حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
اصناف
هو ثالث ثلاثة عمالقة خلقوا الفلسفة البراجماتية خلقا، وأشاعوها في أرجاء العالم طرا بحيث لم يعد في وسع مثقف ألا يتابعهم في نتائجهم متابعة القبول أو متابعة الرفض والإنكار، وهؤلاء الثلاثة هم «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، على أنهم وإن ذهبوا جميعا مذهبا واحدا من حيث الأصول، إلا أن كلا منهم قد انشعب به في اتجاه يميزه عن زميليه، والصفة المميزة ل «ديوي» هي محاولته استخدام منهج العلوم في التفكير في القيم - الأخلاقية والسياسية والجمالية وغيرها - تفكيرا قد ينتهي إلى تغييرها تغييرا يناسب ظروف الحياة الحاضرة، أو بعبارة أخرى هي اتخاذه من الفكر «ذريعة»
15
للعمل على نحو يحقق للإنسان ما يبتغيه في مجتمع صناعي ديمقراطي كالمجتمع الذي نعيش فيه اليوم، أو على الأصح كالمجتمع الذي تعيش فيه الولايات المتحدة في عصرها الراهن.
ولم يكن «ديوي» براجماتيا منذ أول نشأته، بل تأثر في أولى مراحله بالفلسفة الهيجلية، ولم يكن له بد من ذلك؛ لأنه لم يجد حوله إلا أساتذة يذهبون في الفلسفة هذا المذهب، فأخذ عنهم، ثم أخذت ظروفه تتطور حتى اتخذ لنفسه طريقة البراجماتي بقية حياته، وقد كانت الأعوام التي شكلته من الوجهة الفلسفية تشكيلا حاسما، وهي الأعوام العشرة الممتدة من 1894م إلى 1904م (ولد ديوي عام 1859م ومات عام 1951م)، وذلك حين كان رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو، وحين قام بتجربة في التربية على نطاق واسع، أجراها على مدرسة ملحقة بالجامعة، فعندئذ نفض يديه من الفلسفة الهيجلية، وبدأ في وضع الأساس لوجهة نظره التي التزمها منذ ذلك الحين، وهي التي يطلق عليها - كما قلنا - اسم «المذهب الذرائعي»، وهو مذهب شديد الشبه بما كان يدعو إليه «وليم جيمس» في ذلك الوقت نفسه باسم «الفلسفة البراجماتية».
وإنه لمما يعيننا على فهم وجهة النظر التي أخذ بها «ديوي» أن نذكر لمحة من حياته تلقي ضوءا شديدا على أصول تفكيره، ذلك أنه ولد ونشأ في ولاية «فيرمونت» في الشمال الشرقي، في منطقة ريفية هادئة يعيش أهلها على الزراعة، ولهم كل ما تقتضيه الزراعة من أخلاق المحافظة على القديم، وإيثار السلامة والأمن والدعة على المخاطرة، وما إلى ذلك، ثم انتقل في رجولته إلى ما يسمونه في الولايات المتحدة «بالغرب الأوسط»، وهو إقليم نزح إليه المغامرون من أهل الشرق - أعني شرقي الولايات المتحدة - الذي كان أول ما عمره الوافدون من أوروبا، حتى ازدحم، فماذا شهد «ديوي» في الغرب الأوسط خلال ستة عشر عاما أقامها هناك؟ شهد حياة اقتصادية تختلف اختلافا بعيدا عن حياة موطنه الزراعي الذي نشأ فيه؛ إذ رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر، رأى الناس تغلب عليهم المغامرة والمخاطرة، وأميل إلى العمل الحر الجريء منهم إلى العمل المستقر الثابت الآمن؛ لأن هذا الاستقرار وهذا الثبات وهذا الأمن يكلفهم الخضوع لقوانين الحكومة المطردة، ويكلفهم بالتالي الحد من أصالة التفكير وقدرة الابتكار، كانت الحياة هناك - كما شهدها «ديوي» - معرضة للخطر، ولكن بلوغ النجاح فيها كان كبير الاحتمال، فلم يكن الناس ينشدون اليقين في حياتهم، ومن هنا انعكس الأمر على تفكير «ديوي» حين أخرج فيما بعد كتابه «طلب اليقين» ليهزأ من طلب اليقين في حياة الفكر وحياة العمل على السواء، كان أهل الغرب الأوسط جميعا ممن نزحوا حديثا، فقلما تجد أسرة هناك عندئذ امتدت إقامتها أكثر من جيل واحد أو جيلين، وقد نزحوا من كل فج من فجاج الأرض، فكأنما جاءوا جميعا لا يحملون بين جنوبهم إلا شيئا واحدا، وهو أن يخاطروا ويغامروا، فمن ذا كان يعبأ عندئذ هناك بالتقاليد الموروثة أو بأصول الثقافات القديمة؟ نظر الجميع إلى أمام لا إلى وراء، مؤمنين بأن النجاح أكبر احتمالا من الإخفاق.
