الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل الأخير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل الأخير
حديث القمر
حديث القمر
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
غرض الكتاب
بقلم مصطفى صادق الرافعي
هذه مقالة صرفت فيها وجه الحديث إلى القمر وبعثت إلى الكون في أشعة الفجر كلماتها.
ولقد كان القمر بضيائه كأنه ينبوع يتفجر في نفسي، فكنت أشعر بمعاني هذا الحديث كما يشعر الظمآن للهف قد بلغ الري وتندى الماء كبده فأحس بروحه تتراجع كأنما تحدرها قطرات الماء.
ونشرت على خيوط القمر ليلا من ليالي الجمال دونه شباب الشاعر الغزل يمتد مع ألحاظ فاتنته الحسناء كلما استطار في آفاقه ابتسامها.
وكنت أرى الطبيعة وقد شفت لعيني كأنها أخرجت حقائقها لتغسلها من ظنون الناس وأوهامهم بهذا الضياء الساكن المرتعد كأنه عرق يرفض من جبين السماء وقد تخشعت من جلال الله وخشيته إذ يتجلى عليها، فما فرغت من تصوير الأثر الذي تركته تلك الرؤية في نفسي حتى رأيت هذه المقالة في يدي وكأني أحملها رسالة تعزية من الطبيعة إلى العالم.
كتبتها وأنا أرجو أن تكون الطبيعة قد أوحت إلي بقطعة من مناجاة الأنبياء التي كانت تستهل في سكون الليل فيعيها كأنه ذاكرة الدهر، وأن تكون قد بثت في ألفاظي صدى من تلك النغمات الأولى التي كان يتغنى بها أطفال الإنسانية فتخرج من أفواههم ممزوجة بحلاوة الإيمان الفطري، وتذهب في السماء متهادبة كأنها طائرة بروح من اطمئنان قلوبهم، وتسيل في ضوء الصباح وظل الشمس ونور القمر كأنها في جمال الطبيعة أفكار طيور مغردة تدور على ألسنتها ... ... وكتبتها وأنا آمل أن تكون الطبيعة قد ألقت في معانيها بذورا من عناصر التحول الأخلاقي تزكو في هذه القلوب الحيوانية التي لو نقلت إلى جوانح البهائم لعاشت بها ... وهذه النفوس التي تذل لأحقر من في الأرض ولا تثور إلا على السماء، وهذه العقول التي تحاول أن تكتب للروح تاريخا أرضيا يبتدي وينتهي في التراب فتكون الحقيقة الإلهية التي لا يدركها الإنسان بسبيل من الوهم الإنساني الذي لا يدرك الحقيقة ... ... وكتبتها وأنا أطمع أن تكون الطبيعة قد نفخت فيها نسمة الحياة للعواطف الميتة المدرجة في أكفان من الحوادث الدنيئة؛ فإن هموم العيش لا تميت من عواطف القلوب إلا تلك التي لا تعرف كيف تستمد الحياة من روح الطبيعة، وإنما يكون استمدادها من مادتها فتحيا بخبر وتموت بخبر، وقد تمضي كالوحش الذي يرميه الصائد ولا يصميه فينفر حاملا جنبه وفي جرحه الموت والحياة معا ... ... وكتبتها أتناول ألفاظها من تحت لساني وأكشف من قلبي معانيها وأنقض عليها ألوان الطبيعة التي تصور أحلام النفس وخيالاتها، وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصور الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده؛ لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس، وإحساس ينتهي إلى الذوق، وذوق يفيض الإحساس والإلهام على الكتابة جميعا فيترك فيها حياة كحياة الجمال، لا تداخل الروح حتى تستبد بها، ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فتكون له كأنها فكرة في ذاته.
وكل علوم البلاغة إنما تدور على شرح أمثلة بليغة وغير بليغة. فما من كاتب يحاول أن يستفيد تصوره من هذه العلوم على أن ينزلها في ذلك منزلة الأصول والضوابط إلا انتهى إلى ملكة علمية تتصل منه بعقل جامد كأنه غلاف لفظي نسجته القواعد والأمثال، فإلى أن يعقد الموت لسانه لا تكون قيمة عمره قد أربت في البلاغة على ثمن كتاب من كتب علوم البلاغة ... ولا غرو فإن من ضلال العقل أن يعمل المرء لمقدمات متسلسلة ينتج بعضها بعضا وليس لمجموعها نتيجة.
وحسب مثل هذا عقابا (بليغا) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعا فيها وهو موقن باليأس منها، وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه، حتى إن نفس الأثيم الذي أنسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه.
البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور، والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة؛ وهما صفتان من قوى الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة، وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقا، ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل.
فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصدر المريض، وثرد الخيال فذهب كخيال المجانين، وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ، فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الإنحلال بآفات الاجتماع وأمراضه، فيكون طابعها في اصطلاح مرضا من نفسها؛ ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا، فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة.
1
وما البليغ إلا ذلك الذي لا يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجعلها - في غير صورها، ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها، فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره؛ إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك، وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها؛ وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره، ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها.
فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات، وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخا صحيحا لأضعف طبائع الأمم.
وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها.
الفصل الأول
أيها القمر!
الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار - برشاش من النور الندي يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعبا وترحا، وهذه لعبا وفرحا والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب. ... والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي تملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى. بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلبا يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس، فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن، ثم قلبته متلهفة، ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر، بل جزء من الموسوعات الكبرى التي يدون فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدئوا لغاتهم جميعا بحرف «الألف» لا لأنه من أقصى الحلق ... بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم «آدم» ذلك العلم الأول في تاريخ الحب. ... والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد؛ وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل، ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة، ونظر الحزين في نفسه، والعاشق في قلبه؛ ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب، ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.
والآن وقد طلعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاما وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذا فيغيب، فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب، وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها. إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت. هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر، ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر، فإن الأرض لا تقدس البكاء، وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضا.
أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت. ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض؛ وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية، فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جاف كأنه مصنوع من جلود الكتب؛ وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه، وهي أطهر شيء وأصفاه؛ لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية من الحب الذي يقابل عنصر النار، ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء، ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.
ليس كل من عصر عينيه فقد بكى؛ إن البكاء لأشرف من ذلك، وكما يكون الضحك أحيانا حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت، كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى؛ لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحيانا تسمى حاسة الدموع.
وما إن لقيت باكيا إلا رأيت وجهه مقبلا علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعا، بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق، فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.
ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ، مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظا كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها، وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها، وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي، أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية، فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.
أريد أن أبكي بكائي الطبيعي أيها القمر، لأنه يخيل إلي أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي؛ وإني لا أكون في حاسة إلى البكاء إلى حين تكون هي في حاجة إلى الدموع، ولقد شعرت مرارا بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار، واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار؛ فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.
وما زلت حائرا في أمر مشتبه لا أصيب الوجه فيه، فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تنقض من بناء الحياة لينهد، أو هي تضاف إليه ليشتد: فإني أرى أقواما يحيون بالدموع وآخرين يموتون بها، ولعل عين الإنسان ملئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادق مستفيضة حول الروح فلا يقتحمها الفكر ولا يرى أبدا إلا ظاهرها، ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله، أولسنا نرى الذين يبكون كثيرا من الحكماء والجهال على السواء يؤملون أن يدركوا من أسرار الروح كثيرا إذ يرون تلك الخنادق قد أخذت تمج ما فيها فكأنهم بالماء قد غيض وكأنهم بالأمر قد قضي؟
ولكن الإنسان ليس إله نفسه؛ فهو يبكي صابرا ويصبر باكيا، ومتى انكشفت أرض الخنادق الروحية ظهرت فيها حفرة القبر، وكانت آخر دمعة تجف منها هي دمعة الموت.
بيد أن الحقائق التي تهيئ للبائسين ذلك الأمل بكثرة ما تفيض أعينهم من الدمع، هي في رأي الناس علم وفلسفة؛ لأن الجهل في الإنسان لا حد له، فكل ما ظفر به عده حدا علميا؛ أولا ترى أن أجمل ما في الديانات والشرائع قد تحول إلى حجارة البيع والصوامع والمساجد والأضرحة والحبوس وكثير من مثلها حتى صارت هذه الأبنية تفهم الناس من ضروب المعاني أكثر مما تفهمهم الكتب السماوية في الأرض، والأرضية في السماء؟
ما لي ولك أيها القمر لا أحب أن أفيض عليك دمعتي فقد ترى فيها أشعة كثيرة من ألوان الأسرار المختلفة، بل أنا أراها في قلبي وقد اشتمل بها الخيال الحزين، خيال هذا الأمل الذي يسميه الناس «الحب» وتسميه الطبيعة «الحياة المعذبة» لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا الحقيقة إلا بأوصافها، ولا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل، أما باطن الحقيقة الذي يحتوي السر المحزن فهذا يعرفه من يفهم لغة الطبيعة، وما لغتها إلا أفعالها.
وأنت فإذا أردت أن تدرس علم البلاغة من هذه اللغة الطبيعة فادرس المصائب والآلام والأحزان؛ إنها هي أقانيم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وإنك إن درستها وتدبرت شواهدها الصحيحة التي لم يصنعها رواتها ولم يجيئوا فيها بمنكر القول وزوره، أصبحت أفصح من ينطق عنها في هؤلاء البكم الذين يقرأ أحدهم صفحة الزهر بعينين في أنفه
1 ... ولا يستحي الغبي أن يقول لك إن في الزهرة معنى جميلا، كأن في أنفه عقلا من العقول العشرة ...!
فمن أحب ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال ملك يتمثل له في حلم من أحلام الجنة، ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية، وفي خديها توقد الفكر الإلهي العظيم، وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائما أن شمس روحه تكاد تمسي: ورآها في جملة الجمال تمثال الفن الإلهي الخالد الذي يدرس بالفكر والتأمل لا بالحس والتلمس، فأطاعها كأنها إرادته واستند إليها كأنها قوته، وعاش بها كأنها روحه - فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب ويفهم معناه السماوي، وهو الذي يقول لك صادقا مصدوقا. إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صلصلة الملك الذي يفجأ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة.
ليس كل ما يعجبك يرضيك، ولكن كل ما يرضيك يعجبك، فالجمال الوصفي الذي يقاس بالنظر ويخرج منه الفكر بنسبة هندسية، جمال صحيح وحري أن يكون معجبا؛ ولكنه على كل حال بناء جسمي كالقصر المشيد الذي يعجب الفقير المعدم فيتمناه، فإن هو صار له خاليا لم يرضه، لأنه لا يلتحف سقوفه المموهة، ولا يفترش أرضه الموطأة، ولا يلبس جدرانه الموشاة، ولا يقتات من هوائه الطلق؛ أما الجمال الذي يرضي فهو الذي يشف عن صورة روحك بغير ما يخيلها لك ماء الحياة العكر - هذا الذي لا يشف عن شيء ولا يزال يضطرب فيجعل شبحك في اختلاطه كأشباح البهائم يخلق كل منها خلقا جديدا كلما ضربت البهائم في الماء بأرجلها - فترى من ذلك الجمال كأن ملكا هبط عليك من السماء وفي يده مرآه فنظرت فإذا صورتك بعينها ولكنها في يد ملك.
وقليل أن يجد الناس مثالا من ذلك الجمال، فكثير منهم يجحدون ويرونه ضربا من الوصف الشعري الذي يظهر في خلقه وإبرازه مقدار ما في الشعراء من روح الله؛ وإنما يجحد مثال الجمال الكامل من لا يستطيع أن يكون مثال الحب الكامل، وإذا كانت المرآة قد علاها الصدأ فكيف يعلوها الوجه الجميل، وكيف تخلص إلى روحك من طين هذه الكأس الزجاجية (المرآة الصدئة) نشوة الجمال ولو سكبت فيها حور الجنة كل ما في خدودها؟
ولقد قيل: إن قوما من العرب ترحلوا عن بعض منازلهم فكان من أنسائهم
2
قطعة مرآة صقيلة كأنها وجه المليحة التي نسيتها، فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبح طلعة وجهامة منظر، حتى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتذت بها، فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسنائها، وما كادت تنظر فيها حتى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل؛ لأن الله رحيم، ومن رحمته أن لا تعرف الوحوش أنها وحوش، وأن لا تجد أسباب هذه المعرفة، فانقبضت الضبع وزوت وجهها وقالت: من شر ما اطرحك أهلك أيتها المرآة ...!
فجمال هذه الضبع الذي جحدته المرآة كما يجحد الكافر رحمة الله وحسنها الذي أحالته المرآة قبحا كما يخيل الطبع اللئيم كل حسنة تتصل به إلى سيئة. هما أشبه شيء بالعقل والقلب في المحب الأخرق الذي يحب حواسه فتجوع روحه وتشبع وتعتل بالتخمة أيضا ... وكم في الناس من مثل هذه الضبع، وكم في الحسان من مثل تلك المرآة!
أحس وما أحسب الإحساس إلا نكتة صافية في القلب تقابل نكتة العين التي يكون بها البصر، فكل ما انطبع في هذه انطبع في تلك، لكي تكون الروح بين مرآتين فيسهل عليها أن تدرس الحقيقة بالمقابلة، فإذا نزل الشاعر الدقيق الحس بروضة غناء نضرة أحس بقلبه كأنما يخضر بعد يبس، وإذا أطل في الغدير الصافي أحس بمعنى الماء ينساب في عروقه، وإذا نظر إلى وجه الجميلة الحسناء فلماذا لا يحس أن قلبه امتلأ جمالا حتى كأنه لا يعشق منها إلا شيئا في نفسه؟
بلى وأكثر من ذلك، فإن الشاعر ليكتب عمن يحبها فيرى كأنه ينفخ في كل كلمة معنى من الحياة؛ لأنه لا يكتب كلاما بل يخط صورة قلبه؛ والعواطف الحية تبقى حية ولو كانت مرسومة؛ لأنها لا تجتمع في شكلها الذي تنتهي إليه إلا بعد أن تمر في أدوار الحياة فتألفها الأرواح وتصير كاللفظ المأنوس: ما هو إلا أن يذكر حتى ترى معناه للذهن ماثلا.
بلى ولقد يخيل إلي أيها القمر الجميل حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظي تطلع من المداد، فإذا قلت: «وجهها» فهل تظن هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمرا في الكلام؟ وإذا قلت: «ابتسامها» فهل ترى هذه الحروف التي تتنفس على القلب إلا أشعة الفجر الندي؟ وإذا قلت: «هي» فهل ترى إلا «ضمير» الطبيعة التي تأخذ عليها الإنسانية دينها؟
آه لو تعلم أيها القمر من «هي»!؟
الفصل الثاني
وآه إن في «ضمير الطبيعة» وفي المعنى المستتر في الهاء والياء لسرا من الحب تتجدد في الناس معانيه المعضلة كأن فيه حياة غريبة تغذوه بتلك المعاني، فهو في علم الروح كالروح نفسها في علم الإنسان.
وإذا تناولته نفس المحب وطفقت تعالجه رأيت المحب ذاهلا كأنه حي بلا نفس، وآنست من نظره عمقا بعيد الغور كأنه الطريق الذي مرت منه نفسه؛ فهل يمكن أن يكون في يقظة هذا الإنسان نوع من الحلم؟
لقد غفلت الآن عن نفسي هنيهة أو هي غفلت عني؛ فما نبهني إلا اضطراب ينتفض له قلبي كأن حواسي كلها نهضت تستقبل روحي وقد انقلبت من سفر طويل تحف بها الحاشية العريضة من الأفكار والآمال.
فتلقتهن وجعلت تطرف كل حاسة بتحفة نفيسة من هداياها وهن يتناهبنها، وأنا في ذلك كأنني مقسم إلى حزب أو مجتمع من حزب؛ وما لبث أن ردني إلى وحدتي النفسية حفيف كنجوى النسيم للزهر وليس بها، وكصوت القبلة المختلسة على حياء وليس بها: وكأنه آهة رقيقة انبعثت من شفتي حورية سماوية فأرسلتها الملائكة إلى الأرض؛ لأنها دار الفتنة فما زالت على وجهها تتصفح كل وردة وكل خد كأنه من الوردة وكل شفة كأنها من الخد، حتى رأت «ليلى» وهي تبتسم فاختبأت في شفتيها وما تشك من طيبهما أنها رجعت إلى صاحبتها في الجنة.
سرى هذا الحفيف قليلا قليلا فلا والله ما منه نشوة الخمر ولا نفثة السحر ولا رجفة الطرب، ثم سرى قليلا قليلا فما هو إلا أن أصاب قلبي حتى انتفضت كأن قبلة حارة انطبعت عليه ومسته بشفتيها الرقيقتين؛ فكانت هذه الطرفة هدية الروح إلى القلب.
وما أسرع ما اجتمعت أشتات الحياة التي توزعتها الآمال لتنغمس في بقايا تلك القبلة العذبة التي صبها الهوى على القلب صبا كما تتناول السعادة قلب طفل حزين فتغسله بابتسامة من أمه، وسرعان ما انتبهت بعد ذلك فإذا أنا مستيقظ أو كالمستيقظ!
لا أدري أيها القمر كم هي تلك الفترة من حساب الزمن؟ فإني لم أنظر في ساعتي، أو بالحري لم أنظر وجه التاريخ، فقد أبغض الساعة لأنها ميزان تبين مقدار السم البطيء الذي ينفثه في الحياة ذنب (عقربها) بتلك الحمة المسددة إلى الساعات والدقائق.
ودع الناس يزنون بها الحياة لا الموت، فإن كل شيء في يد الإنسان أصبح لا يخرج منها إلا بثمن ومقدار، ولو عد الله عليهم حب الغمام أو حب الأرض كما يعد بعضهم على بعض لهلكوا جميعا كما يهلك اليوم بعضهم بعضا، ولو تدبرت اختلاف أثمان الوقت في هذه الأجسام التي تشبه الحوانيت لتجارة الحياة لقضيت عجبا من الإنسان، فرب دقيقة واحدة من حياة رجل تبذل في ثمنها حياة بتمامها من رجل أو رجال.
ورب يوم يبيعه رجل
1
فلا يساوم عليه بأكثر من نظرة ازدراء، ويوم آخر تبذل فيه كل أزمنة التاريخ المجهولة وكثير من أيامه المعدودة ليملأ بعظمته ذاكرة الزمن الخالية.
ولي صديق فيلسوف يضحك عاليا ملء فمه حتى ليخيل إلي أنه ولد في يوم رعد قاصف. وذلك كلما حدث عن صاحب له واعده يوما أن يوافيه في ساعة معينة، ثم وافاه الفيلسوف وقد مرت الساعة ولحقت بها أختها، فقال صاحبه متململا: أوليس ...؟ فقطع عليه صاحبنا ما وراء السين وقال. دعني من اسم هذا الفعل الناقص وخبره، حينما يحرص الزمن على أن لا يخطئ في حسابنا نحرص على أن لا نخطئ في حسابه!
وأنا لا أقول بإغفال الوقت وإرساله كأنفاس المختنق: لا تذهب من الحياة ولكن تذهب بها، فإن هذا قد كان في عهد آبائنا وآباء التاريخ حين كان الليل ساعة فلكية للطبيعة وكانت النجوم أرقامها ثم كانت دقاتها صياح ديك عند جماعة ونهيق حمار عند آخرين.
وإنما أريد أن لا يحاسب أحدنا ربه بالدقيقة؛ فإذا سبب له من وقته طربا أو ساق إليه فرصة حظ من السعادة فليطرب ولينتهز من فوره ولساعته وليأخذ ما آتاه بقوة؛ فإن الدقيقة الواحدة التي يتفلسف فيها وقتئذ ربما كانت هي الطريق الذي تمر منه الفرصة إلى ما وراء الزمان فتلحق البعيد بالبعيد من الأبد حيث لا يتعلق بها شيء من أوهام ذلك الفيلسوف المفكر ولو خرجت روحه تشتد وراءها عدوا ...
فإذا اتفقت لي هنيهة كالتي انتهت الآن بهدية الروح إلى القلب فقلما يعنيني مقدارها، بل أنا أحسبها كما أشاء ولا أذكرها إلا ذكرة الهرم يوم ميلاده بعد أن أسند في حدود المائة، فاعتبر مقدارها بسنة وبمائة سنة، ما شئت من قليل وما شئت من كثير؛ لأنها أصبحت لي لا للتاريخ ولا للساعة. وقد تكون لي ذكرى الحياة كلها فلا أسلمها في يد الغيب إلا مع آخر نفس من أنفاسي. ومع ذلك فإني أحرص على أن أجعلها كأنها نفس من حياة الآخرة خرج في الحياة الدنيا فتظل روحي واقفة على الجسم لحظة وهي قد فارقته حتى يبرد أثر القبلة التي انطبعت على القلب ويبرد الموت على جنبي، وحينئذ لا يبقى لها في الجسم شيء من الحب ولا أثر زفرة من زفراته فتصعد متباطئة ...
لست أشك أن لليقظة أحلاما. وإلا فما شأن الذاكرة إذن، وهل هي إلا بيت الأحلام؟
ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا في أثناء الليل، فيموج بأهله حتى ما يرى العقل إلا أشباحا متفرقة كأنها ما صفح عنه البلى من سطور كتاب قديم.
ومن الذي ينكر أن استبداد الملوك الطغاة وما إليه من استرقاق الشعوب وتعبد الضعفاء وظلم المساكين إنما هي أحلام مزعجة من أحلام الإنسانية المستيقظة.
إنك لتشتري الذهب بالفضة، وتستبدل الفضة من الذهب، ولكن البيضاء ينبغي أن تكثر في حالتيها حتى تساوي في القيمة ما تشتريه بها أو ما تشتريها به من ذلك المعدن النفيس؛ فإذا نقصت شيئا قليلا ولو درهما بقي الذهب سيدا وذهب النقص بالتكافؤ بين الرتبتين.
