هذا العصر وثقافته
تحولات في المناخ الفكري
بين ماض وحاضر
ديمقراطية بغير سياسة
مسك الختام
إنسان من حروف
وحدة النظر
حلقة مفقودة
أسئلة تنتظر الجواب
قومية ثقافية
نامعلوم صفحہ
سماسرة العلماء
عصبية عمياء
حضارة تأكل نفسها
القلة الناقدة
سياسة بغير ساسة
بحثا عن الإنسان الجديد
الرؤية الساذجة
مقياس الحضارة
حوافز التقدم
وكذب بطن أخيك
نامعلوم صفحہ
إقناع فاقتناع فقانون
الزيارة الرابعة
بداوة وحضارة
حرية الفلاح المصري
وجدان هذا الشعب
لقاء في الغربة
طبيعتنا وما ينبع منها
المصريون وسر خلودهم
ثقافة المصري وجذورها
النغمة الهادئة
نامعلوم صفحہ
هذه بعض سماتنا
ثقافة أخرى
قطرة المداد الأخيرة
ليس إيمان الدراويش
من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
عزلة وسط الزحام
الشرك الأصغر
توابع وزوابع
نرجسية بغيضة
الرأي المستقل
نامعلوم صفحہ
قبل الثورة وبعدها
رسالة إلى شاب
محنة وامتحان
كشف حساب
قامات متساوية
شعب مكافح
الثورة الصامتة
ضمير الأمة في كتابها
طريقنا إلى إحياء الدين
هذا العصر وثقافته
نامعلوم صفحہ
تحولات في المناخ الفكري
بين ماض وحاضر
ديمقراطية بغير سياسة
مسك الختام
إنسان من حروف
وحدة النظر
حلقة مفقودة
أسئلة تنتظر الجواب
قومية ثقافية
سماسرة العلماء
نامعلوم صفحہ
عصبية عمياء
حضارة تأكل نفسها
القلة الناقدة
سياسة بغير ساسة
بحثا عن الإنسان الجديد
الرؤية الساذجة
مقياس الحضارة
حوافز التقدم
وكذب بطن أخيك
إقناع فاقتناع فقانون
نامعلوم صفحہ
الزيارة الرابعة
بداوة وحضارة
حرية الفلاح المصري
وجدان هذا الشعب
لقاء في الغربة
طبيعتنا وما ينبع منها
المصريون وسر خلودهم
ثقافة المصري وجذورها
النغمة الهادئة
هذه بعض سماتنا
نامعلوم صفحہ
ثقافة أخرى
قطرة المداد الأخيرة
ليس إيمان الدراويش
من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
عزلة وسط الزحام
الشرك الأصغر
توابع وزوابع
نرجسية بغيضة
الرأي المستقل
قبل الثورة وبعدها
نامعلوم صفحہ
رسالة إلى شاب
محنة وامتحان
كشف حساب
قامات متساوية
شعب مكافح
الثورة الصامتة
ضمير الأمة في كتابها
طريقنا إلى إحياء الدين
هذا العصر وثقافته
هذا العصر وثقافته
نامعلوم صفحہ
تأليف
زكي نجيب محمود
هذا العصر وثقافته
الجمع بين الأصالة والمعاصرة مشكلة، بل لعلها تكون أعسر المشكلات الثقافية، وأشدها تعقيدا بالنسبة للبلاد الناهضة - ونحن منها - ولكنها مشكلة غير واردة في البلاد المتقدمة؛ فلا تجد في فرنسا - مثلا - أو في إنجلترا سؤالا مطروحا أمام المفكرين يسألهم: كيف تكون سبيل الناس إلى مركب ثقافي، يجمع بين العناصر الأصيلة من جهة، وخصائص العصر من جهة أخرى، بل لا تكاد تقع عند القوم هناك على علامة واحدة، تدل على قلق يساورهم بالنسبة إلى تراثهم القديم، على حين أن مشكلة المشكلات الفكرية عندنا اليوم، هي هذه:
كيف أصون تراثي ليبقى هذا التراث في حياتي الحاضرة كائنا حيا، لا مجرد أثر من آثار المتاحف؟ ثم كيف يتفاعل هذا التراث نفسه مع مقومات هذا العصر، تفاعلا يجعلني أحيا الجانبين معا، بغير تكلف ولا تصنع ولا ادعاء، فأظل عربيا كما كنت دائما، وأكسب صفة المسايرة لعصري حتى لا أتخلف، فيصيبني الركود فالجمود فالموت؟ وليس الأمر في هذا مقتصرا علينا - نحن الأمة العربية - وحدنا، بل هو إشكال يتحدى رجال الفكر في جميع البلاد الناهضة كما ذكرت، ولقد حدث لنا منذ نحو ثمانية أعوام، أن تلقينا دعوة من جماعة من أرباب الثقافة في لاهور بباكستان، وجهت دعوتها إلى أكبر عدد ممكن من البلاد النامية - كما يسمونها - وكان كاتب هذه السطور أحد ثلاثة، ذهبوا موفدين من مصر لتمثيلها في تلك الندوة الفكرية، وكان الموضوع الرئيسي المطروح للبحث، هو هذا السؤال نفسه: كيف يتاح لهذه الأمم الناهضة أن تقبل مقومات العصر مع المحافظة على تراثها؟ ما هي أفضل صيغة يجتمع بها العنصران في بلد ما، دون أن يطغى منهما عنصر على عنصر آخر فيمحوه؟ إننا لنشاهد بالفعل بلادا انمحت ملامحها الأصيلة، فلم يبق لها إلا جانب الثقافة الوافدة، دون أن تكون هذه الثقافة الوافدة متصلة بطبعها الأصيل، فلا هي عدت بهذا الانصهار بين البلاد المتقدمة، ولا هي استبقت لنفسها طبيعتها؛ لتنعم بطمأنينة النفس على أقل تقدير.
أعود فأقول إن هذه الأزمة الفكرية لا يتأزم بها بلد من البلاد المتقدمة، وتعليل ذلك واضح وبسيط؛ فالحضارة العلمية الجديدة وليدة تلك البلاد، انبثقت من عقول رجالها وقلوبهم، وبالتالي فقد جاءتهم موصولة بماضيهم صلة طبيعية، حتى لتستطيع أن تتعقب هذا الحاضر إلى الوراء خطوة خطوة، من خطوات التاريخ الذي سارت به تلك البلاد المتقدمة حياتها، فإذا تسلسل الحلقات أمام عينيك واضح، لا يدعوك إلى قلق أو تساؤل! تستطيع أن تسير بادئا من أينشتين وزمرته من أصحاب الفيزياء النووية الجديدة، وقافلا إلى الوراء خطوة خطوة، فإذا أنت مع نيوتن وغيره، أو أن تسير - في دنيا الفنون التشكيلية - بادئا من بيكاسو وقافلا إلى الوراء، فإذا أنت مع رجال الفن في عصر النهضة الأوروبية، وقل هذا في كل شعاب الحياة العلمية والفنية، بل قله كذلك في كل ميادين الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة، وذلك رغم التفاوت البعيد بين ما كان قائما في الماضي، وما قد أصبح عليه الأمر في الحاضر، لكنه تفاوت كالذي يكون بين الطفل والرجل، يمكنك تعقب العناصر التي هي قوام الرجل الآن، فإذا أنت بعد التحليل أمام الطفل الذي كان، وإزاء هذا النمو الطبيعي لا ينهض أمام الناس إشكال خاص بالتراث، ولا سؤال عما يجب عمله للجمع بين ما هو تراث وما هو معاصر.
لكن الإشكال الضخم هو إشكالنا نحن، والسؤال المعضل هو سؤالنا نحن؛ فحضارة العصر ليست من صنعنا، ولا شاركنا في ذلك الصنع بكثير أو قليل، بل هي حضارة، فتحنا بابنا فإذا هي واقفة أمامنا كائنا عملاقا متكامل البناء والأجزاء، يريد الدخول في الديار، أو نريد له نحن مختارين ذلك الدخول، فأخذتنا الربكة الشديدة: ماذا أنا صانع بمحتوى بيتي إذا دخله هذا العملاق؟ أؤلقي بذلك المحتوى في البحر؛ ليخلص المكان للوافد الجبار، أم أسارع بإعادة ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون ثمة تعارض بينه وبين الزائر الكبير؟ إن شيئا كهذا يحدث بالفعل حين تشاء المصادفة للواحد منا - إذا كان يحيا في بيته حياة متواضعة - أن يفجأه زائر عرف عنه الثراء الضخم أو التحضر الحديث، فعندئذ تأخذنا ربكة فيما نحن صانعوه بأنفسنا، ليتفق الوضع مع منزلة الزائر المترف المتحضر.
نعم، هذه هي الصورة لما هو قائم في حياتنا الفكرية: في دارنا تراث نعتز به، وفيه انعكاس لخصائص نفوسنا، غير أن حضارة جديدة تقحمت علينا الأبواب، ودخلت بقوادمها، وإن تكن بقية أعجازها ما زالت منحشرة عند أبواب الدخول، ولو كان هذا الوافد الكاسح غير مرحب به بإجماع الرأي، لسهل علينا طرده والقبوع وراء أبواب مغلقة - وقد فعلت ذلك بلاد نعرفها - وكذلك لو كان هذا الوافد مقبولا بحذافيره، ليحل محله ما هو قائم، بحيث يملأ وحده علينا المكان؛ لما تعذر علينا أن نلقي بما تحتوي عليه الدار في ألسنة اللهب ونستريح، لكن حقيقة الأمر هي بين بين؛ فلا بد من تقبل الزائر عن رضى، شريطة أن يتكيف لما عندي من مقاعد وأسرة وأوان وصحون.
