كانت لواعج الحب تضطرم في نفس زبيدة، وكانت تحس كأن سكاكين مثلمة تحز في قرارها؛ لأنها كانت تهوى ابن خالتها وتراه المثل الأعلى للزوج والحبيب، وتتمنى لو ألقت بنفسها بين ذراعيه، ومزجت دموعها بدموعه، ولكن المسكينة كان لنفسها ناحيتان: ناحية يكتم فيها الوجدان وتطغى النزوات، وناحية ألقت بزمامها إلى العقل واستسلمت إلى سلطان الإرادة، وطالما تحكمت الثانية في الأولى، وأسكنت صيحاتها، فالتفتت إليه وقالت: أنت لا تشك يا محمود أني أحبك كما أحب أخي عليا، وأني كلما فكرت في أمرك ارتفع في نظري هذا الحب الأخوي الطاهر الشفاف على حب الزوجة لزوجها، فأضن به أن يذهب من يدي لاستبدل به حبا ماديا أرضيا ، قلقا مضطربا، ربما دام وربما لا يدوم. - حبا قلقا مضطربا؟ إن حبي يا حبيبتي لو تجسم لكان ركانة في الجبال، وصلابة وبأسا في الحديد، إنه قطعة من الروح وفلذة من القلب، فإذا زال زالت الروح، وذهب القلب معه، إن الحب الأخوي نفحة وراثية، والحب الغرامي نفحة روحانية، وشتان ما بين النفحتين!! إن الحب الأخوي أثر المعاشرة والإلف، والحب الغرامي أثر الوحي والإلهام، لا تغالطيني يا حبيبتي، وإذا رضيت أن أكون لك أخا فأطلقي لهذا الحب قليلا من فضلة العنان، ليكون حبا قدسيا تتعانق فيه الروحان، وتتلاقى الشفتان. - هل سألت أبي؟ - لقد أمللته حتى إنه كاد يفر مني، ولما ضاق بي ذرعا آخر الأمر، التفت إلي حزينا وقال: «إنك تزيد في آلامي يا بني بكثرة الإلحاح، لقد ذكرتك أمامها مرات، ويعلم الله أني لم أترك وصفا مما يرغب النساء في الرجال إلا خلعته عليك، ولكني لم أر منها اتجاها إليك ولا رغبة فيك، وقد عاهدت نفسي ألا أجري إلا على ما أرادت، وألا أدفعها إلى أمر لا ترغب فيه، فإذا رضيت بك زوجا فإنني أكون أسعد خلق الله بهذا الزواج»، أما أمك: فقد قضيت معها ساعة اليوم فلم أجد منها إلا موافقة تامة ورضا كاملا، غير أنها كانت كأبيك تخشى أن تلزمك إرادة أو تحملك على عزيمة، فالأمر بين يديك يا زبيدة، إن في فمك كلمة هي الحياة أو الموت، فأشفقي على ابن خالتك المسكين!!
نظرت إليه زبيدة في شيء من القلق مكتوم وقالت: لم يبق إلا رضاي؟! وهذا شيء هين، ولن يخلو زواج من عقبات، وهذه عقبة صغيرة أسأل الله أن يقدرني على تذليلها، فدعني الآن يا محمود، فإن لكل شيء أوانا، والذي سطر في لوح القدر سيكون، ولا بد أن يكون، وماذا أكون أنا أمام علم الله وقدرته؟
وهنا ظهرت عند باب السلم الشيخة أمينة، وهي امرأة كفيف تحفظ القرآن وتقرأ في بيوت أغنياء المدينة، وكانت تقودها فتاة صغيرة قذرة الجلباب حافية القدمين، أصاب الرمد عينيها بدموع لا تنقطع ، فأوشكت أن تشبه من تقودها، دخلت الشيخة أمينة وهي تقول: صبحكم الله بالخير جميعا، وكفاكم شرور هذا الزمان، إن المدينة اليوم في ثورة جامحة، فإن عثمان خجا لم يكتف بما يفرضه من الضرائب والمكوس والمصادرات في كل يوم، حتى ابتكر ضريبة جديدة لا تترك للفقير ما يقتات به، ولا تبقي للغني ما تبقى له من قليل.