انظر أترى ثمة شعبا مستعبدا يجتمع كما تتراكم الأنقاض ويتفرق كما تتبدد وليس منه في الاجتماع والتفرق إلا صورتان للخراب كالبومة والبومة في التشاؤم؟ إنك لتنظر الشعب الذي يحلم وهو مستيقظ؛ ألا تراه يعمل على السخرة ويطبع بالإرادة أو بالوهم الذي صار له كالإرادة، ويشك في أنه يخاف من المستبد أو يخاف من أن يشك فيه، ويرجو على قوته ما يرجوه الأجير أن يملك يده ساعة ليتناول بها لقيمات يقمن صلبه، وأن ينتهي عمل يومه ليوقن أنه إنسان كالناس له يد يملكها؟
هذا دأب الاستبداد ودأب الشعب الضعيف الذي ابتلي بالنقص عن مكافأة المستبد به ومساواته؛ وكثيرا ما لا يكون هذا النقص فيه إلا بمقدار درهم واحد من الفضة التي نزلت عن مقدار الذهب.
ولكن أين هذا الدرهم المتمم؟ درهم واحد من الشعب يكون الشعب كله ويجعله مالكا بعد أن كان مملوكا، وحاكما بعد أن كان محكوما، ويخرجه في التاريخ من رتبة إلى رتبة.
هذا الدرهم هو الذي يبقى في يد القدر حتى يجيء يوم الحساب الذي وعدت به الحرية المظلومة للانتصاف من ظالميها فيعطيه الله للشعب، ولا يكون إلا رجلا ولكنه رجل إلهي.
أفتدري من هو هذا الرجل الإلهي؟ هو الذي لا تعرفه الحياة ولا يعرفه الموت فلا يذل لأحدهما؛ تتبرج له الحياة فلا تغره، ويتجهم له الموت فلا يضره؛ ويبتلى بكل ما يسوء ويسر فلا يسوءه ولا يسره ...
هو رجل روحه في كفه - وهي العلامة الإلهية فيه - فما إن يزال يثب بها من كل قبر يحتفر له ولا يسقط أبدا. وكل رجل إلهي لا يخطو إلا فوق القبور؛ حتى إن تاج الملك لينكشف عن رأس صاحب الجلالة إذا رآه وهو يهوي إلى الأرض عساه يكون لتلك الأنفة قبرا ذهبيا: فإن هذا الرجل الحق لا يجيء إلا عندما تقضي السماء على الأرض بحكم من أحكامها، فيخلق الله بين جنبيه قلبا هو المعنى المتجسم من ذلك الحكم.
وتسبق مجيئه أعاصير ومحن تهب على الأرض فتقيم الدنيا قيامة لا لظلم الناس ولكن لتمهد طريق الإعصار الساكن الذي يولد هادئا منطويا على حقيقته انطواء القنبلة.
وإنه ليخيل إلي أن هذه الأعاصير لا ترسل على الأرض إلا لغرض واحد هو من أمر الله؛ وذلك أن تسفي من كل جهة في الأرض هبوة من التراب فتجمع منه ملائكة الغضب كل ذرة قد كتب لها في الأزل أن تكون في حفرة هذا البطل فينتزع قبره من الأرض، ويمين الله لو فتحت له القبور كلها لما سقط في واحد منها بل يظل يخوض الموت خوضا وكأنه يغسل رجليه في نبع بارد؛ ولو شبت حوله جوانب الأرض سعيرا يتلظى لما عدت أن تكون نارا ينضج بها غذاء تاريخه الشره.
فمتى نفذ حكم السماء وتمت كلمة ربك واستغفرت الأرض من سيئتها التي نزل بها العقاب لأجلها، أحس ذلك الرجل أنه إنسان وأنه بدأ يعرف الحياة واستشعر ظلا يمر على نفسه وهو لا يعرف أنه تراب قبره الذي يتساقط إلى الأرض شيئا فشيئا حتى يجتمع، ولا يكون إلا ريث يتهيأ منه مقدار يواريه حتى يعرف الموت إذ يغدو على الأرض يتفقد الحفر الخالية ويجمع منها الأوراق الذابلة التي نثرها القضاء من شجرة الأعمار.
هذا هو الرجل الإلهي الذي لا ينثني؛ لأنه الحق، ولا ينحرف؛ لأنه العدل، ولا يخاف؛ لأنه البأس، ولا يضعف؛ لأنه القوة، ولا يحيف؛ لأنه الإنصاف؛ ولو تعلق به أهل الأرض جميعا لمشى بهم مطمئنا؛ لأنه في نفسه كقطعة من نظام السماء الذي يجذب الأرض في فضائها.
وهذا هو الرجل الذي يتعرف به الناس معاني الاصطلاحات النفسية القوية، كالشهامة والنجدة والصدق والإخلاص والإيثار وما إليها من سائر المفردات التي يتألف منها معجم الفضيلة.
وهو في كل ذلك كأنه قاعدة من قواعد العلوم، تعطيك المثل الذي تريده لأنها هي ذلك المثل لا لأنها تعطي وتمنع.
فلو أريد ذلك الرجل على الخيانة واللؤم والجبن والتملق ونحوها مما يكون في المتشبهين به لزاد وفاء وكرما وإقداما وأنفة، كما يزيد طيب العود بإحراقه.
أرأيت إذن مقدار الدرهم الذي ينقص الشعب؟ إن أكبر رجال التاريخ لا يزن أكثر من درهم واحد في ميزان الله.
ومن نكد الدنيا أنك لا تزال ترى المصلحين حيث ترى نفسك لا تفقدهم في مكان، ثم لا يزيد الأمر معهم إلا فسادا؛ لأنهم مصلحون بالتشبه والتقليد أو بقوة الإرادة أو بإرادة القوة؛ وإن أحدهم ليريد أن يكون مصلحا فيكون، ثم يبتغي أن يعمل عمل المصلحين فلا يبرح يبحث عن الفساد حتى يجده أو يوجده، ثم لا يتخذ من الناس ما يتخذ الأطباء في تجاربهم من العقاقير، فيستحق طائفة ويمزج طائفة ويذيب طائفة؛ كل هذا والشعب يقيه بنفسه من التلوث بالقذر كالبذلة في نطاق المتبذل؛ وهو دائب على أمره حتى تسفر التجربة عن مزيج ينظر فيه فيعرف من النظرة الأولى أنه عرق الخيبة التي تفصدت به من طول ما أجهدها في عمله ...
خذ أحد القوانين مثلا واقرأه ثم تدبره ثم أرسله من يدك وأرسل ألفاظه من روحك، فإنها ستنقلب رجالا يتسللون، فأتبعهم قلبك وانظر أفعالهم وتغلغل ما استطعت في مكامن النيات وأبعد إلى مطارح الظنون وكن منهم فطنة وحذارا كأنك تستنبئ أخبار كل نفس من ملكيها، فإذا وعيت وتبينت واستبرأت كل ما تشك فيه إلى منقطع اليقين فامسخهم ألفاظا كما كانوا واجهد جهدك في فهمهم بعد، فإنك ستعجب من لغة قانونية وضعت لتفهم كما تثبت في أذهان واضعيها لا كما تتحول في أذهان الناس، وسترى ذلك القانون نفسه كأنه كتاب من كتب النحاة المتأخرين: قلما تعرض فيها قاعدة إلا كان أساسها «زيدا وعمرا وبكرا وخالدا ...» فيدخل هؤلاء المساكين من كل باب ليطبقوا على القاعدة لا لكي تطبق عليهم ... ولا يكون مأتى ذلك إلا من الفهم الميت في معاني الإصلاح، فإن المعاني نفسها تموت معه ويبقى كل لفظ كأنه قبر يتفاءل له بالرحمة وتجري عليه الدموع وتنشق المرارات وهو لا يجيب الناس على كل ذلك إلا بطلب ميت جديد.
لا مفر للخلق من العبودية، وأنى لهم المفر والسماء فوقهم والشرائع تحت السماء والقوانين تحت الشرائع والرذائل تحت القوانين والوحشية تحت الرذائل؟ فويل للمستضعفين الذين يفرون من كل فرجة بين المخالب والأنياب وفي أرجلهم القيود الثقيلة، وويل للإنسان الذي لا يكتفي بالله في سمائه حتى يستعبد لصفاته في أهل الأرض؛ فالجبروت في الملوك! والكبرياء في الحكام، والتقديس في القوانين عادلة وظالمة. والعزة في القوة وماذا بقي لله ويحك؟
أيها القمر الذي يشرق من بعيد كأنه وجه الحرية مهما بعد فآماله قريبة ساطعة على كل نفس حقيرة، إني أرى العبودية لله وحده؛ فإنما هي فكر الروح في مبدئها واتصالها به، وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده، وإنما هي فكر القلب في مرجعه واتصاله به؛ وكما يستبعد الأعمى لعكازته لأنه يرى فيها عنصرا من النظر، والشيخ الهرم لعصاه لأنه يرى فيها عنصرا من الشباب، والطفل الصغير للعبته لأنه يرى فيها عنصرا من العقل - كذلك يستبعد عاشق الجمال للجمال؛ لأنه يرى فيه لروحه وقلبه نظرا وشبابا وعقلا، فيبصر ويقوى ويعقل إذا عمي غيره وضعف وخرف؛ ويعلم حينئذ بنظرة الفكر القوية العاقلة أن العبودية للحب الصحيح هي مبدأ العبودية الصحيحة لله.
الفصل الثالث
ولعمري أيها القمر إني لأشكو إليك بثي وحزني، وأناجيك بأحلام النفس الإنسانية، وإنك لتجيبني الجواب الصامت البليغ فتطرح أشعتك في قلبي آخذ من بعضها قولا وأرجع إليك بعضها قولا، كالعاشق يرى في ألحاظ حبيبته بالنظرة الواحدة ما في نفسه وما في نفسها.
ولقد أرى لك في جانب من قلبي شعاعا غريبا قد استبهم علي فلست أعلمه، وكأنه ينبعث من أبعد سمت في السماء إلى أعمق غور في القلب، وإنما انحدر في أشعتك ليمتزج بشيء من الغزل يستأذن به على هذا القلب الذي فيه من الحب أكثر مما فيك من الجمال.
وما أدري ما أمر ذلك الشعاع؛ غير أني أحس أنه ينير في حلك الظلمة الخالدة التي فصلت بيني وبين أيام ولدت فيها الدنيا معي، فأراه يقابل نفسي بمعان رقيقة كأنها أرواح تلك الأيام الماضية، كأنه اتسق أسطرا نورانية أقرأ بها فصلا من تاريخ الطفولة الذي تضحك كلماته لأنه من لغة الضحك.
تلك اللغة الخاصة بالأطفال والتي يضحك منها الرجال أحيانا إذا استمعوا لها لأن في أنفسهم بقية من أثرها.
تلك اللغة الموسيقية التي تفيض ألحانا حتى في الحزن، والتي توقع أنغامها على كل شيء تصادفه كأن كل شيء ينقلب في يد الطفل أوتارا مرنة ولو كان العصا التي يضرب بها ...
بل تلك اللغة التي يوفق بعض القلوب السعيدة إلى الاحتفاظ بشيء منها على الكبر فتكون فيه ينبوعا للفلسفة الحقيقة يشرب منه الحب الظمآن، وتستروح إليه الحياة المجهودة التي ما تكاد تتنفس، وتبترد عنده الأحزان الملتهبة، وتصغر لديه كل المصائب فتخرج عن طبيعتها إلى طبيعته حتى لا يستحيل بها دموعا حارة؛ وهو في الإنسان بقية الري من ماء الجنة قبل أن يخرج منها ويوم كان لا يظمأ فيها ولا يضحى.
ولشد ما اجتهد العلماء والفلاسفة في تعريف السعادة، ولكنهم عرفوها بتنكيرها، إذ ألبسوها ألفاظا من لغة البؤس كانت لها كثياب الحداد التي هي أكفان الحي المتصل بالموت، أو الميت الذي لم يمت؛ فإذا أردت السعادة من تعريفاتهم وابتغيتها من أوصافهم فإنك تكون سعيدا جدا بل أسعد الناس كافة؛ لأن كل واحد منهم يتوهمك سعيدا متى لبست تعريفه، فتسعد بعشرين أو ثلاثين سعادة متباينة، ولا ضير أن تبقى بإزاء كل هذا النعيم بائسا في يقينك الذي لا دليل عليه إلا ما تحس به أنت، وما يقينك هذا أيها الأحمق بجانب ثلاثين ظنا من ظنون الفلاسفة!
إنهم لا يعتدونك شقيا البتة حتى تشقى بثلاثين نوعا من البؤس كما سعدت بثلاثين نوعا من السعادة ...!
كلمتان هما تعريف السعادة التي ضل فيها ضلال الفلاسفة والعلماء، وهما من لغة السعادة نفسها؛ لأن لغتها سلسة قليلة المقاطع كلغة الأطفال التي ينطوي الحرف الواحد منها على شعور النفس كلها. أتدري ما هما؟ أفتدري ما السعادة طفولة القلب!
ذاك أيها القمر وإني لأحس كذلك أن قلبي يطرح على ساحل أشعتك بقايا ما فيه من الآمال المحطمة التي طال مثواها في لجج الهم، كبقايا الغرقى في أعماق اليم؛ وليت شعري ما عسى أن تجدي هذه البقايا؟ إنها أثر من رجاء ماض في زمن وقع وانقطع، أو كلمة طيبة قد مات أهلها، أو شعاع ابتسامة أخلدها الحب في قلبي؛ لأنها روح شبابي والأرواح خالدة، أو معنى حزين تعشقه الدموع فلا تزال تنازع إليه، أو قطعة مثلمة من الذكرى تمر الأحزان من صدوعها أو آمال في المستقبل البعيد كأنها أحلام يعد بها النائم نفسه قبل أن ينام ... ويكسوها الهم البليغ ثوب الاستعارة فيتخيلها ابتسامات من السعادة كما يرى المدمن في عناقيد الكرم سحابة من الخمر، أو بقية من حياة معذبة، يقول فلاسفة البؤس: إن القدر أبقى عليها؛ لأنها من حصة القضاء، ويقول حكماء الإيمان: إنها بقية معلومة لغاية مجهولة متى انتهينا في طريق العذاب إليها «أي الغاية» رأينا ثمة عناية الله!
فدعني أيها القمر أحمل بقايا عمري: إني كلما قطعت مرحلة في سبيل الحياة وضعت عندها أحمالي وعدت أدراجي لأجمع ما يكون قد تناثر مني، فأقطع كل مرحلة ثلاث مرات؛ أما إحداها فأكون فيها كالشيخ الفاني يدلف مثقلا بأيامه، وأما الثانية فأمضي فيها خفيفا لا أحمل إلا النوم في أجفاني، وأما الأخرى فأعود منها بأثارة من الأحلام تخف على نفسي لولا ما يخالطها من ثقل الفكر في قطع مرحلة النهار الجديد.
ولو كنت من السعداء لسخر لي القدر من يحمل عني، بل لكان ظلي نفسه حمالا ... وإذا أردت أن ترى قوما يرثون من لم يلدهم ولم يكن من ذوي قرباهم ولم يمت إليهم بسبب واصل فانظر إلى البائسين؛ فإن كل منهم يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله. وليس أخف من أحمال البؤس وحده؛ إذ هي لا تعدو الجوع الذي تكسر شرته بكسرة من الخبز، والتعب الذي يذوب في غمضة العين ساعة النوم، وما عدا ذلك؛ مما يحمله البائسون فإنما هو من أثقال السعداء؛ لأنه لا بد من ظهور للحمل ... فمن يحمل الأمراض التي لا قوام للعالم إلا بها مدة صحة السعداء؟ ومن يحمل الهموم مدة نعيمهم واغترارهم ومن يحمل الدموع مدة ضحكهم وافترارهم؟ ومن ومن ومن إلا هذا البائس الذي تصيبه دائما واقفا في طريق الأقدار لأنه برقة قلبه وسذاجة روحه يكون دائما أقرب الناس إلى السماء!
أما أولئك الذين يغيبون في ظلمات العالم كما يبتهج السمك كلما غاص في ظلمات الماء، فكثيرا ما تتعاون الأقدار وتتظاهر لجر واحد منهم حتى تكون عليه كخيوط الشبكة وهو مع ذلك يجاهدها ليفلت، فترى شبكة هذا الحوت الذهبي وقد علقت بها الأيدي يقرض فيها الأصدقاء من جهة والأطباء من جهة، وغيرهم من جهة، وبالجملة فإن ماله يستحيل إلى مقاريض تأخذ شبكة الأقدار من كل جهاته.
فإن كانت القاضية فكثيرا ما يموت هذا السعيد وهو يجذب الأقدار أو هي تجذبه، كأنه يريد أن يكون موتا للموت، ويصدف وجهه مرة ويشيح به مرة كأن الأرض ذابت أو تخلخلت فأصبحت لا تقوى أن تحمله فضلا عن أن تمسكه، وكأن الجهات الأربع انزوت عنه فلا يرى إلا جهة السماء، ثم يحتضر والحياة أمر ما وجدها، وكل نفس في فمه كأنه قبلة مرة تقطر من فم الرذيلة الشوهاء، ويكشف عنه غطاؤه فيرى ماضيه بعين صافية تكاد نظراتها تكون عقولا مفكرة، فلا تنفذ إحداها إلى أمر من أموره أو فعله من فعلاته إلا أبانت عن نفسها وكانت كأنها تشهد عليه، فمن حيثما التفت لا يرى إلا وجوه الأدلة، ومن حيثما أصغى لا يسمع إلا إقرارها، ويدركه الموت فيقول إني تبت الآن ... كلا إنها كلمة هو قائلها، وإنها لا تغني عنه من الله من شيء، وإنه ليقبل بها على الله وهي في فمه كالفضيحة أو أشد خزيا، ثم يموت وقد جهد بالموت وجهد الموت به، فيصعدان وكلاهما متباطئ والموت ما يكاد يحمله ويحمل نفسه، لا كما يموت الفقير خفيفا هادئا كأنه طائر بسط جناحه وطار، ولا كما يصعد خفيفا هادئا كأنه معنى جميل تذهب به رسالة معطرة.
وأكبر ظني أن بعض الأغنياء يموت في الأرض وينتهي إلى السماء ميتا ولا يحيا هناك إلا بعلاج ... يدفع ثمنه ببدنه الذي لا يملك في الآخرة غيره، كما يدفع السجين المفلس للحكومة أجر ما يأكله في سجنها من أعماله.
وما كتب الملائكة قط صحيفة هي أشام طائرا في السماء من صحيفة غني حين يحتضر، وهذه الصحيفة التي تطير بمعانيها هي التي تنطبع فيها ظنون النفس الراحلة سطورا كأنها «فنغراف» الموت، وأحسب أن السطر الأول من «الظنون الغنية» يكون جبنا شديدا، ويكون السطر الثاني خلاء لأنه موضع رعدة فلا تثبت فيه يد الملك، ويكون الثالث ندما، والرابع مجازفة، والخامس رجاء مستحيلا، والسادس أملا مضحكا، والسابع كلمات ركيكة من الإيمان الضئيل، والثامن حروف خيالات من الماضي الأثيم كأنها مقبلة بمخازيها؛ أما ما بقي مما يوفى على التتمة فإلى الله أمره وفي الثمانية ما إن قليله أهل لأن يستعظم فيستعاذ بالله منه: وما كل الأغنياء يلقون ربهم بمثل هذه الصحيفة السوداء، إن أريد إلا الغنى الذي يعيش فقيرا ليموت غنيا، فترى أمواله أرقاما لا عداد لها تملأ السفاتج «الحوالات» والدفاتر والدواوين وليس فيها رقم مؤمن تثبته الملائكة في صحيفة الحسنات ليخرج من حساب الناس إلى حساب الله!
وليت شعري ماذا يريد هذا الغني الاصطلاحي؟ أيريد أن يشتري الأرض أم أهلها؟ وهل يظن أنه يوم يشتري الأرض لا يشتري فيها قبره، ويوم يسترق الناس لا يشتري بماله من يلعنه؟ وإذا دفن تاريخ امرئ فإنما تفتح له لعنة بغيضة من لعنات الناس، ويهال عليه ألفاظ بغيضة من الاحتقار فيثوى من ذلك في قبر أبدي.
المال الكثير حاجات كثيرة، وحاجات هذا الإنسان الضعيف معدودة محدودة، ومهما حاول وزاول فإنه لن يعدو حده الطبيعي؛ إذ قد عرفت الطبيعة غروره وطماحه فجعلت له من المعدة قيدا في باطنه ووضعت عليه من القلب قفلا صغيرا، بيد أنه متين لا يقتحمه إلا الموت، فليفعل الأغنياء ما شاءوا فإنهم لا يزالون من الطبيعة حيث هم بجانب الفقراء والمساكين ههنا وههنا. والحقيقة محدودة دائما بذاتها، ولكن الوهم قبحه الله؛ هل رأيت رجلا ينظر بعيني رأسه إلى شرف مرتفع فيلمح فيه رأس رجل قد أطل ثم يحسب ضلة أن هذا الرأس قد انخلع من مغرز العنق فارتفع حيث يلوح وترك جثته متخلفة على الأرض؟
إنك لا تجد هذا الرجل ولا بين المجانين، ولكنك تجد عالما بين الفقراء كله ذلك الرجل متى التبس الأمر قليلا وصار الارتفاع في طبقات الغنى دون طبقات الهواء؛ لأن الفقير ينظر إلى الغني بإرادته لا بعينه، فإذا كانت إرادته في الغني لا حد لها فهو لا يرى حدا للغني بل قد يراه من الارتفاع والسمو في مكان لو قذفه منه بكلمة سخط لقتله ...!
وكذلك يلقى الغني عينيه حين ينظر إلى الفقير ولا يراه إلا بهواه ولذاته؛ فقل الآن في قصر كأنه من الدنيا صدفة تنفتح عن لؤلؤتها، قد بالغ صاحبه في زخرفة وأوسعه من شهوات نفسه وأقامه على الأرض كأنه ليس منها ثم يدخله ظامئا ظمأ الشباب وقد ملكته سورة العافية ويجول في أبهائه وحجراته متشاوسا ما يمسك عطفيه كبرا وخيلاء، وينتهي إلى أجمل موضع منه فإذا هو لا يرى ثمة إلا ثوبا أدكن مغبرا كأنه منسوج من أجنحة الذباب وقد بلي وتهتك واستوضحت في جوانبه رقع بادية من أضلاع فقير بائس قامت به رئتاه
1
فما ينفك يصب فمه دما وصديدا وهو مهزول يضطرب في ثوب أضيق من رئته وما يكاد يملؤه كأنه بقايا عظام الميت في كفنه القديم!
