حیات ابن خلدون
حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
اصناف
تقلد ليوم خلا من قدومه منصب الحجابة، وهي لدى دول المغرب: الاستقلال بإدارة شئون الملك، والانفراد بالوساطة بين السلطان وبين أهل دولته. بيد أنه استلم زمام السياسة بعد أن نشأت بين السلطان أبي عبد الله وابن عمه أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة نفدت التدابير دون إطفائها، وما برحت تتأجج إلى أن كانت عاقبتها قتل أبي عبد الله، واستيلاء أبي العباس على بجاية.
خرج ابن خلدون باسطا يد الطاعة إلى أبي العباس ولقي منه احتفاء وإنعاما، وسرعان ما انكفأت عقارب السعاية به تدب حول السلطان فلم ينشب أن استأذنه في الانصراف، فأجاب طلبه بعد تمنع وارتحل حتى عرج على بسكرة لصحبة كانت بينه وبين أميرها أحمد بن يوسف بن مزني. (16) انصرافه إلى العلم
وما كان يمتحن به ويقاسيه من مشاكسة المنافسين له في مقاعد الرياسة ونصبهم حبائل السعاية به، ثم تنكر السلطان له بعد الرعاية والإقبال صرف قلبه عن التعلق بأسباب السياسة، وجعله يفرغ همته في تحقيق العلوم ودراستها. ومن أجل هذا قعد عن السفر إلى أبي حمو صاحب تلمسان حين استدعاه ليقلده الحجابة وكتابة العلامة، ووجه إليه أخاه يحيى؛ ليقوم بعمل هذه الوظيفة مكانه. (17) المراسلة بينه وبين الوزير ابن الخطيب
بعث إليه الوزير ابن الخطيب من غرناظة برسائل يشكو فيها مضض النوى ويتلهف على عهد اللقاء. وقلوب الأصدقاء قلما تتصدع بحزازات الوشاية وتعود إلى عنفوان ودها الصميم، ولكن الرقة الدافقة على ذوق ابن الخطيب، والأدب المنسجم في مزاج خلقه الرصين، ذهبا بأثر ما سعى به إليه قوم لا يفقهون، ونهضا به إلى تأكيد صداقة انتظمت بينه وبين رجل يدانيه علما وأدبا، ويضاهيه في طرق التفكير والعمل لرقي نظام الاجتماع.
وإذا كانت الرسائل مثالا لمنهج الرجلين في المحاورة ساعات اللقاء، فإن هذه المراسلة تنبئك أن المجالس التي كانت تعقد بين هذين الوزيرين الخطيرين لم تكن مضمار علم وأدب فقط، بل كانت ممتعة بالنظر في الشئون السياسية الداخلية والخارجية، فقد أتى ابن الخطيب في بعض هذه الرسائل على تفاصيل من أحوال الدولة بغرناطة، وألم فيها بأنباء عن دولة الإسبان في إشبيلية. وكذلك تجد ابن خلدون تعرض في الجواب عن تلك الكتب لحوادث دول شتى، فنسق فيها قسطا من الحديث عن شئون دول تونس والجزائر والمغرب الأقصى والحجاز ومصر. ولو أن علماء الإسلام أخذوا في هذا السبيل أينما كانوا، ومدوا جانبا من عنايتهم إلى الاطلاع على تصاريف الدول ومجاري سياستها لبلغوا منتهى السؤدد، وبرءوا من تبعة وقوع الشعوب الإسلامية في هذا البلاء المبين. (18) مساعيه السياسية وهو في بسكرة
