33
وأما عن الجانب الاستقرائي من المنهج العلمي - وهو جانب يكاد ينسب كله لمناطقة أوروبا ابتداء من النهضة العلمية إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر - فقد سبق ابن حيان إلى الكتابة بما يكفي وحده أن يضع هذا العالم بين أئمة المنهج العلمي، فضلا عن منزلته التي اكتسبها بقضاياه العلمية نفسها.
فالاستقراء - على خلاف الاستنباط - ينصب على أشياء الوجود الخارجي، ومداره هناك هو اتخاذ الحاضر شاهدا على الغائب؛ فمن علمنا طبيعة الضوء - مثلا - نستطيع أن نتوقع ظواهر ضوئية معينة تحدث في المستقبل حين تتوافر ظروف معينة؛ ومن علمنا باتجاه الريح ومقدار الضغط الجوي ودرجة الرطوبة في الهواء، نستطيع أن تتوقع شيئا عن نزول المطر أو عدم نزوله، وهكذا؛ وذلك أننا نحلل الظواهر الذي تقع لنا في مشاهداتنا وتجاربنا تحليلا يربط الجوانب المتلازمة في الوقوع ربطا يتيح لنا أن تتوقع حدوث بعضها إذا رأينا أن بعضها الآخر قد حدث بالفعل.
فماذا يقول «جابر بن حيان» في المنهج الاستقرائي (دون أن ترد بالطبع كلمة «استقراء» في سياقه)؟
يقول: إن المشاهد يتعلق بالغائب على ثلاثة أوجه، وهي: (أ) المجانسة. (ب) مجرى العادة. (ج) الآثار. وسنوجز القول فيما يلي عن الاستقراء القائم على المجانسة، ثم نعقب عليه بذكر الاستقراء عن طريق العادة، ونأسف ألا نجد بين أيدينا ما قاله جابر عن الاستقراء عن طريق «الآثار».
34 (6-1) الاستدلال عن طريق المجانسة
يقول جابر في ذلك ما مؤداه: إن الاستدلال بالمجانسة هو من قبيل حكمك على شيء ما إذا رأيت نموذجا له؛ كأن ترى - مثلا - حفنة من قبح لتستدل بها على بقية القمح ما نوعها وما طبيعتها ؛ على أن الاستدلال على هذا الوجه - فيما يقول جابر - ليس ثابتا ولا صحيحا؛ ومع ذلك فقد اضطر إليه بعض العلماء اضطرارا؛ لكن جابرا يعترض على مثل هذا المنهج في التفكير؛ لأن وجود النموذج لا يدل بذاته على وجود الكل الذي قيل إنه متمثل في النموذج المذكور. ومن أمثلة الأخطاء التي وقع فيها من استخدم هذا المنهج، خطأ الطائفة التي قالت: إنه إذا كان في العالم نور وظلمة وخير وشر وحسن وقبيح، فإنه يجب أن يكون خارج هذا العالم أيضا نور وظلمة وخير وشر وحسن وقبيح؛ لأن ما في هذا العالم من هذه الأشياء كلها هو بمثابة العينة التي تدل على ما هو خاف عنا في عالم الغيب. يقول جابر: إن هذا الاستدلال لا يستقيم إلا إذا أثبتوا أولا أن ما في هذا العالم هو جزء من كل، وأما إذا لم يثبتوا ذلك امتنعت ضرورة النتيجة التي انتهوا إليها؛ أفلا يجوز أن يكون النور الذي في هذا العالم هو كل ما هنالك من نور، والظلمة هي كل ما هنالك من ظلمة، وهكذا قل في الخير والشر والحسن والقبيح؟ «ألا ترى أن الأنموذج لا يثبت عند من دفع إليه كم من ذلك الجوهر عند من أراه ذلك الأنموذج، بل لا يثبت عنده بعلم يقين أن عنده من ذلك شيئا غير ما أراه.»
35
ولا يفوت جابرا هنا أن يعرج بالحديث على كتبه - وهو كثيرا ما يفاخر بها - فيجعلها مثلا تطبيقيا توضيحيا لمبدأ الاستدلال بطريق المجانسة ومدى ما يعرض صاحبه له من خطأ، فيقول: إن من لم يقرأ كتبي كلها بكل ما فيها من تفصيلات وتعليقات، مكتفيا ببعضها دون بعضها الآخر، قمين أن يكون فكرة خاطئة؛ فمن قرأ كتابين من كل فن من فنون كتبي هو أعلم ممن قرأ كتابا واحدا من كل منها.
36
نامعلوم صفحہ