ولو عقل الفقير المسكين لعرف أنه مهما صغرت قطعة الزجاج الملونة فإنها تصبغ الفضاء الواسع كله بلونها في رأي العين، فالفقر هو الذي صبغ الغني بألوانه البهجة الرفافة لا الغني، ولو صح نظر الفقير لصحت قيمة الغني ولصار أمر هذا القياس إلى الحاجة التي لا بد منها لكليهما، وهما سواء فيها، يجدها الغني بلا كد فمتى تناولها أتعبته وملها، ويكدح لها الفقير فمتى تناولها أراحته ورضيها أكثرها وأقلها، وحين ينام كلاهما ويخرجان عما في أيديهما على قلته وكثرته وينطرحان على تراب الأبدية الذي يتساقط به الليل ويرتقبان جميعا من رحمة الله نهارا جديدا، فحينئذ لا يراهما الناظر إلا جثتين على صوغ واحد لا يعلم أيهما التي يمسكها الله وأيهما التي يرسلها فتستيقظ! وكأنهما على تلك الحال إنما افترفا طويلا بالفقر والغنى عن طاعة الله فتنافرا وتدابرا ثم التقيا لوجهه بغتة فخر كلاهما صعقا.
ليهنأ الفقير أنه الأساس القائم من الأحجار الصلبة في بناء هذا المجتمع وأن الترميم لا يتناول إلا ما فوقه، ولا تكون الصلابة بلا شيء فإنما يشتري الإنسان بفقره نعما كثيرة من الله، ولكن اللؤم يسول له أن يساوم الناس عليها فلا يجد من يشتري منه إلا قوته وعمله؛ لأن الأيدي التي خلقت لحمل الذهب لم تخلق لحمل العالم، فيبتئس هذا الفقير ويحسب أنه وحده البضاعة المزجاة التي لا تقوم في سوق الغنى بثمن إلا بضع رغفان من الخبز، فتجف أصول الدموع اللينة من عينيه ولا يبقى فيهما إلا اللحاظ الخشنة، وتصبحان في نظرهما إلى الفضائل كأنهما عينا بندقة الصائد يسددهما إلى الطيور الجميلة فلا تقذفان إلا بالموت، ويصبح هذا الفقير البائس وقد خلط فضائله الرثة من متاع بيته القذر، ولا يزال بنفسه يروضها ويسري عنها الخوف المطمئن الذي هو معنى الإيمان حتى تزول عنها كما يزول النهار فإذا هي حالكة عمياء، ويخرج التعس من الفقر كما خرج من الغنى!
ولا عجب أن يخرج بائس من الفقر؛ فإن وراء هذا الفقر منزلة أخرى لا ينحدر إليها إلا أتعس خلق الله وسبيلها من الفقر نفسه! تلك هي الجريمة!
ولا تحسبن الأغنياء المجرمين على غنى؛ فإن كل شيء يسرق حتى الغنى، وحتى اللص يسرق نفسه من يد الشرطي بعد أن يكون قد جمعها عليه، والفقير الذي يطمح إلى الغني كالغني الذي يطمح إلى ما هو أغنى: كلاهما فقر وكلاهما طريق إلى الجريمة!
ويحك لم تبتئس أيها الفقير؟ الغني يريد أن يجعل حظوظ الناس جميعا حظا واحدا ليخص نفسه بهذا الحظ ... وأنت تريد أن تختص بحظ الغني ... فماذا تركتما لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟
إن الله قد ائتمنك على أثمن الفضائل وأعزها من الصبر والقناعة وشرف الضمير، وأشرف بك على مصارع الأغنياء فرأيت كيف يخفق قلب أحدهم وهو يحسبه كرة الأرض زلزلت زلزالها، وكيف تطرف عينه وهو يتوهمها اللجة التي تبتلع كل ما في رأسه من الأحلام، وكيف يموت وهو يرى كل ما كان في يده كالظل على الماء لا يذوب ماء ولا يبقى ظلا، ويرى أنه كان يشتري المال الذي لا حد له بالعمر المحدود، فلما أفلس من هذا خسر الاثنين جميعا.
أفتحزن أيها الفقير على أنك تشتري بعمرك هناء القلب وعافية الجسم ومحبة الناس وثواب الله وابتسامة الموت؟
لا تتعجل القدر ولا تختط لله خطة المستقبل ولا تغذ النسيان بأفكارك حين تفكر في البعيد، فإنك في حاجة إليها؛ واعلم أن الآلة التي تدير هذا العالم إنما تدار من فوق حيث لا تصل إليها اليد التي تحاول أن توقفها أو تبطئ من حركتها أو تزيد فيها، يد المجنون الذي يصيد النجوم بالشبكة حين تنبعث أخيلتها في الماء الصافي ... وكن إنسانا لا أكثر، فإنك تحاول أن تصير إلها فتصير شيطانا، وأجعل من فقرك ومصائبك وأحزانك سمادا لهذه الزهرة الناضرة، زهرة الروح الحية، فإنها تغتذي بكل ذلك وتحيله إلى نضرة وجمال وعطر يتأرج؛ وأضيء نفسك، فإن حولك ضياء يغمرك من لدن تفتح عينيك إلى أن تنام؛ ولا تكن كالسفعة في وجه الشمس، ولا كالغبار في النسمات، ولا كالريح الخبيثة في أريج الأزهار، وإن عرض لك شر أو طمع أو شيطان فاجعل السماء بينك وبينه فإن في باطنك قطعة منها، وترفق بصبرك لا تجهده، وبدمعك لا تفنه، فإنهما الزاد والماء لمن يقطع هذه المفازة المهلكة من الدنيا سالما ولا يريد أن يأكل من جيفها أو يكون فيها جيفة تؤكل، ولا تراء الناس في شيء فإنك تفقد نفسك بينهم ولا تحصل عليهم إلا ظلالا وخيالات؛ ولعمري ماذا ينفعك أن تمشي وراء الملك لتقيس خطواته؟
إني لأرى قوما يعفون لحاهم ليجعلوا سبالها الطويلة حبالا تتعلق بها النفوس الساقطة إلى السماء، وآخرين يقيسون ما بين حيطان المساجد بجباههم فلا تجد موضع شبر إلا وقد سجدوا عليه لتصير هذه الجبهة الضيقة «ذراعا معماريا» ... في قسمة الجنة التي عرضها السموات والأرض ... اجترءوا على الله ليراهم الناس أقوياء فلا يجترئ عليهم أحد، ولا يبالون بأن الله «سيأخذهم» بذنوبهم ما دام ذلك لا يكون إلا بعد أن يأخذوا من الناس وهذه السين - سين التسويف - طويلة العمر جدا عند هذه الفئة وأمثالهم من الغافلين؛ فإن عمرها يبلغ ما بين الوهم والحقيقة، وما بين نعيم الدنيا وعقاب الآخرة.
فلا يهولنك أيها الفقير المسكين من أمر الأغنياء ولا تنزل نفسك بالمهانة دونهم وأنت أعظم أجرا؛ فإنك تفرض الله من نفسك وإن أفضلهم من أقرض ربه من دراهمه؛ وكن في الحياة السافلة ابن الموت، وإذا كنت شجاعا فلا تبال آخرة الحرب ما تكون؛ واعلم أن الفقر الذي يلتوي عن طريقه كالسيف القاطع؛ إذا لم يضرب به إلا صفحا فإنه ينكسر لا محالة ويكون حامله قد أهان أشرف ما فيه إذ نزل به دون (حده)، فلا تهن الفقر الشريف حتى ترد به على الله صالحا نقيا يوضح منك بكل ضاحكة،
2
وتمتزج بطهارته ابتسامات الملائكة التي هي ثمن دموعك، ويكون لك في الخلد فجرا أبديا كما يكون للمحبين نور القمر فجرا في أول الليل.
الفصل الرابع
آه عليك يا قمري الجميل وآه على هذا السحر السماوي لو يكون للجمال الأرضي شيء منه يتفادى به من لسان واش وعذول! إنك لتسكب الصمت والنوم والأحلام على الأرض في ضيائك ممزوجة بالأفكار الجميلة لرءوس الفلاسفة التي تشبه القلوب الهرمة، ولقلوب العشاق التي أعرف كل قلب منها كأنه عقل فيلسوف؛ فما تكاد تطلع وتعتلي الأفق حتى تراك الأرض كأنك على فم السماء إشارة لها بالسكوت فتسكت؛ وإن بقي فيها من يشرق النهار في عينيه كأنه مختبئ فيهما بحركته وضوضائه كجماعة محرزي المال من لصوص النهار وطالبي المال من لصوص الليل مثلا ... فإن الطبيعة تلقي عليه سكونا ينزل بالليل وظلمه شيئا فشيئا، فيبتدئ خفيفا كالنوم الذي يلاعب اليقظة في الأجفان يجري وراءها وتشتد وراءه وكلاهما يدخل الباب الذي خرج منه الآخر فلا نوم ولا يقظة، ثم يثقل كأنه النسيان يداعب الذاكرة الضعيفة ثم ينبسط ثم يستحكم فيجعل ذلك الهر الذي يشرق النهار من عينيه كأنه في عمل لفظ ركيك يضطرب في لسان محتبس
1
فلا تلفظه الأرض ولا تسمعه السماء.
أنت يا قمري الجميل راية السلام الإلهية البيضاء، لا ترفع للنهار حتى يغمد حسام الضياء في جفنه الأسود، وتسكن غمغمة الحرب التي يتقاتل أهلها على الحياة، وتنطبق أجفان الناس فكأن كل جفنين إنما يمثلان حياة امرئ زمت شفتيها كيلا تنزعج ملائكة السماء بهذه الأصوات الوحشية المنكرة التي تنبعث من فم النهار فتقبل على التسبيح لله، وتقبل الطيور وهي ملائكة الطبيعة على المناغاة، ويقبل العشاق وهم ملائكة الناس على الفكر والنجوى، ويقبل الشعراء من وراء أولئك جميعا فينظمون الشعر الإلهي الذي تمتزج فيه ألحان الملائكة بأنغام الطيور وآهات العشاق؛ فيمتلئ من أسرار الفكر والعاطفة والقلب ويخرج ويكاد يخلق منه العقل، وترى فيه الروح بابا من أبواب السماء كأنه الطهارة، وكنا من أكنان الطبيعة كأنه القناعة، ومنفذا من منافذ القلوب كأنه الحب فإذا هي بالسماء والأرض بين كلمات، وإذا كلمات تملأ بين السماء والأرض؛ ثم ترى الفكر الإنساني قد استحال إلى أمواج من الخيال يجري فيها القلب كأنه زورق من الزوارق فتثيب إليه وما هو إلا أن يحتويها حتى تتناول مجدافه البديع المصنوع من جوهر العواطف والذي لا يبرح ملتصقا به كأنه يد الحسناء على قلب عاشقها، ومن ثم يجري بها في بحر الجمال الذي تشبه السماء كلها موجة من أمواجه الأبدية الذي لا ساحل له إلا نور الفجر، والذي يخيل إلي أنك أنت أيها القمر جزيرة تلوح فيه على بعد.
لا كهذا الشعر البارد الثقيل الذي تفرغه ... أفواه بعض شعرائنا ... المشهورين
2 ... وكأن ألفاظه قضقضة الأسنان من شدة البرد، وكأن معانية العذبة ماء يستساغ على الريق، وإذا بلغت به الحماسة المنطقية ... رأيته فاترا كإنما يتثاءبون به، وإذا أراد أحدهم أن يضع روحه في بيت من الأبيات ولو انطرح بعده جثة باردة ... خرج هذا البيت رغم أنفك حارا كما شاء وانصرف عن أنفك وأنت تتنسم كأن ما فيه من الروح إنما خرج إليه من تحت إبطه ...
شعراء!! وشعراء الشرق!! نعم ونعيم عين: وعند الزنوج جماعة يحسنون الرقص على نقر الطبول هم شعراؤهم، بل شعراء العقول الذاهلة والأحلام الطائشة، بل شعراء الوحشية التي تكتب بأسنانها وأظافرها.
هذه الوجوه التي صلبت من التمرغ على الأعتاب، وهذه الأيدي التي ينكرها الله حين تمد ... وهذه الرءوس الفارغة إلا من جنون العظمة، وهذه القلوب التي تسع كل متماثلين إلا الإخلاص وحب الحقيقة، وهذه الأفواه التي تمج الماء في كل جهة، وهذه الألسنة المعقودة على بعض ألفاظ كما يعقد القروي الجلف تلك العقد الكثيرة في منديله على درهمين - هذه كلها، مجموعة ومتفرقة، مما يتنزه الشعر الإلهي أن يسف إليها؛ لأن أنفاس السماء لا تسقط هذا السقوط كله ولا يعذبها الله بأن تهب على الأرض لكنس غبارها.
لو عدا الشاعر الصحيح طور التكوين الشعري بصفاته لما كان منه إلا نبي. وإن تلك الأعضاء الشعرية التي يفيض الفكر عليها كلها لهي الأعضاء التي يتجسم بها مجد الأمة ليكون ملكا من ملوك التاريخ لا لصا من لصوصه تشهد معارف وجهه أنه منطلق من حبسه، فيتراءى عليه غبار الأعتاب كأنه بقية مما كان فيه من الظلمة وتراه لا يلوذ من خزيه إلا بزوايا التاريخ المجهولة ويود بجدع الأنف لو يمسخ حجرا من أحجارها التي كل عذرها في الخراب.
الشاعر الصحيح رجل الكمال السماوي؛ لأن الشعر إذا لم يكن مع الشرائع كان عليها، وفي ذلك فساد كبير؛ والشعراء أنفسهم: كالشرائع تكون لمن يشاء أن تكون له؛ وهم يحكمون النفوس بالحب، والشرائع تحكمها بالرهبة، ولولاهم ما أعطي الناس قوة فهم التعزية فلم يكن لهم أن يطمئنوا لدين من الأديان، وإنك لترى الشاعر يستل جمال هذه الطبيعة كلها من نفسه الكبيرة ليلقي على الناس محبة منها، كأن الطبيعة لا تجد طريقا إلى النفوس الضعيفة إلا بعد أن تصفى وتصفق في نفوس الشعراء فتخرج منها كما تنبعث المعاني الغزلية الكبيرة من عيني الحسناء الفاتنة ولكل معنى طابعه الخاص به في النفس مع أنها جميعا من مصدر واحد.
ما هذه العظائم الكبرى التي يمثل بها الزمن تاريخ العقل الإنساني إلا أفكار ولدت بديئا في قرائح الشعراء، ثم كفلتها الطبيعة تحملها في مهد من قلب امرأة جميلة، أو تمتهد لها في عقل رجل حكيم، أو فيما تختاره هي كائنا ما كان، حتى في الاستبداد والوحشية والحماقة والجنون وغيرها؛ لأن للطبيعة حكمتها التي لا يعرف كنهها الإنساني إلا باستقراء تاريخ الأشياء في أجيال وقرون قبل ذلك كثيرة، وهو نفسه بعض هذه الأشياء.
فالشاعر الزائف كالدينار الزائف: كلاهما لا يجوز على أحد إلا مع الغفلة؛ وكلاهما رذيلة في نفسه بالغش ومصيبة على غيره بالخسارة.
وإن الذباب ليقع على الزهر كما يقع النحل ليجني العسل، وإنه ليطن في الروض كما تغرد الطيور لترقيص قلوبها الصغيرة؛ ثم يطير عن الزهرة ذبابا كما وقع ويسكت ذبابا كما طن، وكيفما نظرت إليه لا تراه إلا ذبابا؛ ولكنه من الطير، ولكنهم من الشعراء!
حنانيك يا قمري الجميل ورحماك! امسح عن قلبي هذه الغيمة السوداء التي انتشرت من أجنحة الذباب، فقد رانت عليه وغشي ظلها على بصري حتى ما أراك على وسامتك وضيائك إلا كوجه من تلك الوجوه متى تصطبغ بكل لون إلا ما كان من الخلق الحسن فإنها تستمد من قلوب يكفي أحدها أن يكون طينه لخلق نوع من الإنسان بلا أخلاق!
حنانيك ورحماك! إن على قلبي غيمة كأنها من الكذب الذي لا صدق معه من القلب، والتملق الذي لا حياء فيه من النفس، والخيانة التي انعقد عليها الضمير فلا تحفظ غيب إنسان، والصلف الذي يشبه صلف المعتوه إذ يباح له أن يتجنى ولا يباح لك أن تعتب والظل الأخلاقي البارد الذي يحيط بأحدهم فيجعل مثواه كأنه مغارة تبعث عليك أنفاسها ثقيلة باردة في ظلمة وكبرياء كأنها خارجة من أعماق تاريخ الفراعنة.
وإني كما أغمض عيني حين يواجهني الإعصار الأحمق الذي ينفض بساط الأرض في وجوه السابلة - أراني منذ الساعة قد أغمضت عينا في قلبي تطلع على الحقيقة، فإني لم أكد أرفع كأس الحكمة المعسولة لأحتسيها ولم تكد تقارب شفتي حتى تهافت عليها ذباب تلك الأخلاق، فأحرزتها جانبا لتسكن نفسي بعد أن خبثت من منظر هذه الظلال السوداء التي هي أجسام نفسها وظلالها معا.
فاحمل إلي أيها القمر قطرة من ندى الروح الجميلة الذي ينسكب في أنفاس تلك الحبيبة وأرسلها إلى كأسي في قناة من أشعتك السحرية حتى تمتزج بالحكمة على شفتي فكأني أتناول هذه الحكمة من ثغرها البسام.
الفصل الخامس
يا لها لحظة جمدت على قلبها أيها القمر حتى كدت أحسب الزمن لا يجري، بل كدت أحسبني استحلت إلى قطعة ثابتة من الأبدية التي لا يدخلها شيء من الدنيا إلا ميتا حتى الزمن نفسه.
ولكن «ثغرها البسام» لم يدعني أموت في شعاعه الذي يتدفق بحياة حلوة لذيذة وبموت أحلى منها وألذ غير أنه لا يميت؛ لأن الحسن يبخل على الحب بمثل هذا الموت الهنيء.
ولو كانت روح كل محب لا تنتزع إلا بقبلة ولا تفيض إلا مع الابتسام ولا تجد قفل باب السماء إلا هذا الفم الوردي الرقيق، لتغير نظام القلب الإنساني، ولصارت كل نبضة من نبضاته كأنها خطوة واسعة في قطع المسافة بين الدنيا والآخرة؛ إذ يكون للحياة وقتئذ ما عهدناه من بغض الموت. ويكون للموت ما نعرفه من حب الحياة.
فلا يزال الحسن بخيلا؛ لأن الآخرة لا تزال بعيدة، ولا يبرح الحب عذابا؛ لأن الجمال لم يبرح في نظام الله مادة حب الحياة؛ ولو لم تكن في الأرض هذه الوجوه الجميلة لما صلحت الأرض للحياة العاقلة ولا نشأ فيها عقل واحد يستطيع أن يجد دليلا على وجود الله، فإن تلك الوجوه الفتانة - بما تحوي من المعاني التي تشبه في إقناعها للنفس من النظرة الأولى ما تحويه أقوى البراهين المنطقية - إنما هي في الحقيقة الصفحات الأولى من كتاب المنطق الإلهي؛ واعتبر ذلك بهؤلاء الملاحدة الذين ينكرون الخالق فإن أخبثهم إلحادا لا يكون إلا أشد الناس بغضا لطهارة الجمال.
لم يدعني ثغرها البسام أصعد إلى السماء في شعاعه؛ بل ألقى علي ابتسامة في نظرة ضاحكة تشابه الابتسام كأن إحداهما أخت الثانية؛ فما أحاطت بقلبي حتى رأيته يذوب فيها كما يذوب السحاب الغدق الأسحم فيصفو عن غمامة رقيقة بيضاء.
وكأن تلك المليحة أغارتك أيها القمر، فأنت الآن تبتسم. لله منكما يا صورتي الجمال في الأرض والسماء! وهل جعل الله لرجل من قلبين في جوفه؟
ولله ما ألطف هذا الشعاع الذي يسيل الآن على الجو رقيقا خضرا كأنما تغتسل به نسمة من النسمات العطرة بعد أن استيقظت في هذا الليل ونهضت من فراشها على أغصان الورد!
ولله ما أنداه على كبدي الحري التي تغيب الشمس ويبقى فيها مع ذلك لفحة من حرها ومن حر أنفاس الذين تشرق عليهم، فإن هذه الكبد أمسكت في جنبي كأنها «معمل كيماوي» لتحليل تلك الأنفاس وتقدير ما فيها من الخير والشر، وما الحكمة كلها إلا ما أسفر عنه هذا التحليل.
فمن لم يدرس طبائع القلوب المتوهجة في أنفاس أهلها لا يعلم قلبه شيئا وإن كان رأسه مكتبة من العلوم، ومتى كان القلب جاهلا بقي الإنسان بعلومه كأنه قطعة في أداة هذه الطبيعة: كل شأنها أن تحرك بعضها وتتحرك ببعضها، وفقد السلطان الحقيقي على الطبيعة نفسها؛ لأن هذا السلطان لا يكون بالقوة التي هي غاية العلم، فالطبيعة على كل حالة أقوى، ولا يكون بالتسخير الذي هو غاية العمل، فالطبيعة حرة لا تذل، أبية لا تخضع، وإن ظهرت عليها الذلة والمسكنة فذلك في نظر الإنسان واعتداده ليس غير.
وإن الهواء لا يعجب من منطاد يعلو فيه - وإن كان غاية ما انتهى إليه إختراع الإنسان - إلا إذا عجب من كل ذبابة تطير والبحر تتمخر فيه الجواري المنشآت كالأعلام وتثبت عليه كالمدن وتمثل فيه الأرض المائية التي خلقت في أذهان الإنجليز. وإن صغرى أسماكه لتكون أصلب منها على مجالدته، وأقوى على مجاهدته، فما للإنسان يلوك بين ماضغيه هذه الألفاظ التي يحاول أن يشبع منها معدة الخلود في وهمه ولا تراه الطبيعة إلا من غذاء النسيان؟
السلطان الحقيقي على الطبيعة سلطان الروح؛ لأنها من الله وهذه الطبيعة أداة في يد الله، فليجعل الإنسان شفتيه مخزنا لغويا مملوءا بألفاظ العلوم؛ فإن الطبيعة لا تبالي بمدلول الحروف مهما حملها على ذلك باصطلاحه: ولكن ليجعل في قلبه علم الخير وإحالة الشر إلى الخير: فإن الطبيعة حينئذ لا يسعها إلا أن تخضع بإحساسها خضوع الإجلال لأستاذ تلامذتها وترفع إلى الله على يده تعازي المساكين كأنه الأمين على آمال القلوب، وتجعل الطبيعة هذه اليد نفسها كأنه شكر منها لله تعالى إذ أنجبت رجلا من رجالها في الأرض.