وهنا ظهر الحزن والهم على وجه محمود العسال، ونهض واقفا وهو يقول: لا يمكن أن نعيش يوما آخر مع هؤلاء المماليك، ثم حيا زبيدة ومال إلى أذنها وهو يهمس: طال الصبر يا زبيدة فإلى متى؟ ثم أسرع نحو الباب.
وعندئذ قامت زبيدة متثاقلة حزينة، فهرعت إلى غرفة نومها لتكتم آلامها، وما وصلت إليها حتى رمت بنفسها على السرير وكتمت أنفاسها الحرى في وسادة من الحرير، وأخذت تبكي بكاء مكتوما اهتزت له أضلاعها في خفقات مضطربة، وهي تقول: أحبه!! ... أحبه!! ...
الفصل الثاني
وصل محمود إلى الشارع فرأى الناس يتسابقون إلى شارع زغلول، وفي كل وجه صورة مخيفة للغضب والحزن وحب الانتقام، وكانت العين لا ترى فيهم إلا أشباحا للفقر والجوع والذل، لن تستطيع ريشة رسام أن تبوح بوصفها، مشى محمود في إثرهم حتى إذا وصلوا إلى الشارع رآهم يتجهون نحو مسجد زغلول، فهز رأسه حزينا وقال: مسكين هذا المسجد! أصبح من يلتجئ إليه من المظلومين أكثر ممن يقصده للصلاة والعبادة، والناس لا يجدون غياثا في هذه الأيام إلا العلماء والأعيان، وويل لهؤلاء العلماء والأعيان! إنهم أصبحوا أضعف من ذات خمار أمام ظلم عثمان خجا وظلم أعوانه وعصابته، اذهبوا أيها المساكين اذهبوا، فإن عثمان خجا لن يرضى إلا بامتصاص آخر قطرة من دمائكم، وهو غراب مشئوم لا يستريح إلا بعد أن يرى المدينة قفرا يبابا، اذهبي اذهبي أيتها الضحايا المنكودة، فإن مراد بك إن رضي بقضم اللحوم فإن وكيله خجا لا يشبعه إلا التهام الجلود، ما هذا الحظ العاثر يا رشيد؟ إذا اقتسم إبراهيم بك ومراد بك أرض مصر، لا تكونين إلا من نصيب مراد بك الفاتك الجبار، الذي لم يبق بالبلاد قائما ولا حصيدا، والذي إذا فر منه برغوث في مدينة أحرق المدينة كلها ليقتله.
ثم يأخذ محمود سمته إلى شارع البحر، ويميل إلى متجر أوليفر نيكلسون فيراه جالسا ومذبته في يده، يذود بها الذباب عن وجهه، وهو جهم الوجه حزين النفس يظهر عليه القلق والاضطراب، وكانت الصلة وثيقة العرا بين محمود ونيكلسون لتلاؤم في أخلاقهما، وللمعاملة المتصلة بينهما، فقد كان لمحمود متجر للمنسوجات الصوفية بالقاهرة ترك الإشراف عليه لابن عم له، فكان يشتري البضائع من نيكلسون ويبعث بها إلى القاهرة، وكان لنيكلسون اتصال وثيق أيضا بأسرة البواب، فقد كان له أخ يتجر في الأرز بدمشق فكان يبعث إليه به من مضرب البواب لثقته بأمانته وحسن معاملته؛ لذلك نمت الصداقة بين الأسرتين، فكانت بنته لورا نيكلسون لا تجد لها في رشيد صديقة أوفى ولا أكرم صحبة من زبيدة، فأكثرت من زيارتها والائتناس بها، وأحبت في زبيدة لطفها وارتفاع مستوى تفكيرها وثقافتها عن مثيلاتها، وأن لها من صفات الأنوثة والبراعة في إظهار جمالها ما يشبه ما تتحلى به الأوربيات، ورأت زبيدة في لورا نضارة الجمال الإنجليزي ورقته وحنانه، وكمال أدبه ودقة إحساسه، ففتنت بها وحاكتها - من حيث لا تدري - في كثير من أخلاقها وعاداتها وآدابها، وطالما جلست لورا لتفصل لها الحلل على الطراز الأوربي.
