ثم شاء الله لنا خلال القرن ونصف القرن الأخيرين، أن نفتح نوافذنا على هؤلاء القوم، لننقل عنهم من حصيلتهم العلمية، ما نتزود به في مواكبة الحضارة، وكان الأمل - وما يزال - معقودا على جامعاتنا، وما تستطيع أن تؤديه إزاء هذه المهمة الحضارية الخطيرة، التي نريد بها أن ننفض عن أنفسنا غبار عهد قديم؛ لنتهيأ إلى الدخول في عهد جديد.
وهنا أعود إلى فكرة «سماسرة العلماء» بمعنييها: معنى العلماء الذين يحيطون بعلومهم إحاطة تامة، ويضيفون إليها الجديد المبتكر، ومعنى العلماء الذين يقصرون همتهم على التوصيل السلبي لما أنتجه الآخرون، أعود إلى فكرة «سماسرة العلماء» هذه، فأجدني على ضوئها أوضح رؤية للحالة في جامعاتنا، التي عليها وحدها ينعقد الأمل؛ إذ إنني على هذا الضوء أرى ضربين من الأساتذة في جامعاتنا: أحدهما فريق العلماء الذين هم عليمون حقا بعلومهم، حتى ليصلحون أن يكونوا بين العلماء في أي جزء من أجزاء الأرض، وأما الآخر فهم أولئك الذين اضطرتهم الظروف القاهرة إلى الاكتفاء بأن يكونوا وسطاء بين من ينتجون العلم ومن يستهلكونه، ولست على يقين، كم تكون النسبة العادية، بين سماسرة العلماء الذين هم علماء بالمعنى الإيجابي المنتج، وسماسرة العلماء الذين هم وسطاء، فلأترك هذه النسبة يحددها لنا من هم أعلم مني بمسائل الإحصاء.
ولم يكن سماسرة العلم الذين هم وسطاء، ليبعثوا في النفس كثيرا من الأسى، لولا أن هذه الوساطة نفسها، قد باتت معرضة لكثير مما ينحرف بها عن أمانة التوصيل؛ إذ لم تعد الوسائل ميسرة أمامهم؛ ليلموا بالبضاعة العلمية الجديدة المعروضة في أسواق المنتجين، فتراهم يضطرون اضطرارا إلى أن يصبوا وساطتهم العلمية هذه، على بضاعة تعفنت لكثرة ما «باتت » في خزائنها.
يقول المثل العربي القديم: «إلا يكن إبلا فمعزى» - إذا لم تكن الإبل ميسورة، فلا أقل من ماعز - ونقول على نهج هذا المثل: إذا لم يتيسر لنا «سماسرة العلماء» بالمعنى الإيجابي، الذي أراده الحارثي المكي بهذه العبارة، فلا أقل من تمكين السماسرة الوسطاء من النقل والتوصيل، بأن نفتح لهم أبواب ذلك على مصاريعها.
عصبية عمياء
آرثر كيستلر كاتب يهودي، يصادفك اسمه دائما مع الصفوة العليا من رجال الفكر والأدب، كلما اجتمعت هذه الصفوة على هدف تخطط له، كان أول كتاب قرأته له - وكان ذلك في أوائل الخمسينيات - هو «ظلام في الظهيرة»، شدني إليه ما قرأته عنه في مجلات النقد، وهو كتاب يقص فيه، ما كان قد لقيه من تعذيب في سجن سياسي، ثم شاءت لي المصادفات البحتة أن يهديني صديق في موسم من مواسم الأعياد كتابا، فإذا هو لهذا الكاتب نفسه، وهو «عصر الحنين» الذي أراد أن يبين فيه كيف أن أبناء هذا العصر، تنقصهم الفكرة التي يؤمنون بها، فتعصمهم من الحيرة والضياع.
