غرقنا ظلمك يا خوجه
ومثل:
ما فينا إلا العريان
إيش راح نعمل يا عثمان
ودخل العلماء الديوان وهم في حزن وغضب على ما أصاب مدينتهم، فلما رآهم عثمان خجا - وكان متكئا على أريكة - لم يتحرك للقائهم وبادرهم قائلا: لقد سئمت هذه اللعبة ومجتها نفسي كلما هممت بعمل في هذه المدينة رأيتكم تتصدون لمعارضتي، وتقفون في طريقي، حتى لم يبق علي إلا أن أستشيركم في كل خطوة أخطوها، فتقدم إليه الشيخ صديق - وكانت إليه زعامة البلد - وهو عالم تقي زاهد، ذرب اللسان قوي العارضة، يجبه الناس بالحق ولا يخاف في سبيله أحدا، فقال: يا حضرة الأغا: كان يجب عليك أولا أن تقوم إجلالا للعلماء وتكريما لهم، والعلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الأثر الشريف، فالذي لا يبجل العلماء لا يبجل الأنبياء والعياذ بالله، وإذا رضيت لنفسك بهذا فإننا لا نرضى أن يقيم بمدينتنا من يتصف بهذا الوصف. ثم انفجر صائحا: قم للعلماء أولا، ثم تكلم بما شئت، فإن لكل كلام كلاما.
فأحس الأغا بما يحيط به من خطر، ورأى أن الشيخ جاءه من ناحية الدين، وأن أية كلمة يقولها ستنقلب عليه وبالا، فتعلثم وقال: يا مولانا، إن العلماء سادة الناس جميعا، وإني أول من يتقرب إلى الله بإرضائهم، غير أن صياح هؤلاء العوام وما تجرءوا عليه من قذف الديوان بالطوب والأحجار، سلبني صوابي وقلب ميزان تفكيري، ثم أخذ يصافح العلماء في أدب ورعب، فابتدره الشيخ قائلا: قلت يا حضرة الأغا: إنك سئمت هذه اللعبة، فسميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه الدين على كل مسلم ومسلمة: لعبة، وهذا تعد على الشرع الشريف، واستهزاء بأحكامه، واعلم يا حضرة الأغا أننا سنستمر فيما تسميه: لعبة، ما دمت مستمرا فيما نسميه ظلما وإرهاقا، ثم قلت مستنكرا: إنه لم يبق عليك إلا أن تستشيرنا في كل خطوة تخطوها، وقد أمر الله أشرف الخلق وسيدهم محمد بن عبد الله، أن يستشير قومه وأين أنت من هذا المقام الأسمى؟ وإذا كنت تأنف أن تتشبه بالنبي الكريم، فتلك مسألة أنت تعرف سوء مغبتها.
إنك لم تدع في المدينة رطبا ولا يابسا، لقد عصرت كل شيء حتى الأحجار والخشب، ولم يبق في الناس إلا رمق خافت تريد اليوم أن تأتي عليه، إن العلماء قرروا وقف الدروس في المسجد وإغلاقه، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ثم هم الشيخ والعلماء بالخروج فتشبث بهم عثمان خجا، وهو يقول في تلعثم الخبيث اللئيم، الذي يريد أن يؤجل الضربة إلى فرصة قريبة: هذا أمر مراد بك الكبير وليس لي فيه يد، وسأرسل إلى القاهرة اليوم رسولا لأرى رأيه في الأمر.
فأجابه الشيخ صديق: ترسل أو لا ترسل، إننا سنذهب إلى بيوتنا وسنغلق أبوابها، وسنلتجئ إلى الله مستغيثين داعين أن يكشف عنا وعن أهل المدينة تلك الغاشية، وبينما العلماء نازلون من السلم؛ إذ هدأ الجمع المحتشد حول الديوان، وإذا صوت يجلجل في الفضاء خشنا مرعبا وهو يصيح: خراب يا بيت خجا خراب، خراب يا بيت خجا خراب!
كان ذلك صوت الشيخ علي سريط ، وهو شيخ كان أول أمره طالبا ذكيا نابغا، بمسجد زغلول، ثم تجرد لكتب التصوف وأكثر من قراءتها، فاختلط عقله وأدركته جذبة، فكان يقضي ليله ونهاره ماشيا في طرق المدينة وهو عاري الجسم، إلا خرقة يلفها حول وسطه، وكان للناس فيه اعتقاد راسخ ينقلون عنه كثيرا من الكرامات، ويرون أنه من أهل الله المقربين، وأنه له لمحات يكشف بها ما خلف ستار الغيب، فلما سمع الجمع نداءه انطلق يردد ما يقول كما يقصف الرعد: خراب يا بيت خجا خراب!
الفصل الثالث
نامعلوم صفحہ