشتهر عنه هذا العلم فهو يتساءل في عجب: كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول الطبيعة وأسرارها؟ ألم يكن في مستطاع العلم أن يجاوز الطبيعة إلى ما وراءها؟ فهل يعجز عن استخراج كوامن الطبيعة ما قد ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو مستور وراء حجبها؟ وهو يستدرك هنا بقوله: إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء، بل نطلب ذلك من ذوي العلم الذين استوفوا أركان البحث؛
5
نامعلوم صفحہ