ثم هو، مثل روسو قبله، ومثل غاندي بعده، شعبي؛ أي مع عامة الشعب والفقراء والمسحوقين والمحرومين، ومن هنا دعوته إلى تبسيط اللغة الروسية، بل إن كراهيته لشكسبير تعزى إلى حد بعيد، إلى أن هذا الشاعر الإنجليزي يتعالى على الشعب ويسميه غوغاء لا يفهمون، وإلى أن معظم أبطاله ملوك وأمراء. بل إنه يسرف هنا حتى يقول إنه يفضل أغاني الشعب الروسي العامية على أشعار جوتيه شاعر ألمانيا العظيم، وأسلوبه لهذا السبب شعبي، هو حديث يكاد يكون عاميا، لا نجد فيه تلك الكلمة المضيئة أو العبارة المزوقة التي اعتدنا أن نجدها في كتب الأدب الأخرى، ولكنه في كل ما يكتب سيكلوجي عميق لا يعلو عليه هنا غير دستوفسكي الذي عرف سيكلوجية فرويد قبل فرويد. •••
وربما يكون من المنير هنا أن نقارن بين تولستوي ودستوفسكي، فإن كلاهما كاتب عظيم من كتاب القصة، بل لا نغالي إذا قلنا إنهما أعظم كاتبين للقصة في العالم كله، ومع ذلك أنا أوثر عليهما جوركي، ولكن ليس ذلك لأنه يعلو عليهما في فن القصة؛ وإنما لأني أجد فيه مزاجي ونزعتي واتجاهي في الثورة التي لا يرضى عنها تولستوي أو دستوفسكي المسيحيان.
وهناك فرق أصيل بين دستوفسكي وبين تولستوي، ذلك أن دستوفسكي يهدف إلى إيجاد أشخاص، بل أبطال، لكل منهم شخصيته الفذة التي يختلف بها عن سائر المجتمع، فهم فلاسفة أو مجرمون أو حتى مجانين، ولكنهم عباقرة، ولكن عبقريتهم في الإحساس أكثر مما هي في العقل. هم أذكياء في الإحساس فإن «رسكلنيوف» بطل «الجريمة والعقاب» وهي القصة التي كنت أول من حاول ترجمتها في عام 1912، هذا البطل يقتل امرأة عجوزا عن تعقل منطقي، ولكنه يعترف بعد ذلك بالجريمة، ويرضى بحكم الإعدام أو النفي المؤبد عن إحساس إنساني. ولهذا المؤلف أشخاص متدينون في قصته العظيمة «الإخوة كرامازوف» تتأمل دينهم العميق فتشك في إيمانهم: هل هم مسيحيون أم إنسانيون؟ وهل ينشرون النور أم الظلام؟ نحن نقرؤه ونحن نعاني لذة أليمة، وكأننا في قبضة محلل سيكلوجي نستجيب لأسئلته بومضات الذهن وارتجاف القلب.
جميع أبطال دستوفسكي شواذ، مرضى، ولكنهم عبقريون أذكياء. أما تولستوي فمن الشعب يكتب للشعب، رجاله عاديون، وهو يعبر عن أعمالهم وصفاتهم بلغة شعبية بعيدة عما يسميه الاحتيالات البلاغية. المثل الأعلى عند دستوفسكي هو الرجل الشاذ الذكي الذي يحس أكثر مما يتعقل.
والمثل الأعلى عند تولستوي هو الرجل العادي الذي لا يشذ عن المجتمع، ولكن هذا المجتمع يجب أن يكون ساذجا يحيا في الطبيعة والصلاح، هو الرجل الطيب في معنى الطبيعة الشعبية، بل أكاد أقول العامية. البطل عند دستوفسكي هو من ينفصل عن المجتمع، والبطل عند تولستوي هو من يندمج في المجتمع. وأحسن أشخاص القصص عند تولستوي هو «ليفين» صاحب الأرض في قصة «أنا كرنينا» وهو مزارع طيب يتسم بأفكار عرفية؛ أي اجتماعية، عن الحب والزواج والعائلة والصلاح، هو تولستوي نفسه وسائر المزارعين.