كم من عالم لا ترى الطبيعة اندفاع الكلام العلمي من شفتيه إلا كما يرى أحدنا اندفاع أسراب الخفافيش العمياء من جانبي المغارة وقد أبرزها على إشراق الضحى صبي من الصبيان! وسيكون أكثر هذه العلوم في معاملة الله كالثروة التي يمتلكها الفقير في حلم من أحلامه (الذهبية) فيستعبد بها من شاء من مخلوقات النوم ... ويمتلك ما شاء من زخارف الليل، حتى إذا جلا النور عينيه لم يستطع أن ينال بكل ذلك الغنى العريض كسرة من الخبز يتبلغ بها وقد بات طاويا؛ فإن الله لا يعامل إلا بالنية ولا يثبت في سجل الحسنات إلا الأرقام القلبية؛ فدع هذه المدينة وهذه العلوم تنزع ما في قلوب أهل الخير من الخير فإنك لن ترى على الأرض يومئذ من الناس إلا حيوانات عالمة تأكل حيوانات جاهلة: وهل تحسب قوة الحيوان المفترس بإزاء ضعف ما يفترسه إلا علما أو معنى كالعلم بإزاء جهل أو معنى كالجهل؟
ويومئذ لا تبصر الطبيعة بعينها الإلهية شيئا من الفرق بين أنفس الوحوش وأنيابها ومخالبها، وبين كتب العلماء وأيديهم وأقلامهم، تلك جميعها إنما تكون في الجهتين صماء لحرفة أدوات حيوانية هي حرفة العيش.
وأنت ترى الصورة الصغرى لهذا العالم الحيواني في جماعة الملحدين، فإن تلك الفلسفة وذلك العلم اللذين يزعمونهما ويتنبلون بهما في الناس إنما يدلان على أشياء كثيرة يتداخل بعضها في بعض كالمترادفات اللغوية، ثم تراها كلها قد صارت إلى معنى واحد يدل على الحقيقة التي هي أم هذا الباب - كما يقول النحاة - وهذا المعنى الذي لا ريب فيه هو انتزاع الخير من قلوبهم المتهكمة بالله.
ولست أصدق أن ملحدا يعمل لخير الناس ابتغاء الخير نفسه، فإن حدثوك بخبر من ذلك فاعلم إنما يريد به الرجل برهانا على صحة إلحاده الإنساني ... يخدع به من يقدم له الخير أو من يراه وهو يقدمه؛ فإنه لسخافته يكفر بالله ويريد أن يعمل بعض عمل الله!
وما من شيء خبيث نعتده شرا إلا وفيه وجهة تخرج منه الخير، وهذه الجهة في الإلحاد هي الغرور والوهم، فلو أصبت إلحادا لا غرور فيه ولا وهم فاعلم أنك أصبت عقلا في مجنون أو جنونا في عاقل، وليس ذلك بدعا فإن في كل دائرة نقطة تعدها الغاية التي يرتقي إليها طرفا المحيط إذا نظرت إليهما صاعدين نحوها فإن نظرت إليهما منحدرين عنها كانت هذه النقطة عينها مبدأ السقوط ولم يكن ثمة فرق بين القوسين المنحدرين إلا في الجهة يمنة ويسرة، كما لا فرق بين عقل المجنون وجنون العاقل إلا في الجهة؛ لأن كليهما وبال على صاحبه، وأحمق ما يكون المجنون إذا رأيته يتعاقل!
يريد الملحد أن لا يقر بشيء يسمى فلسفة النفس أو يسمى دينا؛ لأن الحرفين مترادفان، ثم أنت تراه يخرج لك من رأيه ما يريد أن يجعله حقيقة لهذه الفلسفة التي أنكرها ... فهو يكفر بإيمانك ليجعلك تؤمن بكفره، وكأنه يقول لك إنما نحن على الأرض فانظر في الأرض واكسر هذا اللولب الذي تتحرك به عيناك إلى جهة السماء حتى يبقى علم رأسك فيما تحت قدميك، وإن سالت عليك السماء بعنصر الحياة (الماء) فلا تقل هذا من واهب الحياة ولا من رب السماء ومهلا قليلا، فإن الأرض ستجمعه في أنهارها وتنبطه من عيونها فتنبع لك الحياة من الأرض كما تنشق المادة من المادة. ثم يذوب هذا الكلام الرقيق في حلقه فيبلعه مع ريقه ويسكت ... وكأن بصره الزائغ يقول لك: أما الهواء فإن لم تستطع أن تتنفسه من الأرض ولم تستطع الأرض أن ترفعه لك من تحت قدميك فلا ندحة لك في هذا من أن تترك منخريك يعدان في المؤمنين برب السماء ... ويكونان فيك كما تكون الأعضاء الأثرية ولو حكما واعتبارا، وإن كان لك ضمير شريف طاهر كأنه مرآة إلهية وضعت في الأصل بين جنبي آدم لتمثل لروحه السماء وجمالها متى أخرج من الجنة، فاعتده رأس ما ورثت من داء عن آبائك الأولين؛ لأنه لا برهان عندهم على فساد الإيمان أقوى من هذا الضعف الرحيم في نزعة القلب. ولعمري إنه لبرهان سديد في الغاية ولا أبدع منه في علم المنطق لأن فيه قوة الانعكاس من نفسه، فلا يرسلونه حتى يرد عليهم كأنه جواب أنفسهم على اعتراض ألسنتهم؛ وأي برهان أقوى على فساد الإلحاد من إرادته أن يكون في الملحد عقل إنسان وقلب وحش؟
ثم كأنه يقول لك: إن العلم أثبت ونفى، وإن الدين نفى وأثبت فلا تمايل بينهما مترددا وخذ ودع ولكن من العلم وحده، فإن شيئا تفهمه خير من شيء لا تفهمه، وكل ما أبى العلم فلا ترضه لئلا ترمى بالجهل الاصطلاحي ... وإذا كنت فقيرا لا تملك الملايين وكنت اشتراكيا فلا تصدق أن أحدا يملكها، لأن الاشتراكية تأبى ذلك، وكن دائما تنظر ولا تصدق ... وإذا رأيت الإنسان لا يزال عاجزا إلى اليوم عن تعليل أشياء كثيرة من البسائط التي تمتحن بها الطبيعة أطفالها ممن نسميهم العلماء، فاعلم أن هذا الإنسان لا يزال ناقصا في رأي العلم وسيتم يوما ما، فحسبك أن تكفر الآن كفرا ناقصا ... وإياك من الغرور وأن تحسب أن نقص الكفر جاء من كون الإيمان كاملا بطبيعته؛ لأنه شيء أزلي في النفس، بل هو جاء من نقص العلم أو من نقص الإنسان العالم، فمتى تم هذا يتم ذلك لا محالة فيكون أكبر عالم في الأرض أكبر كافر في الأرض ... ونحن لا نعرف من أمر المستقبل شيئا ولكننا نعرف أن العلم سيبلغ تمامه في المستقبل ...
لله منك أيتها الفئة الباغية! العلم الذي لا يخلق ذبابة ولا أحقر من ذبابة ولكنه يجدها فيتفلسف ويقول لنا: كيف خلقت؟ هو الذي يريدكم على أن تكذبوا بالخالق.
والعلم الذي ينتهي في كل شيء إلى حد من الجهل يريد أن يجعل جهلكم علما.
بل العلم الذي هو بجملته تفسير علمي لنظام الكون يريد أن يجعل القلب الذي هو سر الإنسان بلا نظام.
كلا إن العلم لا يريد ذلك ولا العلماء أرادوه، ولكن قوما أرادوا أن يشاركوا الله في أنفسهم فعملوا على أن يضعفوا قلوبهم لتقوى عقولهم، وحسبوا أنهم أفلحوا وما دروا أن القوة انصرفت عن القلب والعقل معا وصارت قوة علمية كالقوة التي في كتب المنطق لا تقوم لأضعف ما في الباطل وهي أسطر وحروف ولا يقوم لها أقوى ما في الحق وهي أغراض وأهواء، فما يزال الباطل لها وعليها.
وقد زعموا أنهم أنشطوا الفكر من عقاله فكان من ذلك ما انتهوا إليه، وكأنهم يقولون: الدين الفلسفي هو في الحقيقة الرجل الحر فما بالهم إذن ينسون أن هذه الكلمة عينها تخرج لهم لو عقلوا أن الحرية هي في الحقيقة فلسفة الدين؟
إن المتوحشين يقرون بإله ولكنهم يعملون على أن يكونوا آلهته كما أنه إلههم، ويحاولون في كل شيء أن يتعبدوه بما يخيل لهم أنه من السحر؛ والملحدون لا يبتغون ذلك فحسب
1
ولكنهم يريدون أن يمحوه بتة؛ أفليس هذا منتهى التوحش في القياس؟
ليت القوم لم يكفروا بالنطق فيما لا يعرفون فقد كانوا يؤمنون بالصمت، وإن السكوت عن الخوض في أمر الغيب ليكاد يكون أفضل بحث فيه؛ على أننا نرى الكلام
2
أصل البلاء، فإن من أهل الأديان من هم شر عليها من الكافرين بها وسواء على الله أكان فاسد الفكر صاحب رأي في الدين أم صاحب رأي في الإلحاد.
ولو نظرت إلى فرق الجدليين المختلفة على كثرتها وتعدد مذاهبها لرأيت أن كل فرقة هي في الحقيقة عقل رجل ذكي - استهوى أصحاب فرقته - لا دين رجل عاقل؛ لأن الدين لا يتجزأ؛ إذ هو عبادة القلب - الذي لا يدل على وحدانية الله شيء مثله - لله الواحد الذي ليس كمثله شيء؛ ولكن العقل لا يترك هذا القلب لنفسه، بل يعده بما فيه من الحس والشعور كأنه رأس ماله في التجارة العلمية، وكثيرا ما يكون أمرهما كالتاجر الذي يخسر ماله ثم يعمد إلى ضبط حسابه بعد خسارته فلا يرد عليه الحساب شيئا إلا تفصيل ما خسره بما يشبه في التحسر واللهفة أن يكون خسارة ثانية!
الفرق بعيد بين أن تكون القوة آتية للقلب من العقل، وبين أن تكون آتية للعقل من القلب، فإن تسلط أحدهما على الآخر يضعف أكثر خواصه، فالعقل موضع الخطأ والصواب؛ لأنه آلتهما جميعا، وأظهر خواصه الشك؛ لأنه الخاصية التي يمكن في العقل أن توفق بين الخطأ والصواب قبل أن يتزايل إثناهما فيتباينا؛ وهذه الصناعة العقلية كثيرا ما يقتضى لها إيجاد المعضلات التي لا تحل كي تلقي للعقل شغلا طويلا ثم يحكم عليها آخر الأمر حكما منطقيا أنها لا تحل ... وكثيرا ما تطلب البرهان على شيء ما فإذا أصابته (أي: البرهان) جعلته شيئا آخر وطلبت عليه برهانا ... وهلم جرا حتى يقطع بها فتصل إلى ما لا برهان عليه.
والخطيئة إنما تكون في العقل بديا، فتخلق فكرا، ثم تنحدر مع القوة إلى القلب كأنها قوة له، ثم تقع وتتمثل وفيها سخط القلب ورضى العقل غالبا أو رضاهما معا في القليل النادر؛ وهذا السخط القلبي هو الذي يترك في الرأس أثرا من ذكراها، وهو الذي يسميه بعض الناس ندما، ويسميه بعضهم صوت الضمير.
ذلك أمر العقل، أما القلب فهو موضع الحقيقة السماوية التي تظهر بين الناس في هيئاتها فيسمونها المحبة، وبين الملائكة فيسمونها الإنسانية، وعند الله فيسميها الإيمان، وما كان في القلب غير ذلك فهو من تسلط العقل واستبداده.
وأنت لا ترى أسعد الناس وأهنأهم بسعادته إلا ذلك الذي يجمع قلبه وعقله أن لا يصدر أحدهما عن الآخر إلا راضيا مرضيا فترى في آثار عقله طهارة القلب وإيمانه، وفي آثار قلبه إجادة العقل وإحسانه: ولو كشف ذلك عن بواطن الأنبياء لتجلت لعينيك هذه الحقيقة ماثلة.
فمن ترى هذا الملحد الذي يحدس لك بعقله وكأنما يحرك يده بعينيك في شبر من الماء، ويحاول أن يوهمك أنه هز السماء وأنت ترى خيال السماء؟ ليخلق الناس إن استطاع بلا قلوب، فإنه سيجدهم لا محالة بلا إيمان؛ وإلا فليتركهم فإن في العالم غير صناعة العقل أشياء كثيرة، واليوم الذي يكون فيه كل الناس عقلاء في الرأي يكون كل الناس مجانين في الحقيقة.
ليس الفرق النظري بين المؤمن والملحد إلا في تسمية جهل العقل بما وراء الطبيعة، وكل ما تشعب من ذلك فإنما هو براهين علمية. على صحة تسمية هذا الجهل ...
أيها الملحدون: أنا لا أستطيع أن أتعزى بالعقل؛ لأنه هو الذي يجعل النازلة لا تقبل العزاء؛ بل المصيبة لا تكون مصيبة إلا حين تكون عقلية، فمتى وقعت مرت كأنها حادثة مألوفة تجيء بالنسيان أو يذهب بها النسيان.
وأنا لا أستطيع أن أعرف نفسي مركبة على هذا الوجه المعجز الدقيق ثم أتوهم أنها خارجة من عدم مطلق إلى عدم مطلق، فإن الذي يتصور الوجود الجاري على سنن ثابتة كأنه بين عدمين هو ذلك المجنون الذي يتوهم الشجرة مخلوقة في ظلها ويتصور ظلها قطعة باقية في النهار من ظلمة الليل الغابر.
وأنا لا أستطيع أن أقول عن نفسي: «أنا» لأحقق وجودها وهي بين ماضغي العدم يرددها حينا ثم لا شيء منها إلا توهم أنها غذاء ما لا يتغذى.
وأنا لا أستطيع أن أراني في وهمكم كأنني حلم عقلي تهجس به الفلسفة مع أن قلبي فيما أحس يقظة حياة مجسمة.
وأنا لا أستطيع أن أصدق أن حياتي كلها بما فيها من خير وشر لي وعلي تكون في مرد الأمر كالذي يرسل في الهواء صرخة مزعجة ليعرف بعدها أنه سكت وكان ساكتا قبل ذلك!
وأنا أيها الملحدون لا أستطيع أن أسخر من نفسي فأرى أن لا نفس لي، ولا أريد أن أكون في حملها كالأعمى الذي يحمل الكتاب حتى يجد بصيرا يقرأ له، ولا أجهل إلى الحد الذي يقر فيه علمكم أن الحياة معناها الموت - لأنه غايتها المدركة - ثم يأبى أن يطرد هذا التعبير فلا يستحي أن يجزم قطعا بأنه لا معنى للموت إلا الموت.
اذهبوا أيها الملحدون إلى أجهل الناس من العامة وأشباه العامة واقرءوا الإيمان الإلهي في كتاب قلبه بعد أن تجردوه من لغة اللسان التي شأنها المبالغة والتمثيل لما لا يتصور بما يتصور؛ فإنكم تحسون من جهله حين يلتقي بعلمكم ما تحسه الرئة الفاسدة من نفحات النسيم الذي يترامى في أحضان الزهر، وإنكم ستجدون في كلامه معاني سماوية كما تجدوا في الطبيعة نفسها؛ ولا جرم أنكم تصدقون حينئذ ولكن لتجدون من التصديق مادة عقلية للشك والإنكار، ثم لتصنعوا من كلامه اللد وليمة جديدة للسخرية الجائعة التي لم تشبعها الكتب المقدسة كلها ولا آراء الحكماء ولا آمال الإنسانية، استحال ذلك فيها من السرف والضراوة إلى غذاء جعلها قوية وإلى قوة جعلتها أشد نهما إلى الغذاء.
وإذا مس أحدكم الضر لم ير بأسا أن يفكر في الله وأن يرفع إلى السماء عينا لا تثبت في محجريها من الزيغ والقلق كأنه يتكلم بها في ترددها وانقلابها فيقول نعم ولا، ولا ونعم؛ وكلما أراد أن يغمضها رأى في باطنه قوة تفتحها برغمه لتريه السماء السماء، بل لتريه برهان السماء؛ فلا يعود إلى إلحاده إلا وهو مؤمن بأنه ملحد وشاك في أنه مؤمن بذلك؛ ولولا هذا الشك، بل ولولا صناعة العقل لكان في كل شر يصيب أحد الملحدين خير للإيمان كثير.
وليت شعري ماذا يراك الملحد أيها القمر؟ إنه لا موضع في قلبه للحب؛ لأن الحب مؤمن، ولا مظهر في نفسه للجمال؛ لأنها مظلمة يسطع فيها جمال الشمس ولا يجاوز في عينه منظر جمرة تلتهب أو قرص من السرجين يشتعل؛
3
وهو في حالة لا تعرف هناء الفكر حتى يفكر في الهناء؛ بل هو كعالم التشريح: ينتظر كل يوم من القدر جثة هامدة ليخرج منها برهانا على حقيقة في علمه أو حقيقة لبرهان، فما أنت أيها القمر في رأي عينه على ما أنت إلا حجر ...
أيها القمر، كن لهم ما وصفوك، حتى إذا كفر بالله ملحد ألقمه الله منك (حجرا) وكنت للطبيعة وجه الحقيقة والإيمان كما أنت وجه الحب والجمال.
الفصل السادس
ولكن يا قمر السماء، ويا مثال النية البيضاء، بل يا شبيه كلمة الرضى المبتسمة على شفتي الحسناء، هل تغضب الطبيعة على قوم من أهلها وهي كالطفل الضاحك أبدا؟ وهل تعرف من الناس مؤمنين وملحدين وهي بجملتها شريعة الإيمان؟
أتعرف الحسناء الفاتنة من عسى أن يكون لها مبغضا، وإن عرفته فهل تراها مستيقنة معنى البغض كما يتحققه ذلك الخبيث من نفسه، وهي هي التي يلقي عليها الحب صلاته وسلامه، ويتخذ الحسن من ألحاظها إشارته وكلامه، ولا يقابلها الغرام أينما التفتت في الناس إلا بدمعة أو ابتسامة ؟
يقول الملحدون: إن الطبيعة الجميلة تغضب وتحنق؛ لأنهم لا يريدونها إلا خادمة فلا ينظرون إلى جمالها، بل إلى فعالها، ويقول المؤمنون الذين يرون في كل شيء مظهرا للإيمان: إن غضب الجميل نوع من جماله، فلتغضب الطبيعة ولتتورد الوجنات وليتطاير السحر من اللحظات ولينبعث الصوت الصارخ الرهيب من الروح بدون أن يصفه القلب، ليكن ذلك وما أشبه ذلك من روعة الغضب، فإننا نريد أن نبصر الحسن كيف يتحول في غضبه جليلا بديعا، كما رأيناه في الرضى لينا وديعا، وكيف تظهر فيه الروح قلقة لا تطمئن، كما ظهر فيه القلب يتأوه أو يئن، ونريد أن نرى ولو مرة واحدة انطباق صفتين جميلتين لم يفارقهما الابتسام، فإن ذلك منهما ولا غرو ابتسام جديد.
كل ما في الطبيعة جميل، غير أن الإنسان لم يتسع بعد في درس علم الجمال بمقدار ما يسع هذا العلم الجميل، فإن الأولين تهيبوا الطبيعة فعبدوها ولم يمسوها ولا بالفكر، ولم يقرءوا من أجزاء علم الجمال على كثرتها إلا جزءا واحدا أصابوه في أصل الخلقة وهو المرأة، وجاء المتأخرون فابتذلوا الطبيعة حتى ملوها، وكأنما أخذوها عن أوليتهم كما يأخذ القصاب بقرة البرهمي من المعبد إلى المذبح فلم يبق في أيديهم من أجزاء علم الجمال إلا الجزء الذي أصابوه في أصل الخلقة وهو المرأة.
بيد أنهم تفطنوا لمعان في هذا الجزء لم يتنبه لها آباؤهم الأولون فقليلا ما يكشفون عن حقائقها الطبيعية في أجزاء الجمال مما اشتملت عليه السماء والأرض تبيينا لما يلفتهم إليه الحب من المعاني المستغلقة في المرأة.
وكما أن العصفور الصغير في ريشه اللين يكاد لخفته يكون روح الهواء الذي يحيط بالأرض، كذلك تكاد المرأة الجميلة في وشيها الناعم تكون روح العالم الذي تحيط به الأرض؛ وكل شيء في الطبيعة يجعله الناس من المسائل النظرية التي يختلفون فيها؛ لأنها موضع الرأي، إلا جمال المرأة الرائعة الجمال، فهو وحده قاعدة التسليم في القلب الإنساني على الإطلاق، ويكاد الوجه الجميل يكون في بعض معانيه وجها حسنا للتوفيق بين الإيمان والإلحاد .
والفكر نفسه يكون في كثير من الأشياء الجميلة أجمل منها لأنه روحها ولأنه غير محدود في نفسه بالنظر ولا بالصفة الجميلة التي يحدها النظر، إلا الفكر في الحبيبة الحسناء، فإنها دائما أجمل منه؛ لأنها روحه ولأن هذا الفكر مهما اتسع لا يجد نفسه إلا محدودا بجمالها.
فيا سيداتي الجميلات، يا قصائد ديوان الغزل الإنساني، يا معاني شعر الجمال الإلهي، يا ورقات الورد التي نقلت من الجنة إلى الأرض لتنفح برائحتها، ما غلبتن الطبيعة التي لا تغلب، وإنما ظهرتن على الإنسان الضعيف الذي طغى على الطبيعة وتوهم نفسه أشد منها قوة فرحمته من قوتها السماوية وتسلطت عليه منكن بأضعف منه، بل بالتنهد والدمعة والابتسامة من المرأة الجميلة التي ضعفها إنساني ولكنه على ذلك من قوة الطبيعة، وإن ما رأيت كثلاثة أشياء لا تضبط إذا اندفقت ولا ترد إذا اندفعت: موجة البحر المضطرب، ودمعة الحزين اليائس، وإرادة الحبيبة الجميلة!
