والكلام في هذا الباب مما تضيق عنه صفحات هذا الكتاب وفيما ذكرنا غنية عن المزيد ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد على أن الأمر أوضح من صباح فأي حاجة إلى مصباح) ثم أني أقول (ويشهد لي بذلك عدول إن أباء الرفيق المومى إليه رحمة الله تعالى عليهم وعليه لا يختلف في جلالتهم اثنان ولا ينتطح في شرفهم كبشان وقد أراد هو أن يتسور ما تسوروا ويجسر على الكسر والجبر كما جسروا ويصل إلى ما وصلوا وينزل من العلياء حيثما نزلوا فجهد وجد لكن لم يساعده الجد.
إذا لم يكن للمرء جد مساعد ... فلا جهده يغني ولا جده يجدي
وجد الفتى من غير جد يعينه ... كسيف بلا حد وكف بلا زند
ونهاية امرأ أن مد الزمان له يدًا فرفعه حتى جعله عند عبدي باشا في بغداد كدخدا إلا أنه لم يمهله أن يجبر كسرًا أو يسر سرًا أو يسدي يدًا أو يرد على صديق ردي أو يبني كأسلافه مجدًا أو يبقي بإحسانه على الأحرار لا خلافه عبدًا حيث ضيق بواسع الحوادث صدره ونفث في عقد عقله فغير فكره ولم يزل يغريه بأشياء كان هو ينكرها على غيره ويحسن له أمورًا كان يكرهها في سره وجهره وبذلك وجد عليه من وجد وثنى عنه عطفه بلا اكتراث معظم وجوه البلد وقبل أن تنجلي عنه غياهب المحن ويفطن لما غشه به غشاش الزمن صرحت الأقدار وصرحت الأخيار بعزل وزيره وحطه عن سريره وأمره بالذهاب إلى آمد السوداء وتوجيه أيالتها بدل أيالة الزوراء فعند ذلك عادت إليه أفكاره التي كانت له في الأصل وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل وقد كانت بيني وبينه رحمه الله تعالى محبة شديدة ومودة لم تزل على ممر الأيام أكيدة لا تكاد نفترق في أغلب الليالي والأيام إلا لحاجة ضرورية أو ضروري منام وكنت أوفر أخلائه نصيبًا من وافر هممه وكان يذب عني ذب الغيور عن حرمه ومن كرامة نفسه أنه يغضب من غية بني جنسه بل يغضب من غيب أعدائه فضلًا عن أصدقائه وأحبائه وكان إذا نطق لا يتلعثم وكثيرًا ما يضحك وهو يتكلم وله عقيدة أصفى من الحليب ومذهب السلف إليه أحب حبيب وكان معظمًا بين الكوله مند حيث أن له ولاء يخفق لواؤه على فريقهم بنسائم عتق فعله الجد ولإثبات هذا الولاء في حق داود باشا تجشم السفر للأستانة العلية فسوعد وأثبت إلا أنه قبل أن يلوي عنان الرجعة لوت ساعد حياته المنية ويا سبحان الله تعالى كان بصدد أن يقبض أرث المشار إليه فقبضت روحه وبقصد أن يسكن ريح من يشق ذلك عليه فسكنت ريحه.
يرجى المرء ما أن لا يراه ... ويعرض دون أدناه الخطوب
وقد لبس من الشهادة الحلة الفاخرة سنة تسع وستين ومائتين وألف تاسع جمادى الآخرة من الله تعالى عليه بالرحمة والغفران وأورثه بدل ما فاته من الإرث غرف الجنان.
) والرفيق الثالث (في هذا السفر الحادث) هو سليمان بك (بن ليث أوغا كدخدا بغداد سابقًا الحاج طالب أغا ارتضع در الفضل صغيرًا وتقلد در الأفضال كبيرًا عانى فن الكتابة فمهر في الإنشاء فهو اليوم ينظم الكواكب الدرية في سلك تحريراته التركية إن شاء.
عباراته في النظم والنثر كلها ... غرائب تصطاد القلوب بدايع
فهن لأجياد المعالي قلائد ... وهن لأجناد المعاني طلايع
أقرت له بارق كتاب الروم وقالت أنى لنا أن نقر بالرق سواري النجوم فيا له من كاتب جمع العجائب والغرائب.
إن هز أقلامه يومًا ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله
وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
قد سخرت له جن المعاني المتعاصية على الأذهان ولا بدع إذا ما سخرت الجن لسليمان ولعمري لو صعد الذهن النظر في بلقيس كتبه وصوب لظهر له من معانيها وألفاظها غاية العجب.
معان كالعيون ملئن سحرًا ... وألفاظ موردة الخدود
ومع ذا إذا نظم أبدع وإذا تفتق نور شعره فالحسن بين مرصع ومصرع وينضم إلى ذلك لين جانب ورعاية صاحب وكرم أخلاق وحسن وفاق.
ولو أن المكارم صرن نفسًا ... لكان لها الضمائر والعيونا
1 / 22