وأحسن الأشخاص عند دستوفسكي هو الطالب «رسكلنيكوف» القاتل الفاجر الذي يقتل العجوز كي يسرق أموالها؛ لأن حياتها «لا تزيد في القيمة على حياة برغوث» أليس هذا هو المنطق؟ منطق العقل وحده.
ولكن دستوفسكي يعود بعد ذلك فيشرح في أكثر من مائتي صفحة أن هذا المنطق خطأ.
وأبطال دستوفسكي يختلفون في معاني الحب من أشخاص تولستوي؛ البطل عند دستوفسكي يحب المرأة البغي، ويعبدها؛ لأنه يعبد آلامها وينغمس في دموعها، ويكرع تعاستها، وكأنه يبكي في هذا الحب تعاسة الناس وبغاء حياتهم وجوعهم، وهو يستنبط من هذا الحب المعاني الإنسانية التي تجعلك تسمو على نفسك.
أما أبطال تولستوي فيحبون هذا الحب الأفلاطوني الذي يتوهم الناس أنه الحب السطحي، مع أن أفلاطون قصد منه إلى الحب الشامل للإنسان والحيوان والنبات، والصدق والشرف، والحقيقة والفن والطبيعة، الحب عند تولستوي هو الحب للناس أولا، ثم بعد ذلك لهذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات، ولهذا السبب كان تولستوي يقيس كل شيء بقيمته للشعب، فالكتاب أو الصورة أو اللحن إنما هي جميعها وسائل لزيادة الاتحاد، بل الاندغام بين أفراد الشعب، وعنده أنا كلما اندغمنا في الشعب كنا أسعد، وكلما انفصلنا كنا أتعس، ومن هنا كراهيته لشكسبير الذي يكتب أحيانا في وقاحة، ويصف الشعب أنه غوغاء، وكذلك كراهته لجوتيه، حتى قال إن الأغاني الشعبية الروسية تحوي من الفن أكثر مما تحويه أشعاره. وكذلك احتقاره لما كان يسميه «الاحتيالات البلاغية»؛ لأن فنون البلاغة للخاصة وليست للشعب، ثم أخيرا نجده يحرث الأرض ويصنع الأحذية بيديه، إنه يريد أن يكون من الشعب ويؤدي الأعمال الشعبية، وهو هنا بالطبع مسرف. ولكن لهذا الموقف وجها يستحق أن نبحثه من ناحية المزاج النفسي والإحساس العاطفي، وليس من ناحية الارتقاء البشري والتقدم العلمي، بل إن لهذا الموقف مغزى لا يستهان به حين نتأمل خطط غاندي الشعبية في الهند والنتيجة التي انتهت إليها. •••
تغمر إحساسات الحب حياة تولستوي، الحب الأفلاطوني الذي يشمل الحياة والطبيعة: حب روسو. وأكبر الظن أن روسو هو الذي نبه ذهنه إلى الحب، أو هو الذي أيده وبعث فيه الاستطلاع والتعرف؛ ولذلك لا نستغرب من تولستوي أن يلتفت إلى معاني الحب التي دعا إليها الإنجيل، ولكن التفاته هذا أدى به إلى الاصطدام بالكنيسة. والواقع الذي يثبته تاريخ أوروبا أنه كلما اقتربنا من الإنجيل، وحاولنا أن نفهم تعاليمه منه مباشرة، ونقرؤه مثل أي كتاب آخر، كلما فعلنا ذلك، ابتعدنا عن الكنيسة، ونعني بالكنيسة هنا كهنتها، فإن لوثر، المصلح البروتستانتي، حين شرع يدرس الإنجيل مباشرة طردته الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك فعلت مع رينان، وكذلك فعلت الكنيسة الأرثوذكسية مع تولستوي.
نامعلوم صفحہ