وهذه الإرادة هي المعنى الذي ينتظم الثلاثة فهو على انفراده بالثلاثة جميعا؛ لأن علم العدد في عرف الطبيعة يناقض أحيانا العلم الذي نعرفه مما تتكرر فيه الوحدة كلما تكرر العدد، فلا يمكن في (حسابنا) أن يكون الاثنان واحدا؛ لأنهما اثنان ولكن الطبيعة في حساب الحب مثلا تعد الحبيبين واحدا، ولا تعدهما كذلك إلا لأنهما اثنان!
الطبيعة جميلة، بل هي فوق أن تكون جميلة؛ لأن هذه اللفظة (الجمال) واحدة من الاصطلاحات المبهمة التي تمثل تصور الإنسان اللغوي، فقد تعاون أفراد هذا الإنسان الضعيف على أن يخلقوا الطبيعة خلقة معنوية فصوروها باللغة وضبطوها على عظمها كما يضبط تاجر اللؤلؤ حساب ما في حقيبته الصغيرة لا حساب ما في البحار وجروا في أكثر المعاني السامية هذا المجرى. فرب معنى تجده ملء السموات والأرض وما تجد له من صفة تحد إلا وهي حد لصفة أخرى، ومع ذلك تراهم يدمجونه في لفظة واحدة مقتضبة لا ليعرف بها معرفة صحيحة تصفه كما هو! ولكن ليؤثر التأثير الذي يقوم في الإنسان مقام المعرفة الصحيحة، فإن الناس يعيشون بهذا التأثير في معظم أمورهم ويعتدونه علما وإحاطة.
وهذه اللغة الناقصة التي تصور الطبيعة وتحدها، هي في ذلك كالعين التي ترى الطبيعة لتصفها باللغة - وما اللغة في الحقيقة إلا نظر عقلي بل هي ألفاظ النظر - وما العين من الطبيعة إلا كالمرآة التي تقابلك بالشيء كما هو لتفهمه أنت كما تريد.
فلفظ «الجمال» مما يؤثر في النفوس، وقد يصح أن يكون وصفا تاما لشيء معين كجمال الحسناء، فإن العين تعرفها بديا بأوصافها ثم يعرفها القلب بمعانيها، ثم يعرفها اللسان فيقول إنها جميلة، فتلبسها اللفظة لا تضيق عنها ولا تقصر؛ لأنها فيها مرونة النظر والإحساس معا، ولكن ذلك اللفظ بعينه لا يلبس الطبيعة ولا يصف للنفس جمالها بل يكون منه كقطرة الماء في البحر: تجري فيه ويجري بها وليست من صفته ولا تكوينه في شيء إلا في القياس المنطقي، وأهون بالإنسان ومنطقه في حقائق الطبيعة.
ومن البلية - ولا بلية مثلها - أن الإنسان لا ينفك يحمل في رأسه فكرا ماديا هو حقيقة عيشه في هذه الدنيا، فإذا عرض له شيء من جمال الطبيعة أسرع هذا الفكر المبتذل فملأ العين وأطل منها فلا تنفذ صفة من صفات الجمال الطبيعي إلا بسلطان منه، فيرى هذا الإنسان الشيء الجميل وكأنه يحدث عنه نفسه الخرساء بأصابع الأعمى الذي يتعرف الأشياء بلمسها، وعلى مقدار ما في الإنسان من هذا الفكر القبيح يكون مقدار قبح الطبيعة الجميلة في عينيه.
وكأي من رجل يمر بين الرياض والبساتين التي هي غزل الأرض ولا يقدر ما فيها من الجمال إلا بمقادير أثمانها ... وآخر يرتقي الجبل الوعر الأشم الذي هو حكمة الشعر الطبيعي ولا يعيبه إلا بأوعاره وأحجاره التي لا تلائم دعته ورفاهته وإن كانت هي في نفسها محاسن الجبل، وثالث يرى البحر الذي هو فكر الطبيعة السيال فيفرق حتى كأنه يرى الموت يتدحرج في أمواجه ليختطفه من الساحل؛ وهكذا ترى الفكر المادي يلبس كل شيء بذلة من بذل المصانع والحوانيت أو كفنا من أكفان القبور أو ثوبا من أثواب الحداد! وأحسب أن التاجر المفلس إذا تأمل في أوراق الوردة الناضرة التي تشبه أن تكون تاريخ ساعة خجل في خد العذراء فإنه لا يرى فيها إلا أرقام دفاتره التي هي تاريخ النكبات والخراب!
فمن أين يجتلي الإنسان جمال الطبيعة وأنى له ذلك وقد مسخها هذا المسخ كله ولم يأخذها من يد الله كما وضعها، ولكن تناولها من فكره كما صنعها، فجاءه بها من ناحية همومه كأنها هم جديد أو ذكرى هم قديم؟
إذا أردت أيها الإنسان أن ترى جمال شيء من الطبيعة فأجعل عينك أقرب إليه من فكرك، بل انزع فكرك هذا، إلا الخفيف منه كما تنضو ثيابك إذا طلبت السباحة في البحر، وإلا الطاهر منه كما تخلع نعليك إذا أردت الصلاة في المسجد، وإلا الصافي منه كما تطرح شغل قلبك إذا وقفت بين يدي الله، فإن أنت سبحت بثيابك فإنما تمثل الغرق؛ وإن دخلت المسجد بنعليك النجستين فإنما تمثل الإلحاد، وإن واجهت ربك وأنت مشغول بنفسك عنه فإنما تمثل نفاق الشيطان؛ وإن نظرت إلى الطبيعة من فكرك المادي فإنما تمثل العمى الطبيعي ...
أين الإنسان الذي يرى في كل شيء من الطبيعة أشعة تبتسم كأنها تحييه فيبتسم لها كأنه يرد التحية، فلا يزال دهره مضيئا كذلك بأشعة ابتسامة وإن غمرته ظلمات الدنيا، كما لا تزال الحباحب مشتعلة بنارها الإلهية وهي حلك الظلام؟
أين عاشق الطبيعة بين هؤلاء الناس؟ أين ينبوع الضياء الحي الذي تراه لسعة نفسه وترامي ابتسامه متلألئا في طرفي السماء والأرض كأنه منفجر منهما جميعا، يأخذ من الله فيبتسم، ويأخذ من الناس فيبتسم، ويتناول كل شيء فيستشعر منه تزنح الطرب كأن فيه بعض الرجفات (الاهتزازات) الكهربائية التي تحدثها نار الفجر الشمالي الجميلة على ما يصفها الطبيعيون؟
أين الإنسان الذي لا تنحدر من أذاته دمعة عين، فيكون ابتساما في أفواه الناس كيفما طلع عليهم؛ لأن الطبيعة كلها ابتسام في فمه. ويراه المبتئس حليف الحزن الأحمق الذي لم يفد من علم الحزن إلا فلسفة الحماقة - كأنه لإشراقه وانبساطه وترفعه ظل ملك يتنقل على الأرض بتنقل الملك في السماء، ويتوهمه لا يحزن ولا يبكي حتى كأن طينته التي خلق منها جبلت من النور الممزوج بدموع الندى الخالد فلم تعد السماء تسبب لها من حوادث الدهر دمعة؛ لأن فيها دموعها السماوية، ولا يدري فيلسوف الحزن الأحمق أن ذلك الرجل الذي يحسبه ظل ملك إنما هو إنسان يحزن ويبكي كسائر الناس وربما انفجر باكيا ولكن بكاءه معان من التسليم لله تقطر في بعض ابتساماته كما تنبثق دموع الفرح من غلبة السرور.
والمرء إذا استطاع أن يتحد بقضاء الله وقدره فلا يتسخط أحدهما ولا يتبرم بأمر الله فقد استطاع بذلك أن يبتسم الابتسام الإلهي الذي يكون علامة نبوته الإنسانية في هذه الطبيعة.
إن الرجل من علماء الفلك حين يجد في تعرف أسرار السماء واكتشاف آثار الله منها يرى نفسه كأنه يعيش في الأزل الذي لا فناء له، وكأنه في حياته بصيصا من أضواء النجوم يصله بها وكأن مرصده فلك لكوكب نفسه؛ وكذلك يرى عالم الجمال الطبيعي الذي تهبه الطبيعة حاسة سادسة من الابتسام أنه يعيش في ربيع دائم كأنما هو زهرة تغتذي بنور السماء فلا تبرح ناضرة ما بقيت في السماء لمعة نور، وهذا رجل قد بذل مقادته لله طائعا وتوكل عليه راغبا فترى تسليمه لله قد جعله الله فيه قوة لينة كطبيعة اللجة التي تصدم كل شيء ولا يكسرها شيء؛ لأنه ليس قوامها من الصلابة المادية التي تنكسر وإنما شدتها من اجتماعها واندفاعها كصلابة الثقة التي تكون من اندفاع العقل بالإرادة القوية؛ وآية ذلك أنه إذا رفع إليك عينه رأيت فيها نظرة مستطيلة كأنها آتية من السماء، وترى لها عليك سلطانا كأنها نفس قوية لا نظرة ضعيفة؛ إذ تنبعث من نفسه النقية إلى عينه الصافية فلا يعترضها إلا القلب المطمئن الضاحك الذي هو في جسم عالم الجمال كالطفل الجميل في بيت السعداء: تأتي به السعادة مرة ويأتي هو بها في كل مرة، وتلك النظرة إنما هي نبوغ في بعض العيون كما أن العقول نبوغا بيد أن الطبيعة لا نظفر بها إلا في الندرة كما يظفر الزمن بجبابرة العقول الذين ينصبهم حدودا للتاريخ الإنساني، فربما غبرت الأجيال المتطاولة مجنونة بهذا العارض الزمني حتى تصيب لها عقلا من عقول التاريخ، وربما عبرت الطبيعة أجيالا متطاولة وهي تشكو عمى الناس عن جمالها حتى تأنس في أحدهم عينا من عيون الجمال.
ولقد يحسب الأجلاف من غلاظ الأكباد أن الطبيعة مبتذلة ويجدون لها غلظة في أنفسهم كأنهم ينظرون إليها من أكبادهم، وكأن ضلالهم ليست كل شيء فيها فحيثما انكفأوا لا يرون إلا طيفا من الموت تنفر في وجهه ظنون الفزع، وإذا لفتهم إلى الجمال الرائع لفتوك منه إلى قبح يعرفونه ولا تعرفه، لأنك تعتبر شكل الصفة الجميلة وهم يعتبرون شكل المادة، كأنهم يريدون أن ينشقوا ريح الزهرة من طينها، وكأن الأشياء الجميلة عندهم ألفاظ من لغو الكلام تتألف من الحروف التي تدل بتركيبها على المعاني ولكن لا معنى لحروفها تلك؛ إذ هي مؤلفة على نسق غير الذي يعهدونه من نسق الصناعة المادية، فيا ويح هؤلاء وأولى لهم ثم أولى! أيريدون أن يستعين الله بقوم من أهل الحرف والصناعات على إصلاح ما خلق وتنبسق ما ابتدع ليجدوا فيه الجمال الذي يصلح لأوهامهم، ويكافئ بمعانيه مقادير أفهامهم؟
لتنطفئ الشمس إذن كلما رمدت عين إنسان ولينسدل الليل ثانية كلما أراد فاسق أن يتلصص في مشرق الضحى، ولينهمر الغيث كلما جفت لهاة من الظمأ في الصحراء، ولكن كل نهار على ما تشاؤه البلد الرعناء يطلع بالصباح عليها ربيعا، وينقلب في الظهيرة شتاء، ويحول في الأصيل خريفا، ويرجع في العشية صيفا، وإن انقرض الناس بهذه الحياة الذريعة كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها! ويحكم أيها القوم! ألا يمكن أن تكون أذواقكم سقيمة قبل أن يكون لكم هذا السقم في الطبيعة؟ وليت شعري ما أمركم والانحدار فإذا كنتم في الأسفل ثلجتم بذلك ورأيتم أنه لا أسفل منه؛ إذ ليس لكم بعده منحدر فجعلتموه في نفسه مرتقى، ولم ترفعوا أبصاركم إلى الأعلى لتستيقنوا أنكم في أسفل سافلين وأن سبيلكم الصعود لا ما أنتم فيه من أمركم!
ليس جمال الطبيعة إرادة ولا شهوة، وإن هذه الساعة الفلكية الكبرى (السماء) لا تقدم الوقت ولا تؤخره من أجلنا، فإنه لا ننتهي إليها من هذا العالم كله إلا الألحاظ؛ ولو اجتمع أهل الأرض في صعيد واحد وصوبوا ألحاظهم جميعا إلى ذرة من الهباء ما تحركت الذرة ولا قدمها ذلك ولا أخرها.
ومصادفات الأقدار المضطربة التي لا تأخذ من الناس في ناحية معينة بل تتاح للسعداء والأشقياء جميعا من عالم المجهول بسبب مجهول في وقت مجهول - إنما هي مصادفات في وهم ذلك الإنسان لا يريد أن يرتقب من الغيب حقيقة محزنة كما ينظر منه النعمة السابغة، وهي في ذاتها حقائق ثابتة تجري سواء على سنن مطرد؛ ولما كان الإنسان لا يرجوها إلا خائفا ويخاف منها إلا رجيا فهو بطبيعته يصبغها صبغة من الحزن ما دامت في غيبها حتى تقع؛ فلا يجعل هذا الإنسان وهمه قاعدة للحقيقة، ولا يرين أن حقائق الجمال الطبيعي مما يكون طباقا لأوهام كل نفس؛ فإن ذلك تغيير للنفس لا للطبيعة.
وعندي أنه لا فرق بين الملحد الكفور الذي لا يحب حقيقة الموت إلا موت الحقيقة فيظل في قياس وهمه عائشا ما عاش كأنه بدن ميت لا نفس فيه، وبين ذلك الجلف الذي لا يدرك أسرار الجمال الطبيعي فتظل هذه الطبيعة في قياس وهمه بالغة ما بلغت من الحسن كأنها دينار زائف جديد يعجب من رونقه ويعجب من كساده ...
الخادم يفزع من غضب سيده إذا صاح به الصيحة فيستطار لها، ولكن المطمئن المفكر إذا دارت في مسمعه هذه الصيحة أصغى منها لنغمة موسيقية تلبس معنى نفسيا خاصا لا جمال له إلا في الغضب؛ فاطمئن أيها الإنسان قبل أن تستطلع جمال الطبيعة وتأملها بالعين التي لم تستحل من فكرك المادي إلى ذاكرة فليس فيها إلا النظر البحت تصبه النفس من شعاعها؛ فإنك حينئذ تشهد الطبيعة كلها في نفسك على النحو الذي يريك هذه السماء كلها في النهر الصافي، وتحس من السرور والابتهاج والعظمة كأن هذا الفكر الإلهي الكبير الذي نسميه الطبيعة قد شملك أو اشتملت عليه فيوحي إليك أنك مخلوق لغرض أسمى من تلويث الأرض بفضلات أمعائك. ومناوأة الناس فيما لا حقيقة له إلا إيجاد هذه الفضلات وإخراجها، وإن كانت هذه الحقيقة القذرة من كثرة ما يسترها الإنسان به من الأسباب المختلفة كالفضلات نفسها في جوف هذا الجسم الحي.
حينئذ وقد فاض الجمال على نفسك ترى أنك أنت أصبحت قطعة من هذا الجمال، وأنه لم يكن يحول بينك وبين الاتحاد به إلا نفسك التي غيرتها أوهامك حتى لم تعد نفسا من صنعة الله بل من صنعتك وصنعة الحوادث، وحتى صارت كأنها كتلة شر تفضل الحيوان الأعجم بالحيلة العاقلة ويفضلها بالحول الطائل فيما عدا ذلك مما هو من طبع النفس الحيوانية.
فلولا النفوس التي تدرك قيمة الجمال ما وجدت على الأرض نفوس تدرك قيمة الخير؛ وهل هذا الخير إلا بعض جمال النفس؟
لله أنت أيتها الطبيعة الجميلة، ولله جمالك الفتان الذي يترك من حسنة بقية في كل عين تحدق إليه فتجعل كل شيء تصادفه جميلا، كما يثبت المرء عينه في ساطع من النور هنيهة ثم يلتفت يمنة ويسرة فإذا كل شيء فيه شعاع من ذلك النور.
ولله ابتسامك الذي ترتوي منه النفوس ويخلق منه الحب والخير، وأراه في كل زهرة تفوح، وفي كل نجم يلوح، وفي هذا القمر الذي يتصبى الروح كأنه طلعة حبيبة الروح؛ وأراه في غير ذلك من صفات الجمال التي تفيض عليها هذه النعمة السماوية لتنطق منها بأبلغ ما تفهمه النفوس من المعاني كما تنطق الحسناء حين تبتسم وهي لم تتكلم.
ولكن آه أيها القمر! إن لهذا الابتسام روحا هي الخالص النقي منه، بل الذي لا يقال في غيره خالص أو نقي، فإذا أردت أن تشهد روح الابتسام يتلألأ في غرتك فانظر إلى تلك التي لم تلبس من حريرك الأبيض غانية أجمل منها في ليلة من ليالي الحب، وتأمل بربك أيها القمر كيف تتحرك بروح الابتسام في شفتيها الرقيقتين حياة الهوى.
الفصل السابع
ذلك ابتسام الطبيعة يا لؤلؤة ثغرها التي يسمونها القمر، وذلك جمالها الفتان الذي خلقت المرأة لتصفه وتدل عليه فلها بها الناس وسحرت أعينهم حتى لم ينظروا إليه وإليها إلا على أنه مخلوق ليصفها ويدل عليها؛ فتصغر الطبيعة ما تصغر عند بعضهم وتكبر ما تكبر عند الآخرين، ولا تكون في الحالين أصغر ولا أكبر من امرأة جميلة.
وأي أمر غمة
1
لا يتجه للرأي فيه كجمال المرأة الذي هو جنة الأرض ونارها، فمن أجله وجدت الديانات والشرائع والفضائل، ومن أجله وجد الخارجون عليها والفاسقون عنها؟
ومن المعضلات النفسية الممتنعة على الإنسان والوارثة منه
2
معرفة العاشق المستهام صحة الرأي فيما إذا كان الجمال دليلا على قوة الخالق أو دليلا على ضعف المخلوق.
ولو سألت تاريخ النفس الإنسانية عن كل أمر عسير مشكل ثم سألتها عما هي المرأة الجميلة، لأصبت لكل سؤال جوابا يحسن السكوت عليه ولو تسامحا، إلا جواب هذا السؤال؛ فإن المرأة الجميلة هي يفهمه كل إنسان منها بنفسه؛ لأن الجمال المتسلط بطبعه والحب الخاضع بطبعه، قد جعلاها في الطبيعة تعريف نفسها!
ولا شيء أقوى من الجمال والحب معا إلا دموع هذه الجميلة بمرأي محبها؛ فإن كل ما في الطبيعة الإنسانية من حنان ورضى وحب وعبادة وعقل وجنون ونحوها مما تكسوه ألفاظ اللسان بحروفها ونبضات القلب بمعانيها - لو ذاب لما قطرت منه إلا تلك الدموع التي تنحدر كأنها كلمات سلسة تفسر لعين العاشق معنى روحه تفسيرا صامتا تجري فيه أحيانا نظرات متفترة هي كل ما في تعبير الأرواح من البلاغة.
فليت شعر هل تستروح الطبيعة الجميلة كذلك إلى الدموع إذا كانت هذه الدموع من أقوى ما في طبيعة الجمال؟
هل تبكي الطبيعة أيها القمر فتكون أنت في ديباج السماء كأنك دمعة في منديل الطبيعة لم تجف بعد وقد بدأ فيها الجفاف.
3
أترى الطبيعة باكية وهي تلك التي ترسل بعض ضحكها دموعا تتندى بها أجفان العيون النجلاء التي تجعل الرجال العظام صغارا وهي عيون النساء والأطفال، لتبقى الطبيعة وحدها منفردة بالعظمة الرائعة التي لا يداخلها الغرور بها ولا تداخل الضحك منها؟
إني أرى الذين لا يعرفون جمال الطبيعة ولا يفقهون حديثها يتخيلونها أبدا باكية؛ لأنهم من لواعج الهموم بحيث صارت الدموع أسرع إلى أعينهم من الابتسام إلى أفواههم؛ وقد أبوا على العيون إلا أن تمتزج فيها الروح بالمادة فجعلوا أكثر عملها البكاء، إما بالدمع الذليل وإما باللحظ المستكين الذي يكاد يدمع من ذلته، أما الأفواه فحسبها من صناعة العيش في أكثر من تراهم في الأرض مضغ الطعام ومضغ الكلام، فهي قليلا ما تبتسم وكثيرا ما يكون الابتسام فيها شنعة فلا ترى إلا أفواهها قد جلعت
4
كأن القلب يتهيأ ليتفل منها على وجوه أولئك الأصدقاء الذين يدعون الصداقة بوجوههم الكاذبة!
وقد أحسب في أصل البكاء أن روح الإنسان لا تزال تتأذى أحيانا مما يطيف بها من أدران المادة حتى إذا أرادت أن تنحي ذلك عنها اغتسلت في باطنه بنور ينبجس لها من القلب ثم ينحدر عنها إلى العين فلا يخالط الجفن حتى تبتدر إليه الدموع فترسله وكأنه لما فيه من الحياة عاطفة قلبية أسرف عليها الهم في ضغطه فذابت؛ وقد يستطير ذلك النور في الابتسام فلا يذهب إلى العين بل يسترسل في طريق الدعاء والكلم الطيب من الفم ويكون في الشفاه معنى البكاء كما هو في الأجفان البكاء بمعناه!
ولكن ما بال هذه الدموع القذرة التي أصبحت رقاعة أو صناعة في الأعين. وهل هي نور أو مادة سائلة تجري من القلب الخبيث كلما نكبه أمر فانقلب فهراق ما فيه؟ إننا لا نعرف من أمرها شيئا، فإن الإنسان لم يهتد بعد إلى علم تحليل الدموع تحليلا نفسيا، وما أحسبه سيهتدي؛ وهو على أن تاريخه في الأرض مغمور بالدموع كالأرض نفسها ثلاثة أرباعها مياه، فإنه لا يحسن إلى اليوم أن يرد العبرات قبل انهمالها من أعين الباكين والمحزونين إذ ليس إحسانه من قوة الروح بحيث يتغلغل في مسالك هذه العبرات؛ وما تحليل الدموع إلا درس لمذاهبها في النفس؛ وهيهات ذلك في عالم المادة هيهات!
