ليست الثقافة القومية، أو القومية الثقافية، كومة من أقوال هي أحسن ما قيل، ولا من أعمال هي أفضل ما عمل، ثم ما علينا إلا أن ننكت الكومة لنستخرج منها نموذجا من قول أو من عمل، بل هي «وجهة نظر»، نستخلصها من تلك الأقوال والأعمال؛ لنسلطها على مشهد آخر من عصر جديد.
سماسرة العلماء
الشيء في مكانه الطبيعي لا يستغرب، وإنما تأتيه الغرابة التي تدعو الناس إلى التساؤل، حين نراه في سياق غير سياقه المألوف، فلا غرابة - مثلا - أن ترى قردة في الغابة أو في حديقة الحيوان، لكن الغرابة تكون إذا رأيت القردة طليقة في شوارع المدينة، وكثيرا ما يصدق هذا على ألفاظ اللغة، بمعنى أن اللفظة المعينة وهي في استعمالها المألوف، لا تثير سؤالا، وأما إذا وردت في سياق لم نألف أن نراها مسوقة فيه؛ فها هنا يكون الوقوف، والتعجب، ثم البحث عن معناها هناك.
ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك، مثل أحب أن أرويه: وذلك أني إذ كنت أطالع كتاب الحارثي المكي «قوت القلوب» - وهو كتاب معروف في ميدان التصوف - صادفتني عبارة وردت ضمن الحديث عن «الزهد»، فوقفت عندها لحظة لأكثر من سبب، فهي تقول: «الزهد في الرياسة ومدح الخلق، أشد من الزهد في الدينار والدرهم؛ لأن الدينار والدرهم قد يبذلان في طلب ذلك، وهذا باب غامض لا يبصره إلا سماسرة العلماء.»
كان ظني قبل ذلك أن كلمة «سماسرة» تفوح بالحداثة، فلم أكن أتوقع لها أن تكون من الكلمات القديمة العهد في اللغة العربية، وكذلك كان ظني قبل ذلك، أن هذه الكلمة لا يكون لها معنى إلا في عالم البيع والشراء، فكيف، وبأي معنى، جاز لها أن ترد في كتاب عن التصوف، كتبه صاحبه منذ ألف عام؟ فلما كشفت عن معناها في القاموس، وجدتها كلمة أخذتها العربية عن الفارسية منذ زمن بعيد، وأن معناها يتفرع فرعين: أحدهما هو المعنى الشائع بيننا، الذي يكون به «السمسار» وسيطا بين البائع والمشتري، وأما الآخر فهو أن «السمسار» هو الرجل العليم بحقائق الأمور، وبهذا المعنى الثاني يكون «سماسرة العلماء»، هم العلماء المدققون العارفون بأطراف الموضوع الذي يتحدثون فيه.
من هذه البداية البسيطة أخذت الخواطر في ذهني تتقاطر وتترابط، حول موقفنا العلمي كله، في يومنا هذا، وراجعا به إلى بداية عهد التدهور الذي أصابنا منذ القرن السادس عشر، فلقد كنا قبل ذلك أمة تخلق في ميادين الحضارة والعلم، وتبدع وتضيف إلى حضارة الدنيا وعلومها ما هو جديد، وأما منذ ذلك الحين، فقد غشيتنا الغاشية لأكثر من ثلاثة قرون، أخذنا بعدها نحاول - خلال القرن الأخير - أن نفتح أعيننا على ضوء حضارة جديدة، كانت قد بذرت بذورها، ونمت جذورها وفروعها ، وأورقت وطاب ثمرها، وحدث كل ذلك في غفلة منا، لم نكد أول الأمر ندري منه شيئا، ثم أخذنا آخر الأمر نصحو؛ لنلتقي ونأخذ دون أن نضيف ونعطي.
بعبارة أخرى نستغل فيها المعنيين اللذين وجدناهما لكلمة «سماسرة»، نقول: لقد لبثنا حتى القرن الخامس عشر سماسرة علم، بالمعنيين معا: بالمعنى الذي يجعلنا من أصحاب الابداع والإضافة، وبالمعنى الذي يجعلنا كذلك على استعداد، أن نأخذ عن سوانا علومهم؛ لنعيد نقلها إلى من يأتي بعدنا من حملة المشاعل، وأما منذ أوائل القرن السادس عشر - مع الغزو التركي - فقد ضاع منا المعنى الأول، ولم يبق لنا من السمسرة الحضارية إلا معناها الثاني، وذلك في أحسن الظروف، علماؤنا - منذ ذلك الحين - لم يعودوا «سماسرة» بالمعنى، الذي أراده الحارثي الملكي في عبارته التي أسلفناها، أي إنهم لم يعودوا يضيفون إلى الدنيا شيئا جديدا، واكتفوا - في أحسن حالاتهم - بالسمسرة الرخيصة التي تقف عند حدود النقل والمحاكاة.