لست أذكر أن تبادل الرأي في الندوة الثقافية، التي حضرتها في لاهور منذ ثمانية أعوام أو نحوها، قد وصلت في هذه الأزمة الفكرية الحضارية إلى حل أو ما يشبه الحل، برغم أن عددا كبيرا من البلاد الواقعة في مثل هذه الأزمة قد حضر من يمثله، وإني لأرى الأمر أخطر جدا من أن يترك بغير حل، وهو كذلك أخطر جدا من أن تترك حلوله في أيد عابثة، يسهل عليها حل العقدة بقطعها. ولست أفتري على الله شيئا من الكذب، إذا زعمت للقارئ بأن هذه المشكلة الفكرية، كادت لا تبرح ذهني يوما منذ ندوة لاهور، ولقد أوشكت على الوصول إلى حل يرضيني، عرضت أطرافا منه في مناسبات متفرقة، لو جاز لي أن أضغط هيكله في هذا الفراغ الضئيل، الذي بقي لي قبل أن يتم المقال، لقلت: إن أوضح ما يميز العصر هو العلم وتقنياته، هذا أمر لم يعد محلا لاختلاف، فإذا صببنا هذا المضمون العلمي بمميزاته في وعاءين من عندنا، كانت لنا النتيجة التي نريد: أما الوعاء الأول فهو اللغة، فأنقل إلى اللغة العربية نتاج الفكر العصري كما هو، يصبح هذا النتاج عربي القسمات والملامح، وأما الوعاء الثاني فهو قواعد السلوك من تشريع وعرف، على شرط ألا تتعارض هذه القواعد مع ما تقتضيه علوم العصر على اختلافها، فإن تعارضتا وجب الإبقاء على علوم العصر، وحذف ما تعارض معها من قواعد السلوك، وإني لعلى يقين بأن الأنماط السلوكية الإقليمية المحايدة، بالنسبة لأحكام العلم كافية وحدها، أن تصون للأمة مميزات تميزها من سواها، وبهذا - فيما أتصور - نساير عصرنا بالفكر العلمي، ونميز أنفسنا باللغة، وبهذه الأنماط السلوكية التي نتفرد بها.
أقول ذلك بهذا الإيجاز المركز الذي لا يشفي غليلا، وأنا على علم بالصعاب التي تكتنف ملء هذين الوعاءين بمضمون العصر؛ فوعاء اللغة يجد من يصرخون - من العاجزين - بأن تعريب بعض العلوم ضرب من المحال، ووعاء السلوك المميز كذلك يجد من يحتجون - من الجامدين - بأنه إما أن يبقى لنا قديمنا كله، وإما أن تلقوا بعلومكم هذه الجديدة كلها في النار، لكننا بهذه الكلمة لا نخاطب لا هؤلاء ولا أولئك.
نامعلوم صفحہ
تحولات في المناخ الفكري
سؤال عن حياتنا الفكرية، طرحته أمامي، ولا أظنني قد اهتديت عنه إلى جواب مريح، وهو: هل حدثت في حياتنا الفكرية ثورة تساير الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحدثت لنا تغيرا ملحوظا لا جدال فيه؟ بعبارة أخرى: هبنا قد أقمنا مقارنة تحليلية بين أوجه نشاطنا الفكري خلال العشرينيات من هذا القرن، وما يقابلها خلال الستينيات، فهل نجد بينهما فارقا نوعيا، يستحق أن يوصف بأنه «ثورة» في عالم الفكر؟
قد يقال إن الثورة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، هي في حد ذاتها ثورة في الفكر، إذ ماذا يكون الفكر إلا فكرا في موضوعات هذه الميادين؟ أم تريد للفكر أن يتحرك في فراغ التجريد، فينمو أمامنا كالجذع الأجرد، بلا ورق ولا ثمر؟ نعم، قد يقال هذا، وهو قول لا يخلو من الصواب! ولكن أوجه النشاط الفكري التي أعنيها، ليست هي الأوجه التي تنشط بها في هذه الميادين، بل هي أقرب إلى أن تكون المبادئ الأولية والقواعد الأساسية، التي بناء عليها نقيم حياتنا الفكرية القريبة من ميادين العمل في دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولقد يحدث للناس أن تتسق لهم مبادئهم الأولية تلك وقواعدهم الأساسية، مع دنياهم في هذه الميادين، فتكون حياتهم عندئذ متجاوبة الأجزاء، لا شد فيها ولا جذب؛ مما يحدث القلق والتوتر. ولكن قد يحدث لهم كذلك ألا تتسق لهم هذه مع تلك، فيعيشون النتائج من شكل، ويحتفظون بالرءوس من شكل آخر، كالذي يضع أمامه قواعد النحو، ثم يكتب على خلافها، فتقول له القواعد: ارفع الفاعل وانصب المفعول، ويظل محتفظا في رأسه بهذه القاعدة النظرية، ولكنه إذا كتب نصب الفاعل ورفع المفعول!
وعندما طرحت أمام نفسي السؤال عن حياتنا الفكرية: هل حدثت أو لم تحدث فيها ثورة، وحاولت الجواب، خيل إلي أننا قد غيرنا أسطح حياته في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأبقينا ما هو مستقر في القاع العقلي من مبادئ وقواعد، كما هو بغير تغيير؟ ولو كانت تلك الأسطح متمشية مع هذا القاع، لاستقرت السفائن في بحارها، ولكنهما يتنافران في مواضع كثيرة، فالسطح العملي في ناحية، والقاع النظري في ناحية أخرى.
ولو اصطلحنا على أن نسمي مجموعة المبادئ والقواعد «بالمناخ الفكري» أو «بالنمط الفكري»، كان الذي أريد أن أقوله، هو أن حياتنا المعيشة على صعيد النشاط العملي، قد تغيرت بصورة ملحوظة، وأما المناخ الفكري العام، فيوشك ألا يصيبه من التغير شيء ذو بال، فإذا تذكرنا أن «الثورة» الفكرية بمعناها الأعمق، لا يتم قيامها إلا إذا تحول «المناخ» أو «النمط» من حال إلى حال، علمنا أننا ما زلنا بحاجة إلى جهد، يبذل في حياتنا الفكرية لعلنا نظفر بما نريد.
إنك لا تعرف طبيعة العصر من تفصيلات المعيشة العملية، بقدر ما تعرفها من الطابع الفكري العام، الذي تكون له السيادة في توجيه الناس، وهم بصدد الحكم على الأشياء والناس والمواقف، فمهما قلت لك من دقائق حياة الناس في مصر وفي أمريكا - مثلا - فلا أحسبك قادرا على تصور الفرق بينهما، بمثل ما تقدر على هذا التصور، إذا أنا استقطبت لك هذه الدقائق الكثيرة في طابع عام، كأن أقول: إن في مصر يضيق المكان ويتسع الزمان (التاريخي)، وفي أمريكا يتسع المكان ويضيق الزمان، فالأرض المأهولة في مصر ضيقة، فلا تسمح لأهلها بالمغامرة، مع امتداد عمرها التاريخي، امتدادا تترسب معه طائفة ضخمة من التقاليد، فتكون النتيجة هي أن يشتد احترام المصري للمبادئ، مع قلة فرصته في سرعة الحركة وأبعادها، وأما في أمريكا فالأرض فسيحة الأرجاء، والأمد التاريخي وراءهم قصير، فتتاح الفرصة للتحرك السريع والبعيد للسببين معا، فلا رقعة الأرض تحول دون المغامرة، ولا التقاليد الموروثة بذات وجود فتعيق المغامر.
أعود إلى فكرتي التي أردت عرضها، وهي أن العصر، أو القوم، إنما يعرف بالمناخ الفكري العام، أكثر جدا مما يعرف بدقائق التفصيلات العملية، فهذه هي في الأغلب نتيجة ذلك، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ لكي تتم للحياة وحدتها. وإن ذلك نفسه ليصدق على الحياة العملية ذاتها، فترى العلماء - علماء الطبيعة مثلا أو علماء الكيمياء - لهم في كل عصر «نمط» فكري عام، يلتزمونه في منهاج البحث والنظر، ولولا ذلك لما كان لكل عصر علمي طابع خاص يميزه، فلقد كان النمط الأرسطي في التفكير، هو المناخ الغالب على علماء العصور الوسطى جميعا - في الشرق وفي الغرب على السواء - فالعناصر الأولية التي كانوا يردون إليها الكائنات، هي العناصر الأربعة المعروفة التي أخذ بها أرسطو، وطريقة الاستدلال العلمي هي نفسها الطريقة القياسية التي صاغها أرسطو، وهكذا، فإذا قلنا إن النهضة الأوروبية قد أحدثت «ثورة» في الفكر، كان معنى ذلك أنها غيرت «النمط»، واستبدلت به «نمطا» آخر، سواء بقيت النتائج العلمية القديمة أو تبدلت؛ إذ المعول في الثورة الفكرية هو على النمط العام في طريقة التفكير، لا على تفصيلات النتائج ودقائقها.
ولا تحدث الثورة الفكرية - بمعنى إحلال مجموعة من المبادئ النظرية محل مجموعة أخرى - دفعة واحدة؟ أو على الأقل أن مثل هذا التغيير المفاجئ لطريقة التفكير، لم يحدث خلال التاريخ، وإنما تتم الثورة الفكرية، بتحولات تدريجية تنقل الناس شيئا فشيئا، من نمط فكري قديم إلى نمط آخر جديد، ومتى يحدث هذا التحول؟ إنه يحدث كلما طالع الناس في حياتهم وقائع، يستحيل تعليلها بمبادئهم القديمة؛ فيضطرون اضطرارا إلى اصطناع مبادئ جديدة، تفسر لهم تلك الوقائع، فمثلا: كان الناس ذات يوم على مبدأ، أن الارض ثابتة والكواكب تدور حولها (وهذا هو النمط البطليموسي في الفلك)، فظهرت لهم أشياء لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا إذا غيرنا المبدأ وجعلنا الأرض - كغيرها من كواكب المجموعة الشمسية - تدور حول الشمس (وهذا هو نمط كوبرنيق في النظر)، وعندئذ يقال بحق إن ثورة فكرية قد حدثت في تاريخ العلم.
والأغلب ألا يغير الناس طريقتهم في التفكير، عند أول استثناء يظهر لهم في الأفق، بل تظل الاستثناءات تتراكم، والنمط القديم باق، إلى أن تتأزم الأمور لكثرة الحقائق، التي لا تتفق مع الطريقة القديمة في التفكير، وهنا يرجح أن يظهر في الناس رجل؛ ليقدم نظرة جديدة قادرة على حل المتناقضات التي تراكمت، فتكون هذه هي «الثورة» الفكرية.
وعقيدتي هي أن ثورة فكرية كهذه، لم تحدث لنا خلال هذا القرن كله، برغم التغيرات الكثيرة، والهامة، التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأن النمط الفكري القديم باق كما كان دائما، والعجيب الذي يلفت النظر، هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة، وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة أخرى، لا تحدث فينا شيئا من القلق أو التوتر، الذي لو حدث لحفزنا إلى سد الفجوة، بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.