بيد أنا لو أبصرنا الملائكة حين تمر على أكثر من يبكون صناعة أو تصنعا أو مصانعة، لأبصرناها بلا أنوف؛ لأن لها قوة التشكل فيما تختار من الهيئات، وهي تخشى أن تصعد إلى السماء وحشو آنافها من رائحة ذلك الدمع الرنيء الذي درنت به الأجفان المترعة وكاد يكون صديدا تقيحت به جروح العواطف فانفجر.
ابك أيها المحزون، فإنك ستجد من يكفكف دموعك كما وجدت من أرسلها، ولكنك لا تجد من يتداركها ويردفك منها خيرا؛ لأن أهل الخير لا يعرفون حزنك - إن عرفوه - حتى تبكي بالعين الثرة، وحتى تتوسل إليهم بالطرف المغرورق؛ كالطبيب لا يعرف مرضك في صحتك ولكنه يبلو مرضك فيعرف كيف كنت وكيف تكون.
وقد قيل لفيلسوف أملق حتى ساء عليه أثر الفقر: من يدفنك إذا مت؟ فقال: من يؤذيه نتن جيفتي! ... وكذلك لا يدفن دموعك إلا من يؤذيه منظرها من أهل النفوس الرقيقة، فإنهم لا يحتملون أن يروا من عينك جيفة هم تسيل بها وتنزى ... وإذا أصبت في الناس لم يتسبب لإرسال دمعة من عين إنسان أصبت فيه من يهتاجه منظر الدمعة في عين الإنسان.
إن الأطفال يحبون فطرة أن يعبثوا بالماء ويتغامسوا فيه؛ فلا أنكر على الرجال محبتهم أن يعبثوا بالدموع؛ ولكني أستنكر الإنسان يجعل قلبه شاطئا لأرجلهم إذ يخوضون فيه خوفا، ولا يجعله لجة تجيش على أعماق من نفسه وعواطفه فلا ينطوي لها شيء إلا طوته ولا يدافعها شيء إلا دفعته؛ ولست أصدق الضعفاء الذين يزعمون أن أحدا من الناس لا يطيق أن يجعل الصبر على ما يبتلى به من مجاهدة نفسه عنصرا من عناصر الحياة، فإني لأرمي بعيني ولا أرى أحدا إلا وجدته يتحمل أكثر الناس لضرورات الحياة الجسيمة، ولو هو رغب في الحياة النفسية لقضت عليه ضرورتها أن يحمل من نفسه ولو كارها بعض ما يحمله من الناس كارها أو راضيا، والمرء حين يضل زمام النفس من يده إنما يضل طريقه الذي اختطه في الحياة، وتعتسف به النفس طرق الآخرين فلا يزال فيها تابعا أو مطرودا، وهما خطتا نكر خيرهما وشرهما على الحر سواسية. وليت شعري ما هي الهموم؟
إن الإنسان يفسر هذه الكلمة المفردة بمجموع ما حفظ من تاريخ مصائبه، ويرى أنه لم يفرغ من الشرع بعد ولم يكشف عن دقائق المعنى، وإنما أجمل من وصفه ما وسعه، فكأنه يفسر حقيقة الحياة التي تستنفذ الكلام كله ويكون بين خطأ صراح وصواب ممزوج، ثم تبقى الكلمة الصحيحة عند الله لا يكشف عنها للإنسان لئلا يغشاه من سر الألوهية فينتهك حجاب قلبه.
5
واها أيتها الحقيقة الإنسانية أين أنت من الإنسان وأين هو منك؟
وما بال هذه الأوهام التي يعتزم لها الإنسان المضي في فضائها كأنه منطلق، ثم لا يكون أمره وأمرها إلا كالفأرة حين يرسلها الهر الخبيث تحت أشعة عينيه المتعسرتين من الجوع، فتنطق المسكينة في فضاء ... ولكنه محاط من كل جهة بالأظافر الحادة.
أيتها الحقيقة لا يظفر بك إلا سعداء الفطرة، وما الطبيعة كلها إلا إيمان بك ودليل عليك. فلو خلص الإنسان من وهمه لخلص من همه ولعرف كيف يقدر الحزن بسببه الحقيقي لا بالآمال المتوهمة التي زالت بوقوعه؛ فإن تقدير المصيبة بالأمل الذي كان يرجى لو لم تقع أمر لا يحتمل حدا، بل لا يزال يتسع من ظن إلى ظن حتى يهيج السخط في نفس الحزين، والسخط مع المصيبة مصيبة ثانية.
ولو كان المقامر يحزن على مقدار ما أضاعه دون المقادير الوافرة التي قامر عليها وكان يرجو أن يفوز بها، لما عاد امرؤ قط إلى المقامرة بعد الخسارة الأولى، وكذلك لو كان الإنسان يهتم للمصيبة على قدرها في نفسها لا بمقدارها في نفسه، لذهب بها وقتها، لأن الوقت يسير بكل شيء تدفعه فيه، ولكانت هذه المصائب في تاريخ الإنسان كأنها عطاس يزعج قليلا ثم يعقب انتهاضا من عثرة الرأس وراحة.
وما إن يزال الوهم يخيل للإنسان أن الوقت ثابت بالمصيبة التي نزلت به كأنها تغتذي من عمره. وكأن الصبر يعاف أن يغتذي من عمرها، فلا تبرح تمارسه وتشاده وتجد به وتتلعب كأنما طرح عنقه منها في غل يملك رقبته بالأسر الذي لا فكاك له، وبذا يجمع المسكين على نفسه الحقيقة التي تحاول تركه فلا تستطيع، والأوهام التي يحاول تركها فلا يطيق. ولو ثبت الوقت بشيء هذا الثبات لهلك سعداء الناس قبل الأشقياء، لأن الراحة التي لا يمد في حبلها الألم كالألم الذي لا تمد في حبله الراحة
6
وما الآلام إلا رياضة نفسية تشتد بها النفوس وتصلب فلا تهدها أثقال الحياة التي لا يضطلع بها إلا ذو المرة السوي.
7
ولولا هذه الآلام لأقفرت الأرض؛ لأن الإنسان الذي لا يتألم ليس إنسانا أرضيا، بل ينبغي له أن ترفعه الملائكة وتلوي به في جو السماء، ثم تكون مدة عمره في الأرض مسيرة ما بين الدنيا والآخرة على أجنحة الملائكة ... ويخلق ويموت كما تخلق ذبابة آذار الخيالية التي يزعم الشعراء أنها تولد إلى متع الضحى فلا تزال تطن في الروض وهي لا تجد مد صوتها
8
إلا أزهارا وألوانا وأريجا ونسيما، وتحمل وتضع وهي لا تنفك تتنفس ألحانا، ثم تطلع عليها شمس الغد بالموت كما طلعت في الأمس بالحياة، ولا يمتد الضحى حتى تتخذ من بعض الأزهار كفنا وتموت وهي تتغنى، ثم تلوح في شعاع الشمس كأنها نقطة سوداء قطرت من مداد الموت على صفحة من ورق الأزهار لكي تدكر بها روح الربيع أي ليس في الأرض خلود!
ولا يحسبن الإنسان أنه المستبد بالأرض يقوم عليها بنظامه ويبرأ منها، فإن الأرض تقوم عليه من قبل بنظامها. بل هو نفسه معنى من هذا النظام الذي لا ترخص فيه وإنما يمضي على الإنسان وغير الإنسان بعزيمة واحدة وفيه الألم والراحة جميعا.
ومهما نعم المرء فلن يبلغ مبلغ الزهرة النضرة العطرة التي تجتمع أوراقها وتتماسك مدة بقوة الحياة العطرية ثم تبلم بها نسمة تستميت في تخافتها وتجيئها وهي من الضعف كأنها صدى قبلة الحسناء المذعورة، فتنثر أوراقها وتهدم هذه البنية الملونة كما تنهدم لذات الحلم بالحركة الضعيفة من جفن النائم ساعة يستفيق!
والحياة الأرضية في طبيعتها غليظة جافية مستحكمة لو ترك لها الإنسان كما هي؛ لأنشأته خلقا أرضيا بحتا، ولكن الله جعل فيها مواضع رقيقة تشف عن السماء وما وراءها إلى مصدر القوة الأزلي وهذه المواضع هي الآلام، فهي التي يرفع منها الإنسان يده إلى السماء بضراعة إنسانية متبرئا من قوته مقرا بضعفه، وهي كذلك التي يرسل منها الإنسان نظرة إلى الأرض برحمة سماوية تنفذ إلى قلبه بالمعاني الجمة من شقاء الناس وبأساء الحياة؛ فلا يستروح هذا الإنسان من ألمه إلا وقد أكسبه الألم فضل الإنسانية وبر الفضيلة وصحة الإيمان وقوة النفس، وإن مرض يوم واحد تتوجه فيه النفس إلى الله وتعرف كيف تتنزه عن دنايا الأرض وشهواتها، لهو أجدى لها وأرد عليها بفضيلة الإنسانية من قطع دهر في دراسة كل ممتع من كتب الفلسفة.
وبئس - لعمر الله - الرجل يكون في ضرعته وما فيه إلا نفس لا تدري أيهما أضعف: أهذا النفس الذي يتعثر في صدره، أم ذلك الجسم الذي يتنغش كفراخ الطير؟
9
ثم تراه متى أحس القوة وقد ثار كما يثور الوحش من ضجعته، وكان في ألمه أشد حنقا، وكلما تمادى به الألم سخط واستحق كما يكون العاجز الموتور الذي يأكل انتقامه من نفسه ولا يزال يشره إليها ما بقي الرجل عاجزا، فهذا وأمثاله ممن تشف لهم السماء موعظة واعتبارا وهم يتبخصون
10
لها تعجبا وإنكارا، وإنما يسخطون على ربهم سخطا لا يشبه شيء إلا ما يكون من حنق الصبيان إذا فضل أحدهم عليهم فانقلبوا ساخطين على الأفضل ومن فضله جميعا، يرون سخطهم كأنه تفضيل لأنفسهم ... وهو إن لم يكن توقحا ونذالة فليس بدونهما.
وهذه الطائفة من الملحدين ومن لا يلحد ولكنه يؤمن بلا إيمان ... وإنما هم أنفسهم بعض آلام الإنسانية، فليس بدعا أن يكون في آلامهم ما يقتدح هذه الحقيقة النارية فيهم، وإلا فكيف يؤلمون الإنسانية إذن؟
على أن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة فيصبون عليهم من النسيان ما يصب الغاسل على الميت من الماء ليرسل معه بقية طهارته إلى الآخرة، ولو هم أدركوها لرأوا في هذه الثورة الإنسانية مظهرا عجيبا من حكمة الله، ولرأوا أن كل شيء يتألم حتى الديانات والفضائل، فإنها تتألم بسخط هؤلاء وجحودهم.
وليست كل الهموم التي تصيب الإنسان مما يلوي بها القدر عليه؛ فإن من ذلك سيئات يجنيها الإنسان على نفسه بسوء الخوف من الله واتهام رحمته وقدرته، كالتوقع لما يقع، والحذر مما لا يوقن بوقوعه، ومعالجة المستقبل، والاهتمام للمستحيل أو لشبه المستحيل؛ ثم المصيبة الآكلة التي لا تبقي على النفس إلا أسوأ ما فيها؛ لأنها محاولة استخدام القضاء وتصريف القدر على غير ما يريده الله، وهي الحسد!
فهذا وما أشبهه إنما هو من مصائب العقل الذي يحاول الملحدون تسميته إله الأرض فلا يكون قضاؤه على صاحبه إلا ما ترى.
واعتبر ذلك بأن هذه المصائب لا تكون على أشدها فجيعة وألما إلا في أقوى الناس عقلا وأضعفهم إيمانا، مع أن المؤمن الساذج الذي يكاد يعد في رأي العقلاء ... حيوانا يبيع نفسه ويشتري لها مشتريا - لا يعتريه شيء منها بل هو في أمن من جميعها، وكأن حوله من قلبه سورا مضروبا على الحياة باطنه فيه الرحمة وإن كان ظاهره من قبله العذاب؛ وهذا المؤمن يعرف بفطرته السليمة تلك الحقيقة الناصعة التي يجهلها أكبر الفلاسفة من الملحدين ويجهلها أكثر العقلاء فلا تكون كل المصائب الإنسانية التي ينافح بها القوم بعضهم بعضا إلا عقابا عقليا على هذا الجهل، وتلك الحقيقة هي أن الله لا يمسك عنا فضله إلا حين نطلب ما ليس لنا أو ما لسنا له.
ومع ذلك نظل نخادع أنفسنا بالآمال اللذيذة ونخرج عن الحقيقة ثمنا لوهمها، كما يشتري السكير أحلام نفسه بعقله، ثم تذهب الأحلام والعقل معا، وتتركه الخمر برذائله وجنونه وأمراضه أصح تفسير لها بين العاقلين.
أما المصائب الإلهية فإن الله يرسلها برحمة، فيستلب فيها من الإنسان إحساسه أو أكثره، ويعطيه أسباب العزاء أو أكثرها، ويهيئ له من أمره ما يجعله يتلقى المصيبة بروحها لا بروح النعمة التي أصيب فيها؛ وبذلك لا يشعر أنه ضرب بيد الجبار ولكن بيد الرحيم، ولا يكون إلا كالذي يغمض عينيه عند الوسنة ثم ينحدر إلى الأبدية وقد يتحطم في مهواتها وما أحس من آلام الموت ونزعه أكثر من غمضة العين.
وعلى هذه الصفة الرحيمة يفترس الحيوان ما هو أضعف منه؛ فيستلب إحساس الضعيف حتى لا يدري ما هو من مفترسه، ولا ما كان فيه مما يصير إليه، ثم يكيد بنفسه وكأنه لا يحس أن له نفسا فتزهق روحه كأنما أبت هذه الحياة الميتة. وما أحسب هذا ونحوه إلا (تخديرا) قبل (العمليات) الإلهية، فتبارك الله! لقد وسع كل شيء رحمة وعلما!
والإنسان لم يكن يوما منسيا من الله ولكنه لا يزال ينتبذ المكان القصي من الظن كأنه يريد أن يكون منسيا منه؛ فهو يشك في رحمة الله وعنايته كلما راث عليه الخير
11
إن عرف أن له رحمة وعناية، وهو يجادل فيهما ويستريب بهما وبالله في ذاته إن لوى رأسه وركب أثر هواه ضالا أو مضلا؛ وما يجديك أيها الأحمق أن تهبط بعض الأودية وتأخذ في الصياح لتستخرج الصدى كأنك أنطقت الجماد ... وإنما هو صوتك رجع إليك لم تزد فيه السماء ولم تنقص منه الأرض؛ فمهما جادلت في الله فإنك لا تعدو هذا العبث بنفسك ولو أنكرت فأنكر الصدى ورميت بالحجة فرمى بها وجئت بالأقاويل فتابعك عليها - لم يكن لك من ذلك كله ظهير ولا نصير على الحقيقة إلا كما يكون للممرور يحدث نفسه ويحب أن له حلقين ...
ويح هؤلاء الناس! ألا يرون المصائب والآلام ترسل دفاقا على الأرض كماء المطر وهي مع ذلك لا تصيب من تصيبه إلا قطرة فقطرة كأنه مكتنف من رحمة الله بفضاء واسع يجعله كهذه الطيور التي ترسل عليها السماء من أقطارها وهي مع ذلك تلبث طافية على الهواء كأنها الأمواج التي يجيش بها البحر أبدا ولا تغرق، ولو هي كانت في الأرض لأغرقتها بصقة من إناء مترع؛ أوليس في ذلك ما يردف الإنسان شغلا بنفسه الضعيفة مما يذهب إليه في إلحاده وريبته إذ ينتحل شيئا من الألوهية لينكر الألوهية أو ليشك فيها ؟
وهيهات يجادل امرؤ في الله أو يستريب به أو يتصفح على أعماله إلا إذا كان يقيس من أمر ذلك ما في نفسه كأن في نفسه مقياس الألوهية، وإلا فهو الغبي الذي لا يسقط على عقله ولو استمر يبحث عنه في الكتب حتى يرمى في جنازته.
12
أو لا يستشعر الإنسان مما تزلزله مصائبه وآلامه وأن روحه تتخطى مقرها في باطنه فكأنه يتزلزل بخطواتها، وقد يراها فصلت عنه حين تنتزي به الآلام المبرحة إذا انتهض من صرعته ونشط لما ينشط له الأصحاء رأى كأنه مقبل على الدنيا من حدود الآخرة!
وإذا كانت النفس خرساء لا تفهم إلا بالحركة والإشارة فما أرى هذه الحركة منها في الإنسان بين المرض والصحة إلا كحركة نقض الدليل الفاسد بالدليل الصحيح في العقل، فإذا هو سفه بعد ذلك نفسه وسفه الحق منها وحاول أن يرتبطها من إنكاره وحجوده ومكابرته وعنته بالسلسلة الربوض
13
فإنه ينقلب ما يشاء ملحدا أو فاسقا أو شيطانا وتبقى نفسه كما هي على طبيعتها الإلهية؛ لأن الدين النفسي ليس ما يزعمه العالم في مجادلته، ولا الجاهل في محاولته، ولا المؤمن في إقراره وتصلبه، ولا الجاحد في إنكاره وتعجبه. وإنما هو قلب الإنسان الذي يخفق في العالم والجاهل والمؤمن والجاحد بحركة واحدة كأنه فم يسبح الله بكلمة الحياة.
يا شقاء الإنسان ويا ويله إذ يرسل الله على قلبه شعاع الرحمة والإيمان ويأبى من غلبت عليه شقوته إلا أن يضرم من هذا الشعاع الإلهي نارا ينضج بها غذاء شهواته ويطيبه فلا يزال يحتطب لها من كل خبيث جاف حتى تراه كأنه قدر تئز أزيزا، وكأنه في باطنه شظية من جهنم يسطع وهجها في عينيه فلا تقع ألحاظهما على شيء إلا رجعت منه بمعنى خبيث وتركت فيه معنى أشد من ذلك خبثا، ولو زادت هذه النار في جوفه فخلق منها للناس شيطانا، ولكنها - من رحمة الله بالناس - نار قليلة لا تكفي لشيء أكثر من عمله الشيطاني ...
ذلك؛ فانظر الآن ماذا يترك الشعاع الإلهي الذي وصفنا في قلب المؤمن بالله؟
إنه يجري في أحزانه كالماء يتدافع في مسبله، وتراه يطرد وينعطف ويتمعج لأنه ينساب بالحياة فكأنه يبحث في جهات نفسه وأنحائها عن كل عاطفة ميتة فلا يترك على جانبي الحياة إلا ما ترك الماء على عطفيه من خضرة ونضرة وبرد وسلام، فيخوض المرء فتن الدنيا ويرتكس فيها وهو مطمئن يحمل في باطنه سلام الله، ومهما تكفأت عليه النوائب وعصفت به الحوادث فإنها لا تجد منه إلا ظاهرا أمسكه باطنه وباطنا استمسك بيد الله، كالسفينة في البحر تكتب لها السلامة فلا تجري إلا على قبرها ولا تنبعث خطوة إلا كانت لها فرارا أو ما يشبه الفرار من الموت وكأنها في ذلك البحر اللجي إنما هي روح الأرض أنشأت تهتز وتضطرب.
فلتكن أيها المحزون أكبر من همومك وأحزانك بالغة ما بلغت، وإذا كان الموت يعد شرفا لمن مات مدافعا عن الحقيقة مهما كان وفي أي صورة تمثلت، فإن البقاء في الحياة يكون أحيانا أعظم شرفا منه لمن يدافع مصائب هذه الحياة عن ضميره فلا تستبيحه ولا تزعج الفضائل الإنسانية التي اعتصمت به.
وإذا اشتبكت أيها المحزون بهذه الآلام فكن قويا على مصارعتها، وقد تصرعك مرة إذا بدرت منك غفلة، فلا تكن حينئذ جبانا في النهوض كما كنت جبانا في الوقوع، وليست فضيلتك في أن تنزل على حكم كل ضرورة، فإنك عند حكمها طوعا وكرها ولكن الفضيلة أن تعرف في نزولك من جهة كيف تصعد من جهة أخرى؛ وما دمت حركة من حركات الفلك فلا تحاول أن تقف به عن مسيرة لهوى يعترضك أو تحرفه إلى جهة تعن لك فتتلاشى ويستمر الفلك سائرا، وإني رأيت دوامة الماء لا تلتوي عن تيار النهر إلا لتفتح لنفسها قبرا فيه، وإذا لم تكن قادرا أن تنال ما تطمع فيه فلتكن قادرا أن لا تطمع فيما قطعت عنك أسباب نيله، فإن غاية القدرة في الحالتين الرضى، وأنت في أكثر ما تعاني إنما تتألم بأوجاع الناس من حيث تؤذي نفسك ولا تغني عنهم من شيء، فإنك لا تملك إلا نفسك ولا تملك نفسك إلا فضائلها، وأنت على ذلك تجاري بآمالك أقواما من الأغنياء هم أصابع الدنيا في كفيها وقدميها ... لا يعرفون إلا فلسفة الحس ولا فلسفة لهم إلا أن كل حقائق الدنيا لو حللتها الفلسفة أو العلوم أو الأديان لألفتها على كل حالة حقائق ذهبية ... هكذا اصطلح الناس كأن الله لا يعطي ولا يمنع إلا بعد أن يتواضعوا فيما بينهم على ما يسمونه إعطاء وحظا مما يسمونه منعا وحرمانا، وكأن ليس في الأرض غني عقيم بلغ من الدنيا ومن الكبر ومن العقم جميعا، ثم نظر إلى كنوزه العريضة ونظر معها إلى طفل يلعب في بيت رجل فقير ويملؤه بالضحك فعرف من هذه الحقيقة الحية مقدار ذلك الوهم الميت الذي يسميه الغنى، وكأن ليس في الأرض رجل ذكي عبقري لا يملك إلا عقله وهمة نفسه وهو مع ذلك لا يسره أن تكون له بهما كنوز فدم غبي له من المال وبلادة العقل وصغر النفس مقادير يوازن بعضها بعضا، وكأن ليس في الأرض محب دنف يهوى غادة فاتنة وقد عرف ما هو الغنى في اصطلاح القلب كما عرفه الذكي في اصطلاح العقل وكما عرفه العقيم في اصطلاح النفس.
إن الطبيب الحكيم لا يجاري العليل ولكنه ينظر إلى العلة، وإن الله سبحانه وله العزة لا يبالي باصطلاح الناس ولكنه ينظر مصلحتهم حين يعطي ويمنع، فليس في الأرض فقير قط إلا عند نفسه، ولو اطلع كل إنسان على الغيب لما اختار إلا ما هو فيه.
