فعلا النجيب من ذلك حزن عجيب وخرج من بغداد ملتفتًا إليها بقلب ذي وجيب ولم يسر النادر نصبه واليًا وكان منصبه الأول في عينه وعينيك حاليًا وكان يهوى قلبه البقاء في العسكرية وليس له وراءها إلى المنية أمنية لأنه نشأ فيها ووقف على جليها وخافيها فهي حبيبه الأول الذي لا ينتقل عنه ولا يتحول فلسان حاله يقول وتسمعه إذا صاخت إليه آذان العقول.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
على أنه يعلم أن علم السياسة أدق من عمل الإكسير. والفتق الذي فتقه سلفه يعجز عن رتقه دقيق التدبير وأن ليس عنده من يحل رجل دجاجة أو يقضي له من حاجة أدنى حاجة وكان سلمه الله تعالى ذكي الأخلاق زكي الأعراق طاهر الثياب نقي الأهاب لين الجانب مكرم الصاحب إذا دقق بهر وإذا فكر شق الشعر يحب الكرم ويكره من ظلم لا يرتوي جواد ذهنه من حياض التفكر في عظمة ذي الكبرياء ولا يزال طرف طرفه سارحًا في رياض ملكوت السماء كلماته تعد وكمالاته لا تحد بيد أنه لا يلتزم لامرئ أمرًا ولا يتجرع لشرب حلو مرًا قد حول كل أمر إلى القدر فلا يغضب إن عصي إذا نهى أو أمر) وبالجملة (هو نادر الأمثال فيمن رأينا من الرجال ما أحسن صحبته وأجل لمن ليس له عنده أمل أسأل الله تعالى أن يديمه في سعود وصعود ويكفيه على ممر الزمان كيد كنود وحسود) والرفيق الثاني (الذي التمسته وأدركت منه اللطف من قبل وآنسته أخي الذي لم أزل معه ولم يزل معي) جناب مصطفى بك أفندي الربعي (وهو من قوم كانوا في بغداد أعيان مجد يشار إليه بالأصابع وأقران فضل لا طاعن فيه ولا مدافع.
إذا ركبوا زانوا المواكب هيبة ... وإن جلسوا كانوا صدور المجالس
صار أبوه) علي بك (في بغداد قائمقام واليها سليمان باشا الكبير وكان عند الوالي المشار إليه ذا قدر على خطير ونصبه بعد متسلما في ماردين وهناك تسلمت الملائكة روحه فعرجوا بها إلى عليين وهو ابن عبد الله بك بن محمد أفندي دفتر دار بغداد المحمية وقد ورد دفتر دار إليها من جانب الدولة العلية وهو ابن علي باشا كان واليًا في الحدباء أتاها من قبل الدولة سنة خمس وتسعين بعد الألف وحكم فيها ثلاث سنين على ما ذكره العمري في كتابه منهل الأولياء وذكر فيه أيضًا قصة غريبة لهذا المرحوم ونص على أن اسم أبيه عليه الرحمة قدوم وذريته تنكر ذلك الكلام وترفع رأسها إلى بعض الصدور العظام وتقول أن ذلك الصدر كان من رؤوس ربيعة وأنه كان صدرًا عند حضرة السلطان مراد يوم جاء إلى بغداد فنال بفتحها الفخر جميعه وقد فاز عند الفتح بالشهادة وحاز بالرفع إلى عليين أعلى مراتب السعادة) وأنت تعلم (أن الناس مأمونون على أنسابهم كذبًا أو صدقًا نعم يطالبون بحجة إذا ادعوا بها حقًا وأن التسامع في هذا المطلب نافع على أن النفس إذا كانت بأهلية لا يجديها نفعًا شرف الأنساب ولو كانت هاشمية.
ما تنفع الأنساب من هاشم ... إن كانت الأنفس من باهلة
فبلال حبشي وأبو لهب قرشي ولله تعالى در من قال:
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا ... يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول هاأنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
ولعمري لا ينفع الحسب ما لم يكن بالمكتسب.
وما الحسب الموروث لا در دره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذ العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتاده الناس للحطب
والشرف النسبي في حكم النعت السببي ومن الجهل والغرور التعاظم بعظام في القبور ولله تعالى در ذي النظم الدري والنثر العبقري سلطان بني الآداب عبد الباقي أفندي العمري في قوله دام صيب فضله:
قل لمن ظهر التعاظم في الأرض ... على الناس بالعظام الرميمة
لا تكن بالعظام كالكلب مغري ... ليس في الكلب ويك في العظم قيمة
وقوله:
أقول لمن غدا في كل وقت ... يباهينا بأسلاف عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري ... بأن الكلب يقنع بالعظام
وقوله:
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى ... مولاك شيئًا فحاذر واتق الله
وابغ الكرامة في ترك الفخار به ... فأكرم الناس عند الله أتقاها
1 / 21