أقام ابن خلدون في بسكرة مقبلا على دراسة العلم، ولم ينكث يده مع ذلك من التدخل في شئون الدولة، فكان يشايع أبا حمو صاحب تلمسان حين نهض يجلب بخيله ورجله على بجاية، فكان وسيلة إلى توثيق عرى الصلة بينه وبين السلطان أبي إسحاق صاحب تونس، وحمل بعض القبائل على مناصرته حتى سار إليه بطائفة من قبيل الذواودة، والتقى به في البطحاء، ثم قفل معه راجعا إلى تلمسان؛ إذ بلغ أبا حمو أن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى يتحفز للوثوب على تلمسان، ولما اقتربت ساعة استيلائه عليها وأخذ أبو حمو في أهبة الانجلاء عنها إلى الصحراء اعتزم ابن خلدون على الارتحال إلى الأندلس، وحمله أبو حمو رسالة إلى ابن الأحمر صاحب غرناطة فاتصل نبأ سفره بالسلطان عبد العزيز، ونمي إليه أنه يحمل وديعة إلى ابن الأحمر فأنفذ إليه سرية اعترضت سبيله فلم تلق عنده ما يحقق هذه التهمة، وانقلبت به إلى السلطان فلقيه حوالي تلمسان فقضى ليلته في اعتقال، وفي الغد أطلق سبيله فانصرف إلى رباط الشيخ أبي مدين، ونزل بجواره على قصد التفرغ للعلم ونثر درره الشائقة بين يدي طلابه. (19) استدعاؤه إلى فاس
ولم يزل متمتعا بحياة علمية خالصة حتى استدعاه السلطان عبد العزيز، وأوعز إليه في الخروج إلى بلاد رياح ليجمعهم على طاعته ومناصرته، فانبعث يعمل في هذا السبيل بكلمة نافذة ودعاية ناجحة إلى أن قضى المأرب وبلغ الغاية المنشودة، وكان يسعى إلى هذه المهمة السياسية وهو مقيم ببسكرة في جوار أميرها أحمد بن يوسف بن مزني الذي هو صاحب زمام رياح، وما راع ابن خلدون إلا أن أخذ حساده ينفثون سموم الوشاية في أذن أحمد بن مزني فهاجوا غيرته وأوغروا صدره حتى تنفس بالشكوى منه إلى صاحب شورى السلطان وترمار بن عريف ورفع صاحب الشورى هذه الشكوى إلى السلطان، فما كان من نظره إلا أن استدعى ابن خلدون إلى حاضرة فاس، فخرج بأهله وولده. ولقيه في الطريق نعي السلطان وتولية ابنه الصبي أبي بكر السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي، فدخل فاس، وكان له مع الوزير سابق صحبة فأدر عليه من معصرات بره وكرامته فوق ما يحتسب، وظل عاكفا على التدريس صارفا همته إلى الوجهة العلمية إلى أن ظهر السلطان أحمد بن أبي سالم على الوزير أبي بكر بن غازي واجتذب مقاليد الأمر من يده، ولم يستقر به الحال حتى قام وزيره محمد بن عثمان يدخل عليه الريبة من جانب ابن خلدون ويغريه بالقبض عليه. وما هذا الوزير بأول من ازدهت به الرياسة وتطوحت به في غرور حتى عمي عليه أن لأعاظم الرجال كابن خلدون تاريخا باقيا، وصحائف لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من مجاملة أهل عصره له، أو إساءتهم إلا أحصتها. (20) عودته إلى الأندلس سنة 776
قبض عليه السلطان ابن أبي سالم، وسرعان ما نهض إلى خلاصه الأمير عبد الرحمن الذي شارك السلطان في حرب الوزير أبي غازي، واتفق معه على أن يستقل بولاية مراكش وأعمالها، ولم يطمئن به المقام بعد أن رأى من تنكر السلطان وسوء طوية وزيره ما رأى، فابتغى الوسيلة إلى إذن السلطان له بالانصراف إلى الأندلس؛ ليتفرغ للعلم ومدارسته في ظل دولة ابن الأحمر الذي أولاه في رحلته الأولى سابغ الكرامة والإنعام، ولم يظفر بالجواز إلا بعد تسويف وعلى رغم من وزيره ورجال دولته.
دخل الأندلس سنة 776 فجرى السلطان على عادته من بسط يد الإكرام، وإنزاله منزلة الاحتفاء والرعاية إلى أن وفد على غرناطة مسعود بن ماسي من حاضرة فاس وأبلغ السلطان بإغراء من رجال دولتها أن ابن خلدون كان يبذل مساعيه وجاهه في خلاص لسان الدين بن الخطيب،
2
نامعلوم صفحہ