نامعلوم صفحہ
تمنيت لو أن الفرصة متاحة هنا، لتحليل مناخنا الفكري القديم إلى أهم عناصره، ولكن حسبي أن أوجز القول في عبارة واحدة، فأقول إن طريقتنا في النظر لم تزل - كما كانت منذ قرون - هي البحث في الموروث عن «الشواهد» التي تبرر الجديد أو لا تبرره، فكأننا نمسك بين أيدينا قالبا من حديد؛ لنرغم الحياة المتدفقة الفوارة على الخلود فيه إلى سكينة النائم، تتغير حياتنا وذلك الإطار الحديدي لا يريد أن يتغير، وما لم تحدث في مناخنا الفكري تحولات، توائم بينه وبين صور الحياة الجديدة، فسيظل التنافر قائما بين الرأس والقدمين.
بين ماض وحاضر
عندما نقول إن حياتنا الفكرية في عصرنا، يجب أن تختلف اختلافا بعيدا عن الحياة الفكرية لأسلافنا في عصورهم، فلسنا بذلك نقول شيئا لنا فيه اختيار، أو قل: إن الاختيار الوحيد أمامنا في هذا المجال، هو أن نختار بين أن تكون لنا حياة فكرية أو لا تكون، فإذا كانت الأولى، أي إننا إذا اخترنا أن تكون لنا حياة فكرية، فعندئذ يصبح حتما علينا أن تجيء حياتنا الفكرية مختلفة عن حياة أسلافنا، رضينا ذلك أم كرهناه.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين ماض وحاضر، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية في كثير جدا من ميادين الفكر والأدب، فاللفظة المعنية تظل قائمة بيننا، كما كانت قائمة بين أسلافنا، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم، فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف، وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين، لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم، ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل، وأرادوا تعاملا وتبادلا مع أهل المدينة، وسأقدم هنا مثلين أختارهما من المعاني الوثيقة الصلة بدنيا الأدب والفكر.
المثل الأول خاص بالكتابة والكاتب والكتاب، فماذا نفهم اليوم من قول القائل عن رجل إنه: «كاتب»؟ ألسنا نفهم من هذه الكلمة معنى، كالذي نصف به رجلا مثل العقاد أو طه حسين؟ فالكاتب عندنا اليوم هو من يعالج «الأفكار» بسطا وتحليلا، أو يصور تفاعلات «السلوك» البشري متمثلا في أفراد، يخلقهم خلقا في قصصه ومسرحياته، أو يعيد خلقهم ابتعاثا من صفحات التاريخ، ومن العجب أننا نستخدم هذه الكلمة نفسها - كلمة «كاتب» - لندل بها على مهنة أخرى، لا نكاد نذكرها إذا ما كان حديثنا حديثا عن الفكر والأدب، وأعني بها المهنة الإدارية التي يناط بها كتابة الرسائل الحكومية أو حفظها، وهي المهنة التي يرتقي صاحبها من «كاتب» إلى «باش كاتب».
وعكس ذلك هو ما كان سائدا بين أسلافنا، فإذا قيل عن رجل إنه «كاتب»، لم يرد إلى أذهان السامعين قط أنه ذو علاقة بنقد «الأفكار» وتمحيصها، ولا بتصوير السلوك البشري في قصة ومسرحية، وإنما المعنى الذي يرد إلى الأذهان هو تهذيب المعنى الثاني في حياتنا، أي المعنى الذي نفهم به من الكاتب أنه رجل يعمل في دواوين الحكومة أو ما يشبهها؛ ليشرف على كتابة الرسائل الرسمية وحفظها، فلو طولب مؤرخ بأن يذكر أعلام الكتاب (بضم الكاف وتشديد التاء) في تاريخنا القديم، لما ذكر بينهم الجاحظ والتوحيدي وأبا العلاء؛ لأن هؤلاء كتاب بمعنى هذه الكلمة عندنا نحن اليوم، وكذلك لو طولب مؤرخ معاصر بأن يذكر أعلام الكتاب في حياتنا الحديثة، لما ذكر إلا رجالا من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم، ومحال أن ينصرف ذهنه إلى من يعملون في دواوين الحكومة وغيرها بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه.
ففي دنيا الفكر والأدب، يمتنع التفاهم بين السلف والخلف، إذا ما دار الحديث حول «الكاتب» وما ينبغي له أن يفعل، فمن هو كاتب عندنا لم يكن كذلك عندهم، ومن هو كاتب عندهم ليس كذلك عندنا. إنهم إذا أرادوا وصف الكاتب الأمثل قالوا كلاما كهذا: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وكثافة اللحية، وملاحة الزي، حتى لقد أوصى والد والده أن يتخذ أسلوب الكاتب في حياته، فيكون نقي الملبس، نظيف المجلس، طاهر المروءة، عطر الرائحة. وقد يستطرد الواصفون عندهم للكاتب النابغ في دنيا الكتابة، فيذكرون طريقته في كتابة الحروف، وفي إعداده لأقلامه، «فيتخير من القصب أقله عقدا، وأكثره لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادا؛ لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة، واعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.»
قد نقول نحن اليوم هذه العبارة الأخيرة نفسها: «محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.» لكننا إذا قلناها، عنينا بها شيئا آخر غير الذي عناه بها قائلها القديم، فقد أراد بها حين قالها: عناية الكاتب بالقلم من حيث هو قطعة من قصبة، يجب أن يختارها على صفات معينة، وأن يبريها بسكينة على طريقة معينة، وأما نحن - إذا قلناها - فلا نعني بها إلا «الأفكار» أو «الصور السلوكية» التي يجري بها القلم، كيف يجب أن تسدد في الهجو وفي الدفاع، كما يحدث للرمح في يد الفارس.
ويطول بنا الحديث إذا استرسلنا في ذكر الفوارق بيننا وبين أسلافنا، عندما يرد في الحديث ذكر للكتابة والكاتب، فنكتفي بما أسلفناه، لننتقل إلى المثل الثاني: وهو خاص بلفظتي «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
أما نحن اليوم، فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» - في دنيا الفنون - اختلافات كثيرة، لكننا جميعا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد يحدثانه في نفس المشاهد أو السامع من نشوة من طراز معين، نحاول تحديده، فنختلف في طريقة التحديد، لا في تلك النشوة نفسها وحدوثها، وقليلون منا هم الذين عنوا بالتفرقة في هذا المجال، بين نشوة يحسها الرائي للزهرة الرقيقة - مثلا - ونشوة أخرى يحسها المشاهد للجبل العظيم أو للمبنى الضخم، أو البحر الضخم، أو الصحراء الممتدة، وهكذا. والذين فرقوا بين الحالتين، اقترحوا أن يقتصر «الجمال» على الحالة الأولى، وأن يطلق «الجلال» على الحالة الثانية، وسواء فرقنا بين الجمال والجلال في دنيا الفنون وعالم الطبيعة أو لم نفرق، فللكلمتين عندنا معناهما التقريبي، إن لم نستطع لهما تحديدا حاسما في مجال النقد الفني، وفي الفلسفة الجمالية، كما يعرفها الدارسون.
نامعلوم صفحہ
ونعود إلى أسلافنا فنفاجأ بشيء آخر، لا يمت بصلة، أو يوشك ألا يمت بصلة، بما يطوف في أذهان المعاصرين، فاقرأ - مثلا - رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها: «كتاب الجلال والجمال»؛ لترى في أي عالم ينظر؟ إنني ما زلت أذكر اللحظة التي وقعت فيها على هذه الرسالة، فما كدت أقرأ عنوانها، حتى سرت في نفسي فرحة، وسحبت الكتاب من الرف، وعدت به إلى مقعدي من المكتبة، لأنكب عليه، ظنا مني أنني قد وقعت على ما يشبه نظريات «الجمال» و«الجلال» في الكتابات الفلسفية أو النقدية التي أعهدها في ثقافتنا المعاصرة؛ وذلك لأنني لم أقع قبل ذلك - ولا بعد ذلك - عند أي مفكر عربي قديم، على شيء مما يجوز أن نسميه بالنظرية الجمالية - الاستاطيقية - في التراث العربي.
عدت برسالة ابن عربي إلى حيث كنت أجلس يومئذ من المكتبة، فإذا بي أجد المتعة التي لم يكن فوقها متعة، ولكنها متعة جاءتني من عالم فكري آخر، غير العالم الذي توقعته من العنوان .
بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة، لم أجد لدقتها مثيلا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين، عربا كانوا أم من غير العرب، وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها أنس، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم؛ فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح - مثلا - لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل، ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة، هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة - أمام الجميل وأمام الجليل - إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهد، لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة. إلى هنا والدنيا بخير، فلا فرق بين مجال الكاتب ومجال القارئ في طريقة التصور.
لكن أمضي مع الكاتب، فإذا هو يعني بالجمال والجلال أمورا لم تتوقعها قط - لو كنت مثلي - إذ هو يعني بهاتين اللفظتين، حالتين مختلفتين في توجيه الله تعالى لآياته إلى الناس فهو آنا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم، ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال)، وينطلق ابن عربي بعد ذلك؛ ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم، كان فيه الجمال، إلا وقد قابله موضع فيه الجلال، فقوله تعالى:
غافر الذنب
يقابله قوله:
شديد العقاب ، وقوله:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود
يقابله:
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم ، وقوله:
نامعلوم صفحہ
وجوه يومئذ ناضرة
يقابله قوله:
ووجوه يومئذ باسرة ، وهكذا يأخذ المؤلف في ذكر أمثلة كثيرة، تبين هذا التقابل المطرد بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» - كما يسميها.
فبأي قاسم مشترك يتحدث المعاصرون مع القدماء في شئون الفكر والأدب، إذا ما دار بينهم حديث عن «الكتابة» و«الجمال» و«الجلال»؟ ألم أكن على حق حين قلت إن الاختلاف بيننا محتوم؛ لأنه أمر ليس لنا فيه اختيار.
