الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
نامعلوم صفحہ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
نامعلوم صفحہ
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
نامعلوم صفحہ
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
غادة رشيد
غادة رشيد
تأليف
علي الجارم
نامعلوم صفحہ
الفصل الأول
في اليوم الثاني من شهر يولية 1798م كانت الشمس تدرج من خدرها، فترسل أشعتها فوق النيل براقة وهاجة كالذهب النضار، وقد تكسرت أمواجه وهبت عليه نسمة شمالية وئيدة الخطا، بلل البحر الأبيض أذيالها بمائه، ونفحها ببخاره المملوء بعناصر القوة والحياة.
وكانت مدينة رشيد في هذا الصباح جاثمة فوق الشاطئ الغربي، بعظمة منازلها وارتفاع مآذنها، تنعم بلذة الهدوء الذي احتواها في أثناء الليل، إلا ما كان من العملة الذين اتجهوا أفواجا إلى مضارب الأرز (الدوائر)، وإلا ما كان من زمر الفلاحين الذين قدموا من الشمال والجنوب لبيع حاصلاتهم من الخضر والفاكهة، واللبن والبيض والدجاج، وقد أخذ فتى منهم غض الشباب يرسل صوته عذبا مشجيا بأغنية يذكر فيها ما يبذله من الجهد لجمع مهر حبيبة فؤاده، ثم يتم الأغنية بأن كنوز الأرض وثروة «البك الكبير» بمصر لا تكفي مهرا لهذا الجمال الرائع والحسن الفتان، ويسمعه بعض النساء والعذارى اللائي بكرن إلى النيل لغسل ثيابهن وملء جرارهن، وقد انتثرن على شاطئه في ثيابهن الزاهية الألوان كأنهن عقد اختلفت حباته حول جيد الحسناء، وقد زاد جمال الصبح في جمالهن، وأمن نظرات العيون فكشفن عن سوق خدال، ومعاصم رخصة صافية البياض، لولا ما يحبسها من حجول وأساور لسالت في الماء، كما يسيل الماء.
ضحكت إحداهن في دلال وعجب، وقالت لإحدى صويحباتها: أتسمعين غناء هذا الفلاح الأبله؟
فأجابت: لعله يا فاطمة يتغزل في جاموسة لأحد جيرانه يريد شراءها، فأسرعت فتاة لا تعرف مكر النساء ولا أساليبهن، تقول في سذاجة: ولكنه يصفها بأنها سوداء العينين، صغيرة الأذنين! فأرسلت فاطمة ضحكة مغرية الرنين وقالت: إنها الجاموسة بعينها كما قالت سعاد! وهي التي من أجلها يكدر علينا هذا الفلاح الجافي جمال هذا الصباح بصوته المنكر، من أين يأتي لهؤلاء الفلاحات الجمال؟ ولو قدر لهن شيء منه لطمسنه ببلاهتهن وقذارتهن، وجهلهن بطبائع الرجال، إن الجمال مهارة قبل أن يكون خلقة وفطرة، والمرأة التي لا تستطيع التعبير بعينيها وابتساماتها، وأسارير وجهها عما تحب وتكره، والتي لم تدرس طبائع الرجل، ولم تعرف مواطن ضعفه وغروره، لن يكون لها حظ عند زوجها، ولو بلغت في الجمال ما بلغت زبيدة بنت البواب.
ارتفعت الشمس وعاد النساء بجرارهن، واستيقظت المدينة الآهلة بسكانها، الزاخرة بنزلائها من جميع أقطار الشرق، فقد بلغت رشيد في هذا الحين شأوا بعيدا من الثروة واتساع التجارة واستبحار العمران، وكانت ترد إليها السفن من مصر والشام، وتركيا وأوربا، محملة بأصناف البضائع، وكانت تمتد على شاطئ النيل من الشرق، ويحيط بها من الغرب الكثبان الرملية التي ملأها نشاط أهلها بالنخيل والكروم، وأشجار الزيتون والتين، وكان بجهتها الشمالية والجنوبية حدائق فيح، وبساتين خضر، ازدحمت بأشجار الموز والليمون، والبرتقال والنارنج، وأنواع الزهر والرياحين، فكان النسيم في غدوه ورواحه يحمل أريجها إلى المدينة، لا يكاد يخلو منه منزل ولا طريق، فحيثما ذهبت شممت عطرا، وأينما أقمت تنفست طيبا.
وكانت شوارعها ضيقة ملتوية، تقوم على حافتيها منازل بنيت بطوب صغير الحجم أجيد إحراقه، حتى أصبح كالحجر الصلد، وصناعة هذا الطوب خاصة بأهل رشيد ودمياط، وأعظم ما كانت رشيد تزهى به شارعان عظيمان، أحدهما شارع البحر، والثاني شارع مواز له يبتدئ من مسجد المحلى، وينتهي جنوبا بالمسجد الجامع المسمى بمسجد زغلول، وهو من المساجد النادرة المثال بمصر، تزيد رقعته على رقعة الجامع الأزهر، به مساكن لطلاب العلم الغرباء، وكان يلقي الدروس به طائفة من كبار علماء المدينة، أشهرهم الشيخ أحمد الخضري ، والشيخ إبراهيم الجارم، والشيخ محمد صديق.
وكان يسكن عظماء المدينة وكبار تجارها بشارع دهليز الملك، وهو يبتدئ من الغرب بمسجد العرابي، وينتهي في الشرق إلى النيل، ويمتاز بسعته واستقامته، وبالمنازل على جانبيه فقد كانت فخمة البناء شاهقة الارتفاع، تتألف في أكثرها من أربع طباق، وتكثر بها الزخارف الفنية والشبابيك، والمشربيات التي أبدعت صناعتها من قطع الخشب الصغيرة المخروطة، ذات الأشكال الهندسية البارعة الدقة، الرائعة الحسن، وكان يسكن بهذا الشارع عثمان خجا حاكم رشيد من قبل مراد بك، وكان رجلا فاتكا بطاشا، ظالما جماعا للأموال أين وجدها ومن أي طريق وصل إليها، وكان به منزل محمد بدوي جوربجي سردار مستحفظان، والسيد محمد البواب، والسيد إبراهيم الجمال - وهما من كبار تجار الأرز بالثغر - والحاج عبد الله البربير شاعر المدينة وزجالها، إلى غير هؤلاء من الأعيان والعلماء والكبراء.
