حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
اصناف
وليس من شك في أن أول حجر يوضع في بناء الديمقراطية هو التربية التي تؤدي إلى ذلك؛ ومن ثم كانت التربية أحد ميادينه الأساسية التي خلق فيها وابتكر، ففي عام 1899م أخرج كتابه «المدرسة والمجتمع» يشرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، وكان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعا صغيرا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه، فيهيئ للتلاميذ المواد الخامة المختلفة ليصنعوا منها أشياء تتناسب مع قدراتهم، وخلال هذه الصناعة يتعلمون ما يتعلق بها من علوم، ثم تلا ذلك كتاب آخر في التربية أخرجه عام 1916م، هو «الديمقراطية والتربية» يبين فيه أن التربية هي العملية التي تعين الجماعات الإنسانية على استمرار وجودها، لا بمجرد المحافظة على التقاليد القديمة مهما يكن نوعها، بل بسرعة المواءمة بين نفسها وبين بيئتها، فتغير من نفسها بما يقتضيه تغير البيئة.
فلو أردت عبارة واحدة قصيرة تلخص لك صميم فلسفة «ديوي» فهاك هذه العبارة: «إن التطبيق العام لمناهج العلم في كل ميدان ممكن من ميادين البحث، هو الوسيلة الوحيدة القادرة على حل مشكلات الديمقراطية الصناعية.»
17
هذه هي النتيجة التي انتهى إليها «ديوي» بكل فلسفته على تنوع ميادينها، وهي أن نصطنع المنهج العلمي في كل موضوع نفكر فيه، لا فرق في ذلك بين اقتصاد أو تربية أو دين أو أخلاق أو سياسة، ففلسفته إذن هي في حقيقتها «منهج»، لا يعنيه أن يقدم للناس حقائق بعينها بقدر ما يعنيه أن يقدم لهم منهجا يطبقونه في كل موضوع، وهو إذا ما بحث موضوعا معينا، فإنما يبحثه أولا وقبل كل شيء على أنه «مثل» يطبق عليه منهجه في البحث، فما عناصر هذا المنهج؟
كان كتاب «وليم جيمس» في أصول علم النفس (صدر 1890م) هو الضوء الذي اهتدى به «ديوي» أخيرا في تشكيل منهجه وخطته في التفكير والبحث، فلم يكن ذلك الكتاب مجرد كتاب في علم النفس كسائر الكتب، بل كان فاصلا بين عهدين في ذلك العلم، إذ اعتبر «العقل» نمطا معينا من السلوك، يعالج به الإنسان بيئته على نحو يعينه على الحياة، فالعلامة الدالة على وجود «العقل» في أية ظاهرة سلوكية هي أن نلحظ فيها استهدافا لغايات مستقبلة، واختيارا للوسائل المؤدية إلى بلوغ تلك الغايات،
18
واستخراج مكنون هذه العبارة - ومكنونها طويل عريض عميق غزير - هو الأساس الذي أقام عليه «ديوي» منهجه وبنى عليه تفكيره.
وأولى النتائج التي تترتب على هذه العبارة، هي أن «العقل» سلوك ذو طابع معين، وليس هو بالكائن الروحاني الغيبي الذي يختلف عن الجسم الحي الفعال، كما هو الرأي عند الفلسفة المثالية، وعند «ديوي» نفسه في مرحلته الأولى؛ لأنه كان إبان تلك المرحلة - كما أسلفنا - هيجلي الاتجاه في فلسفته، وثانية النتائج التي تنتج من العبارة نفسها هي أن القيم والغايات التي بمقتضاها يعمل الإنسان ويسعى، إما أن تكون جزءا لا يتجزأ من طبيعة العالم الخارجي نفسه، بحيث يجيء الإنسان فيدركها، ثم يعمل على تحقيقها، أو أن تكون من خلق الإنسان، يخلقها لتكون له وسائل يوائم بها بين نفسه وبين العالم الطبيعي أو المجتمع الذي يعيش فيه، وهي على كلا الفرضين ليست شيئا سابقا بوجوده على وجود العالم الطبيعي أو المجتمع، بل تنشأ نتيجة لازمة لاتصال الإنسان بمحيطه اتصالا