أردت ألا أسوق القول جزافا، فرجعت إلى كتب ثلاثة: أحدها يحصي علماءنا إبان القرن السادس عشر، ويسميهم «بالكواكب السائرة»، والثاني يحصي علماءنا إبان القرن السابع عشر، ويصف نفسه بأنه «خلاصة الأثر»، والثالث يحصي علماءنا إبان القرن الثامن عشر، ويتخذ لنفسه عنوانا «سلك الدرر» - تصفحت هذه الكتب الثلاثة، وهي من عدة مجلدات؛ لأكون لنفسي صورة عن الحياة العلمية عندنا خلال ثلاثة قرون مظلمة، وحاولت أن أستخلص من قراءتي تلك، الصفات الرئيسية المشتركة التي يصح لنا، أن نقول عنها إنها الصفات المميزة لذلك العهد، ولم يكن ذلك عسيرا؛ لأن القارئ لا يلبث أن يرى تلك الصفات المميزة، طافية على السطح في كل صفحة يطالعها، ومن أبرزها أن من أسموهم «بالعلماء» عندئذ، لم يكن طموحهم العلمي يزيد على «حفظ» الكتاب الفلاني، و«شرح» الكتاب الفلاني، بل كثيرا ما كان مدى جهودهم أن يشرحوا شروحا سبقهم إليها أسلافهم، فهم جميعا «سماسرة» علم بأسوأ معنى لهذه الكلمة.
فإذا تساءلنا: ما الذي أصابنا في المضمار الحضاري، حتى كبونا بعد سبق؟ كان الجواب حاضرا ، وهو: ذهبت قدرتنا على خلق الفكر الجديد، واكتفينا بتبعية تقتضي أثر الأقدمين في محاكاة بليدة عاجزة. إن القرون الثلاثة التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، كانت هي الفترة التي انحدرنا فيها انحدارا سريعا من القمة إلى القاع، وكانت هي الفترة نفسها التي ارتفعت فيها أوروبا من حضيضها إلى الأوج، فما علينا إلا أن نجري مقارنة تحليلية بين ما كان قائما عندنا في دنيا الفكر، وما كان قائما عندهم خلال تلك الفترة الواحدة؛ لنستخرج العنصر الذي غاب عندنا فكان الانحدار، ووجد عندهم فكان الصعود، وأحسب أن الحقيقة عندئذ ستصرخ في وجوهنا صراخا يسمعه الأصم، بأنهم هناك قد أخذوا يقرءون كتاب الطبيعة المفتوح، ويقرءونه على ضوء المنهج العلمي المؤدي حتما إلى نتائج عملية في حياة الناس، بينما أخذنا نحن خلال تلك الفترة نقرأ صحائف الأقدمين لنحفظها حفظا، ونشرحها ونشرح شروحها ونكتب عنها الهوامش، ثم نشرح هذه الهوامش في هوامش، إلى آخر هذا الجهد الشاق الذي يبدأ بالورق وينتهي بالورق.
ويستطيع من شاء أن يجري مقارنة سريعة بين قائمتين: يضع في إحداهما أسماء الأعلام والأعمال العلمية التي شهدتها أوروبا في فترة القرون الثلاثة تلك، ويضع في الأخرى أسماء الأعلام والأعمال العلمية التي شهدها العالم العربي إبان تلك الفترة نفسها، فإذا وجد هناك من الأعلام رجالا من طراز جاليليو ونيوتن وديكارت وبيكون وجون لوك وهيوم وفولتير وكانط، وعشرات غيرهم ممن أقاموا لسلطان العقل والعلم عروشه، ثم وجد هنا من الأعلام رجالا - وأنا أنقل عن الكتب الثلاثة التي أشرت إليها - من أمثال محمد المشهدي، ومحمد بن عنان، وزكريا بن القاضي، وإبراهيم اللقاني، وإبراهيم الميموني، وأحمد القليوبي، وأحمد العجمي إلخ ... إلخ، ممن جعلوا علامة الامتياز مقدار ما حفظوه، وما شرحوه، ومقدار ما استطاعوه من خرق قوانين الطبيعة، لا محاولة الكشف عنها واستخدامها، أقول إن المقارنة السريعة بين القائمتين، ستعطينا الجواب السريع عن سؤالنا: لماذا تقدمت أوروبا بعد تخلف، وتخلفنا نحن بعد تقدم؟ إننا نسأل سؤالنا هذا، وكأن الجواب خاف عن الأبصار، يحتاج من الباحثين درسا وتنقيبا، مع أن الجواب أمامنا يخرق العين، وهو: لقد حاولت أوروبا منذ نهضتها في القرن السادس عشر، أن تقف الوقفة العقلية العلمية، التي تبتكر بها في كل يوم حقيقة جديدة عن دنيانا هذه، التي نعيش على أرضها ونتنفس هواءها، بينما اتجهنا نحن خلال الفترة نفسها نحو الماضي، نبدي في نصوصه المكتوبة ونعيد.
نامعلوم صفحہ