وكذلك لا تنسل أيها المسكين المحزون ريش جناحيك اللذين تطير بهما لتنظر لون ما تحته من الجلد فتترك نفسك بلا إيمان وتدع قلبك بلا توكل وتسقط آخر الأمر مع هؤلاء الذين لا يرتفعون عن الأرض في طيرانهم نحو السماء إلا مقدار ما يرتفع غبار الأرجل في طريق السابلة.
ويحي! كيف ترامت بي شجون الحديث أيها القمر الضاحك الطروب حتى جعلت غبار الأرض بيني وبينك، بل غبار الأرجل في طريق السابلة؟ لقد شبهت علي هموم الإنسان هذا المحو الأسود الذي يزين جبهتك حتى لحسبته عاطفة من عواطف الرحمة رسمتها بعض الغضون في تلك الجبهة المتهللة كأن السماء تجاوب بها نظرات المحزونين في الأرض، فاعترضت، هذه النظرات أراها وأخبرها لأعلم علمها فما ألقيت علي حتى صرت هما متجسما، وانتظمت تلك اللحاظ في قلبي فما هو إلا صفحة وما هي فيه إلا أبيات القصيدة الإلهية التي ترجمتها بلساني هذه الترجمة الضعيفة كما يعبر لسان المتألم عن أوجاعه بعض الأنين والزفرات.
وليت شعري أين أنا من مبلغ ذلك، وهل في الأرض من يستطيع أن يضع منطقا للغة القلب الإنساني فيترجم به قصيدة الآلام التي تسيل رقة لأن كلماتها كلها (عيون)، والتي تنسكب فيها كل قوى النفس المختلفة كما تتدفق الجراح على نمط واحد بدم واحد، ويكون ألم الحب أبلغ معنى فيها وتكون أنت أيها القمر بضيائك وجمالك وآمال العشاق فيك وابتسامات الحسان لك فلسفة الخيال لهذا المعنى اليتيم؟
أيها القمر! إن كان في الناس من يظن أن الفلسفة تكون دين المستقبل الراقي فإنما هي فلسفتك المؤمنة الجميلة التي تجمع الإيمان وهو الحب السماوي، وبين الحب الذي هو الإيمان الأرضي، وغاية الرقي لهذا المستقبل البعيد أن يكون أفق آماله أدنى إليك بطهارته وجماله، وما من رجل حكيم يحلم بهذه المعيشة السماوية على الأرض أو يفكر فيها إلا وهو يقرأ تاريخ أحلامه في سطور أشعتك، ويرى هذه الأشعة نفسها كأنها معاني ذلك المستقبل تهبط كل ليلة إلى الأرض لتعتاد الإقامة فيها، ثم لا تلبث أن ترى الناس قد هبوا من مضاجعهم حتى تفر إلى السماء مذعورة وتتوارى مع الأحلام كأن الناس تشابهوا عليها وهم نيام فلما رأتهم منبعثين رأت أكثرهم ليسوا من الناس ...
الفصل الثامن
وكم ناجاك أيها القمر من عاشق قبلي، فإنك ما انفصلت عن الأرض إلا ليجعل الله منك أفقا لآمال الإنسانية الجميلة، بل أنا لا أحسب عاشقا من لا يناجيك ومن لا يأتي بدموعه وأحزانه وهواجسه وآماله فينطرح في هذه اللجة التي ترسلها من شعاعك وينغمس فيها ساعة ثم يخرج وكأنه جسم من نور يخفق في جنبه قلب كالنجم ويترك في نورك بقايا ظلمات نفسه الحزينة تراها السماء فترى بها كيف يكون ظل هذا القلب الإنساني المتألم، ثم تجمع أنت هذه البقايا وتدرجها في قطعة من شفق الفجر تشابه الدم الذي كانت تغتدي به من الحياة وتدع الزهرة الحسناء ترسل عليها نظرة من نظراتها الفتانة لتعرف أي ثمن من الأنفس والقلوب تشترى به في الأرض ابتسامة كابتسامتها في السماء.
وبعد ذلك تروغ بها من وراء الصباح روغة ثم تدفنها في بعض الكواكب المنطفئة التي هي مقبرة الأبدية في غيب الله.
فلا يزال دأب العاشق الحكيم أن يذوب في شعاعك لكيلا يبقي من نفسه غير المادة التي تذوب في شعاع الجمال، فيكون بجملته نفسا روحية تتلقى الحكمة العالية عن النظرات والابتسامات كما تتلقاها عن الآداب والشرائع.
وقد نرى أقواما ممن يدعون الحب سفها وغلظة وإن أحدهم ليذهب فيقذف بنفسه في ابتسام الجميلات كما ترمي بالحجر في الماء العذب لا يعدو بطبيعته أن يستنقع فيه.
وترى ذلك الجلف لما يعالج من شهوات الحياة كأنه قدر تضطرم آخر النضج وهو لا ينفك يزعم أنه يشعر بالحب وأنه مبتلى به ويقول لك حسبك من حب مضضه أشد على النفس من سعار الجوع ... ثم ترى أضلاعه وقد أحاطت بقلبه كالسياج حول المكان الخرب. وهو قلب هدمه الحب حتى سواه بمعدته كما يسوى الحائط المنقض بالأرض، ولكن الحب لم يبنه؛ لأن القلب لا يبنى على أساس من المعدة وليس في الرجل أمتن من هذا الأساس ... لا بل ما أحرى ذلك القلب أن يكون معدة ثانية تؤتي غذاءها من سفاله ولؤمه فلا يدخله الطيب حتى ينقلب خبيثا.
ويأتي هذا الرجل - ولا يكون إلا غنيا - وقد أدل بنفسه وأشرق وجهه كأن فيه كل معاني ذهبه وفضته، وإن كان هذا الوجه الجلدي كأنه بعض ما خلق من أحذية الرذيلة ... فيريد أن يتسفه الجمال عن ماله وثروته؛
1
ويريد أن يشتري الحسناء الجميلة التي خلقت للحب لا للبيع؛ وكأنه والله رجل جاءت به اللعنة المقعدة ليحملها ويسعى بها، فحملها وحمل الخزي معها وألقى عليه الله غضبه من عيني الجميلة التي اشتراها.
اشتراها من فقرها بماله، ومن تعاستها بقبحه؛ وكل تجارة الجمال في يدي الفقر والتعاسة، واشتراها وانقلب بها وكان لها - وا أسفا عليها - خزانة من حديد حبست فيها لؤلؤة!
فيا أيها القمر، لقد زعموا قديما أن هذا المحو الذي تراءى به هو عين ثرة، وأنها تفيض بقطرات من دموعها في الغلس على زهرة من أزهار الفجر؛ وزعموا أنها لا يفلح السحر إلا إذا وفق أهله لدمعة من دموعك يأخذونها من شفتي الزهرة كأنها كلمة القضاء؛ فأرسل أيها القمر كل ما في عينك على زهرات فجر الحب ليمتزج بندى هذه العيون الساحرة التي يبكي بها الجمال المحزون في أسره: وعسى يفلح سحرها في أولئك البهائم فيمسخهم أناسا يحسون بشعور الجمال الذي يخلق في كل حسناء ليكون حياة لجمالها وجمالا لحياتها فإن الله يأبى أن يجعل في الأرض أو في السماء قوة تجعل الحسان الجميلات يشعرن من الغلظة والفظاظة بما يشعر به أولئك البهائم.
رحمة لهذا الجمال!
وجه وضيء الطلعة كأنه السعادة المقبلة، يصل إليه دم الشباب من القلب فيتحول فيه إلى جمال وفتنة، كما تجول قطرات الماء في غصن الياسمين ثم تتحول في تلك الزهرة الطاهرة العطرة إلى جمال وابتسام وكأن معاني الحسن التي تتحير في خديه حقيقة إلهية تطل على النفوس من وراء الشفق.
فيه حاجبان كأنهما تمثيل للانحناء الخطي في الهندسة السماوية التي وضع الجمال على قواعدها، يمتدان فما أدرى ما أمثلهما به غير أني لا أظن الفتنة القلبية تمتد مجتمعة إلا بمثل هذا اللطف، وينتهيان إلى طرفين دقيقين لا يغمز بهما إلا ثقبا القلب من جانبيه.
وتحتهما عينان تنظران - والله - بروح تكاد تنطلق ولا يفهم عنهما إلا كأنها ناطقة، وتضطربان فكأنما يضطرب معهما جلال السماء إذ يلوح في صفائهما، وتغضيان تفترا ودلالا فكأنما تلقيان على الروح فترة تحلم فيها من أحلام السماء وتستيقظ، وتدوران بما يشبه الحياة والموت كأنهما الكلمتان الإلهيتان «كن ويكون» في محجرين واسعين كأنهما في هذا الجمال منفذا القضاء والقدر.
وخدان تحير فيهما الجمال فوقف يتلفت عن يمين وشمال، وتظن من التهابهما بشعاع الجمال أن العقل الجميل انقسم فيهما إلى فكرين يتوقدان ليقبس منهما الشعراء نار النبوغ التي يضطرم بها العقل والقلب والروح فيصرن جميعا شعلة واحدة تضيء بالشاعر على آفاق الحكمة والحب والإيمان، وتراهما أسيلين بارزين، فيالله! هل هما ثديان صغيران من الورد يرضعان طفل الحب - الذي هو النحلة الإلهية في لذع الأرواح وإطعامها - العسل والمعسول؟
وبين الخدين أنف جميل تنحدر عليه اللحظات الفاتنة وتلتقي إليه الأشعة الوردية فهو خلاصة الجمال، وتراه بين ذينك الخدين كالإنصاف بين القوتين، فالنظرة إليه وإليهما ترجع إلى قلب المحب بالخوف المطمئن الذي لا ينفك يخوفه الحب ويبعثه عليه.
ودون ذلك فم أصغر من فم الحقيقة، كأن في شفتيه الرقيقتين الحمراوين روح الدم، ولقد استدارتا على ثغر هو الكأس التي يسكب فيها حنين الروح ممزوجا بلهفة القلب معطرا بابتسامات العواطف الشريفة التي أزهرت في ربيع الغرام، ويرشف كل ذلك في قبلة لا يراها العاشق السعيد إلا روحا من الحب يؤتمن عليها ضميره الشريف.
يا رحمة لهذا الجمال كله إذ يباع كأنه عرض من العروض التجارية، وهل يكفر عن جريمة القتل أيها الأغنياء أن تكون دية القتيل كفنا من خيوط الذهب؟
ألا بعدا ألا بعدا! ولعمري أي سخرية من الجمال أقبح من إرسال الجميلة لتقلم بألحاظها أظفار الوحش؟
غفرانك اللهم! أفرغت السماء فلم يبق فيها رجم واحد يسقط على شيطان من أولئك الشياطين فيتركه عبرة خالدة في تاريخ التجارة بالجمال؟
أيوثق فؤاد الحسناء بالسلسلة الربوض التي صيغت من كلمات الزواج ثم يشد طرفها في يد الرجل الذي تكرهه أو ستكرهه شخص البغض ويقال مع ذلك إنهما ارتبطا برباط مقدس ... ألا تسمع أيها البغيض صلصلة هذه السلسلة في دموعها أو في تنهدها أو في أنينها وكل ذلك لعنات تنسكب من جوانب روحها؟
سوأة لك، أيعيد التاريخ نفسه وتكون أنت الصنم الذي تقرب له الذبيحة وعيناه جامدتان تبعثان الرعب والخوف وليس فيهما من كل تلك القدرة الكاذبة إلا جمود ينظر بهزء وتهكم تلك النظرات الميتة؟
عزاء أيتها الجميلة التي يتغذى قلبها من البغض ذلك الغذاء المسموم فينبسط على شبابها خيال موتها ويجعل حياتها نزعا واحتضارا، وتصبح في ظل ذلك الغنى كواطئ ظله في الرمضاء يحسبه الأحمق بارد القدم؛ لأنها في الظل ولا يدري أنه الظل الناري يغطي الجمر بالدخان.
عزاء أيتها الجميلة التي انفرد قلبها في هذه الدنيا الموحشة، وكل محب يرى له قلبا يخفق مع قلبه فكأنه يعيش فيها بقلبين يضاعفان اللذة والسرور في حياته، أما أنت فليس من قلب يخفق بالهوى مع قلبك، حتى ولا قلبك يخفق معك؛ لأنك لا تحسين منه شعور الحياة في هذا الموت.
عزاء عزاء ... فقد كتب لك القدر يا روضة الورد أن يأخذ إليك طريقه المحتطب الجافي الذي يكاد ظل روحه يجعل العشب الأخضر يابسا، فلم يكن له قرار إلا أن تذوى أغصانك وتنتثري أوراقا ذابلة ليملأ منك حبالته غير مبال إلا كما تبالي البهيمة ما عسى أن تزهق من أرواح الزهر حين ترمرم من نبات الأرض
2
وقد هدم منك يا روضة الورد قصر الشفق الأرضي فلا عجب أن تكون روحه لثقلها وظلمتها كأنها قطعة من روح الليل.
ها أنت اليوم يا زينة الآمال كالباب المهدوم بين الماضي الذي كان قصرا وبين المستقبل الذي هو من أنقاض هذا القصر، فما يرى الناظر من هذا الباب إلا كيف تنهدم الحياة وكيف يثور غبارها.
بلى قد يكون شقاؤك مثالا لتبيان حقيقة غامضة يراك الناس في حزنك فيفهمونها، وما أكثر مثلها من حقائق الحياة التي لا تضرب لها الأمثلة إلا من القلوب والأكباد؛ فأخبري الناس من هؤلاء الحمقى والمجانين أن الذي يطلب سعادة نفسه بالغنى ويريد أن يشتريها من الله بالمال الكثير تحويلا على البنك ... إنما هو كذلك الأبله المغرور الذي يستقبل شمس الظهيرة وهو يريد أن يطرح ظله أمامه وتأبى الشمس إلا أن تجعله إلى الوراء فلا يكون لهذا المخدوع بنفسه إلا إحدى اثنتين: إما أن يستدبر الشمس ويجري على قواعد النور في الحقيقة لا في الوهم فيرى الشمس نفسها قد ألقت الظل أمامه كما يريد، وإما أن يمضي على ما تخيل فيكون أمام ظله ولأنفه بعد ذلك الرغم الدغم.
3
ويا الله ما أغلى الحقائق في هذه الدنيا إذا كان من ثمنها مثل هذا الجمال الغض الذي يرخص في شرائه القلب حين ترخص في شراء القلب الحياة.
الحقيقة الخالصة كالصديق الخالص المخلص؛ يجد الإنسان من المال والمتاع ما يبذله ثمنا للدنيا فيحوزها ولا يجد ثمن الصديق إلا أن يبذل له ذات نفسه!
أي عدو لصيق نفذ إلى حياتك أيتها الجميلة، وقد تكفي نظرة واحدة من عينيك النجلاوين وابتسامة واحدة من فمك الوردي ليؤلف الشاعر من وصف تأثيرهما في نفسه كتابا خالدا في فلسفة الصداقة وجمالها، ولذتها في النفس وحلاوة آمالها؟ لقد أنفذوا في قلبك مسمارا من الذهب ... وأصبحت لا تشعرين من ثقل الحياة وآلامها إلا أن هذه الشمس مطرقة ذهبية ترفعها الأقدار لتدق بها عليه من لدن تشرق إلى أن تغيب، فالألم الشديد في بقائه وأشد الألم في نزعه، وإذا انتزعه الموت أو غير الموت أو رقت لك الملائكة يوما فجاءتك في ثياب الحدادين لمعالجته واجتذابه فهل ينتزع من قلبك هذا الثقب العميق الذي أحدثه فيه وملأ غوره بالألم ومرارة الحياة؟
يا لها عداوة ثابتة بعقد وشهود ... وبين القبول والرضى والبركات ... وفي ثياب العرس أيضا ...؟
ويا لها سخرية فظيعة من القلب الإنساني وما فيه من الفضيلة والحب!
ويا له من نفاق بارد يراءى به الله خالق القلب، وتقابل به الملائكة موئل الفضيلة، وتواجه به هذه الحسناء عروس الحب في وقت معا!
وكم من مر رأيت عالما يوثق عقدة الزواج بخطبته، وكاهنا يربط القلبين بكلماته رباطا مقدسا، فكنت أهتز من الفرق إلى القدم خشية أن تكون روح المصادفة العمياء في ثياب هذا العالم أو الكاهن، فإن ثلاثة تأتي إلى الإنسان من تلقاء نفسها وهو ينتفي منها جهده : هذه المصادفة، والعداوة، والنحس؛ وقلما أحس إنسان بإحداها إلا فوجئ بثلاثتها جميعا، وكذلك أشأم ما يعد في الشر تعدد شؤمه!
وأنت أيها القمر حدثني بربك: ألست تسخر من هؤلاء الكتاب والأدباء والمصلحين الذين يصفون داء الشرق المريض المحتضر بمقالات أكثر عددا من تراب القبر، ثم يريدون ليصفوا دواءه فتراهم من اختلاط آرائهم وتنوعها كأنما يحملون صيدلية بحالها إلى بيت المريض زعما أنهم مهما أخطئوا فلن يخطئوا أن يكون في بعض ما تحتويه من السوائل والعقاقير ما فيه شفاء ... ولا يعلمون أن التاريخ الإنساني وإن لم يكن نسائيا غير أن المرأة هي التي تلده وترضعه بأخلاقها حتى يتماسك ويدرج ثم يذهب يافعا، وأن العظمة التاريخية وإن كانت مترجلة إلا أن في باطنها دائما روح أنثى، حتى إنها أعظم ما تكون إذا همت همها لشيء من آمال هذه الروح.
السفينة لا تزال تجري بمجدافيها ما اتجها في الحركة إلى جهة واحدة، فإن اختلفا وتدابرا في هذه الحركة التوت السفينة أولا واضطربت ثانيا وانقلبت آخرا؛ وهل الرجل والمرأة إلا مجدافان في زورق البيت (العائلة) الذي يعبر بهما نهر الحياة!
ألست تعلم أيها القمر وأنت ابن الصحة والعافية الذي هرم ولم يزل فتي، أنه ما دمنا لا نرى عند رأس هذا الشرق المريض إلا لحى وشوارب فإننا لا نرى ثمة إلى أعشاش الجراثيم الاجتماعية ... وأنه إذا وجد هناك نساء من أمهات الحب والفضائل وجد معهن من يلدنهم من رجال العزم والمبادئ الثابتة؛ وهل الحب والفضيلة والعزم والمبدأ المخلوق منها جميعا إلا عناصر الطبيعة الحية في التاريخ الذي لا يموت من بقاء مادته من الإنسان.
واها لهذا المريض الذي يوثقونه بتلك الربط الممزقة من المقالات ويدفنونه في هذه الأكفان المنشورة من الصحف ولا يدعونه يتنفس إلا من جراثيم اللحى والشوارب التي تريه ظلال الآخرة ... وهو في كل ذلك الكرب الذي أخذ بأنفاسه لا يجد السبيل إلى روح من الحياة الطيبة في نفس امرأة فاضلة.
الشرق المريض
يا من لهذا المريض المدنف العاني
مردد النفس من آن إلى آن
إذا رأى الليل ظن القبر شق له
وظن أنجمه آثار أكفان
ويحسب الصبح باب الموت لاح له
وفوقه الشمس قفل فتحه داني
نضو على رمق فان يعيش به
لكنه رمق مهما يعش فاني
مطرح الهم في كل الجهات فما
يرى بكل مكان غير أحزان
تؤزه كبد حرى معلقة
من الأضالع في أعواد نيران •••
يا من له إذ يرى الدنيا كما اشتبهت
بقية الحلم في أجفان يقظان
يا من له إذ يرى الأشياء واهنة
كما بدا أثر الذكرى بنسيان
حي طريح يراهم يلحدون له
لم يستحوا أن تراهم منه عينان
يا من لذا الشرق، يا من للطريح على
لحد الزمان بأيدي شر أعوان
مستيئسين ولما يأملوا أملا
واليأس داء لنفس العاجز الواني
ويسبقون الردى للقبر وهو قضا
في الغيب، فأعجب لهذا الشان من شان
ويذعنون ولا ما يذعنون له
لكنه خلق يقضي بإذعان
ويسألون المنى تجري بلا عمل
كالريح جارية في غير أرسان
سخف وأسخف منه وهو معجزة
وضلة أن يسموه بإيمان •••
يا ويح للشرق من أمر به لبك
كالهم ملتبس في رأي حيران
من كل مضلعة ترمى بمعضلة
رمي النحوس لذي بؤس بحرمان
تعقدت والتوت كالمستحيل فما
تريك من موضع فيها لإمكان
لو صوروها لكانت صورة امرأة
مصبوغة من جهالات بألوان
ربوا لذا الشرق يا قومي ممرضة
تحنو عليه بإحساس ووجدان
تطبه روحها مما ألم به
فإن أقتل داء الشرق روحاني
يرى عواطفها الأديان خالصة
إذا تلعب أهلوه بأديان
يرى بها عهده عهد الملائك ال
بز الطبيعي، في حسن وإحسان
يرى حنانا كعهد الأنبياء وما
تشتاقه الروح فيه منذ أزمان
يرى الفضائل بعد اليأس قد ظفرت
آمالهن ونالت قلب إنسان
ربوا له الأم يا قومي فلو وجدت
في الشرق ما طاح في ذل وإهوان
تلك التي ترفع الدنيا وتخفضها
بطفلها فهو والدنيا بميزان
تلك السماء التي تلقي لهم ملكا
فلا يربونه إلا كشيطان
تلك التي جعلوها في المنازل كال
مرآة مطروحة في دار عميان
ذنب الرجال، ولكن النساء به
معاقبات بآلام وأشجان!