وميناء المدينة أشد أحيائها ازدحاما وأكثرها جلبة وصخبا، تراصت به السفن آتية من أقطار الشرق والغرب، وسار ملاحوها في شارع البحر يلغطون، وقد اختلفت أزياؤهم وألسنتهم وألوانهم، واختص شارع البحر بمضارب الأرز فطل عليه منها أكثر من ثلاثين دائرة، يبيض فيها الأرز بطواحين تدور بالخيل والبقر، وكان بهذا الشارع متجران: أحدهما لفرنسي يدعى مسيو فارسي، وهو يتجر في الحبوب والعقاقير الطبية، والثاني لإنجليزي يتجر في المنسوجات الحريرية والصوفية، هو مستر أوليفر نيكلسون، وقد كان عند بدء تاريخنا هذا في سن الأربعين، رحب الجسم قوي العضل، يدل تألق عينيه الزرقاوين على قوة العزم، ويوحي انبساط أسارير وجهه بالوداعة واللطف وسلامة دواعي الصدر، وكان كامل الثقافة وافر العلم بأحوال الدول والأمم.
في ضحوة هذا اليوم جلست زبيدة بنت السيد محمد البواب في غرفة نومها، وكانت تلبس قميصا من الحرير الأبيض الشفاف، يتسع كماه ويضيقان عند الرسغين، فوق صدار من القطيفة القرمزية طرز بالقصب، وكثرت أزراره حتى التصق بعضها ببعض، أما سروالها فكان من الأطلس البنفسجي واسعا فضفاضا، زين عند نهاية الساقين بطراز من الفضة المموهة بالذهب، وقد انتطقت فوقه بحزام حريري، جعلت عقدته إلى الجانب الأيسر من خصرها ، واتشحت بوشاح (يسمى الشمار) دمشقي الصنعة، بديع الألوان، وكان فوق رأسها قرص من القطيفة رصع بالماس ونفيس الجواهر، أما شعرها: فقد ضفر «بالصفا» وهو خيوط من الحرير وصل بها كثير من القطع الذهبية، وفصل بين كل قطعة بنظم من اللؤلؤ.
نامعلوم صفحہ
جلست زبيدة في غرفة نومها ثم اتجهت إلى المرآة ذاهلة حالمة: فرأت وجها كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك، به عينان حوراوان امتزجت بهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب، وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا، وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب ظمأى، كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير، ثم رأت صدرا صافي البياض ممتلئا بالأنوثة الناضجة، يعبث بالعقول، كأنه سبيكة من لجين، استعارت من الزئبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة.
كانت زبيدة في الثامنة عشرة من عمرها، وقد تفتح فيها الشباب كما تتفتح زهرات الربيع، وجالت بنفسها خواطر وثارت بها نزعات لم تعرفها في عهد الطفولة الغريرة، وأحست بما تحسه الفتاة في هذا السن، من ميول متدفقة يكبتها الحياء وتكظمها بقية من أدب ودين، وللعرف قانون لم يكتب في أوراق، وهو أشد القوانين عنفا، والناس أكثر له طاعة وقبولا، وللمجتمع آداب، يحكم بها المرء بنفسه مستكينا مستسلما.
كانت زبيدة فارعة القد ممتلئة الجسم، جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، وتهافت أبناء التجار والأعيان والحكام على خطبتها والتقرب من قدس حسنها، ولكنها كانت ترد كل توسل بالإدلال، وكل إغراء بالرفض والإباء، ولم تكن أمها لتستطيع أن تعمل شيئا أمام هذه الحسناء الجامحة، ولم يكن أبوها - وهي وحيدته - ليرد لها كلمة أو يقف بينها وبين ما تكره أو تحب، كانت الفتاة المدللة العابثة المتحكمة، وقد ملأتها ثقتها بجمالها كبرا وغرورا، وزادتها ثروة أبيها الضخمة ميلا إلى الإسراف، والتأنق في الرفه، وإنفاق المال الكثير على الحلي والجواهر والملابس، فكانت في جمالها وأزيائها، ودلالها وإبائها جنة محرمة الثمرات، وأملا حلوا عز على كل شيء حتى على الخيال.
جلست زبيدة أمام مرآتها ورأت ما رأت، فابتسمت ابتسامة لؤلؤية، ثم عبست وتجهمت أساريرها، ثم رفعت حاجبيها وشخصت بعينيها كالمفكرة المأخوذة، ثم قالت تحدث نفسها: ولم تكذب «رابحة» العرافة؟ أليس في حسني ما يذل له كل عزيز، ويخضع لسطوته كل ذي نفوذ وسلطان؟ ألم يسر ذكر جمالي مع كل سائر؟ ويطر مع كل ريح؟ نعم إن رشيد مدينة نائية عن القاهرة مقر عظماء الحكام وكبار الأمراء، ولكن الملاحين الذين يسافرون إليها في كل يوم لا يزال يحفظون ويتغنون بتلك الأغنية السائرة، التي نظمها سرا الحاج عبد الله البربير والتي فيها:
الحسن كله في رشيد في بيت
وإن كنت تنكر إسأل البواب
لا، لا، لن تكذب رابحة، وهي لم تتكهن بشيء مستحيل أو بعيد المنال، لقد سمعت من أبي ما أخبره به السيد أحمد المحروقي زوج خالتي من أن السيدة نفيسة زوج مراد بك لها حظ من الجمال، وهي مع ذلك صاحبة الصولة والنفوذ في حكم مصر، فلم لا أكون حاكمة مصر؟! إن كان بها فتاة تشبهني، فأنا أول من يأخذ بيدها إلى كرسي المملكة.