حيا محمود صاحبه، وجلس وهو يلهث من الحر والتعب وقال: أرأيت الزمر الحزينة البائسة وهي تهرول مستغيثة مولولة إلى مسجد زغلول؟ - نعم يا محمود رأيتها، وقد زادني مرآها حزنا على حزن، وألما على ألم، إن هؤلاء المماليك جزارون لا يحسنون الذبح، إنهم مصابون بجنون التدمير والتخريب، وكم لاقت منهم مصر وتلاقي إن امتد بهم الحكم وطاولهم الزمان، إني لم أر بلدا - فيما قرأت من تاريخ - فدح بمثل هذا الحكم، إن صح أن يسمى ما نحن فيه حكما، إن الزنوج الذين يسكنون في وسط إفريقية لا يمكن أن يخطر بعقول رؤسائهم الضعيفة الجاهلة أن يحكموا أتباعهم بهذه القسوة الطائشة والظلم الجارف، ولقد ضاعت مصر بين ضعف الدولة العثمانية وجهلها، وغباوة المماليك واستبدادهم، إن مصر اليوم تحكمها طائفة من اللصوص الأشقياء، الذين لا يقف شيء أمام جشعهم، ولا يزعهم شرف ولا دين، نهبوا كل ما في أيدي المصريين ولم يعطوهم شيئا، فالوباء المتفشي في الناس أشد من ظلم المماليك، والجهل الذي عطل عقولهم أشد من هذين. - هذا بلاء محيق لا كاشف له إلا الله، فالناس يثورون في كل يوم، ولكنهم لا يلاقون إلا الجلد والقتل، والتعذيب وهتك الحرمات، حتى لقد فر كثير من الأسر إلى دمياط والقاهرة لعلهم يجدون متنفسا. - يفرون من المقلاة إلى النار، كما نقول في بلادنا، المماليك مماليك في كل أرض وبلد. اشنقوه، اقتلوه، أحرقوه، كلمات خفت على ألسنتهم وتكررت كأنها تراتيل القساوسة، أرأيت كيف يسيئون إلى الإفرنج في كل حين، على الرغم من أن لهم قناصل يحمونهم، فكم صادروا متجر «فارسي» الفرنسي ومتاجر سواه، وحينما كتبنا احتجاجا إلى دولنا بأوربا لم يزدهم هذا إلا إيغالا في العسف وإغراقا في النكاية. - إنهم يبغضون الفرنسيين ويجاملون غيرهم أحيانا، ألديك أخبار جديدة عن الحرب بين الدول؟ - قرأت أمس في جريدة إيطالية صدرت منذ شهر أن العداء شديد مستحكم بين إنجلترا وفرنسا، وأن الحرب قائمة بينهما على أشد ما تكون عنفا وقسوة، وأن أساطيل إنجلترا تجوب البحار لحماية شواطئها وحصر فرنسا وحليفاتها، ومنع أي مدد يصل إليها، وأن الفرنسيين بعد أن فتحوا إيطاليا والنمسا وخافتهم بقية الدول الضعيفة في أوربا، وأصبحوا يصيحون في كل شارع في زهو وشموخ قائلين: إلى إنجلترا ... إلى إنجلترا ... وكلما مر نابليون بونابرت ذلك القائد الجديد الذي تمخضت عنه ثورتهم من حيث لا يعلمون، صاحوا: إلى النصر، إلى إنجلترا، إلى العالم! - هل تظن أن مصر ينالها شيء من شرار هذه الحرب؟ - لقد أصابها الشرار فعلا يا بني، ألا ترى الكساد الذي نحن فيه وانقطاع الصادر والوارد؟ - إذا هجم هذا البونابرت على بلادك، أتسرع للدفاع عن حوزتها؟ وماذا يكون من أمر لورا؟ أتأخذها معك؟ إني أرى من الخير أن تدعها عند خالتي أم زبيدة فإنها تكون إذا بين أهلها. - لن أستطيع أن أسافر يا محمود بعد أن أصبح البحر شعلة من نار، ثم إني واثق أن بلادي لن تنال، وأن لها من قلوب أهلها وشجاعتهم سورا من فولاذ يصد عنها كل فاتح، إن غزوها محال، ولكن الذي يهمني ويقض علي مضجعي، أن يكون في الأمر خدعة، والذي يخيل إلي أن هؤلاء الفرنسيين يظهرون أنهم يستعدون للهجوم على إنجلترا، ليدفعوها إلى التفكير في حماية ثغورها والتفرغ إلى الاستعداد في بلادها، وليصرفوها عن النظر في أية خطة أخرى، ثم هم من وراء ذلك يتجهون بجيوشهم وأساطيلهم إلى ناحية لم تخطر للإنجليز ببال، ويغلب على ظني أنهم بعد أن عجزوا عن غزو إنجلترا سيوجهون ضربتهم إلى مصر، ليسدوا طريق التجارة الهندية في وجه إنجلترا بالسيطرة على البحر الأحمر، وربما خطر لهم، أن يتخذوا مصر طريقا لغزو الهند نفسها، لذلك أعددت لكل شيء عدته منذ أشهر، فأسرعت في جمع ما على عملائي من ديون، وعقدت شركة مع عامل متجري «أورلندو» وهو رجل أمين أثق به، حتى إذا صح حدسي، ونزل الفرنسيون مصر، فررت من المدينة، وتركت له تجارتي، وهو إيطالي لا يمسه الفرنسيون بسوء، أما أنا والإنجليزية لغتي، وإنجلترا موطني، فلو بقيت بعد دخولهم يوما واحدا للقيت منهم شر ما يلقى المرء من عدوه: من مصادرة واعتقال وإذلال، وربما هان على نفسي كل هذا في جانب ما أخاف على لورا. - أنت رجل قوي الخيال يا نيكلسون، والذي يستمع لحديثك هذا يظن أن أعلام سفنهم تخفق اليوم على ميناء الإسكندرية. - إن الإنجليز يا محمود قد يصفهم الناس ببطء الفهم، ولكنهم إذا فهموا لم يخطئوا شاكلة الصواب، وهم قوم يجمعون الحوادث والمظاهر ويدرسونها درسا دقيقا، ليستنبطوا منها نتيجة قل أن تخطئ، والحوادث التي درستها من شهر تنبئني بأن أعلام سفنهم ستخفق على ميناء الإسكندرية، وكيفما يكن الأمر فلست أرى في الحذر والحيطة بأسا، فالسفينة التي سأسافر بها راسية الآن أمام المتجر، حتى إذا حانت الساعة نقلت إليها ما أحتاج إليه، وخرجت من المدينة بلورا على حين غفلة من أهلها، أين تسهر هذه الليلة؟ - إنني أسهر عادة عند السيد إبراهيم الجمال، حيث نتحدث في التجارة ونتعرف أخبار المدينة وحوادثها، وكثيرا ما يجرنا الحديث إلى تعداد مظالم عثمان خجا وافتنانه في ضروب العسف، وهو حديث طويل محزن لولا ما يتخلله من فكاهات الحاج عبد الله البربير، وطرائفه ومضحكاته. - إن اليوم عيد ميلاد لورا وقد أعدت لنا الليلة وليمة، وألحت علي أن أدعوك إليها فهل تستطيع أن تزورنا بعد الغروب؟ - إنني أسر لكل ما يسر لورا، وسأكون عندكم في الموعد الذي ذكرت، وما أتم عبارته حتى سمع ضجيجا وصياحا وجلبة، فنظر فإذا جمع حاشد كأنه البحر المائج، فيه الرجال والنساء والأطفال وهم يصرخون ويولولون، وأمام هذا الجمع علماء المدينة وقد اتجهوا جميعا نحو ديوان الحاكم، فوثب محمود واندمج بينهم، فلما انتهوا إلى الديوان زاد الضجيج وعلا الصياح، وأخذ الأطفال يصفقون ويرددون عبارات يسجعونها وينغمونها مثل:
موجه رايحة وجية موجه
نامعلوم صفحہ