يظهر فيه كفاحه واختياره وأسلوبه في معالجة المواقف الجزئية التي تعترضه أثناء الحياة الجارية ، وثالثة النتائج التي تستخلص من العبارة المذكورة، وربما كانت أهم النتائج أن الإنسان إذا ما نشط حيال بيئته من طبيعة ومجتمع، فإنما يكون المستقبل هو رائد نشاطه، أي إن معنى نشاطه هذا لا يكون إلا بالنظر إلى ما يتولد عنه من نتائج من شأنها أن تغير أوضاع الأشياء تغييرا كبيرا أو صغيرا، يكون سببا في إزالة مشكلاته التي اعترضت سبيله، وما دام الأمر كذلك، فالنتيجة الرابعة هي أن ليس هنالك قيم ثابتة على الزمن، لا تتغير مهما تغيرت الظروف والمواقف، إنما القيم ملازمة للحياة في تغيرها، فكلما تغيرت هذه، تغيرت تبعا لها تلك؛ إذ ماذا عسى أن تكون هذه القيم - في الأخلاق أو في السياسة أو غيرهما - إن لم تكن أدوات يستخدمها الإنسان في سلوكه؟
وهنا نصل إلى صميم فلسفته، فلسفة «الذرائع»؛ وهو اسم أطلقه «ديوي» على اتجاهه البراجماتي الخاص، الذي اختلف به عن زميليه «بيرس» و«جيمس»، وإن يكن في اتجاهه ذاك أقرب إلى «بيرس» منه إلى «جيمس»؛ فقد كان من رأي «بيرس» أن الأفكار الكلية إن هي إلا عادات سلوكية اعتادها الإنسان ليتصرف بها في المواقف العملية التي تشير إليها تلك الكلمات، فكأنما الفكرة الواحدة من هذه الأفكار الكلية هي بمثابة خطة تضبط السلوك وتوجهه، وهكذا ارتأى «ديوي» حين جعل الأفكار «ذرائع» تتذرع بها في توجيه السلوك وضبطه توجيها وضبطا يحقق للإنسان غاياته المنشودة، فمهما تكن الفكرة، فهي تتضمن خطة للعمل، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست من الفكر في شيء، وكما أن هذا العمل المتضمن في الفكرة هو معناها، فهو نفسه كذلك طريقة تحقيقها التي نميز بها الفكرة الصائبة من الفكرة الخاطئة، فأما الصائبة فهي التي إذا ما سلكنا وفق الخطة العملية التي ترسمها، انتهى بنا ذلك السلوك إلى ما نبتغي، وأما الخاطئة فهي التي لا تؤدي خطتها العملية إلى الغاية المقصودة، وإذن فتحقيق صواب الفكرة لا يكون في الخلاء، إنما يكون في نسيج الواقع، هذا الواقع الذي لا نراه دائما متفقا مع أهدافنا، فنلجأ إلى تغييره بما يتفق مع صوالحنا، تغييره بماذا؟ تغييره بأفكارنا، فإذا لم تكن هذه «الأفكار» أدوات أو ذرائع تعين على ذلك فهي لغو باطل، وخطأ فاحش أن نفرق بين ما هو نظري وما هو عملي من جوانب حياتنا؛ إذ يستحيل فصل «الأفكار النظرية» عن «تطبيقها العملي»، ثم تظل مع ذلك أفكارا توصف بالصواب والحق، فالفكر والعمل طرفان لخيط واحد، أو جانبان من شيء واحد، أحدهما مكمل للآخر، ومتصل به اتصالا وثيقا، ليست علاقة الفكر بمقصورة على زميلاتها من أفكار؛ بحيث يبدأ الأمر وينتهي داخل الرأس بغض النظر عن الواقع الخارجي، بل الفكرة خيط من نسيج خيوطه مزيج محتوم من أفكار في الداخل وحوادث طبيعية في الخارج.
ولا تفكير إلا إذا اعترضت الإنسان مشكلة تتطلب الحل، أعني أنه لا تفكير إذا لم نجد حقائق الواقع متعارضة مع تحقيق أغراضنا على وجه من الوجوه، فعندئذ نقف حيال ذلك الواقع «لنفكر» كيف نغير من أوضاع عناصره وأجزائه، بحيث يتخذ الوضع الذي يخدم أغراضنا، لا تفكير إذا ظل الإنسان سابحا في «فكره» بعيدا عن دنيا الحوادث الخارجية؛ لأنه عندئذ يكون حالما أو كالحالم، ويسوق «ديوي» لذلك مثلا مشهورا، جاء في كتابه «كيف نفكر»،
نامعلوم صفحہ