ثم ضحكت ضحكة اليأس والاستخفاف وقالت: ألست أتشبث بخيوط من الوهم، وتعبث بي عاصفة هوجاء من الخيال الكاذب؟ من أنا حتى أكون حاكمة مصر؟ بنت السيد محمد البواب أحد تجار الأرز برشيد! هاها. وهذا كل ما أقدمه من الذرائع لأكون أول سيدة بمصر؟! لا يا زبيدة هذا لا يكفي، ثم إنني جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر مني وجها ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة! وهذا أيضا لا يكفي يا زبيدة، فإن منازل الرفعة لا تنال بالجمال، وحكام مصر وبكواتها يتصاهرون فيما بينهم لحصر الملك فيهم، وجمع السلطة في أسرهم، لا يغريهم سحر العيون ولا اعتدال القدود.
حقا إنني أتعلق بأمل خداع وغرور مضلل!! وسأسقط من القمة التي أنشبت فيها أظافري مهشمة العظام، مفككة الأوصال، حينئذ سأفيق بعد أن قضيت زهرة شبابي في جنون وأحلام، وحينئذ سأنظر حولي وقد بلغت الثلاثين أو نحوها، فأجد الخطاب وقد طاروا وتركوا عش فاتنتهم حطاما مبعثرا، ثم أنظر في هذه المرآة التي أمامي فلا أرى فيها تلك الفتاة الناعمة التي أراها اليوم، ولكني أرى فيها امرأة سواها، دبت في وجهها الغضون، وخمد من عينيها ذلك البريق الساحر اللماح، وأخذت شعرة بيضاء تطل من طرتها كأنها راية التسليم البيضاء، يلوح بها الجندي المنهزم.
لا، لا، الله لعن الله تلك العرافة، ولعن الله اليوم الذي قابلتها فيه!
نامعلوم صفحہ
ثم أطالت النظر في المرآة، فرأت فحصة رائعة الحسن في خدها الأيمن، فابتسمت، فزاد الابتسام تلك الفحصة ظهورا وحسنا، فعاودها الأمل، ورفعت رأسها في شمم وعزة، وهمست: ولكن العرافة لا تكذب، إنني لم أعرض عليها كفي، وقد كنت جالسة بجانب أمي فجذبتها ونظرت فيها لحظة، ثم صاحت دهشة حائرة، وكانت الحيرة تبدو في عينيها حقيقة لا تكلف فيها، وكان شيء يشبه الذهول يتحكم في أسارير وجهها، صاحت: إنني لم أر في حياتي هذا الخط في كف غير كفك وكف إبراهيم بك الكبير، إنه خط الملك!! خط العظمة! خط الحكم! ولكن ما هذا يا ربي؟! سبحانك لا راد لمشيئتك، انظري يا زبيدة! ما أنا بمخطئة، انظري يا مليكتي! أترين هذا الخط الذي يمر بأسفل الإبهام قويا بارزا، ثم لا يقف عند ذلك كأغلب الأكف، بل يمتد إلى نهاية الأصابع الأخرى حتى يصل إلى الخنصر، هذا هو خط الملك!! انظري إلى كفي، فهل ترينه؟ ثم إلى كف أمك فهل تجدين له أثرا؟! ثم إذا شئت فانظري إلى أكف أهل رشيد جميعا، وأنا زعيمة بأنك لن تعثري على مثله.
دهشت ودهشت أمي، وقهقهت قهقهة المذهول وقالت: ما هذا يا رابحة؟ ما هذا الكذب الصراح؟ كنا نرضى منك بدون هذا، وأين نحن من الحكم ومن مراتب الحكم؟ إن الحكم في مصر قسمة بين البشوات والبكوات، ولم يناله مصري أنبتته أرض مصر ، إننا نعيش في بلادنا غرباء نتلقف فتات ما يتركون، إن ابنة عثمان خجا تأنف أن تزور بيت رشيدي كيفما علا مقامه، وعظم جاهه، إنها لا تسميننا إلا بالفلاحين، كأن الله خلقنا من طين وخلق الترك من مسك وكافور، بنتي تحكم مصر؟! دعيها أولا تحكم رشيد، أو شارع دهليز الملك، قبل أن تطيري بها في جو الأحلام والأكاذيب، لعلك تظنين أنه كلما عظمت الأمنية عظم الأجر، ولكن الأماني المعقولة شيء، وهذا الجنون الجديد شيء آخر.
قالت أمي هذا، فتطاير الشرر من عيني رابحة، ووثبت من مكانها كمن لدغه ثعبان، ووضعت يدها في جيبها في حنق وغضب، فأخرجت أنصاف الفضة التي كانت أمي أعطتها إياها، وقذفت بها في وجه أمي وهي تصيح: جنون جديد! هذه أنصافك يا سيدتي فإني في غنى عن مالك بما وهب الله لي من علم ومعرفة، وإذا كنت تظنين أن تكهني دجل وخرافة، فلم دعوتني؟ ولم أرسلت خادما بعد خادم ملحة في طلبي؟ لعل الذي جرأك علي أني أتقبل أجرا لقاء الإفضاء ببعض ما يتكشف لي من ملامح الغيب، والله لولا مس الحاجة ما تدليت إلى هذا الحضيض، ولا سمعت اليوم من سيدتي نفسية التي تظنني امرأة أفاقة أفاكة، هذا السب الشنيع، حقا إن كل شيء يمتهن إذا بيع بالمال: فالجمال يمتهن إذا بيع بالمال، والجاه يمتهن إذا بيع بالمال، والعلم يمتهن إذا بيع بالمال.
قالت كل ذلك وأوصالها ترتعد، وفمها يقذف بالزبد كأنما مسها شيطان، ثم زايلها الغضب دفعة واحدة والتفتت إلي وحنت رأسها في إجلال وخشية وقالت: والآن تحيتي وخضوعي لمولاتي زبيدة ملكة مصر، ثم انفلتت كما ينفلت الطائر من الشبكة، فلم نر لها أثرا.
