ولكن أرميا كان يجهل أن كل من يطلب الإصلاح والتطور والارتقاء لن يمكنه أن يؤدي هذه الرسالة إلا بعد شقاق بينه وبين أهله. وهؤلاء الأهل، أو هذه الشعوب والمجتمعات، بعد أن تضرب النبي أو الفيلسوف والأديب، وتحبسه وقد تقتله، بعد ذلك تقيم له التمثال الذي يخلد صورته وتحتفل بذكراه وتدرس أقواله. وعظماء الأدباء في أيامنا هم الأنبياء، وهم الفلاسفة. •••
لما كان تولستوي في شبابه وجد نفسه نبيلا ممتازا على الشعب بالثروة والمقام، وله عبيد زراعيون يجري عليهم حكم الرق، فأعتق عبيده هؤلاء. ولكنه بعد ذلك وجد أن المباراة التجارية الجديدة، واستخدام رأس المال الوطني والأجنبي، وظهور طبقة جديدة من الأثرياء الذين يطلق عليهم اسم «بورجوازيين»؛ وجد أن المناخ الاقتصادي الاجتماعي الجديد، على ما يزينه من طلاء الحضارة والثقافة، هذا المناخ أسوأ من المناخ الزراعي القديم، فكره الحضارة الغربية العصرية ودعا دعوة الحياة الساذجة الفطرية، دعوى روسو قبل مائة سنة.
وهنا نحتاج إلى أن نتلبث قليلا ونبحث الموقف السيكلوجي، فإن جان جاك روسو حين خبر المظالم الملوكية والإقطاعية في فرنسا، وحين شاهد البذخ النجس في الطبقات البشرية إلى جنب الفقر الساحق المهين في عامة الشعب، حين رأى ذلك قال إن الحضارة كلها نجاسة يجب أن نتجنبها ونعيش في سذاجة، لا نشتري الذهب، ولا نبني القصور، ولا نأكل على الموائد المطهمة، ولا نقتني الحرير.
وكذلك تولستوي حين رأى غزو النزعات التجارية، والجشع؛ أي الاستكثار من الثراء بالمباراة القاتلة وسحق الفقراء من العمال، ثم ما ينبني على ذلك من مدن يحيا فيها الأثرياء مع التعطل والدعارة إلى جنب آلاف العمال الجائعين الذين يعيشون في البدرومات، حين رأى ذلك قال أيضا بأن حياة الريف خير من حياة المدن، وأن الصناعات الصغيرة في القرى خير من المصانع الكبيرة في المدن.
وقد تعلم هو صناعة الأحذية كي يحس راحة الضمير، وكان يحرث الأرض، وكان يقول إن المتمدنين الغربيين يلعبون الألعاب الرياضية؛ لأنهم لا يؤدون أعمالا مجهدة، ولو أنهم كانوا يعيشون مثل الفلاحين على الأرض لما احتاجوا إلى الرياضة البدنية.
ثم جاء غاندي فأحب تولستوي كما كان هذا يحب روسو، وأسس مزرعة باسم «مزرعة تولستوي» حين كان في أفريقيا الجنوبية يدرس مشروعاته في مقاومة الشر بالخير، وكان يعمل ويجرب في أساليب الحياة التي أصبحت مذهبا عاش به الهنود، فلبسوا الخيش وأكلوا الخضراوات، وصاروا يغزلون وينسجون كي يستغنوا عن الأقمشة الإنجليزية الواردة إليهم من إنجلترا. •••
أرجو ألا يفهم أحد أني أمدح هؤلاء الثلاثة على الخطط الأساسية التي زعموا أنها تصلح للحياة العالمية، وإنما وجدت أنه يجب كي نفهم تولستوي أن نذكر هذا الاتجاه الذي لم يخل منه عصر، ويكفي أن نقرأ قصة «نشيد الإنشاد» في التوراة كي نعرف أن هذا الاتجاه قديم؛ إذ إن هذا السفر لا يعدوا أن يكون دعوة إلى الطبيعة والسذاجة والقناعة ضد الحضارة، وفي قلب كل منا شيء يهفو إلى هذه الحياة، ونحن نزداد تفكيرا فيها عندما نجد أن مركبات الحياة المتمدنة قد استحالت إلى عقد يعسر علينا حلها، وأننا نقع في مضاعفات تقلقنا وتؤسينا وتمرضنا.
التفكير في العودة إلى الطبيعة، والتفكير في القناعة بحياة الريف، والتفكير في لبس الخيش وطعام النبات، كل هذا هروب من عقد الحضارة العصرية ومضاعفاتها والعجز عن حلها.
أما متى وجد الحل فإن أحدا لا يفكر كما فكر هؤلاء الأبطال الثلاثة. •••
تمتاز القصة الروسية على وجه عام بالواقعية، وهذا هو الأثر الذي تخلفه قراءة قصة روسية عند القارئ العربي الذي يعرف الآداب الروسية، وتولستوي واقعي يتعمق البواعث الخفية، ويكشف عنها في صراحة كثيرا ما فزعت منها الطبقات الحاكمة في روسيا. وهو في كل ما يكتب لا ينسى أن ينبه إلى أن الحضارة العصرية غير إنسانية، وأشخاص قصصه فضلاء مستقيمون إذا كانوا فلاحين ساذجين مثل «لفين» في قصة «أنا كارنينا»، وهم أرذال منحرفون إذا كانوا متدينين مثل «فردمنسكي» في هذه القصة نفسها، وهذا تحيز واضح له أصول في روسو معلمه الأول.
نامعلوم صفحہ