ذلك هو طراز القوم الذين ذهب «ديوي» بينهم ليعلم أبناءهم في جامعة شيكاغو، فأي شباب تتوقع له أن يختلف إلى الجامعة؟ شباب كالآباء، يريدون العلم الذي يعين على العمل، يريدون الفكر الذي يرسم طريق النجاح، إنهم لم يكونوا كالشبان الذين ألفتهم جامعات أوروبا، بل الذين ألفتهم جامعات الجهة الشرقية من الولايات المتحدة نفسها، جاءوا وفي رءوسهم تقدير للثقافة في ذاتها، كلا؛ فقد تغيرت معهم وجهة النظر، وجاءوا ينشدون العلم الذي يكون قريب الصلة بما هم مقبلون عليه من حياة عملية سريعة الخطا، لم يكونوا يريدون - بالطبع - دراسة اللاتينية أو الإغريقية أو غيرهما من الدراسات النظرية البحتة التي هي في الحقيقة مخلفات الثقافة الأرستقراطية القديمة، التي كانت تصلح لأهل الفراغ من أبناء الطبقات الثرية، أمثال هذه الدراسات لم يعد بذي نفع في مجتمع ديمقراطي كل أبنائه قد خلقوا للعمل، وللعمل الجاد، فإن كان طلاب الجامعات القديمة ينشدون النظريات التي يدرسونها وهم جالسون على مقاعدهم؛ فقد جاء هؤلاء إلى الجامعة يريدون العمل بأيديهم، فإذا ما كان الموضوع مما لا يقتضي عملا مباشرا، فليكن إذن شديد الصلة بما يعمل.
فكيف يجيء تيار الفكر في رأس فيلسوف حساس لما حوله من ظروف، إن كانت هذه الظروف هي التي تحيط به؟ هل يمكن أن يتجه بفكره إلى غير العمل؟ هل يمكن أن تدفعه هذه الرغبات الجامحة من حوله نحو النظر إلى المستقبل، ثم يلتفت رغم ذلك إلى الماضي؟ كلا، وهكذا كان الأمر مع «ديوي»، تشكك في قيمة التقاليد كلها، كالتقليد الذي جرى بين المفكرين الأمريكيين الأولين من أن للإنسان حقوقا طبيعية كانت لهم قبل اجتماعهم في مجتمع، وكالعرف الذي يقضي بالرجوع إلى السابقات في أحكام المجتمع أو أحكام القضاء، وكالاعتقادات الدينية في صورها الجامدة، بل والافتراضات العلمية التي قد تكون قائمة على غير أساس يبرر قيامها، إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير إن دعت الضرورة إلى تغييره، ولا يجوز أن يقف شيء - كائنا ما كانت قيمته وقداسته - حائلا في مجرى الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغيد للإنسان العامل ، لا بد من تغيير قواعد الأخلاق إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، ولا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات، في سبيل تغيير الحياة تغييرا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وماذا تكون الفلسفة إن لم تكن - كما يصفها «ديوي» - تعبيرا عقليا عن الصراع الداخلي الذي يسري في ثقافة العصر؟ مهمة الفلسفة هي أن تتعقب خيوط هذا الصراع إلى أصولها لتضع أمام النظر مصادر القوى التي تتجاذب عقول الناس، فيسهل بذلك تشخيص الداء ووصف الدواء، والحق أنك إذا أمعنت النظر في أي فلسفة شئت، فمهما كانت هذه الفلسفة في ظاهرها منعزلة عن تيارات الحياة العملية، فستجدها في الحقيقة معبرة عما تنطوي عليه تلك الحياة في عصرها من مبادئ أساسية يسير الناس في نشاطهم العملي على مقتضاها، شعروا بذلك أو لم يشعروا، فهكذا كانت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو - مثلا - دفاعا في صميمها عن المثل العليا التي كانت هدف المدنية اليونانية يدافعون عنها إزاء هجمات الشكاك، فلولا تلك الهجمات الانقلابية لكان من المحتمل ألا ينشأ سقراط مدافعا عن القيم الأخلاقية الثابتة، أو ألا ينشأ أفلاطون ليقيم الحجة على وجود عالم فكري ثابت رغم ما قد يبدو للعين من صيرورة وتغير، أو ألا ينشأ أرسطو ليستهدف الغاية نفسها في الأخلاق وغيرها، ثم انتقل إلى العصور الوسطى الدينية، وانظر ما مهمة الفيلسوف عندئذ، كان همه الأول والأخير أن يدافع عن العقيدة الدينية السائدة بسند من الفلسفة.
لكن مهمة الفيلسوف وإن تكن دائما تعبيرا عقليا عما تنطوي عليه حياة الناس من مبادئ، إلا أنها قد لا تكون دائما دفاعا عن النظام القائم، كما كانت الحال في أعلام الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة؛ لأنه قد يحدث أن تأخذ حياة الناس في التغير والانقلاب، وأن تأخذ مبادئ حياتهم - بالتالي - في التحول والتبدل، وعندئذ يقوم الفيلسوف بمهمته نفسها، مهمة التعبير العقلي عن المبادئ التي تنطوي عليها حياة الناس، فإذا هي فلسفة تدعو إلى وجوب الانقلاب والثورة؛ لأنها فلسفة جاءت في عهد انقلاب وثورة، هكذا كانت فلسفة «ديكارت» مثلا عند خروج أوروبا من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث، حين دعا الناس إلى تغيير منهج التفكير، وهكذا أيضا «ديوي» الذي لم يسعه إلا أن يكون بفلسفته داعيا إلى تغيير القيم؛ لأن الحياة التي أحاطت به كانت تسير بالفعل نحو هذا التغيير، «فلو استطعنا أن نحدد الأهداف التي ارتسمت في تصوره، والوسائل التي رآها موصلة إلى تلك الأهداف، استطعنا فهم فلسفته، وعندئذ نرى كيف تتكامل آراؤه التي أدلى بها في ميادين مختلفة فيما بينها اختلافا بعيدا، لكنها مع ذلك تتكامل في نظرة واحدة شاملة لما عساه أن يحقق التقدم في مجتمعنا ... وأول ما تعنى به فلسفة ديوي من أهداف هو مشكلات الديمقراطية الأمريكية.»
16
نامعلوم صفحہ