حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
اصناف
19
مثل من يمشي خلال الغابة قاصدا إلى غاية معينة ليبلغها في وقت معين، ثم تعترضه قناة، فإن كان عبور القناة ممكنا بقفزة واحدة، فلا تفكير؛ لأنه لا إشكال، لكن يبدأ التفكير حين تنهض أمامه المشكلة: كيف يعبر القناة ما دامت القفزة الواحدة لا تكفيها؟ أيخوض بثيابه في الماء إن كان الماء ضحلا؟ أيبني جسرا من فروع الشجر؟ هل يترك غايته المنشودة ويقفل في طريقه راجعا؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي يظل يلقيها على نفسه وهو واقف أمام القناة «يفكر» ماذا عساه صانع للتغلب على هذه المشكلة التي اعترضت طريقه، وواضح أن الفكرة التي تنشأ عندئذ لا بد أن تكون ذات علاقة وثيقة بالموقف الراهن الماثل أمامه، ولا بد لها أن ترسم خطة واضحة التفصيلات لما ينبغي عمله، فإن لم تكن كذلك لم تكن شيئا، وواضح كذلك أن الفكرة التي تطرأ لذلك السائر الذي يريد أن يعبر قناة معينة في ظروف معينة، إنما يكون تحقيقها عملا وفعلا هو معناها وهو وسيلة اختبار صوابها في آن واحد، أي إنه لا تمييز بين أن يكون للفكرة «معنى» وأن تكون «صوابا»، وبعبارة أخرى لا نحكم على الفكرة بأنها صواب على أساس معيار عقلي خالص، منفصل عن دنيا العمل، بل نحكم بصوابها بالاحتكام إلى تنفيذها، وهكذا ينشأ الفكر وينمو مصاحبا لنشأة مشكلة عملية أولا، ثم لتتابع حلقات من أفعال مؤدية إلى الغرض المقصود، وبعبارة ثالثة، الفكر لا يتم فكرا إلا إذا ارتبط بما ليس فكرا، لو ظل الفكر دائرا حول نفسه، بأن ينتقل من فكرة في الرأس إلى فكرة في الرأس ثم إلى ثالثة فإلى رابعة، فلن يكون جديرا باسمه، وإنما يكون الفكر فكرا حين يمتد إلى ما وراء حدوده النظرية إلى حيث العمل والتنفيذ.
وما «المنهج العلمي» إلا الطريقة التي يستخدمها الإنسان في خروجه من دائرة الفكر المحض إلى دنيا العمل، فكيف يتم هذا؟ يتم بالاستنباط وبالاستقراء في آن معا، فأنت إزاء المشكلة تفرض فرضا معينا تظن أنه ممكن التنفيذ، وأنه بتنفيذه سيزيل المشكلة التي اعترضت سبيلك، وتنفيذه يقتضي بالطبع أن تستخلص منه النتائج التفصيلية التي تترتب عليه، وذلك هو الاستنباط، وعندئذ تخرج إلى الدنيا الخارجية بغية التنفيذ وفق تلك التفصيلات التي تحددت بفضل الفرض الذي فرضته معينا لك في موقفك، وها هنا ستصطدم بالوقائع ذاتها والحوادث ذاتها، فتراها بالعين وتلمسها باليدين، وعندئذ تدرك إدراكا عمليا قائما على المشاهدة وعلى التجربة إن كان فرضك الأول صوابا، بمعنى أنه مؤد إلى الغاية المنشودة، أو لم يكن، وهذه هي مرحلة الاستقراء في حل المشكلة، ولا تتم عملية التفكير إزاء مشكلة من المشكلات إلا إذا أجرينا التجربة العملية على الفرض الذي فرضناه حلا لها، وتمت التجربة بالنجاح المطلوب.