ديمقراطية بغير سياسة
فكرة الديمقراطية هي إحدى أفكار كثيرة، خلقها فلاسفة السياسة منذ قديم، ثم أخذوا يزيدونها مع الأيام خصوبة مضمون وثراء معنى، ولقد ازدادت بهذه الإضافات المتوالية، انتفاخا في حجمها، واتساعا في رقعة تطبيقها، حتى لتبدو آخر الأمر، وكأنها كائن مختلف عما كانت عليه أول الأمر، وسواء أكان فلاسفة السياسة هم الذين خلقوها من أذهانهم حقا، ثم عرضوها على الناس فاعتنقها الناس وطبقوها، أم كان هؤلاء الناس هم الذين أداروها في صدورهم آمالا غامضة، فجاء الفلاسفة ليخرجوها لهم مصوغة في عبارات تحددها، فلا اختلاف بين الطريقين في النتائج، وإحدى هذه النتائج التي ليس عليها اختلاف، هي أن فكرة الديمقراطية وغيرها من «الأفكار السياسية» لا تفهم حق الفهم، إلا مقرونة بزمن استعمالها، فنقول: كانت الديمقراطية في العصر الفلاني تعني كذا وكذا، وهي اليوم تعني كيت وكيت، بل ربما كان لها في العصر الواحد - كعصرنا الحاضر - معنى عند قوم يختلف عن معناها عند قوم آخرين.
وهكذا قل في سائر الأفكار الرئيسية في مجال السياسة، كالحرية، والمساواة، والاشتراكية وغيرها، وبغير هذا التحديد يحدث الخلط في أفهام الناس، خلطا نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، حين نرقب الناس وهم يتجادلون في هذه المعاني، فندرك كيف يتجادلون على غير أرض مشتركة، إذ يكون لكل منهم معنى في ذهنه، غير المعنى الذي يجادل به زميله.
ولقد عن لي خلال فترة زمنية قصيرة، أن أسجل عندي كل معنى للديمقراطية أجده واردا في الصحف، فإذا بالحصيلة كشكول عجيب، يدل أوضح الدلالة على مقدار التباعد بين الناس في تصورهم للديمقراطية ماذا تكون، برغم كونها محورا رئيسيا في الحياة السياسية كلها، وبرغم أننا نعيش معا في عصر واحد وفي بلد واحد؛ فالديمقراطية عند كاتب هي حرية المناقشة وتعدد الآراء، وهي عند كاتب آخر ارتفاع الحد الأدنى للأجور مع انخفاض الحد الأعلى، وعند كاتب ثالث هي التوزيع العادل لأعباء الضرائب، وهي عند كاتب رابع استقلال السلطات بعضها عن بعض، وهكذا.
وبينما كنت أجمع تلك الحصيلة من الصحف، لمعت في رأسي عبارة خرجت من عمق الذاكرة، وكأنها القبس يلمع فجأة وسط الظلام! كم هي عجيبة ذاكرة الإنسان فيما تحتفظ به، وما ترفض الاحتفاظ به، فيلقى في بحر النسيان! فما أكثر ما دهشت لحادثة قفزت إلى ذاكرتي، بغير داع ظاهر يدعوها إلى الظهور، ولحادثة أخرى أكد لها الذهن كدا لأستعيد تفصيلاتها، فلا تستجيب!
وأقول ذلك بمناسبة تلك العبارة التي وثبت إلى الذاكرة فجأة، وبغير داع ظاهر، وأعني بها عبارة كنت سمعتها أيام الدراسة من أستاذ، قالها لنا في سياق حديث له عن رحلة كولمبس، التي كشف بها أمريكا، إذ قالك ذلك الأستاذ إن رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعد! لكن ما علاقة كولمبس ورحلته، إن كانت نتائجها كلها قد ظهرت أو لم تظهر، ما علاقتها بما أنا بصدد الحديث فيه؟ وإني لأكاد أوقن أن هذه العبارة حين سمعتها من قائلها، لم تكن قد أثارت في نفسي شيئا من الاهتمام بتحليلها تحليلا أتقصى به معانيها القريبة والبعيدة، لكنها حين جاءتني الآن، غير مدعوة ولا مطلوبة، وقفت عندها لحظة، فإذا هي مصباح ينير الطريق.
نامعلوم صفحہ
أعدت على سمعي تلك العبارة التي برزت من جوف الظلام: «رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعد.» فأمسكت بهذا القول كما يمسك الطفل بعصفور بين يديه خشية أن يطير، فماذا كانت تلك النتائج - يا ترى - التي توقع لها أستاذنا القديم أن تظهر، والتي لم تكن قد ظهرت في أيامه بعد؟
كانت أولى نتائج الرحلة - بالطبع - كشف القارة الجديدة، التي ما لبثت أن أصبحت هي العالم الجديد، ثم شاء الله لهذا العالم الجديد، أن تنبت على أرضه حضارة جديدة، قوامها علم وصناعة بمعنى جديد لهاتين الكلمتين، ولسنا هنا بصدد التقويم، لنقول عما حدث أكان خيرا هو أم كان شرا، لكننا إنما نذكر ما حدث نتيجة لحياة جديدة، نشأت في عالم جديد، ويهمني جدا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن يتنبه القارئ هنا إلى لفظة «جديد»، فلقد عرف الإنسان شيئا من «العلم» وشيئا من «الصناعة»، منذ خلقه الله إنسانا يسعى في فجاج الأرض، لكن علم اليوم وصناعة اليوم لهما من الطابع المتميز، ما يقيم حدا فاصلا بينهما وبين الذي كان؛ مما أجاز لكثيرين جدا من كتاب عصرنا، أن يستخدموا عبارة «ما قبل العلم» ليشيروا بها إلى العصور الماضية جميعا، برغم كل ما شهدته تلك العصور من علوم وصناعات؛ لأنها جميعا كانت من صنف، وأما علم يومنا وصناعته فمن صنف آخر.
نعم إن بذور العلم الجديد والصناعة الجديدة، كانت قد بذرت بادئ ذي بدء في بقاع من أوروبا - وفي إنجلترا أيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر بوجه خاص - لكنني لا أظن أن ثمة موضعا لشك، في أن العالم الجديد هو الذي طور البداية، تطويرا أنتج للعالم هذا الذي نسميه بحضارة العصر.
وليس الذي يعنينا في هذا الحديث، من حضارة العصر هذه، جماعة العلماء في المعامل، ولا مجموعة المكنات في المصانع، بل الذي يعنينا هنا بصفة خاصة هو ما قد صاحب ذلك، أو تلاه من نظم للحياة جديدة، نشأت نتيجة طبيعية للعلم والصناعة في صورتهما الجديدة، وهي نظم حملت في ثناياها «ديمقراطية»، لا يقتصر أمرها على المفهوم السياسي بكل معانيه المختلفة، التي ترد على أقلام الكتاب، بل مدت أطرافها لتشمل صورا من الحياة الخاصة والعامة، مما لا يندرج تحت مفهوم السياسة بمعناها المعروف، فكيف كان ذلك؟ هاك أمثلة توضح ما نريد:
قرأت في كتاب «صلة العلم بالمجتمع» - تأليف كراوزر - (وله ترجمة عربية) أن ظهور الحرير الصناعي في اليابان، كان له أثر واضح في إزالة الفوارق الطبقية في تلك البلاد، فلقد تميزت طبقات الناس قديما - في اليابان وغيرها بأنواع ثيابها، فكان الحرير في اليابان مقصورا على الطبقة العليا، التي كان منها رجال الحكم، فما إن استطاعت الصناعة الجديدة أن تخلق نوعا من الحرير، لا يختلف في مظهره عن حرير دود القز، حتى بات المظهر متشابها بين حاكم ومحكوم؛ مما أوحى إلى الناس بفكرة ظلت تكبر وتنمو، وهي ألا يكون الحكم مقصورا على أسرة حاكمة، وحتى إن بقيت للحكم أسرة بعينها، فلا ينبغي أن يجاوز ذلك حدوده الشكلية، التي لا تؤثر في سير الأحداث.
لقد لبث الناس في عصور ما قبل الصناعة الجديدة، لا يعرفون لثيابهم إلا المصادر «الطبيعية»، كالصوف والقطن والكتان والجلد، وكانت هذه تتفاوت في قيمتها، بتفاوت الصعوبة في الحصول عليها، لكن العلوم الجديدة والصناعة الجديدة، جاءتا لتخلقا ما لم تكن للطبيعة عهد به، فأخرجتا للناس صنوفا من الأقمشة المركبة في المعامل، كادت تسوي بين عباد الله في مظهر الثياب، ولست أملك نفسي من ابتسامة ساخرة، كلما رأيت أسرة مصرية، حرصت على أن تضع خادمتها منديل الرأس على شعرها؛ ليكون بمثابة الفارق الذي يعلن اختلاف الطبقتين (ونحن الدولة التي تستهدف إذابة الفوارق بين الطبقات)، أقول إني لا أملك سوى السخرية من هذه البقايا، بعد أن كان الاختلاف في طبيعة الثياب نفسها!
وعلى ذكر اليابان وحريرها الصناعي، وما أحدثه من تذويب حقيقي بين الطبقات، أذكر - عابرا - شيئا آخر، هو اللؤلؤ الذي عرفت اليابان أيضا كيف تستزرعه، فبدل أن ننتظر على الأصداف دهرا طويلا، حتى تفرز لنا اللؤلؤ إفرازا طبيعيا، استعان أهل اليابان بعلوم اليوم وصناعاتها، فعرفوا كيف يستثيرون تلك الأصداف نفسها؛ لتعجل بإفرازها من اللآلئ، وهكذا ازدادت انتشارا، ورخصت ثمنا، فأصبحت السيدة من عامة خلق الله تطوق عنقها، بما لم تكن تستطيعه في الأزمان الخوالي إلا أميرات.