هذا ما جرى من رابحة العرافة، أذكره كلمة كلمة كأنما أقرأه في لوح مكتوب، فهل كان كل ذلك كذبا وزورا؟ وهل أنا مخاطرة بحياتي وجمالي وشبابي، في سبيل كذب وزور؟ إن التردد يكاد يقتلني! ما هذه الأرجوحة التي أرتفع بها مرة، وأنحط أخرى؟ يقين يتملكني فأكاد أرى العرش الذي سأجلس عليه ، ثم يجيء الشك فيمحو كل هذه الآمال كما يمحو النهار آية الليل، فلا أرى أمامي إلا جنة أصبح ماؤها غورا، وعاد ريحانها حطاما، وأنظر فإذا أنا في صحراء العمر المحرقة، وقد غدا الشباب النضر الريان في هذه الصحراء سرابا خداعا مخاتلا، إذا جئته لم أجده شيئا، إن الزهرة إذا تفتحت اليوم ذبلت غدا، والبدر إذا تم كماله درج إلى النقص والمحاق، وهل بعد بلوغ الفتاة الثامنة عشرة غاية للنضج وتفتح الأنوثة وتفجر الميول؟ فإذا أهملها الخطاب في هذا السن ذوى عودها وخبت نارها، وذهبت بشاشاتها، كالثمرة إذا لم تجن والزرع إذا لم يحصد، هكذا قضت الطبيعة القاسية المستبدة بكل حي، فقد جعلت لكل شيء أوانا، فإذا ذهب أوانه تبدل خلقا آخر، فزهدته النفوس وتقحمته الأعين.
إن ابن خالتي محمودا العسال فتى يزدهي به الشباب، وتعتز به الفتوة، إنه زينة الأنداد وفخر الأمثال: جمال وجه إلى كرم خلق، إلى جرأة وإقدام، إلى كياسة وحزم، ثم إلى ثروة وجاه عريضين، وما رأيته مرة إلا اختلج قلبي له، وهفت روحي إليه، وأحسست في شفتي بدبيب يكاد يدفعهما إلى تقبيله، وجرت في جسمي نشوة عجيبة لا أعرف لها كنها ولا أستطيع لها وصفا، أهذا هو الحب الذي يتغنى بأناشيده الرجال والنساء؟ إن كان إياه فإنه حب عنيف تحكم في نفسي، وملأ علي يقظتي وأحلامي، أما محمود فلم يدع وسيلة يدلي بها إلي إلا اتخذها، ولم يترك كلمة من كلمات الغرام إلا سكبها في أذني، يغري مرة ويتذلل أخرى، ثم يصف ما يلاقيه من الهجر وصفا يستنزل العصم، ويهز الجبال الشم، وأنا أنصت إليه في وجوم وذهول ورعب، وقلب مضطرب خفاق، فإذا زادت بي ثورة الوجد كدت أثب عليه فألتهمه ضما وتقبيلا لولا أطياف ذلك الخيال الخداع، والأمل الختال، التي كانت تسرع إلى نفسي فتجتذبني من السماء إلى الأرض، وتطفئ نار نزواتي، وتهدئ من خفقات قلبي، ذلك الخيال الذي يصور لي الملك الموهوم، والذي يوسوس إلي أن من قسم لها أن تكون حاكمة مصر لا ينبغي لها أن تصغي إلى كلمات الغرام من أي شخص، ولو كان في جمال محمود العسال ورجولته، أسمع هذا الوسواس الخناس فيعود إلي هدوئي، وأرده عني بكلمات تقتل الأمل وتجتث الرجاء، ويعلم الله أني أقولها وكل حرف منها سكين في فؤادي وغصة في حلقي، إنه زهد في جميع الفتيات لأجلي، ولو أنه رفع إصبعا لأجملهن لطارت إليه شغفا، واهتزت كالعصفور للقائه شوقا، ولكنه أبى أن يتزوج إلا بي، ذكرت له أمه بنت الشيخ الجارم «رقية» - وهي من هي في جمالها وخفة روحها ومنصب أبيها - فأبى، ثم ذكرت له بنت السيد أحمد المحروقي زوج خالتي - وهي بنت الشرف والسيادة والجاه - فأبى، فهل حكم علي وعليه أن نبقي هكذا محرومين من ثمار هذا الحب، ومن تلك الجنة الدانية القطوف، وبيننا وبينها كلمة تقال؟!
وبينما هي في أحلامها وأحاديث نفسها؛ إذ سمعت صوت حركة لدى البابا، ففزعت واتجهت إليه، فإذا قطتها تدخل متباطئة، حتى إذا أبصرت سيدتها جرت نحوها وأخذت تتمسح بها في حب وحنان، فأخذتها زبيدة بين يديها وطفقت تقبلها والقطة تزمزم وتقلب وجهها فوق خديها، ثم وضعتها أمامها وضحكت ضحكة الفتاة العابثة اللعوب، وأخذت تقول: تعالي أيتها القطة الماجنة الخبيثة، واعترفي لي كما اعترفت لنفسي، أتحبين غيري؟ لا؟ تحبينني أنا وحدي؟ أليس هناك قط في خيالك قد يكون ملك القططة؟ أراضية أنت عن حياتك كما هي؟ ألا يكدر عليك صفوك طيف كاذب يطمعك فيما لا يمكن أن يكون؟ لا؟ ما أسعدك يا قطتي، وما أوفر حظك من الحياة! أنت أعقل من سيدتك المفتونة بالأوهام، ولكن ألا تحبين أن تكوني قطة الملكة؟ الخدم أمامك ووراءك! والوصائف تدللك! وأصحاب الحاجات تتملقك! تحبين هذا؟ بلا شك؟ نعم يا قطتي، نعم يا قطتي، إن قلبي يحدثني أنني لست واهمة، وإن صوتا يهمس في نفسي ألا تخافي ولا تحزني، وأن «رابحة» العرافة لم تكذب، أكاذبة رابحة؟ لا؟ صدقت، إنها قالت مرة: إن أبي سيسافر إلى استانبول فلم يمض أسبوع حتى دعاه داع للسفر إليها من حيث لا يتوقع، وألحت مرة على عمتي أن تحذر ابنها من الماء فمات بعد شهر غريقا، وقالت للورا بنت الخواجة نيكلسون: إن ضيفا سيزور أباها من بلاد بعيدة فحضر عمها بعد يومين.
