وكأن تلك المليحة أغارتك أيها القمر، فأنت الآن تبتسم. لله منكما يا صورتي الجمال في الأرض والسماء! وهل جعل الله لرجل من قلبين في جوفه؟
ولله ما ألطف هذا الشعاع الذي يسيل الآن على الجو رقيقا خضرا كأنما تغتسل به نسمة من النسمات العطرة بعد أن استيقظت في هذا الليل ونهضت من فراشها على أغصان الورد!
ولله ما أنداه على كبدي الحري التي تغيب الشمس ويبقى فيها مع ذلك لفحة من حرها ومن حر أنفاس الذين تشرق عليهم، فإن هذه الكبد أمسكت في جنبي كأنها «معمل كيماوي» لتحليل تلك الأنفاس وتقدير ما فيها من الخير والشر، وما الحكمة كلها إلا ما أسفر عنه هذا التحليل.
فمن لم يدرس طبائع القلوب المتوهجة في أنفاس أهلها لا يعلم قلبه شيئا وإن كان رأسه مكتبة من العلوم، ومتى كان القلب جاهلا بقي الإنسان بعلومه كأنه قطعة في أداة هذه الطبيعة: كل شأنها أن تحرك بعضها وتتحرك ببعضها، وفقد السلطان الحقيقي على الطبيعة نفسها؛ لأن هذا السلطان لا يكون بالقوة التي هي غاية العلم، فالطبيعة على كل حالة أقوى، ولا يكون بالتسخير الذي هو غاية العمل، فالطبيعة حرة لا تذل، أبية لا تخضع، وإن ظهرت عليها الذلة والمسكنة فذلك في نظر الإنسان واعتداده ليس غير.
وإن الهواء لا يعجب من منطاد يعلو فيه - وإن كان غاية ما انتهى إليه إختراع الإنسان - إلا إذا عجب من كل ذبابة تطير والبحر تتمخر فيه الجواري المنشآت كالأعلام وتثبت عليه كالمدن وتمثل فيه الأرض المائية التي خلقت في أذهان الإنجليز. وإن صغرى أسماكه لتكون أصلب منها على مجالدته، وأقوى على مجاهدته، فما للإنسان يلوك بين ماضغيه هذه الألفاظ التي يحاول أن يشبع منها معدة الخلود في وهمه ولا تراه الطبيعة إلا من غذاء النسيان؟
السلطان الحقيقي على الطبيعة سلطان الروح؛ لأنها من الله وهذه الطبيعة أداة في يد الله، فليجعل الإنسان شفتيه مخزنا لغويا مملوءا بألفاظ العلوم؛ فإن الطبيعة لا تبالي بمدلول الحروف مهما حملها على ذلك باصطلاحه: ولكن ليجعل في قلبه علم الخير وإحالة الشر إلى الخير: فإن الطبيعة حينئذ لا يسعها إلا أن تخضع بإحساسها خضوع الإجلال لأستاذ تلامذتها وترفع إلى الله على يده تعازي المساكين كأنه الأمين على آمال القلوب، وتجعل الطبيعة هذه اليد نفسها كأنه شكر منها لله تعالى إذ أنجبت رجلا من رجالها في الأرض.
كم من عالم لا ترى الطبيعة اندفاع الكلام العلمي من شفتيه إلا كما يرى أحدنا اندفاع أسراب الخفافيش العمياء من جانبي المغارة وقد أبرزها على إشراق الضحى صبي من الصبيان! وسيكون أكثر هذه العلوم في معاملة الله كالثروة التي يمتلكها الفقير في حلم من أحلامه (الذهبية) فيستعبد بها من شاء من مخلوقات النوم ... ويمتلك ما شاء من زخارف الليل، حتى إذا جلا النور عينيه لم يستطع أن ينال بكل ذلك الغنى العريض كسرة من الخبز يتبلغ بها وقد بات طاويا؛ فإن الله لا يعامل إلا بالنية ولا يثبت في سجل الحسنات إلا الأرقام القلبية؛ فدع هذه المدينة وهذه العلوم تنزع ما في قلوب أهل الخير من الخير فإنك لن ترى على الأرض يومئذ من الناس إلا حيوانات عالمة تأكل حيوانات جاهلة: وهل تحسب قوة الحيوان المفترس بإزاء ضعف ما يفترسه إلا علما أو معنى كالعلم بإزاء جهل أو معنى كالجهل؟
ويومئذ لا تبصر الطبيعة بعينها الإلهية شيئا من الفرق بين أنفس الوحوش وأنيابها ومخالبها، وبين كتب العلماء وأيديهم وأقلامهم، تلك جميعها إنما تكون في الجهتين صماء لحرفة أدوات حيوانية هي حرفة العيش.
وأنت ترى الصورة الصغرى لهذا العالم الحيواني في جماعة الملحدين، فإن تلك الفلسفة وذلك العلم اللذين يزعمونهما ويتنبلون بهما في الناس إنما يدلان على أشياء كثيرة يتداخل بعضها في بعض كالمترادفات اللغوية، ثم تراها كلها قد صارت إلى معنى واحد يدل على الحقيقة التي هي أم هذا الباب - كما يقول النحاة - وهذا المعنى الذي لا ريب فيه هو انتزاع الخير من قلوبهم المتهكمة بالله.
ولست أصدق أن ملحدا يعمل لخير الناس ابتغاء الخير نفسه، فإن حدثوك بخبر من ذلك فاعلم إنما يريد به الرجل برهانا على صحة إلحاده الإنساني ... يخدع به من يقدم له الخير أو من يراه وهو يقدمه؛ فإنه لسخافته يكفر بالله ويريد أن يعمل بعض عمل الله!
نامعلوم صفحہ