ألا ما أكثر المعاني التي تمر على الإنسان مع مر الأيام، فلا يفهمها حق الفهم في حينها، حتى إذا ما أسعفته خبرة الحياة بعد ذلك بما يعين، تبين له من خفايا المعنى ما لم يكن قد تبين، فلست أذكر متى ولا أين قرأت للأديب الفرنسي «إميل زولا» قوله: إن ظهور المتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة، قد أنزل أدوات الترف منازل الديمقراطية، فماذا كان يعني إميل زولا بقوله هذا؟ إننا لنرى بعض جوانب الحياة اليومية فلا نلحظ - من شدة من ألفناها كم فيها من عوامل أنشأت في حياة الناس الجارية ديمقراطية لم يكن يحلم بها الحالمون، ولعل ما أراده «زولا» بعبارته السابقة عن المتاجر الكبرى، هو أن البضائع فيها معروضة أمام الأعين، لا فرق بين النفيس منها وغير النفيس، وأثمانها محددة، بغض النظر عن مكانة المشتري، وقد تقول: وماذا في ذلك؟ أقول إن في ذلك الشيء الكثير من التسوية بين الناس، ولعلي لا أقذف بالقول قذف المستهتر، إذا زعمت بأن تفاوت الأثمان للسلعة الواحدة، بحسب المواقف المختلفة في عملية البيع والشراء، هو قرين للمجتمع إذا سادته التفرقة بين الطبقات، وأن اجتماع الأفراد جميعا عند ثمن واحد للسلعة الواحدة في المتجر الواحد، هو أيضا قرين للمجتمع إذا شاعت فيه الروح الديمقراطية الصحيحة.
كانت البضائع الثمينة فيما مضى مصونة عن أعين العابرين، يخرجها بائعها لمن يتوسم فيه الملاءمة لشرائها، وكانت أثمان السلعة الواحدة تعلو وتهبط بتفاوت الزبائن في تقدير البائع، دون أن يكون في ذلك معنى للغش أو الخيانة ف «التجارة شطارة.» كما سمعت تاجرا عربيا يقول لمن جاءه لائما لبيعه السلعة الواحدة بأثمان مختلفة. تغيرت الصورة في البلاد التي تأثرت بروح العصر الجديد، وتلكأت الصورة القديمة في البلاد الأخرى، تلكأت كثيرا أو قليلا بمقدار ما تأثر البلد المعين بروح العصر.
ولم تكن الثياب وحدها، أو المساكن أو ضروب العمل، أو صور البيع والشراء، هي التي تفرق بين فئات الناس، بل كان يفرق بينها كذلك ضروب التعليم التي تتلقاها، وأنواع الوسائل التي تملأ بها أوقات الفراغ، إلى أن أنتج العلم الجديد والصناعة الجديدة للناس وسائل، يجتمع عندها الأعلون والأدنون على سواء، فالإذاعة - مرئية ومسموعة - والصحيفة وشاشة السينما، لا تفرق بين مشاهد ومشاهد، ولا بين قارئ وقارئ، أو سامع وسامع، فأعلى فئات الناس وأدناها - كل في داره - يقضي ساعات فراغه بالطريقة نفسها، وبالمادة الفكرية والفنية نفسها، وفي اللحظة نفسها.
نامعلوم صفحہ
كان القادرون وحدهم هم الذين يحصلون على الفاكهة أو غير الفاكهة، في موسمها وفي غير موسمها، وفي منبتها وفي غير منبتها على السواء، فأصبح الأمر في هذا موزعا بالتساوي على البشر أجمعين، بفضل التعليب وطرائق الحفظ - وكلها من نتائج العلوم - حتى ليكون الإنسان في يومنا من سكان الصحراء، وأمامه فاكهة الدنيا بأسرها ولحومها وخضرها على مدار العام؛ فانمحت بذلك فوارق الزمان وفوارق المكان. إننا لو استطردنا في هذا الحديث؛ لتفتحت لنا أبوابه إلى غير نهاية، وكلها أبواب تدخلنا في رحاب الديمقراطية عن غير طريق السياسة.
مسك الختام
يقال إن طائر البجعة يغرد بأحلى أنغامه قبيل أن يموت، حتى ليكفي أن تقول عن عمل فني لفنان، أو عن كتاب لمؤلف، أو عن عمل مجيد لمصلح، إنه كان بمثابة «غنوة البجعة»؛ لتعلم أنه كان آخر منجزاته وأعظمها معا، فهو من حياته - كما نقول نحن - مسك الختام.
ولقد ظهر لفيلسوف التاريخ «آرنولد توينبي» كتاب، كان آخر ما كتب، ونشر له بعد وفاته (ولد 1889م، ومات 1975م)، فلما كتب عنه النقاد، وصفه بعضهم بأنه كان لحياته المليئة بأعظم الإنتاج الفكري؛ بمثابة «غنوة البجعة»، بمعنى أنه كان خير كتبه جميعا في رأي هؤلاء، وهو الكتاب الذي جعل عنوانه: «الإنسان وأمه الأرض»، فماذا ورد في هذا الكتاب؛ ليميزه في أعين النقاد؟
كان «توينبي» معروفا لنا - نحن المثقفين العرب - معرفة جيدة، على الأقل إذا قيست بمعرفتنا لما ينتجه الفكر الغربي في عصرنا، وربما كان ذلك راجعا إلى عاملين أساسيين: أولهما أن توينبي قد وجد بيننا من يلتفت إليه ويهتم به؛ فأراد ألا يقصر الأمر على نفسه، فكتب عنه بما جعله عندنا تحت الضوء، ويكفيني في هذا الصدد، أن أذكر بأن توينبي كان هو أستاذ التاريخ، الذي تعلم على يديه أستاذنا المؤرخ المغفور له «محمد شفيق غربال» أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو الذي أخرج بدوره عددا ضخما من ألمع المشتغلين بالتاريخ الحديث في حياتنا الثقافية، ولقد كان المرحوم الأستاذ غربال، هو الذي شجع المرحوم فؤاد شبل بترجمة المجلدين، اللذين كان «سومر فيل» قد لخص بهما الموسوعة الكبرى في فلسفة التاريخ، التي كتبها توينبي في نحو عشرة مجلدات وأسماها «دراسة للتاريخ»، وهي الدراسة التي استعرض بها أكثر من عشرين حضارة؛ ليحلل عوامل نشأتها وعوامل زوالها «في حالة زوالها»، وإذا به يخرج من هذا كله بالنتيجة المشهورة، وهي بأن «التحدي والاستجابة»، هما الأساس العميق في ظهور الحضارات واختفائها، وقد قلت إن توينبي كان معروفا لنا - نحن المثقفين العرب - معرفة جيدة إذا قيست بمعرفتنا لسواه من أعلام الفكر الغربي المعاصر، وإن ذلك كان يرجع إلى عاملين أساسيين، ذكرت أولهما، وهو أنه وجد من اهتم به، فأثار بدوره اهتمامنا، وأما العامل الثاني فهو أن توينبي - بكل الموضوعية النزيهة التي كان ينظر بها إلى الأمور، وكأنه من الأرباب على قمة الأولمب، ينظر إلى الأحداث نظرة المسيطر الواثق، لا تهزه العاطفة يمنة أو يسرة - بكل هذه الموضوعية المتسامية المنزهة عن الهوى، كان يناصر العرب في قضيتهم، وكان يعلي من شأن الإسلام، إذا ما كان بصدد الحديث عن الديانات، ذوات الأثر العميق في مسار التاريخ.
ونعود إلى كتابه الذي نشر له بعد وفاته، والذي كان مسك الختام لمجموعة أعماله، التي تنوء تحت حملها قدرات البشر، من غير ذوي العبقرية الفذة، فنسأل: ماذا جاء في هذا الكتاب الأخير؛ مما أضفى عليه امتيازه؟! وأود - قبل أن أجيب - أن أثبت حقيقة أسعفتني بها الذاكرة الآن، في هذه اللحظة، التي أكتب فيها هذا السطر من المقال، وتلك هي أنني تذكرت ساعة مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما، كنت فيها أطالع كتاب شبنجلر، عن تدهور الحضارة الغربية، ولم تكن مطالعتي لذلك الكتاب، من النوع الذي أنصرف فيه بكل ذهني إلى ما أطالعه، لا لأن ذلك الكتاب العظيم لا يستحق كل ما وسعني من قوة وتركيز، بل لأنني كنت يومئذ أملأ - في تلك الساعة - فراغا قصيرا بين عمل أنجزته وعمل آخر سأبدأ فيه؛ فرأيت أن أجعل ساعة الراحة تنويعا في المرعى وتغييرا في النغم، فكان أن امتدت يدي إلى كتاب شبنجلر - وكنت في المكتبة العامة بجامعة لندن - وأخذت أطالع عبر صفحاته تلك المطالعة الطائرة، وإذا بالحظ الحسن يسوقني إلى وضع فيه فكرة كانت جديدة علي، ورأيت فيها ما يشبه المنارة أمام ربان السفينة وهو في جنح الظلام.
وإنما كانت تلك الفكرة المضيئة جديدة علي؛ لأنني - كمئات الألوف من المتعلمين العرب، الذين أخرجتهم المدارس والجامعات - كنت حبيس إطار قيدتني به مدارسنا وجامعاتنا، وهو إطار صنعه فكر غربي، ينظر إلى الدنيا بمنظاره هو، وكان ذلك الفكر الغربي صانع هذا الإطار، مخلصا لنفسه؛ لأنه إنما صاغ ما رآه بعينيه في مناخه الثقافي، لكن ماذا أجبرنا نحن أن نتورط فيه؛ فنظنه هو الحق الموضوعي الذي لا شبهة فيه؟ وإنما أعني بذلك الإطار الفكري، الذي حبستنا فيه ثقافة الغربيين عن طريق مدارسنا وجامعاتنا، تقسيم التاريخ إلى مراحل ثلاث: قديم ووسيط وحديث، فأما الحديث فهو القرون الأربعة الأخيرة، وأما الوسيط فهو القرون العشرة التي تمتد «تقريبا» من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، وأما القديم فهو ما قبل ذلك! ما شاء الله! ثمانية آلاف عام، بكل ما فيها من حضارات مصر وبابل والهند والصين ثم اليونان والرومان، وبكل ما فيها من ديانات ظهرت في الشرق الأقصى كالبراهمية والبوذية، وأوحى بها الله في الشرق الأوسط، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام؛ ثمانية آلاف عام بكل غزارة محصولها، وخصوبة عقولها ومضاء إراداتها، «تكلفت» كلها في قسم واحد من أقسام ثلاثة، هي عندهم أقسام التاريخ! ثم ماذا؟! ثم يحدث في معظم الكتب التي تعرض ذلك التاريخ، أن تزيد من العناية بالحديث بالنسبة إلى القديم؛ فتكون النتيجة هي أن تجد أكثر من ثلث الكتاب، أو قل أكثر من ثلث الجهد المبذول - إذا كان هناك أكثر من كتاب أو مؤلف - مخصصا للقرون الأربعة الأخيرة وحدها، التي هي التاريخ الحديث، وأقل من ثلث المساحة الورقية أو ثلث الجهد العقلي، هو الذي يخصص لثمانية آلاف عام، هي مدى التاريخ القديم، وقد تكون فترة العصور الوسطى أحسن حظا من فترة التاريخ القديم، لكنها مع ذلك لا تظفر بمساحة، تقرب مما يخصص للقرون الأربعة الأخيرة.