لا، لا يا قطتي، إن رابحة لا تكذب، وليس علي إلا أن أرتقب وأصطبر.
وما كادت تتم جملتها حتى رأت خادمها الخاص «سرورا» يقبل نحو غرفتها ويقول: إن سيدي محمودا حضر منذ ساعة، وهو جالس مع سيدتي الكبيرة، وقد أرسلتني لأدعوك إليهما، فقالت زبيدة: فيم يتحدثان يا سرور؟ - لا أدري يا سيدتي، إنه حديث طويل، وسيدي محمود هو الذي كان يتكلم، وسيدتي تهز رأسها وتربت كتفه. - أما فهمت موضوع الحديث؟
فأطرق الخادم في خبث وقال: أنا يا سيدتي لا أفهم الكلام السريع، فإن سيدي محمودا كان منطلقا في حديثه كما ينطلق النمر في بلادنا خلف الغزال، وكل ما فهمته كلمات متقطعة مثل: نذهب إلى مصر، السعادة، طال الزمن، هل هذا يجوز ... - فهمت يا سرور، تعالي يا قطتي وساعديني على الثبات والصبر.
نامعلوم صفحہ
وخرجت تمشي في دلال وعجب، والقطة تدخل بين قدميها وتخرج في أثناء مشيها، وهي تكاد تعثر بها في كل خطوة، حتى نزلت إلى أمها في الطبقة الثانية من المنزل، فلما رأتها أمها قالت: أهلا بعروسي الحسناء، تعالي بجانبي يا فتاتي وأنصفيني من ابن خالتك هذا، فقد حطم رأسي بكثرة حديثه هذا الصباح! ولولا حبي له وإعجابي بخلقه وأدبه ورجولته، وضعفي أمام وجهه الوسيم، لكان لي معه شأن آخر.
فحيت زبيدة ابن خالتها بعينين مطبقتين تصنعت فيهما الحياء والخفر، ثم جلست إلى جانب أمها ورفعت رأسها قليلا نحو محمود، وقالت: كيف حال خالتي زينب اليوم؟ - الحمد لله، ولكنها لا تزال عاجزة عن المشي، ولا تزال تقاسي آلاما مبرحة في ساقيها، وبخاصة في الليل. - كانت هنا بالأمس «بدور» الدلالة وقالت: إنها كانت أصيبت بهذا المرض، ولم يشفها منه إلا دهن ساقيها بزيت ساخن خلط به دقاق الفلفل الأسود، والقرفة والمر. - عملنا يا زبيدة كل شيء، ولم نترك في تذكرة داود علاجا إلا جربناه، واضطررت آخر الأمر إلى استشارة الطبيب الفرنسي «شوفور» فقال لي: إنه مرض في المفاصل، وإن له مرهما في فرنسا، ولكن هذه الحرب بين الدول سدت سبل البحار، فلم يصل إلى مصر إلا قليل جدا من البضائع التي كانت تغرق الأسواق. - صحيح، إن أبي يقول: إن التجارة في كساد لقلة البضائع التي تسافر من رشيد أو تأتي إليها؛ لأن ناسا يقفون في البحر ويغرقون السفن.
كانت نفيسة أم زبيدة جالسة تعبث بسبحتها، وهي بادية العبوس تكاد تحترق غيظا من الحديث في السفن والتجارة؛ لأنها كانت تود لو أن محمودا قذف بنفسه على قدمي زبيدة يبللهما بدموعه، ويشتكي لها لوعة الحب والغرام، وليس أشهى لدى المرأة في سن اليأس من أن تشهد منظرا للحب، أو تسمع عنه حديثا، لقد حرمتها الطبيعة الحب الذي لم تنس حلاوته، فلا أقل من أن تراه في غيرهما، ولقد ودعت راحل الشباب من عهد بعيد، فهل يحال بينها وبين أن تسمع عنه خبرا؟!
وهل يجوز في شرعة الإنصاف أن تجحد هذا الحق الضئيل، الذي اكتفى به أبو نواس حينما نهاه المأمون عن الخمر فقال:
جل قصدي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
وهل عليها من حرج إذا طافت بها ذكريات الماضي، فحنت إلى رؤية أطيافها في فتى أو فتاة؟!
ثم إن نزوات القلوب لا تموت، ولكنها تفقد وسائلها من صحة وفتاء، وحسرات الشيخ على الشباب إنما هي حسرات الجائع يرى الطعام عن بعد، فلا يستطيع إليه وصولا، ولا يجد له سبيلا، إن ألذ شيء عند العجائز أن يقضين النهار كله في أن فلانة خطبت، وفلانة تزوجت، وأن يحضرون الأفراح ويشاهدون العروس ليلة جلائها.
لما رأت أم زبيدة الحديث تافها، خطر لها بحق أن وجودها قد يكون سببا في كبح جماح عاطفة محمود فقامت مسرعة وهي تقول: يا حسرتي! لقد نسيت أن أنظر فيما تعده الطاهية لغداء اليوم، ثم ذهبت نحو المطبخ ولقبقابها العالي جلبة وقعقعة.