ومرحلة «الفرض» - أي مرحلة «الحل المقترح» - هي التي يسميها «ديوي» فكرة، وإذن «فالفكرة» هي اقتراح قدمه الإنسان لنفسه لحل مشكلة معينة من مشكلات حياته، حين يكون ذلك الاقتراح لا يزال معلقا ينتظر التنفيذ؛ وبالتالي ينتظر الاختبار، وبديهي أن مثل هذه «الفكرة» لا توصف بأنها «حق» إلا إذا كانت دليلا هاديا يسدد خطا صاحبها في مرحلة السلوك، أي في مرحلة التنفيذ، فصوابها هو في هدايتها لصاحبها، وليس صوابها صفة لاصقة بها بغض النظر عن أثرها في مجرى السلوك والعمل «فالحق هو ما يهدينا هداية موفقة، القدرة المحققة في مثل هذه الهداية الموفقة هي على وجه الدقة ما نعنيه بكلمة الحق»،
20
وهنا نلاحظ الفرق البعيد بين هذا المعنى «للحق» وبين ما جرى به التقليد عند الفلاسفة السابقين، الواقعيين منهم والمثاليين على حد سواء؛ فقد كان صدق الفكرة عند هؤلاء جميعا صفة ننعت بها «كائنا» ساكنا لا حركة فيه ولا فاعلية؛ إذ ننعت بها شيئا قائما برءوسنا، فنقول عن ذلك الشيء إنه صادق أو إنه حق إذا كان صورة صحيحة لأصل في الخارج - وهؤلاء هم الواقعيون - أو إذا كان متسقا مع سائر ما يحتويه العقل من أفكار - وهؤلاء هم المثاليون - أما عند «ديوي» وزملائه البراجماتيين، فالصدق أو الحق صفة ننعت بها «صيرورة» وحركة وسيرا وفعلا، الحق صفة «سكونية» عند أولئك، وهو صفة «حركية» عند هؤلاء، ويقتضي هذا الرأي الجديد في طبيعة «الحق» ألا يكون سابقا على الإنسان وخبرته، لم يكن هنالك قبل الإنسان ومشكلاته ونشاطه في حل تلك المشكلات «حق» أزلي، إذ كيف يكون ولا إنسان هناك ولا إشكال ولا نشاط لحل ذلك الإشكال؟ ثم جاء الإنسان ونشأت مشكلاته، فنشأت مع ذلك حلوله لها، فكان الحل الموفق منها «حقا» ومن مجموعة هذه الحلول الموفقة لمجموعة المشكلات العملية في الحياة الإنسانية يتألف «الحق»، ولعلك تلاحظ أن هذا الاختلاف بين الرأي التقليدي في «الحق» وبين الرأي الجديد، يتضمن اختلافا في الأساس الاجتماعي والأخلاقي على السواء؛ فقد كان المجتمع قديما مؤلفا من سادة يأمرون ورعية تؤمر؛ وبالتالي فهو مؤلف من فئة تفرض معيار الحق فرضا، وما على الناس إلا أن يقيسوا أفكارهم إلى ذلك المعيار المفروض، فإن طابقته كانت صوابا وإلا فهي خطأ، وهذه حالة من يريد أن يحافظ على النظام القائم لا يتناوله بالتعديل والتبديل، وهي حالة تستتبع ألا تقع على السواد من أفراد الناس تبعة خلقية؛ إذ التبعة كلها واقعة على السيد الآمر الذي سن القانون وشرع المعيار، أما النظرة البراجماتية فتفترض عدم الثبات في القيم والمعايير، وتفترض - بل تستوجب - ضرورة تغييرها لتلائم الظروف القائمة، وإذن فكل فرد مسئول أمام المشكلة التي تعترضه، مسئول عن حلها حلا موفقا، فيكون هذا الحل الموفق هو الصواب والحق؛ «فاعترافنا بأن الحق هو نجاح التنفيذ، وليس يعني إلا هذا، إنما يضع على الناس تبعة، هي أن ينفضوا أيديهم من الاعتقادات الجامدة في السياسة والأخلاق، وأن يخضعوا أعز معتقداتهم للاختبار العملي الذي يجعل النتائج مقياس الحق، وأن هذا التغيير في وجهة النظر ليتضمن تغييرا في مركز السلطة وفي وسائل اتخاذ القرارات في حياة المجتمع.»
وفي هذه النقطة الأخيرة تتبين إحدى أوجه الاختلاف بين «ديوي» و«جيمس» كما يتبين الاتفاق بينه وبين «بيرس»، فهم جميعا متفقون على أن النتائج الناجحة الموفقة هي ما نعنيه بصفة «الحق» أو «الصدق» أو «الصواب» التي نصف بها فكرة معينة، لكن «جيمس» يجعل نجاح النتائج مرهونا بالفرد الواحد، وإن يكن يفضل أن يكون ما يرضي الفرد الواحد مرضيا في الوقت نفسه للناس جميعا، لكن الأساس هو أن تصادف الفكرة في نفس صاحبها رضا من حيث نتائجها في حياته العملية؛ ومن ثم كان رأيه الخاص بصواب عبارة مثل «الله موجود»؛ لأن الفرد المعتقد في صوابها ستتغير وجهة نظره إلى الحياة وطريقة سلوكه، ومن هنا يكون صدقها له، مهما يكن أمرها عند سائر الناس، وأما «بيرس» و«ديوي» معا فيجعلان نجاح النتائج مرهونا «بالمجتمع»؛ أي مرهونا باتفاق الأفراد، فلا فرق عندهما بين المنهج العلمي عند مجموعة العلماء في المعمل، وبينه عند مجموعة الأفراد في المجتمع، حتى لقد كان المثل الأعلى عند «بيرس» هو أن يتكون في الحياة «مجتمع معملي» أي مجتمع كالذي ينشأ حين يجتمع العلماء على مشكلة معينة يتعاونون معا على حلها، فهل ينفرد العالم في معمله بالنتيجة التي ترضيه هو بغض النظر عن زملائه، أم يتحتم عليه أن يعرض نتيجة تجاربه على الزملاء العلماء ليقروه على نجاحها في حل المشكلة التي هي موضوع البحث؟ النجاح المقصود إذن عند «بيرس» وعند «ديوي» هو نجاح بالنسبة لمجموعة الأفراد.
21
وكما يختلف «ديوي» عن الفلسفات التقليدية في معنى «الحق» بأن جعله متغيرا مع تغير الظروف العملية بعد أن كانت تلك الفلسفات تجعله ثابتا رغم تغير الظواهر، فكذلك يختلف عنها في حقيقة الطبيعة ذاتها؛ لأنها عنده متغيرة الحوادث، وكانت عندهم - أو عند أغلبهم - حقيقة ثابتة،
22
نامعلوم صفحہ