فماذا يكون الانطباع الذي يخرج به الدارس، إذا ما رأى ثمانين قرنا قديمة، لا تساوي عند المؤرخين أربعة قرون حديثا؟ ألا يكون ذلك الانطباع المحتوم، هو تفاوت الاهتمام بالنسبة نفسها بين العصور؟! ولما كانت منجزاتها الكبرى قد وقعت في ذلك القديم المنكود، فهل يسع الدارس منا إلا أن يضؤل حجمه في عين الناس، إذا ما قارن حضارتنا بحضارة القرون الأربعة الأخيرة؟!
ومنذ تلك اللحظة التي وقعت فيها على فكرة شبنجلر هذه، بأن حضارات القدماء مغبونة على أيدي المؤرخين، وأنا أحاول أن أتحرر بفكري عن حدود الإطار، الذي حبستني فيه مدارسنا وجامعاتنا، ولم يكن معنى ذلك عندي، أن أستهين بالقرون الأربعة الأخيرة، كلا بل كان معناه الأكبر هو ألا أجعل عظمة القرون الأربعة الأخيرة، تعميني عن رؤية ما قد كان قبلها، لا سيما ونحن من أبناء ما قد كان قبلها.
ومرة أخرى أعود إلى كتاب «الإنسان وأمه الأرض»، الذي كان مسك الختام في حياة آرنولد توينبي، وأسأل: ماذا في هذا الكتاب مما يؤهله عندنا، لكل ترحيب ولكل إجلال وتعظيم؟! إن أهم ما جاء في هذا الكتاب ليبشر به، هو رسالة ذات شقين: أحدهما أنه قد آن للحضارة العصرية، أن توقف وثبات العلم عن جبروتها، بأن تعيد الدين إلى قوته الأولى في نفوس البشر، ليكون العلم إلى جانب الدين قوتين تحدثان التوازن المطلوب، وأما الشق الثاني من الرسالة، فهو الدعوة القوية الموجهة إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، بأن يصحح ضلاله الذي أغواه فيما مضى، بأن يجعل أوروبا وحدها - وأوروبا الحديثة على وجه الخصوص - هي المحور الذي تدور حوله حضارات الأرض وأفلاك السماء.
نامعلوم صفحہ
وفي ذلك يقول توينبي ما خلاصته أن الإنسان قوامه إرادة حرة وضمير، فبالإرادة الحرة - متروكا حبلها على الغارب - يبرطع الإنسان في شئون الدنيا، ما شاءت له قدراته، فينطلق في علومه وصناعاته وكشوفه، فهو يشق الأرض هنا، ويغوص إلى أعماق البحر هناك، ويضرب في أجواز الفضاء إلى أن يطأ بقدميه سطح القمر، ثم يجاوز القمر إلى ما هو أبعد منه في متاهات الكون الفسيح، لكن الإنسان في اندفاعاته الجبارة بقوة الإرادة الحرة، قد يصيب وقد يخطئ، فإذا كان الخطأ خطيئة، ولم تجد في دنياه ما يعاقب عليها، وثب إليه ضميره، يذكره بما سوف يلقاه من جزاء يوم الحساب.
إن الإنسان من جمهور الناس، يتأرجح بين نموذجين تمثلا - كما قال توينبي - في القديس فرنسيس وأبيه، فأما القديس فقد جسد في شخصه زهد الصوفي، الذي ينشد الصفاء والنقاء ، وأما أبوه فقد كان تاجرا محموما بالرغبة في كسب المال ومتعة الأرض، ففي أبيه انفردت الإرادة، وفي ابنه القديس غلب الضمير، والإنسان العادي من سواد الناس متأرجح بين الطرفين.
ولو سمحت لشخصي الضئيل أن يعبر لنفسه عن رأي يخالف به - بعض الشيء - موقفا لتوينبي، قلت: إن فيلسوف التاريخ توينبي، كأنما أراد إحياء للدين على حساب التقدم العلمي، وكأنه يرى أن ذلك الإحياء الديني، لا يتسق مع أن يترك العلم في تقدمه السريع، وهو في هذا المقام يذكر قراءه، بأن العلم ليس هو ذلك الطاغية، الذي لا سبيل إلى تقليم أظافره؛ لنتيح الفرصة لغيره فيعتلي الذروة مكانه - «وغير العلم» الذي يشير إليه هنا هما الدين والفن - فيكفي أن نوجه أصحاب النبوغ العبقري نحو الدين ونحو الفن، لتنصرف تلك القدرات العليا عن ميدان العلم، يكفي ذلك لترى المكانة بعد قليل من سنين، قد عادت إلى الدين وإلى الفن، كما كانت لهما طوال القرون، وإني لأتساءل في تواضع شديد: لماذا لانترك أصحاب العبقرية النابغة، في وجهتهم نحو ميدان العلم، كما هي الحال الآن، مع إضافة الروح الدينية والفنية؛ ليحيا الإنسان بجناحين، كما أراد له الله تعالى أن يحيا! فليس الأمر هو إما هذا وإما ذاك، بل الأمر هو الجمع بين هذا وذاك، في كيان إنساني واحد.
ولكن قل ما شئت في شأن هذا الكتاب الأخير لتوينبي، الذي جاء وكأنه صيحة، يوجهها الرجل من قبره إلى إنسان العصر، قل ما شئت، فالكتاب للرجل هو مسك الختام.
إنسان من حروف
ترى ما الذي أسدل الستار - في أوروبا - على عصورها الوسطى، ثم كشف لها الطريق إلى عصرها الحديث؟ كيف جاءتها النذور، فاتحة أعينها على عوامل الركود والجمود، لتزيحها وتنطلق إلى حضارة جديدة، هي الحضارة التي يعيش العالم كله اليوم في خيراتها؟ ذلك سؤال نسأله لعلنا نقع على جواب، ينفع الأمة العربية، وهي تتأهب لتستقبل العصر الجديد؟ ما هي أقوى المصابيح التي توجهت بضيائها في أوروبا، ساعة انتقالها من حياة إلى حياة؟ فلعلنا لو عرفناها أضأنا مثلها ، لتنزاح الظلمة عن الطريق.
إنها قلة قليلة جدا من الكتب، بين ملايينها التي تراها، أو تسمع عنها: مخزونة في مكتبات العالم، هي التي صنعت للإنسانية تاريخها الفكري، ومن تلك القلة القليلة كانت قصة دون كيخوته للأديب الإسباني سيرفانتيس (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي)، ولست أشك في أن القصة معروفة ومألوفة، فمن ذا الذي يسمع بهذا الفارس الأسطوري - دون كيخوته - الذي ملأته الأوهام، حتى لقد امتشق حسامه، وادرع بدرعه، وراح يقاتل طواحين الهواء، ويهاجم قطعان الغنم، حاسبا إياها قلاعا وجيوشا! لكن الذي أشك في أن يكون معروفا مألوفا - اللهم إلا عند القلة القارئة - هو ما علق به النقاد، وشرح به الشراح، تلك الآية الأدبية الكبرى. فلا نهاية لما يقوله أولئك وهؤلاء، في استخراج المغزى الكامن في غضون القصة. ولقد كان من أهم ما قيل عنها، استخراجا لمغزاها، أنها كانت الحد الفاصل بين عصر أوروبا الوسيط - بأضوائه وظلماته معا - وعصرها الحديث، فكيف كان ذلك؟
المحور الأساسي في القصة - أو على الأقل هذا هو الجانب الذي يهمنا منها في هذا المقال - هو أن دون كيخوته قرأ قراءة مستفيضة عن حياة الفرسان كما كانت في العصور الوسطى، وتشبع بما قرأ حتى اعتزم أن يحيا فارسا على منهاجهم. فلو كان دون كيخوته يعيش في قلب العصور الوسطى، مع سائر الفرسان عندئذ، وسلك كما سلكوا؛ لما كانت هناك مفارقة تلفت النظر، لكن تلك العصور كانت قد جاوزت نهارها، وانحدرت إلى غروبها، فإذا ما أراد إنسان، ساعة الغروب، أن يرد الزمن إلى ساعة الظهيرة التي انقضت وانقضى أوانها، كان ذلك هو العبث بعينه؛ لأنه يحاول المستحيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نقول، إنه لو كان دون كيخوته، قد قرأ عن حياة الفرسان ما قرأ، ثم وقف عند حد القراءة وحدها؛ لعددناه مثقفا استوعب التاريخ من إحدى زواياه، ولكنه قرأ، ثم صمم على تنفيذ ما قرأه في حياته الحقيقية، بأن يعيد حياة الفرسان في شخصه؛ فكان هذا الجانب منه هو الذي نقله في أعين الناس من كونه مثقفا، إلى كونه مهزلة تثير السخرية.
فعندما صور سيرفانتيس هذه الشخصية - شخصية دون كيخوته - كان بمثابة من يقدم للناس صورة رجل، يجسد عهدا مضى، فمن أراد أن يعيده كما كان، بكل قواعده وأصوله، كان بذلك أعجوبة تدعو إلى الضحك، حتى ولو مازج هذا الضحك، شيء من العطف على ذلك المسكين، الذي لم يستطع أن يفرق بين الممكن والمحال، فقد ملأ رأسه بالصور المقروءة في الكتب، ثم خرج ليحياها، فإذا الواقع من حوله، قد تغيرت معالمه عما قرأ، فبدل أن يعدل من الصورة المقروءة؛ ليجعلها تساير الواقع، حاول العكس؛ وهو أن يغير من الواقع ليجعله مسايرا للمقروء في الكتب، ومن هنا جاءت غفلته.