وهنا نظر محمود إلى زبيدة في ذل واستجداء، وقد أحست في لمحة خاطر ما وراء هذه النظرة، وهدتها فطرتها النسوية الماكرة إلى السكوت حتى تتفتح لها السبيل التي يجب أن تسلكها، فأطرقت إطراق المذنب الخاضع الذي وطد النفس على تلقي ما يقذف به من تهم، وهنا قال محمود: لقد وعدتني في آخر لقاء لنا يا زبيدة أنك ستفكرين في الأمر، وستصارحينني بما انتهى إليه رأيك، وسألتك الرحمة بي فيما تفكرين، والإشفاق علي فيما تبتين، ووالله ما لقيتك بعدها إلا خفت أن أسألك عما هداك إليه التفكير من الحكم لي أو علي؛ لأني رأيت من الخير لي أن أعيش في نعمة من الشك، وأن أستمر في مداعبة أمل واهن أضعف من أنفاس المحتضر، والذي قال: إن اليأس إحدى الراحتين لم يكن يعرف أن العشاق كالغريق يتوكأ على الثمامة، وأنه لولا ما يلازم الحب من الرجاء والخوف لكان إحساسا حقيرا كإحساس الجوع والعطش، مضى شهران يا زبيدة وأنا في هذا الشك، فهل لديك اليوم كلمة أقوي بها أملي، وأتوسم فيها وجه سعادتي؟ لا تقولي: «لا» يا زبيدة، فإنه لم يبق لي إلا وتر واحد ضعيف من أوتار الأمل، أعزف عليه أنشودة غرامي، فإذا قطعته يا زبيدة سكتت أنشودتي، وسكتت معها نبضات قلبي، قولي: «نعم» يا حبيبتي، وإذا عز عليك أن تقوليها فلا تقولي: «لا».
نامعلوم صفحہ
كانت لواعج الحب تضطرم في نفس زبيدة، وكانت تحس كأن سكاكين مثلمة تحز في قرارها؛ لأنها كانت تهوى ابن خالتها وتراه المثل الأعلى للزوج والحبيب، وتتمنى لو ألقت بنفسها بين ذراعيه، ومزجت دموعها بدموعه، ولكن المسكينة كان لنفسها ناحيتان: ناحية يكتم فيها الوجدان وتطغى النزوات، وناحية ألقت بزمامها إلى العقل واستسلمت إلى سلطان الإرادة، وطالما تحكمت الثانية في الأولى، وأسكنت صيحاتها، فالتفتت إليه وقالت: أنت لا تشك يا محمود أني أحبك كما أحب أخي عليا، وأني كلما فكرت في أمرك ارتفع في نظري هذا الحب الأخوي الطاهر الشفاف على حب الزوجة لزوجها، فأضن به أن يذهب من يدي لاستبدل به حبا ماديا أرضيا ، قلقا مضطربا، ربما دام وربما لا يدوم. - حبا قلقا مضطربا؟ إن حبي يا حبيبتي لو تجسم لكان ركانة في الجبال، وصلابة وبأسا في الحديد، إنه قطعة من الروح وفلذة من القلب، فإذا زال زالت الروح، وذهب القلب معه، إن الحب الأخوي نفحة وراثية، والحب الغرامي نفحة روحانية، وشتان ما بين النفحتين!! إن الحب الأخوي أثر المعاشرة والإلف، والحب الغرامي أثر الوحي والإلهام، لا تغالطيني يا حبيبتي، وإذا رضيت أن أكون لك أخا فأطلقي لهذا الحب قليلا من فضلة العنان، ليكون حبا قدسيا تتعانق فيه الروحان، وتتلاقى الشفتان. - هل سألت أبي؟ - لقد أمللته حتى إنه كاد يفر مني، ولما ضاق بي ذرعا آخر الأمر، التفت إلي حزينا وقال: «إنك تزيد في آلامي يا بني بكثرة الإلحاح، لقد ذكرتك أمامها مرات، ويعلم الله أني لم أترك وصفا مما يرغب النساء في الرجال إلا خلعته عليك، ولكني لم أر منها اتجاها إليك ولا رغبة فيك، وقد عاهدت نفسي ألا أجري إلا على ما أرادت، وألا أدفعها إلى أمر لا ترغب فيه، فإذا رضيت بك زوجا فإنني أكون أسعد خلق الله بهذا الزواج»، أما أمك: فقد قضيت معها ساعة اليوم فلم أجد منها إلا موافقة تامة ورضا كاملا، غير أنها كانت كأبيك تخشى أن تلزمك إرادة أو تحملك على عزيمة، فالأمر بين يديك يا زبيدة، إن في فمك كلمة هي الحياة أو الموت، فأشفقي على ابن خالتك المسكين!!
نظرت إليه زبيدة في شيء من القلق مكتوم وقالت: لم يبق إلا رضاي؟! وهذا شيء هين، ولن يخلو زواج من عقبات، وهذه عقبة صغيرة أسأل الله أن يقدرني على تذليلها، فدعني الآن يا محمود، فإن لكل شيء أوانا، والذي سطر في لوح القدر سيكون، ولا بد أن يكون، وماذا أكون أنا أمام علم الله وقدرته؟
وهنا ظهرت عند باب السلم الشيخة أمينة، وهي امرأة كفيف تحفظ القرآن وتقرأ في بيوت أغنياء المدينة، وكانت تقودها فتاة صغيرة قذرة الجلباب حافية القدمين، أصاب الرمد عينيها بدموع لا تنقطع ، فأوشكت أن تشبه من تقودها، دخلت الشيخة أمينة وهي تقول: صبحكم الله بالخير جميعا، وكفاكم شرور هذا الزمان، إن المدينة اليوم في ثورة جامحة، فإن عثمان خجا لم يكتف بما يفرضه من الضرائب والمكوس والمصادرات في كل يوم، حتى ابتكر ضريبة جديدة لا تترك للفقير ما يقتات به، ولا تبقي للغني ما تبقى له من قليل.
وهنا ظهر الحزن والهم على وجه محمود العسال، ونهض واقفا وهو يقول: لا يمكن أن نعيش يوما آخر مع هؤلاء المماليك، ثم حيا زبيدة ومال إلى أذنها وهو يهمس: طال الصبر يا زبيدة فإلى متى؟ ثم أسرع نحو الباب.
