وما من شيء خبيث نعتده شرا إلا وفيه وجهة تخرج منه الخير، وهذه الجهة في الإلحاد هي الغرور والوهم، فلو أصبت إلحادا لا غرور فيه ولا وهم فاعلم أنك أصبت عقلا في مجنون أو جنونا في عاقل، وليس ذلك بدعا فإن في كل دائرة نقطة تعدها الغاية التي يرتقي إليها طرفا المحيط إذا نظرت إليهما صاعدين نحوها فإن نظرت إليهما منحدرين عنها كانت هذه النقطة عينها مبدأ السقوط ولم يكن ثمة فرق بين القوسين المنحدرين إلا في الجهة يمنة ويسرة، كما لا فرق بين عقل المجنون وجنون العاقل إلا في الجهة؛ لأن كليهما وبال على صاحبه، وأحمق ما يكون المجنون إذا رأيته يتعاقل!
يريد الملحد أن لا يقر بشيء يسمى فلسفة النفس أو يسمى دينا؛ لأن الحرفين مترادفان، ثم أنت تراه يخرج لك من رأيه ما يريد أن يجعله حقيقة لهذه الفلسفة التي أنكرها ... فهو يكفر بإيمانك ليجعلك تؤمن بكفره، وكأنه يقول لك إنما نحن على الأرض فانظر في الأرض واكسر هذا اللولب الذي تتحرك به عيناك إلى جهة السماء حتى يبقى علم رأسك فيما تحت قدميك، وإن سالت عليك السماء بعنصر الحياة (الماء) فلا تقل هذا من واهب الحياة ولا من رب السماء ومهلا قليلا، فإن الأرض ستجمعه في أنهارها وتنبطه من عيونها فتنبع لك الحياة من الأرض كما تنشق المادة من المادة. ثم يذوب هذا الكلام الرقيق في حلقه فيبلعه مع ريقه ويسكت ... وكأن بصره الزائغ يقول لك: أما الهواء فإن لم تستطع أن تتنفسه من الأرض ولم تستطع الأرض أن ترفعه لك من تحت قدميك فلا ندحة لك في هذا من أن تترك منخريك يعدان في المؤمنين برب السماء ... ويكونان فيك كما تكون الأعضاء الأثرية ولو حكما واعتبارا، وإن كان لك ضمير شريف طاهر كأنه مرآة إلهية وضعت في الأصل بين جنبي آدم لتمثل لروحه السماء وجمالها متى أخرج من الجنة، فاعتده رأس ما ورثت من داء عن آبائك الأولين؛ لأنه لا برهان عندهم على فساد الإيمان أقوى من هذا الضعف الرحيم في نزعة القلب. ولعمري إنه لبرهان سديد في الغاية ولا أبدع منه في علم المنطق لأن فيه قوة الانعكاس من نفسه، فلا يرسلونه حتى يرد عليهم كأنه جواب أنفسهم على اعتراض ألسنتهم؛ وأي برهان أقوى على فساد الإلحاد من إرادته أن يكون في الملحد عقل إنسان وقلب وحش؟
ثم كأنه يقول لك: إن العلم أثبت ونفى، وإن الدين نفى وأثبت فلا تمايل بينهما مترددا وخذ ودع ولكن من العلم وحده، فإن شيئا تفهمه خير من شيء لا تفهمه، وكل ما أبى العلم فلا ترضه لئلا ترمى بالجهل الاصطلاحي ... وإذا كنت فقيرا لا تملك الملايين وكنت اشتراكيا فلا تصدق أن أحدا يملكها، لأن الاشتراكية تأبى ذلك، وكن دائما تنظر ولا تصدق ... وإذا رأيت الإنسان لا يزال عاجزا إلى اليوم عن تعليل أشياء كثيرة من البسائط التي تمتحن بها الطبيعة أطفالها ممن نسميهم العلماء، فاعلم أن هذا الإنسان لا يزال ناقصا في رأي العلم وسيتم يوما ما، فحسبك أن تكفر الآن كفرا ناقصا ... وإياك من الغرور وأن تحسب أن نقص الكفر جاء من كون الإيمان كاملا بطبيعته؛ لأنه شيء أزلي في النفس، بل هو جاء من نقص العلم أو من نقص الإنسان العالم، فمتى تم هذا يتم ذلك لا محالة فيكون أكبر عالم في الأرض أكبر كافر في الأرض ... ونحن لا نعرف من أمر المستقبل شيئا ولكننا نعرف أن العلم سيبلغ تمامه في المستقبل ...
لله منك أيتها الفئة الباغية! العلم الذي لا يخلق ذبابة ولا أحقر من ذبابة ولكنه يجدها فيتفلسف ويقول لنا: كيف خلقت؟ هو الذي يريدكم على أن تكذبوا بالخالق.
والعلم الذي ينتهي في كل شيء إلى حد من الجهل يريد أن يجعل جهلكم علما.
بل العلم الذي هو بجملته تفسير علمي لنظام الكون يريد أن يجعل القلب الذي هو سر الإنسان بلا نظام.
كلا إن العلم لا يريد ذلك ولا العلماء أرادوه، ولكن قوما أرادوا أن يشاركوا الله في أنفسهم فعملوا على أن يضعفوا قلوبهم لتقوى عقولهم، وحسبوا أنهم أفلحوا وما دروا أن القوة انصرفت عن القلب والعقل معا وصارت قوة علمية كالقوة التي في كتب المنطق لا تقوم لأضعف ما في الباطل وهي أسطر وحروف ولا يقوم لها أقوى ما في الحق وهي أغراض وأهواء، فما يزال الباطل لها وعليها.
وقد زعموا أنهم أنشطوا الفكر من عقاله فكان من ذلك ما انتهوا إليه، وكأنهم يقولون: الدين الفلسفي هو في الحقيقة الرجل الحر فما بالهم إذن ينسون أن هذه الكلمة عينها تخرج لهم لو عقلوا أن الحرية هي في الحقيقة فلسفة الدين؟
إن المتوحشين يقرون بإله ولكنهم يعملون على أن يكونوا آلهته كما أنه إلههم، ويحاولون في كل شيء أن يتعبدوه بما يخيل لهم أنه من السحر؛ والملحدون لا يبتغون ذلك فحسب
1
نامعلوم صفحہ