إن المراحل التاريخية التي ينعم الناس فيها، بالاستقرار وسكينة النفس وراحة البال، هي تلك التي يحدث فيها توافق بين المكتوب من جهة، والواقع الذي يعيشونه من جهة أخرى، لكن المراحل المطمئنة بهذا التوافق، لا تمتد إلى آخر الدهر، بل لا بد أن تتغير ظروف الواقع المعيش شيئا فشيئا، فتحدث بالتالي فجوة بين الوارد في الكتب والأمر الواقع، وتأخذ الفجوة في الاتساع، حتى تصل إلى درجة، يستحيل معها أن يطمئن للناس عيش، ويصبح حتما أحد أمرين: إما أن نعدل من المكتوب، بمكتوب جديد يلائم الواقع الجديد - وتلك هي سنة التقدم - وإما أن نحاول إرجاع الواقع الجديد إلى الوراء، ليعود إلى ملاءمته القديمة مع ما هو مسطور في الكتب، وهي محاولة إذا نجحت كان نجاحها، هو نفسه موت الأمة التي نجحت فيها.
نامعلوم صفحہ
خرج دون كيخوته في مغامراته، وهو يتوهم أن المجال لم يزل هو نفسه المجال، الذي نشط فيه الفرسان الأقدمون، الذين قرأ عنهم أخبارهم وأراد أن يحيا على نموذجها، فكان المسكين يضرب في فجاج الأرض، وكأنه حفنة من حروف طارت من صفحاتها التي هي مدونة فيها، لم يكن عندئذ إنسانا كسائر الأناسي من حوله: تجري في عروقه مثلما يجري في عروقهم من دماء، بل كان كتابا يسير على ساقين، ولم يكن كسائر الناس يرى الأشياء من حوله ، ثم يصطنع لها ما يناسبها من حرف وكلمة وعبارة، بل كان على عكس ذلك، يبدأ بما عنده هو من حرف وكلمة وعبارة؛ ليقحمها على الأشياء الخارجية إقحاما، فكان وكأنه إنسان من ورق، عظامه لغة قرأها في قصص الفرسان، كما رواها الرواة، ولحمه نصوص محفوظة، ودماؤه هي المداد الذي سال على صفحات الكتب كلمات.
كان دون كيخوته في سعيه الواهم، تجسيدا لتراث مكتوب؛ فأخذ يلتمس له في حياة الواقع شبيها يؤيده ويحميه؛ ولأمر واضح المرمى، جعله المؤلف رجلا نحيلا ضعيفا، أثقل جسده بدروع، لم تخلق إلا لأجساد قوية سليمة؛ فازداد هزاله هزالا، وهو تحت دروعه الثقال، ولأمر واضح كذلك، جعله المؤلف يركب حمارا عليلا، ويحسب أنه إنما يعتلي جوادا، كجياد أسلافه من الفرسان، فكانت كلها رموزا مكثفة، تصرخ بالدلالة على أن أوان الفروسية قد فات ومات، ومن أراد إحياءه في غير عصره، كان كمن أراد أن يخرج من الماء شعلة نار.
كان دون كيخوته في تجواله منسوجا من حروف، التقطها من صفحات الكتب، بل لم تكن تلك الحروف هي لحمة كيانه وسداه فحسب، بل زادت على ذلك، فأصبحت هي القانون الذي يحدد له ما يجب، وما يجوز وما يمتنع؛ ولذلك كان كلما صادفته على الطريق ظروف طارئة، رجع إلى النصوص المنقولة المحفوظة؛ ليرى فيها ماذا يجب على الفارس أن يصنعه إزاءها؛ ليؤدي واجبه على الوجه الذي ترضى عنه الفروسية وقوانينها. لقد كانت القصص التي قرأها دون كيخوته عن الفرسان الأسبقين، بمثابة الأساطير؛ ولذلك كانت لها خصائص الأساطير، ومن هذه الخصائص أن الأسطورة لا تتقادم مع الزمن، فهي في أي وقت، وفي كل وقت، تبدو وكأنها بنت يومها؛ ولذلك فالأسطورة تلمع دائما ببريق الحق، وإذن فلم يكن شذوذا من دون كيخوته، أن يتأثر بما قد قرأ، على النحو الذي تأثر به، معتقدا دائما أنه أمام نصوص أزلية أبدية، تحمل الحق في سطورها، وترسم طريق الواجب بحروفها.
وكان من أول تلك الواجبات المفروضة عليه، أن يعيد نثر الحياة المحيطة به، إلى شعر الحياة التي كانت ، أن يرد صلابة الواقع، كما يحسه ويعانيه، إلى ملحمة من ملاحم الماضي المجيد، فمحتوم عليه أن يظل في أرجاء الأرض، باحثا عن المواقع التي يراها مطابقة للصور التي قرأ عنها في حياة الفرسان، وهم في عز مجدهم؛ لأن كل موقع وكل موضع، يرى فيه تطابقا مع النصوص، ينهض شاهدا على أن النصوص، تحمل الحق في كلماتها، وما دامت تحمل الحق، فلا بد من أن يسلك على هداها، وهو مطمئن لسلامة ما يفعله.
وحتى إذا أعجزته الحيلة عن أن يجد التطابق المنشود، بين العالم كما هو واقع، والنصوص كما قرأها في الكتب ووعاها، حاول أن يقرأ ذلك العالم الواقع، قراءة جديدة يهتدي بها بخياله، فيحوله بالوهم عما هو عليه، إلى ما كان ينبغي في رأيه أن يكون عليه. إن الأشياء في هذه الدنيا الواقعة، قد يمكن تفسيرها على أوجه كثيرة، فلماذا لا تبحث فيها عن الرؤية، التي تجعلها تعبر الفجوة التي حدثت بينها وبين نصوص الكتب، تعود فتطابقها من جديد، كما كانت تطابقها أيام الفرسان؟ فكأنما كائنات الدنيا - بهذه النظرة - هي رموز يقرؤها القارئ على نحو ما يشتهي أن يقرأها، وليست هي بواقع صلب عنيد، لا مناص للإنسان من الإذعان له، والتكيف لطبائعه.
فهذه - مثلا - قطعان من الغنم ترعى، وتلك أكواخ صغيرة تناثرت فوق المرج، وأولئك فتيات راعيات ساذجات فقيرات، فلماذا لا نرسل الأوهام في كل هذه الأشياء؛ لتصنع لنا من قطيع الغنم جيشا، يصلح أن نواجهه مواجهة الأعداء في ساحة القتال، ولنصنع من الأكواخ قلاعا حصينة تستحق التأهب للهجوم والغزو، وتجعل لنا من أولئك الراعيات سيدات مهذبات، ممن كن في حماية الفرسان الأولين؟ وإذا ظل الاختلاف قائما بين ما هو واقع من جهة، وما هو منصوص عليه في الكتب من جهة أخرى، لجأنا إلى السحر، ننزل فعله على الأشياء لتخرج من طبائعها، وتتحول إلى ما يجعله على الصور التي نريدها لها، والتي تكون بها مسايرة للنصوص ذات العصمة والخلود، ذلك هو المغزى وراء شخصية دون كيخوته، وهو أن يرسم للناس صورة من يريد للزمن، أن يكر راجعا إلى الوراء، وصورة من يظن أن الماضي، هو وحده الزاهر الزاهي، الذي يقاس عليه! ولكن ماذا لو حاول دون كيخوته، أن يلوي مجرى الزمن عن اتجاهه؟ ماذا لو أراد أن يرغم الأشياء الواقعة، على أن تطابق نصوصه، فلم يستطع؟ أليست النتيجة الحتمية عند المشاهد، هي أن يجد كلمات الكتب القديمة، قد أفرغت من مضمونها؛ لأنها فقدت قدرتها على أن تشير إلى أمور الواقع؟ وإذا هي فقدت دلالتها الحقيقية، فهل يبقى أمامها إلا أن تنطوي في صفحاتها، وتنغلق في محابس كتبها، ليعلوها العفار، فتذهب عنها النضارة، وتصيبها صفرة المرض؟ إن الكتب القديمة عندئذ تنعزل وحدها، وتبتر الصلة بينها وبين الدنيا التي حولها، فلا تعود أنفاسها تستمد الهواء من خارج، فتضطر إلى امتصاص نفسها، وابتلاع ريقها، إلى أن يشاء الله لها أمرا.
وأما الواقع الجديد، الذي استعصى على السحرة، أن يردوه إلى صورة النماذج المخزونة في الكتب، فيمضي قدما، باحثا له عن كتب جديدة تسايره، يكتبها كتاب آخرون، وفي هذا تكون الصحوة التي يسميها التاريخ بالنهضة، كان ذلك في اليقظة الأوروبية، فهل يصلح لنا سواه في اليقظة العربية؟
وحدة النظر
لقد جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، منذ اليوم السادس من أكتوبر؛ لتقيم لنا البرهان واضحا، على أن الفكر والأدب والفن جميعا، تستطيع أن تلتقي كلها في اتجاه واحد؛ فالفكرة، والنغمة، واللفظة، والخط واللون، إن هي إلا جوانب متعددة، من منشور زجاجي واحد، يسقط عليه شعاع الضوء، فيتفرق ألوانا مختلفة، تؤكد ما بينها من اتساق وتكامل؛ ففي غضون هذه الأسابيع القليلة الماضية، رأينا كيف انسابت الأفكار في مقالتها، والأنغام في معزوفتها، والألفاظ في قصائدها وأغنياتها، والخطوط والألوان في لوحاتها، وكأنما جميعا قد انبثقت من عين واحدة، ونطقت بلغة واحدة، واختفت الفوارق التي تفصل بين قديم وجديد، أو بين وجدان وعقل، أو بين علم وفن؛ لأن هذه كلها - وإن تعددت وسائلها - جاءت لتعبر عن كيان واحد، بكل ما في مقوماته من جوانب، ثم جاء ذلك التعبير - وهذا هو المهم - صادقا لا محاكاة فيه ولا تصنع.