قرأت هذين الكتابين في فترتين متقاربتين، ووجدت فيهما قدرة على التحليل والتصوير تستوقف النظر، ولم أكن بعد قد عرفت من ذا يكون هذا الكاتب، لكني أخذت أتعقب ما يصدره وما ينشره، وأبحث عما كان قد سبق له أن نشره وأصدره؛ فكان من أهم ما صادفني له، كتاب عنوانه: «اليوجي والقوميسار» - وهو بالطبع يشير باليوجي إلى ثقافة الهند الصوفية، كما يشير بالقوميسار إلى ثقافة الشيوعية المادية - وهو إذ يوازن بينهما، قد جعل إحداهما في طرف، والأخرى في طرف، وبين الطرفين ظلال وأطياف متدرجة تأخذ من كليهما، وقد تأخذ من طرف التصوف جانبا أكبر، وذلك بحسب الظروف التي تحيط بجماعات الناس في مختلف الأقطار، وعرفت أن الكتاب قد أخذ عنوانه من عنوان المقالة الرئيسية بين مجموعة مقالات جمعت فيه، وكانت هذه المقالة التي عنوانها «اليوجي والقوميسار»، قد صدرت سنة 1942م، أي إنها صدرت ورحى الحرب العالمية الثانية دائرة.
و«القوميسار» في هذه المقالة، هو رمز للعقيدة بأن الغاية أهم من الوسائل المؤدية إليها؛ ولذلك فلا ضير في قسوة أو غدر أو تعذيب، إذا كان ذلك يحقق الغاية المطلوبة آخر الأمر، وأما «اليوجي» - في هذه المقالة أيضا - فيرمز إلى عقيدة مضادة لذلك، إذ يرمز إلى العقيدة بأن الوسائل أهم من غاياتها، فلا بد من حياة مقدسة مطهرة من الإثم، مهما تكن النهاية التي تنتهي إليها تلك الحياة، عقيدة القوميسار هي أن إصلاح الأوضاع الخارجية يأتي أولا، ثم يتبعه بالضرورة إصلاح الحالات النفسية الداخلية، وأما اليوجي فعقيدته هي عكس ذلك؛ إذ إن شوط الإصلاح عنده يبدأ من داخل النفس وينتهي إلى ما هو خارجها من أوضاع ظاهرة، منهاج القوميسار مرتكز على العقل المنطقي العلمي المنصرف، ومنهاج اليوجي معتمد على الحياة الشعورية الداخلية، الأولوية عند القوميسار هي للجهد الذي تبذله الجماعة مجتمعة، وأما اليوجي فالأولوية عنده هي للجهد الذاتي الخاص الذي يبذله الفرد في رياضته لنفسه.
كان ذلك هو مضمون المقالة كما نشرت أول مرة، لكن الكاتب قد عن له بعد ذلك - في أواخر الستينيات - ألا يكتفي عن حياة الصوفي الهندي بما يقرؤه؛ فلقد أحس إحساسا قويا نبع له من خبرته الشخصية، بأن دعوة «القوميسار» إلى العلم وحده والحياة المادية وحدها، لم تعد تكفي للحياة المتزنة المطمئنة، وتساءل: ترى هل يكون الجانب المفقود هو شيئا من صوفية الهند، أو قل صوفية الشرق بصفة عامة؟ فما هو إلا أن ارتحل إلى الهند وإلى اليابان، ليرى بنفسه ماذا عند اليوجي الهندي، أو عند ال «زن» الياباني ليعطيه لعلم الغرب وصناعته؟
التقى وهو في الهند بأربعة أقطاب من رجال التصوف، وزار عدة مراكز خاصة بأبحاث اليوجا، وكانت النتيجة التي انتهى إليها أن كل ما عند الهند من روحانية، لا يجدي شيئا في تخفيف العبء النفسي عن المثقف الغربي، فليس فيها - كما رآها بعينه المتحيزة - إلا التخلف والقذارة والمرض، وأما عن اليابان فقد زارها، وهو مفتون بها أول الأمر، لأخذها بأسس الحضارة العصرية، وظن أنه ربما وجد فيها امتزاج هذه الحضارة العصرية بنزعة صوفية شرقية ، فيتحقق له ما أراد أن يجده علاجا لأمراض العصر، لكنه سرعان ما خاب أمله - هكذا قال - لأنه إذ نفذ ببصره وراء الظواهر المصطنعة، رأى كيف تنصب حياة الياباني في قوالب جامدة، وبدل أن تعمل عوامل الحضارة العصرية، التي أخذتها اليابان لنفسها أخذا سريعا، بدل أن تعمل تلك العوامل على تحطيم قوالبهم الجامدة تلك، زادتها صلابة وجمودا؛ لأن الياباني في أعماقه قد خشي على وجوده من الضياع في تيار عصر، لم ينشئه هو، بل أنشأه آخرون، فازداد تمسكا بقوالب حياته؛ لعلها أن تكون له درعا واقية تصون ذاته المتميزة عن سواها.
نامعلوم صفحہ