كمقلة العين في آلامها اعتلجت
والداء ما مس منها غير أجفان •••
لهفي لجوهرة زهراء ما سطعت
في جيد غانية أو فوق تيجان
لهفي لريحانة خضراء ما قطعت
إلا لتذبل في راحات نشوان
لهفي لغانية عذراء ما وضعت
إلا بمنزل أسواء وأضغان
لكل معنى جميل ما يلائمه
كما تمازج ألحان بألحان
وليس يطرب صوت الماء منحدرا
كما نرى وقعة في سمع ظمآن
فيا إلهي إذا أجريت في قدر
يوما بأن يلتقي في الناس ضدان
فاجعل للطفك معنى في التقائهما
كيلا يكون من الضدين زوجان
فما خلقت كمثل البغض في امرأة
ينالها رجل يوما بطغيان
ولا خلقت كمثل الذل في رجل
تسومه امرأة سوءا بعدوان •••
يا بانيا بقلوب الناس يجعلها
قصر الحياة، تبصر أيها الباني
أسس على الحب، لا تلق القلوب سدى
وضع لكل فؤاد شكله الثاني
فلست تبني سوى دار إذا خربت
أركانها خربت من كل عمران
دار السعادة دار الحب منى ال
أحباب دار الغرام الخالد الهاني
آه يا قمري الحبيب، بل يا حبيبي القمر، إن الحب لا يخلق إلا الحب ولكن جمالها الرائع يصور لي مقابح الناس ومعايبهم كأن عيني منذ صار فيها شيء من نور ذلك الجمال الساطع صار فيها شيء من نور الألوهية الذي يخرج منه كل ليلة فجر جديد ولا يفنى، فلا أنظر إلى خلقة المعاني ولكن أنظر إلى تركيبها الخلقي، ولو كانت لك أيها القمر هذه النظرة في شؤون الناس وحيل الأعداء وأحوالهم لارتمضت واخترمك الهم من زمن بعيد، ولما بقيت إلى اليوم بهذه الطفولة الإلهية التي تملأ السماء ضحكا وغبطة.
صب ظلام الليل كله في قلبي وقني من عداوة لئيم تسود وجه الدنيا في عيني وتجعل قلبي من يأسه وانقباضه كأنه مملوء بالدم الغليظ الفاسد الذي ركد وخبث بعد أن سال من جروح الصداقة! ولك الله أيتها الصداقة الشريدة في هذا العالم فلا تلم بأحد في حوادث الحياة إلا كما يلم ضيف البيداء إذ يتغطى بملاءة النهار نائما فمتى أظلمت الفجاج المسفرة انطلق عليه سواد. وهل أشد وأوجع لعمري من سقطة إنسان يتغفل عنه صاحبه حتى يستنيم إليه ويرتبط معه ثم يثب به فجأة وقد خذله خذلانا ناريا وقدت عداوته؟ ومن الذي يستطيع أن يتوقى هذه المفاجأة، بل كيف يستطيع؟ وأية قوة في الأرض تمنع سقوط أحد العدلين المتوازنين على ظهر البعير السائر إذا خف الآخر وأخل بالموازنة فلا يكون قد دفعه ثقله أكثر مما يدفعه الثقل الذي فقده؟
يا لله! أنجد عداوة ثابتة ولا نجد صداقة كالعداوة على الأقل ... لقد أصبحت هذه الصداقة جسما حيا بنوع من الحياة المادية يتمثل في كل صديق، فترى علامة حياتها وقوتها في الأصدقاء أن يصافح بعضهم بعضا بالأيدي ويدوس بعضهم بعضا بالأرجل، فكأنهم إذا اكتفوا بالمصافحة واجتزءوا بها مما عدا ذلك خافوا على أرجل الصداقة من الشلل إن هي منعت من الحركة، أما القلب الذي تحيا به هذه الصداقة الخالدة ... فهو الحب الثابت الذي لا يتغير ولا يتحول ولا ينقص بل يزيد كما يصفه الأصدقاء فيما بينهم، ذلك الحب الذي تسميه أقوالهم أسماء منتحلة، ولكنك حين تتعرفه من أعمالهم لا تجدها تعرف له إلا اسما واحدا وهو الطمع ... فاضحك الآن من صداقة الناس أيها القمر الذي يعيش بالطفولة الإلهية، وها أنا ناظر إليك فعسى أن يسقط إلى قلبي شيء من هذا الضحك، فإن لم يكن فمعنى منه يجعل الفكر ضاحكا، فإن لم يكن فلا أقل من أن يحرك في ذاكرتي ذلك الهواء العطر الجامد في بعض زواياها فيندفع إلى قلبي بذلك الرنين الذي حفظته الذاكرة من ضحك تلك الحسناء الفاتنة قبل أن تحق النوى وينصدع الشمل وأبقته على نفسي لتسمعها منه في هذا الفراق الطويل ألحان الحب والأمل.
الفصل الأخير
والآن أراك أيها القمر أنشأت تنحدر مسترسلا كأنما رفعتك الملائكة وأخذت تمشي بك الهوينى لتجعلك في الأفق نافذة يستطل منها وجه الفجر وقد جعل الليل ينطوي كأنه غطاء الموت تكشفه الملائكة عن الأرض وتلفه من ههنا وههنا لتتنفس الحياة من غشيتها ثم تجمع عليه أطراف هذه القمراء
1
لتحرزه فيها وترجع بالموت إلى السماء مطويا منك أيها القمر في قطعة من الخلود.
وتطايرت النسمات من الأرض خفيفة لا تثبت كأنها أرواح الأحلام مسرعة في الهواء يدافع بعضها بعضا وهي تلتقي عند الأفق بنسمات رقيقة هادئة تبعث على القلوب أنفاسها فتستشعر منها روح الجنة كأنها آتية منها لتكون أرواحا للأزهار العطرة التي ينبت بها ضوء النهار الجديد.
لقد بدأت الحقيقة أيها القمر تتوارى معك في حجاب الغيب فلا تلبثت قليلا يا صديقي السماوي الذي آنست منه معنى الخلود، والذي لم أكد أصادقه حتى ملأ قلبي من نور السماء وجمالها وجعلني أشعر بمعنى الإخلاص في الصداقة وهو أحد المعنيين اللذين لا يشعر بهما إلى أسعد الناس في الأرض طرا، ألا وهما الإخلاص في الصداقة والإخلاص في الحب.
الصداقة كما عرفت منك يا صديقي السماوي لا تكون كذلك حتى تدع الإنسان كأنه يشعر في السراء والضراء بنفسين، فيضاعف له السرور؛ لأن كلتا النفسين تطلب الزيادة منه ويضعف عنه الهم؛ لأن كلتاهما تعمل لنقصه إذ هو هم نفس واحدة وتوزعته نفسان ويكون الإنسان في الحالة الأولى كأنه يتلقى روح النعمة لنفسه بروح السرور من صديقه، وفي الحالة الثانية كأنه يتلقى روح الجزع بروح الاطمئنان، وإن أشقى الناس من لا يستطيع أن يجد إلى جنبه في سورة الجزع نفسا أخرى تجزع له باطمئنان ليطمئن في جزعه، وهي الصداقة بعينها، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
ولقد نادمتك منذ الليلة يا صديقي بهذا الحديث، فهل ثملت فملت، أم أنت قد مللت؟ حاشا أن تكون كالأصدقاء في هذه الأرض تقدر فيهم آجال العواطف الرقيقة بالساعات فكأن الإنسان يقرأ في قلوبهم رسائل موجزة يفرغ منها قبل أن تفرغ أفواههم من كلمات التحية والتملق وغيرها من الأشواك اللينة التي أحاط الله بها هذا الورد من شفاههم ... ولا يكون للرسالة منها حظ من إطالة النظر إلا إذا كان فيها هم يشغل النفس فيكون عمرها بمقدار اختبال الفكر فيها ...!
أنا منك أيها القمر منذ الليلة كالعقل المنكمش في ظل القصيدة الحكيمة من الشعر السري البليغ؛ تنير له الأبدية بأشعة معانيها لينفذ بالنظرة الصادقة في أعماق الحياة. وقد نظرت طويلا وملأت عيني من نورك وجعلت ما يعترضني معنى إلا بادرت أبدة النظر
2
وأرسل على حقيقته من هذا الضياء، وها أنا لم أكد أبلغ أقرب هذه الأعماق من قلب الإنسان؛ ولقد أراك مستوفزا تجمع أشعتك في هذه الأنفاس من نسمات السحر كما تجمع الحسناء أشعة فكر محبها الملتهب بأنفاس التنهد والعتاب، فبماذا أستضيء فيما بقي من هذه الأعماق الكثيرة؟
لعل الحكمة الإلهية لا تعطى للإنسان إلا بمقدار يلائم طبعه، مخافة أن تفرط عليه أو تطغى إذا حمل منها ما لا يتفق وضعفه كالخف
3
الذي يجده المريض في ناشئة العافية: إن اقتصر عليه انتفع به، وإن هو اندفع يطلب المزيد منه انتكس؛ والطبيعة نفسها تخفي عن الإنسان أكثر الحقائق رحمة منها بالعواطف التي هي قوام نفسه فيحن إلى الأزهار والأشجار مثلا ولا يعلم أنه يتجذب بشعوره النفسي إلى بقايا الإنسان الذي اغتذت به الطبيعة في الأجيال الغابرة وما يليها. فكأنه من ذلك بإزاء قبر نباتي، وإن هو علم واكتنه وغالب الطبيعة على نفسها كشفت له هذه الطبيعة الحقائق الأولى التي يسترها عن جهله الإنساني وهي في نفسها ظاهرة لأنها تستر ما وراءها من العلم الإلهي - ثم تركته عندها حائرا وأبت عليه إلا أن يكون كالعريان الذي يلبس ثوبا من الظل.
فالحقيقة المطلقة كالحياة: حرب لا انتصار فيها على الموت، فلا تضع أوزارها وإنما يقع المتقدم ليتقدم المتأخر فيقف موقفه ويسد مسدة ويجاهد طويلا أو قصيرا ثم يسقط، ولا يثبت من الحقيقة إلا شيء يسير يشبه فرق ما بين التأخر والتقدم، كما لا يثبت من الحياة إلا شرف هذه الخطوة وعارها للجريء الباسل والمفئود الجبان.
لقد ساهرتك أيها القمر لأحادثك، وناجيتك لأستخرج الفكر من نفسي فإنه لا يستدعيه شيء كالحديث، وانتضيت هذا للفكر لأجتلي منه الحقيقة النفسية المحجبة، وتأملت الحقيقة لأرى ذلك الشعاع الإلهي الذي لا يخالطه شيء حتى يذوب فيه إلى شعاع مثله وهو نور الحقيقة الذي رأيناه في حبة القلب فسميناه الحب ولقد ملأت قلبي منه وأسبغته علي إسباغا، ومددت لي فيه حتى تناولت به الجمال السماوي وجعلته في قلبي بجانب هذا الجمال المستفيض كأنه الموجة القلقة التي يمسك منها الساحل طرف البحر فإذا أفلت الآن وقد أمسيت صاحب سري وداخله أمري أفتراك مغلقا وراءك باب الحلم الذي كانت منه يقظة الأمل في هذا القلب، وهل تاركي أنت لا تلتقي مع الصبح هذه البقيا من الأحلام تنفر خفافا وثقالا دون أن تضيء لي معانيها بأشعتك التي تنبعث من مصباح الحب على كل جهة في الأرض فعسى أن تكشف لي منها عن بقية من أحلام تلك الحبيبة التي أسرفت في دلالها حتى إنها لو ملكت البخل لبخلت به فأتبين ما فيها من تصورات نفسها وأمزجها بنفسي؟
آه! ليت الهواء الذي تتناثر فيه قبل الحسناء، وليت نسيم الصبح الذي يحمل إلى الغيب أحلامها - مما يمكن أن يحرز ويدخر؛ إذن لكان في الحب شيء أسمى من الخلود نفسه؛ ولكن هيهات هيهات! فما رأيت كالمحب لا يملك من الماضي إلا ذاكرته، وهي مع ذلك ترد عليه لذات الماضي كلها حسرات! وإن الظفر بزهرة ناضرة معقودة في غصن قد ذوى وتحات ورقة لأيسر منالا من بقاء قبلة واحدة في ذاكرة المحب حافظة نضرتها وعطرها من أنفاس الحبيبة وريقتها!
هكذا كتب على الحب أنه من تولاه فإنه يدعه على حال كأنه فيها روح لا جسم له، فمهما يصب من لذة أو ألم فإنه يتحول معه إلى اللذة والألم جميعا فيكون ألما لذيذا؛ ومن أجل ذلك خص المحبون من بين الناس بكثرة الشكوى؛ لأنهم يستلذون آلامها، والعاشق الذي لا يستطيع أن ينفس من شكاته أو لا يجد من يستريح إلى بثه لاعج الشكوى مما برح به إنما هو في الحقيقة المثال الإنساني الشاذ الذي يمكن أن يتعرض منه العلماء معاني الجنون مع بقاء عقله، فهو المجنون العاقل.
لشد ما أحاول أن أصف الحب وصفا طبيعيا يدنيه من هذه الأفهام الغليظة الجاسية التي تريد أن يخلق فيها الحب من أوصافه لتفهم الصفة والموصوف معا ... وإن الإنسان ليستطيع أن يحيل الجمر فيجعله رمادا، ولكنه متى همد الجمر بقي رماده كأنه همود القدرة الإنسانية نفسها فلا سبيل من بعد إلى بعث الحياة النارية فيه؛ وقديما كان هذا من شقاء أهل العقول في الناس؛ فإن المصلح يستنفد قوى عقله فيهم ولا يزال يأتيهم بكل شيء عفوا سهلا لا احتباس في أمره حتى يأتي الموت على نفسه، ثم لا يكون إلا أن يعرفوا بعد ذلك أنه كان مصلحا ... كالذي ينظر حتى يحور الجمر لعينيه رمادا فيعرف من الرماد أنه كان جمرا، ولو فهم الناس الحب على حقه لاستجدوا لأنفسهم عقولا، فإن الطبيعة نفسها متى أرادت أن تجدد إنسانا لتبعث منه رجلا من رجالها، شاعرا أو حكيما أو بطلا، تجلت على نفسه في صورة إحدى الحسان وتركته محبا، فلا تكون آلام الحب وآماله في باطنه إلا تغييرا نفسيا كأنه على ذلك إنما يهدم ويبنى.
وأعرف رجلا كأنه نزغة شك بين أهل العزائم، وهو من أولئك الذين لا يعرفون الحب إلا عبثا من العبث وباطلا من البطالة، وقد جعل يصفه مرة بأنه جنون أو نوع من الجنون، وأن الشباب ينتحر به انتحارا لذيذا كما ينتحر الصيني بالأفيون، إذ يستل روحه فيتأمل في جوانبها ويتلمى بإشراقها ويلذ هنيهة بأجمل ما صنع الله ثم يردها مريضة كليلة قد حال من الخمود حالها، ثم يفيق وينبعث كأنه مطرود من السماء - ورآني صامتا كأنما تبعثرت نفسي
4
فمر في هذيانه عجلا غير رائث، كأن شيطان البغض ينفس على لسانه، وكأنه ليس في الأرض محب غيري فليس فيها عاذل غيره، وأنا في كل ذلك أصعد فيه وأصوب فلا تأخذ منه عيني إلا رجلا موضوعا في جلده وثيابه كما يطمر لوح الثلج في اللفائف والقشور.
الحب جنون، ولكن النبوغ جنون كذلك؛ أما الشباب الذي ينتحر به فإنما هو ذلك الشباب الهرم الفاني الذي يعدل في بعض النفوس الضعيفة ذلك الهرم الشاب في بعض الشيوخ المتصابين، وليت شعري ما عيب الغذاء الجيد إذا تناوله المحموم فكان غذاء لعلته وحال منها إلى علة جديدة؟
مثل ذلك البغيض يرى الدنيا كأنها معدة واسعة وكأنها فيها قوة من قوى الهضم ... فالمعاني التي لا مادة فيها هي عنده بسبيل المادة التي لا معنى لها، ولن يستطيع أن يفهمه معنى الحب الصحيح بما تشربه نفسه إلا من كان فيه شيء من القوة الخالقة؛ إذ لا فرق بين من يقدر على أن يجعل المعدة قلبا ومن يقدر على أن يجعل مثل هذا محبا ومن يقدر على أن يجعل إنسانا من الناس كأنه أحد الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ... ومهما جهدت به فإنك لا تزيده إلا يبسا وموتا، كأشعة الشمس: تميت الزهرة التي نفدت مادتها وهي نفسها التي كانت تحييها من قبل.
لا أنقص عندي من الرجل الذي يحال التمام فيتحول إلى معنى واحد، فيكون عقلا كله أو قلبا كله أو بطنا كله؛ لأنه لا يتم بواحدة من تلك إلا إذا كان فيه العالم كله. إنما هي ثلاثة: المبدأ الشريف للنفس، والفكر السامي للعقل، والحب الطاهر للقلب؛ هذه هي معاني الكمال الإنساني.
وإذا أنت رأيت من ينتحل الحب جبانا بكيئا متبلدا كأنه حشرة في ترابها، ورأيته يبكي بجوارحه وأعصابه المتألمة بدموع أقبح من صبيب العين الرمداء يغسل بها الحب ليجعله طاهرا بزعمه كما يغسل الميت ... فاعلم أنه راجع من آخر الطريق وهو يحسب ظله أنه في أولها؛ لأن عواطفه قد هرمت وأقبلت تدلف في سبيل الحياة، ولا غرو فإنك ترى الطفل يتدفع مسرعا كأنه واثب إلى المستقبل، والشيخ يتسكع مبطئا كأنه منقلب منه؛ والحب والحياة شبيهان في الطفولة والهرم.
آه! ما أبعد ما أحاول وصفه، فإننا نلتقي ألفاظنا الكثيرة في هذا الشعور العميق الذي نسميه الحب ونظن أننا استخرجناه فيها وأن الألفاظ قد لبسته حتى لا فضلة منه؛ وما أشبه ذلك من عملنا بصنيع رجل يدلي في أبعد غور من المحيط حبلا قد طاول به شعاع الشمس حتى إذا هبط القاع جذبه فلا يجد فيه من المحيط كله إلا قياس العمق في لجة واحدة يومئ إليه بلل قليل من نضح الماء.
ماذا تبلغ العبارة من حب تخرج كل أنة فيه وكأنها صوت انقطاع خيط من خيوط الحياة في القلب؟
وماذا تبلغ العبارة من حب يتألم صاحبه وهو يجهل سبب ألمه، فيحسبه بعض الحمقى يتألم بلا سبب وهو في رأي نفسه كأنه يتألم بكل أسباب الآلام.
بل ماذا يبلغ الكلام من حب يجعل الحياة كأنها كلمة رضى في شفتي الحبيبة، ويجعل الحبيبة نفسها كأنها كلمة رضى في شفتي الحياة؟
وترى ماذا تبلغ عبارتك أيها اللغوي من حب تتجلى به الحسناء الفاتنة على محب دنف يراها محاطة بأشياء لا يعرف ما هي إلا أنها تجعل لتلك الحسناء في عينيه مهابة الرجاء الذي يوشك أن ينقطع، والخوف الذي يوشك أن يندفع؛ وتظهرها له كأنها مثال لثورة العقل الإنساني الملتهب؛ وتجعل ألفاظها ومعانيها ولمحاتها كأنها أضواء منبعثة من عالم روحي هو أقرب الأشياء وأبعدها، كتخيل الحقيقة والحقيقة نفسها؟
ثم ماذا يبلغ شعرك أيها الشاعر من حب أنت تحتال على تمثيله بالشعور الذي تستوحيه من كل ما هو جميل في السماء والأرض لتصف بكل ذلك فكرا في رأس رجل وعاطفة في صدر امرأة.
ضع اللغات كلها في فم المحب، فإن خفقة واحدة من قلبه ستجعلها كلها بلا تأثير كأنها صمت ناطق؛ لأن هذا القلب هو الساحل الذي تقف عنده أمواج الألفاظ بطبيعتها أو بطبيعته ولو ترامت من جوانب هذا الخضم الذي يجيش بالحياة.
ولا أرى غير شيئين لا يتخطى إليهما عقل الإنسان ولا تنالهما لغته، ما وراء القلب، وما وراء الطبيعة.
الحب! إحدى كلمتين هما ميراث الإنسانية، وهدية التاريخ، والطرفان اللذان تلتقي عندهما السماء بالأرض.
كلمتان ليس لهما من المعاني غير الحقيقتين الخالدتين: حقيقة الألوهية في الروح، وحقيقة الإنسانية في القلب: هما الدين والحب. خرجا من الجنة مع آدم وحواء، فكان الدين في تقوى آدم وتوبته، وكان الحب في جمال حواء ودموعها.
فيأيها القمر الذي أشرق لآدم وحواء ليلة هبوطهما فكافآه بكل ما قدرا عليه وهو ذلك الابتسام الذي يشبه نورا منبعثا من قمرين، وبقيت فيه من يومئذ رقة الفضيلة ومسحة الجمال وجاذبية الحب وبقية من تلك التعزية الأنثوية التي لا تزال تحس بها أرواح العشاق في كل بقعة طلعت عليها من الأرض.
أيها القمر الذي لا يزال يشهد كل عاشقين آدم وحواء، ولا يزال يبعث في كل دمعة من دموع الحب روحا نورانية من شعاعه تبث فيه أنفاسا من حياة الأحلام، وتجعل العاشق يرى كأن هذه الأحلام اللذة المؤلمة تنصب من أجفانه المغرورقة وهو يقظان؛ لأن حبيبته الحسناء تبخل بها عليه وإن كانت أوهاما.
أيها القمر الذي هو قلب الليل ممتلئا من ابتسام النية الطيبة فلا يزال الليل رحيما حتى بالمجرمين وأهل الآثام!
أيها القمر الذي هو تاريخ النور على الأرض والذي يشرق على الطبيعة بجلال وهيبة وكأنه يرسل إلى هذه الأرض في كل شعاع نظرة ملك من الملائكة لتعزية قلب من القلوب المتألمة المحزونة.
أيها القمر الجانح إلى المغيب في نسمات الفجر كأنه جناح الحب يخفق به في الفضاء على هواء عليل من الزفرات والتنهد.
أيها القمر! أيها القمر! ليس شيء أقوى من الحق، ولكن الشريعة في يد الظالم تجعل الباطل أقوى منه، وليس شيء أعنف من البغض، ولكن الجمال الذي يتولاه اصطلاح الناس يجعل الحب أقسى منه. فبالله كم تحلم قوة الإنسان بالحرية وكم يحلم شبابه بالحب ثم يستيقظ الإنسان لطالعة من الحوادث فلا يجد من نفسه وقلبه إلا ما يحده ويصفه أهل التشريع وأهل التشريح، وتغيب تلك الأحلام الإلهية كلها بغياب الوجه الجميل الذي بعث فيه القوة من عينيه والشباب من فمه، كما تغيب الآن كل أحلام السعداء معك أيها القمر بعد أن طلع عليها الصبح كأنه أشعة الحياة التي جمعها الليل من أعين النائمين!
نامعلوم صفحہ