لم تكن هذه حالنا دائما، فقد سألت نفسي ذات يوم قريب، وكان ذلك قبل السادس من أكتوبر: ترى إلى أي حد تتجه أوجه نشاطنا في ميادين الفكر والأدب وجهة واحدة، كما ينبغي لها أن تفعل، لو كانت بيننا الروابط الحيوية، التي تجعل من الأمة أمة واحدة؟ وليست وحدة النظر بين المجموعة المترابطة من الناس، تقتضي بالضرورة أن يتحد أفراد تلك المجموعة في وسائلهم، إذ في وسع هؤلاء الأفراد أن يوجهوا أنظارهم وجهة واحدة معينة، كأنما تشيع بينهم النظرة إلى مجدهم القديم، أو تشيع النظرة إلى المستقبل المأمول، ومع ذلك يختلفون في طرائق التعبير باللفظة والنغمة واللون، وأعتقد أنه بغير الاتحاد في اتجاه النظر، يتعذر أن يعيش القوم في مناخ وجداني واحد.
نامعلوم صفحہ
والحق أن العصور المختلفة - وكذلك الشعوب المختلفة في العصر الواحد - إنما يتميز بعضها من بعض بنوع «اهتماماتها» أكثر مما تتميز بمجموعة الوقائع المحيطة بها، وتلك «الاهتمامات» هي فروع تنبثق من المناخ الوجداني العام، الذي يميل بالناس إلى أن يحبوا هذا الشيء، وأن ينفروا من ذلك، فقد تتشابه الوقائع المحيطة بمجموعتين من الناس، لكن تختلف اهتماماتهم، فتختلف بالتالي حياتهم الثقافية، كأن تهتم إحدى المجموعتين بالنتائج العملية، بغض النظر عن المبادئ المضمرة وراءها، على حين تهتم الأخرى بتلك المبادئ النظرية، مهما يكن من أمر النتائج المترتبة عليها، ومع هذا الاختلاف البعيد في وجهة النظر بينهما، تراهما متشابهتين في كونهما تشتغلان بالزراعة أو بالصناعة أو غير ذلك من وسائل العيش. إننا إذا وصفنا قوما بالروحانية، وقوما آخرين بالمادية، فلسنا نعني بذلك أن طرائق القومين في الزراعة أو في الصناعة، تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر، بل نعني أنهما - برغم تشابه المناشط العملية - يختلفان في محور «الاهتمام»، وبالتالي فهما يختلفان في المناخ الثقافي، الذي يعيشان في كنفه ويتنفسان هواءه. أريد أن أقول إن الواقع المرئي المسموع الملموس شيء، ونوع الاهتمام به شيء آخر، فقد يقصد رجلان إلى مسجد، أحدهما يريد الصلاة، والآخر يريد القيام ببحث أثري، والمسجد نفسه في كلتا الحالتين واحد لم يتغير، فالذي ميز بين الرجلين هو نوع الاهتمام به، فجعل أحدهما - في تلك اللحظة المعينة - عابدا، وجعل الآخر عالما.
تجانس الشعب الواحد في ثقافة واحدة، معناه أن أفراد ذلك الشعب، قد ربطتهم «اهتمامات» متشابهة، يتجهون بها جميعا نحو أفق واحد مشترك، ولا ينفي ذلك أن تتفاوت بينهم درجات الإجادة والإبداع، إذا كانوا من أهل الفكر أو الأدب والفن، فالاهتمام الواحد قد يتجسد في مائة مقالة أو كتاب، ومائة قصيدة من الشعر، ومائة لوحة أو تمثال أو أغنية، فلا تكون وحدانية الاهتمام بينها جميعا دليلا، على أنها من درجة فنية واحدة، ولولا هذا التجانس في الاهتمامات بين أفراد الشعب الواحد، لما استطاع مؤرخ الفكر أو مؤرخ الفن والأدب، أن يفرق بين العصور ولا بين الأمم.
على ضوء هذا كله، سألت نفسي ذات يوم قريب، كما أسلفت القول: ترى إلى أي حد يعيش رجال الفكر والأدب والفن بيننا في مناخ ثقافي واحد؟ بعبارة أخرى: إلى أي حد ينتمي هؤلاء جميعا - من الناحية الثقافية - إلى شعب واحد، وعصر واحد؟ ولست أزعم أنني كنت قد وصلت مع نفسي، إلى إجابة أتشبث بصوابها، ولكني لا أرى بأسا في أن أشرك القارئ معي، فيما خيل إلي أنه الجواب الصحيح.
وذلك أني رأيت في حياتنا الثقافية خيوطا مبعثرة، لم تنسج في قماشة واحدة، لا لأن أحدا من رجال الفكر النقدي، لم يتناولها بمنواله لينسجها معا في ثقافة موحدة، بل لأنها من التنافر بحيث يستحيل اجتماعها في رقعة واحدة، ولنختر لأنفسنا مجموعة من المفكرين والأدباء وأصحاب الفن، ثم نحاول أن نعيش مع أفرادها فيما أنتجوه، واحدا بعد واحد، لنرى: هل يتجانس إحساسنا، كلما انتقلنا من هذا المفكر في كتبه أو مقالاته، إلى ذلك الشاعر، ثم إلى ذلك الفنان؟ أعتقد أننا لن نجد ذلك الإحساس المتجانس إزاءهم جميعا، وسنشعر أحيانا عند الانتقال من أحدهم إلى الآخر، أننا في الحقيقة قد انتقلنا من عصر إلى عصر، أو من إقليم إلى إقليم.
ففي ميدان الفكر النظري، يتجاوز القرن الثامن الميلادي وأواخر القرن العشرين، كما تتجاوز أفكار فرنسية وإنجليزية وأمريكية وروسية، بحسب المورد الذي ينهل منه الكاتب، وأعجب من ذلك أن الكاتب الواحد قد يتشكل مع الأيام؛ لاختلاف الكتب التي وقعت له بين يديه بالمصادفة البحتة، وفي ميدان الفن التشكيلي يغلب أن يقدم لك الفنان لوحات، تؤكد عندك النزعة الذاتية الفردية؛ لأنها لوحات تعنى بأحكام الشكل من خط ولون، فلا يسعك أنت المشاهد إلا أن تعيش داخل بنائها، دون أن توحي لك بمضمون. ونقيض ذلك تراه في ميدان الفنون التعبيرية - من مسرح وشعر وموسيقى - فها هنا يغلب على الفنان إبراز الموضوع، حتى وإن جاوز في سبيل ذلك مواصفات الفن الرفيع في طريقة البناء. إنني هنا أصف ما أظن أني أراه، ولست بما أقوله أريد المفاضلة أو النقد، ولقد خلصت من ذلك كله إلى نتيجة رجحت لنفسي صوابها، وهي أننا في حياتنا الثقافية مفرقون، لم تجمعنا نظرة واحدة في مناخ وجداني واحد.
ثم جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، فرأينا كيف استقطبتنا الأحداث في جهاز عصبي واحد، فماذا يمنع أن يطول الأمد بهذه النظرة الواحدة، التي خلقت لنا في لحظة التوتر، بحيث تتحول إلى مناخ واحد دائم نعيش فيه جميعا، وإن اختلفت بيننا الوسائل والأساليب؟
حلقة مفقودة
هنالك في حياتنا الثقافية حلقة مفقودة - أو هكذا يخيل إلي - فلقد لبثت أمدا طويلا على هذا الإحساس، بأن البناء الثقافي في حياتنا تنقصه حلقة لتكتمل دورته، وظللت على هذا الإحساس الغامض بوجود النقص، دون أن أتبين على وجه التحديد والدقة ما طبيعته؟ وبالتالي كيف نعالجه؟ وها هي ذي فكرة تراودني، فلعل فيها قبسا يضيء.
ماذا كنا لنجد في حياة الناس الثقافية، لو كانت تلك الحياة مكتملة البناء؟ كنا لنجد فيها أركانا أساسية ثلاثة: أولها أدب يصور الواقع بتفصيلاته، على النحو الذي يرضي مقاييس الفن الأدبي في التصوير، فمن شأن القصة والمسرحية والشعر، أن تعطينا الشعور بما هو كائن، سواء كان هذا الواقع الموجود كائنا في دنيا الناس كما يعيشونها ، أو كان هذا الواقع الموجود كائنا في الصدور أملا وألما، وفي ظني أن أدباءنا - أصحاب القصة والمسرحية والشعر - قد أدوا معظم المطلوب، فمن ذا يزعم أنه إذا قرأ مجموعة ما أنتجه رجال الأدب، فإنه لن يخرج بصورة وافية، لأنماط العيش في القرية وفي المدينة، عند الأغنياء والأوساط والفقراء على حد سواء؟ من ذا يزعم أن القصة والمسرحية والشعر في أدبنا الحديث، قد قصرت كل التقصير، في تعقب ما يعتمل في صدور الناس، من ضروب الصراع وأنواع الكفاح: صراع بين القدرة الاقتصادية من ناحية، والأمل الطامح من ناحية أخرى، وكفاح للتغلب على العقبات، التي تحد من حرية الإنسان وكرامته؟
فالركن الأساسي الأول - من الأركان الثلاثة التي تخيلتها ضرورية لكل بناء ثقافي مكتمل الكيان - قد تحقق إلى حد كبير في حياتنا، وقد كان ينبغي أن يجيء بعد هذا التصوير الذي قدمه الأدباء في القصة والمسرحية والشعر، فكر نظري يستخلص من الصور المعروضة أوجه كمالها وأوجه نقصها، بالنسبة إلى حياة جديدة يراد خلقها، بعبارة أخرى: كان ينبغي أن يلحق «المفكر» «بالأديب»، فلئن قدم لنا الأديب حياتنا بكل ما فيها من ألوان الصراع والكفاح والأمل والألم، فإن طريق السير يقتضي أن ينهض رجل الفكر النظري بصياغة مجموعة القيم الجديدة، التي يراد لها أن تنتظم مرحلة من الحياة القادمة، يرجى أن تزول فيها تلك الألوان من الصراع، وأن يتحقق فيها ما يكافح الناس من أجله، حتى إذا ما فرغ الفكر النظري من تخطيط الحياة الجديدة، جاء بعدئذ الركن الأساسي الثالث في البناء، ألا وهو فريق التنفيذ؛ فرجال القانون يضعون التشريع الذي يتفق مع الوضع الجديد، ورجال الاقتصاد يوجهون النشاط الاقتصادي في الاتجاه الذي يرونه ملائما، ورجال الخدمات الاجتماعية بشتى صنوفها يؤدون ما ينتظر منهم أن يؤدوه لخلق المجتمع الجديد، ورجال السياسة وراء هذا كله يدبرون وينسقون؛ لتنسجم النغمات في لحن واحد.
نامعلوم صفحہ