حیات ابن خلدون
حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
اصناف
فانقلب عطف السلطان عليه جفاء، وأنسه به وحشة، وأجلاه إلى العدوة من بلاد المغرب الأقصى.
وموضع العبرة في هذه الواقعة أنك تقارن بين عودتيه من الأندلس؛ فتجده في المرة الأولى قفل من غرناطة والسلطان يبسط له يد المجاملة ويودعه بقلب يأسف لفراقه، ثم هو متوجه نحو بجاية والدولة متأهبة لاستقباله بأجمل ما يتصور من مظاهر الاحتفاء. وتراه في هذه المرة انصرف عنها والسلطان يكره إقامته ويطوي عنه بساط أنسه، خرج وهو لا يدري أين يلقي عصا التسيار؛ هذه دولة الأندلس تنفيه من أرضها، وتلك دولة المغرب الأقصى تلحظه بعين الحنق وترمي من ورائه بسهام الكيد والأذى، وهذا أبو حمو صاحب تلمسان لم يزل ينقم عليه مشايعته للسلطان عبد العزيز وسعيه في صرف وجوه العرب عنه يوم كان طريدا في الصحراء. بيد أن أبا حمو كان على روية لا يفوتها أن الأخذ في معاملة رجل خطير كابن خلدون بالرفق والأناة إنما توضع في حساب الحسنات التي ينوه بها التاريخ ويرتقي بها شأن دولته، فسمح له بدخول تلمسان فجاءها وقد ذاق من صروف السياسة عذاب الهون، فما كان إلا أن تجرد للقراءة، ولم يشغل وقته بسوى المذاكرة في العلم ودراسته.
وقد يكون انحراف الدولة عن النابغة أو اضطهادها له أشد داعية إلى بذله كل ما يملك من الجد والألمعية في توسيع دائرة معارفه أو الحذق في صناعة التأليف أو الاستنباط، فإن الكدر الذي قد يثيره تغابيها عن مكانه أو بخسها من قيمته إنما يكشفه ارتياح النفس وتمتعها باستطلاع حقائق العلوم التي هي أصفى لذة وأبقى سؤددا من نيل الحظوة والقرب من مجالس الأمراء. (21) تصنيف ابن خلدون تاريخه ومقدمته
ما برح ابن خلدون منقطعا لبث العلم حتى بدا لأبي حمو أن يبعثه سفيرا إلى الذواودة؛ ليراوضهم إلى طاعته ويجمعهم على ولائه. فلبى طلبه في الظاهر، وخرج وهو يسر في نفسه أن لا يعمل لهذا السبيل بعلة أنه أصبح يعز عليه بذل شيء من أوقاته في غير الوجهة العلمية. ولعله سئم التدخل في السياسة التي قد تلتوي به مع أهواء الأمراء، وتحمله على أن يسعى في استنجاد القبيلة لمن كان يغريها عليه.
ولما وصل إلى البطحاء ولى وجهه عن ناحية الذواودة جانبا وثنى عنانه إلى أولاد عريف، فأنزلوه بقلعة أولاد سلامة، وأقام بينهم أربع سنين في جو هادئ، وبيئة لا تجيش فيها مراجل الحسد، ولا تنفث فيها الوشاية سما ناقعا. وفي هذه السنين - التي كانت مهبط السكينة وصفاء الفكر وارتياح الضمير - شرع في تأليف تاريخه الفائق، ولذلك الحين أتم مقدمته على نسجها الحكيم، وتحقيقها البديع. (22) عودته إلى وطنه
سل يده من كل شاغل، وألقم فكره ثدي الاستنتاج والتفقه في المقاصد العلمية والشئون العمرانية حتى بلغ في مجالها شأوا لا يشق غباره، فتاقت نفسه إلى زيادة التوغل في أسرار العلم والاستفادة من كتب لا تنالها الأيدي إلا في الحواضر، فراسل صاحب تونس أبا العباس بالعودة إلى تونس التي هي مسقط رأسه ومسحب ذيل شبابه ومجرى جياد أنسه، فما تريث أن طلع عليه جواب السلطان يأذن له بالقدوم ويحثه عليه، فانبرى يطوي الفيافي حتى أوى إلى ظل عنايته، وأنزله منزلة المغتبط بسابغات عزه، ومظاهر كرامته.
ظن ابن خلدون - مذ حط رحله بين قومه، وسحب رداء العز في وطنه - أن الزمان صافحه بيد المصافاة، وأن الحوادث أصبحت تهاب أن تغشى ساحته، فإذا تقريب السلطان له واستخلاصه جليسا يضرم في قلوب فريق من الناس نار الغيرة والحسد، فلم يتمالكوا أن باتوا ينصبون له حبائل الوشاية، ويهمسون في أذن السلطان بما يوغر صدره عليه. ومما تعلقوا به في أسباب الكيد به تخليه عن صوغ الشعر في مديح السلطان، وزعموا لديه أنه لم يعن بمديحه كما عني بمديح سلاطين المغرب والأندلس؛ استخفاقا بمقامه، وكفرانا لنعمته.
وقد ضل هؤلاء عن سواء السبيل؛ فإن العالم الأديب قد يهفو به نزق الشباب أو ينساق بحكم الضرورة إلى مديح بعض الرؤساء، حتى إذا بلغ في العلم أشده، وخلع عليه التقدم في السن حلة السكينة والوقار؛ عافت نفسه ذلك الفن المزري من الشعر، وجمدت قريحته دون أن تنطف فيه بقطرة. فيجب على صاحب الدولة الرشيدة أن يكون على همة أسمى من أن تتشوف إلى سفاسف الأمور، وأطهر من أن ترضى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا بأنفسهم في حضيض الملق والاستعطاف، بل الأمجد لذكره، والأدعى لحمده أن يكون إكرام العلماء في نظره حقا تقتضيه فضيلة العلم بنفسها. (23) تقديم تاريخه إلى صاحب تونس
فاجأه صديق له - كان أحد بطانة أولئك السعاة - بما يكيدونه به تحت ستار، وكان قد اعتزم على أن يقدم للسلطان نسخة مما كمل من تاريخه. فانتهز الفرصة وأنشده ساعة إهدائه الكتاب قصيدة أمتعها بذكر سيره وفتوحاته، ونسج في ذيلها الاعتذار عن انتحال الشعر بأسلوب بليغ، ويقول في هذا الاعتذار:
وإليكها مني على خجل بها
نامعلوم صفحہ