وعندئذ قامت زبيدة متثاقلة حزينة، فهرعت إلى غرفة نومها لتكتم آلامها، وما وصلت إليها حتى رمت بنفسها على السرير وكتمت أنفاسها الحرى في وسادة من الحرير، وأخذت تبكي بكاء مكتوما اهتزت له أضلاعها في خفقات مضطربة، وهي تقول: أحبه!! ... أحبه!! ...
الفصل الثاني
وصل محمود إلى الشارع فرأى الناس يتسابقون إلى شارع زغلول، وفي كل وجه صورة مخيفة للغضب والحزن وحب الانتقام، وكانت العين لا ترى فيهم إلا أشباحا للفقر والجوع والذل، لن تستطيع ريشة رسام أن تبوح بوصفها، مشى محمود في إثرهم حتى إذا وصلوا إلى الشارع رآهم يتجهون نحو مسجد زغلول، فهز رأسه حزينا وقال: مسكين هذا المسجد! أصبح من يلتجئ إليه من المظلومين أكثر ممن يقصده للصلاة والعبادة، والناس لا يجدون غياثا في هذه الأيام إلا العلماء والأعيان، وويل لهؤلاء العلماء والأعيان! إنهم أصبحوا أضعف من ذات خمار أمام ظلم عثمان خجا وظلم أعوانه وعصابته، اذهبوا أيها المساكين اذهبوا، فإن عثمان خجا لن يرضى إلا بامتصاص آخر قطرة من دمائكم، وهو غراب مشئوم لا يستريح إلا بعد أن يرى المدينة قفرا يبابا، اذهبي اذهبي أيتها الضحايا المنكودة، فإن مراد بك إن رضي بقضم اللحوم فإن وكيله خجا لا يشبعه إلا التهام الجلود، ما هذا الحظ العاثر يا رشيد؟ إذا اقتسم إبراهيم بك ومراد بك أرض مصر، لا تكونين إلا من نصيب مراد بك الفاتك الجبار، الذي لم يبق بالبلاد قائما ولا حصيدا، والذي إذا فر منه برغوث في مدينة أحرق المدينة كلها ليقتله.
ثم يأخذ محمود سمته إلى شارع البحر، ويميل إلى متجر أوليفر نيكلسون فيراه جالسا ومذبته في يده، يذود بها الذباب عن وجهه، وهو جهم الوجه حزين النفس يظهر عليه القلق والاضطراب، وكانت الصلة وثيقة العرا بين محمود ونيكلسون لتلاؤم في أخلاقهما، وللمعاملة المتصلة بينهما، فقد كان لمحمود متجر للمنسوجات الصوفية بالقاهرة ترك الإشراف عليه لابن عم له، فكان يشتري البضائع من نيكلسون ويبعث بها إلى القاهرة، وكان لنيكلسون اتصال وثيق أيضا بأسرة البواب، فقد كان له أخ يتجر في الأرز بدمشق فكان يبعث إليه به من مضرب البواب لثقته بأمانته وحسن معاملته؛ لذلك نمت الصداقة بين الأسرتين، فكانت بنته لورا نيكلسون لا تجد لها في رشيد صديقة أوفى ولا أكرم صحبة من زبيدة، فأكثرت من زيارتها والائتناس بها، وأحبت في زبيدة لطفها وارتفاع مستوى تفكيرها وثقافتها عن مثيلاتها، وأن لها من صفات الأنوثة والبراعة في إظهار جمالها ما يشبه ما تتحلى به الأوربيات، ورأت زبيدة في لورا نضارة الجمال الإنجليزي ورقته وحنانه، وكمال أدبه ودقة إحساسه، ففتنت بها وحاكتها - من حيث لا تدري - في كثير من أخلاقها وعاداتها وآدابها، وطالما جلست لورا لتفصل لها الحلل على الطراز الأوربي.
حيا محمود صاحبه، وجلس وهو يلهث من الحر والتعب وقال: أرأيت الزمر الحزينة البائسة وهي تهرول مستغيثة مولولة إلى مسجد زغلول؟ - نعم يا محمود رأيتها، وقد زادني مرآها حزنا على حزن، وألما على ألم، إن هؤلاء المماليك جزارون لا يحسنون الذبح، إنهم مصابون بجنون التدمير والتخريب، وكم لاقت منهم مصر وتلاقي إن امتد بهم الحكم وطاولهم الزمان، إني لم أر بلدا - فيما قرأت من تاريخ - فدح بمثل هذا الحكم، إن صح أن يسمى ما نحن فيه حكما، إن الزنوج الذين يسكنون في وسط إفريقية لا يمكن أن يخطر بعقول رؤسائهم الضعيفة الجاهلة أن يحكموا أتباعهم بهذه القسوة الطائشة والظلم الجارف، ولقد ضاعت مصر بين ضعف الدولة العثمانية وجهلها، وغباوة المماليك واستبدادهم، إن مصر اليوم تحكمها طائفة من اللصوص الأشقياء، الذين لا يقف شيء أمام جشعهم، ولا يزعهم شرف ولا دين، نهبوا كل ما في أيدي المصريين ولم يعطوهم شيئا، فالوباء المتفشي في الناس أشد من ظلم المماليك، والجهل الذي عطل عقولهم أشد من هذين. - هذا بلاء محيق لا كاشف له إلا الله، فالناس يثورون في كل يوم، ولكنهم لا يلاقون إلا الجلد والقتل، والتعذيب وهتك الحرمات، حتى لقد فر كثير من الأسر إلى دمياط والقاهرة لعلهم يجدون متنفسا. - يفرون من المقلاة إلى النار، كما نقول في بلادنا، المماليك مماليك في كل أرض وبلد. اشنقوه، اقتلوه، أحرقوه، كلمات خفت على ألسنتهم وتكررت كأنها تراتيل القساوسة، أرأيت كيف يسيئون إلى الإفرنج في كل حين، على الرغم من أن لهم قناصل يحمونهم، فكم صادروا متجر «فارسي» الفرنسي ومتاجر سواه، وحينما كتبنا احتجاجا إلى دولنا بأوربا لم يزدهم هذا إلا إيغالا في العسف وإغراقا في النكاية. - إنهم يبغضون الفرنسيين ويجاملون غيرهم أحيانا، ألديك أخبار جديدة عن الحرب بين الدول؟ - قرأت أمس في جريدة إيطالية صدرت منذ شهر أن العداء شديد مستحكم بين إنجلترا وفرنسا، وأن الحرب قائمة بينهما على أشد ما تكون عنفا وقسوة، وأن أساطيل إنجلترا تجوب البحار لحماية شواطئها وحصر فرنسا وحليفاتها، ومنع أي مدد يصل إليها، وأن الفرنسيين بعد أن فتحوا إيطاليا والنمسا وخافتهم بقية الدول الضعيفة في أوربا، وأصبحوا يصيحون في كل شارع في زهو وشموخ قائلين: إلى إنجلترا ... إلى إنجلترا ... وكلما مر نابليون بونابرت ذلك القائد الجديد الذي تمخضت عنه ثورتهم من حيث لا يعلمون، صاحوا: إلى النصر، إلى إنجلترا، إلى العالم! - هل تظن أن مصر ينالها شيء من شرار هذه الحرب؟ - لقد أصابها الشرار فعلا يا بني، ألا ترى الكساد الذي نحن فيه وانقطاع الصادر والوارد؟ - إذا هجم هذا البونابرت على بلادك، أتسرع للدفاع عن حوزتها؟ وماذا يكون من أمر لورا؟ أتأخذها معك؟ إني أرى من الخير أن تدعها عند خالتي أم زبيدة فإنها تكون إذا بين أهلها. - لن أستطيع أن أسافر يا محمود بعد أن أصبح البحر شعلة من نار، ثم إني واثق أن بلادي لن تنال، وأن لها من قلوب أهلها وشجاعتهم سورا من فولاذ يصد عنها كل فاتح، إن غزوها محال، ولكن الذي يهمني ويقض علي مضجعي، أن يكون في الأمر خدعة، والذي يخيل إلي أن هؤلاء الفرنسيين يظهرون أنهم يستعدون للهجوم على إنجلترا، ليدفعوها إلى التفكير في حماية ثغورها والتفرغ إلى الاستعداد في بلادها، وليصرفوها عن النظر في أية خطة أخرى، ثم هم من وراء ذلك يتجهون بجيوشهم وأساطيلهم إلى ناحية لم تخطر للإنجليز ببال، ويغلب على ظني أنهم بعد أن عجزوا عن غزو إنجلترا سيوجهون ضربتهم إلى مصر، ليسدوا طريق التجارة الهندية في وجه إنجلترا بالسيطرة على البحر الأحمر، وربما خطر لهم، أن يتخذوا مصر طريقا لغزو الهند نفسها، لذلك أعددت لكل شيء عدته منذ أشهر، فأسرعت في جمع ما على عملائي من ديون، وعقدت شركة مع عامل متجري «أورلندو» وهو رجل أمين أثق به، حتى إذا صح حدسي، ونزل الفرنسيون مصر، فررت من المدينة، وتركت له تجارتي، وهو إيطالي لا يمسه الفرنسيون بسوء، أما أنا والإنجليزية لغتي، وإنجلترا موطني، فلو بقيت بعد دخولهم يوما واحدا للقيت منهم شر ما يلقى المرء من عدوه: من مصادرة واعتقال وإذلال، وربما هان على نفسي كل هذا في جانب ما أخاف على لورا. - أنت رجل قوي الخيال يا نيكلسون، والذي يستمع لحديثك هذا يظن أن أعلام سفنهم تخفق اليوم على ميناء الإسكندرية. - إن الإنجليز يا محمود قد يصفهم الناس ببطء الفهم، ولكنهم إذا فهموا لم يخطئوا شاكلة الصواب، وهم قوم يجمعون الحوادث والمظاهر ويدرسونها درسا دقيقا، ليستنبطوا منها نتيجة قل أن تخطئ، والحوادث التي درستها من شهر تنبئني بأن أعلام سفنهم ستخفق على ميناء الإسكندرية، وكيفما يكن الأمر فلست أرى في الحذر والحيطة بأسا، فالسفينة التي سأسافر بها راسية الآن أمام المتجر، حتى إذا حانت الساعة نقلت إليها ما أحتاج إليه، وخرجت من المدينة بلورا على حين غفلة من أهلها، أين تسهر هذه الليلة؟ - إنني أسهر عادة عند السيد إبراهيم الجمال، حيث نتحدث في التجارة ونتعرف أخبار المدينة وحوادثها، وكثيرا ما يجرنا الحديث إلى تعداد مظالم عثمان خجا وافتنانه في ضروب العسف، وهو حديث طويل محزن لولا ما يتخلله من فكاهات الحاج عبد الله البربير، وطرائفه ومضحكاته. - إن اليوم عيد ميلاد لورا وقد أعدت لنا الليلة وليمة، وألحت علي أن أدعوك إليها فهل تستطيع أن تزورنا بعد الغروب؟ - إنني أسر لكل ما يسر لورا، وسأكون عندكم في الموعد الذي ذكرت، وما أتم عبارته حتى سمع ضجيجا وصياحا وجلبة، فنظر فإذا جمع حاشد كأنه البحر المائج، فيه الرجال والنساء والأطفال وهم يصرخون ويولولون، وأمام هذا الجمع علماء المدينة وقد اتجهوا جميعا نحو ديوان الحاكم، فوثب محمود واندمج بينهم، فلما انتهوا إلى الديوان زاد الضجيج وعلا الصياح، وأخذ الأطفال يصفقون ويرددون عبارات يسجعونها وينغمونها مثل:
موجه رايحة وجية موجه
نامعلوم صفحہ
غرقنا ظلمك يا خوجه
ومثل:
ما فينا إلا العريان
إيش راح نعمل يا عثمان
ودخل العلماء الديوان وهم في حزن وغضب على ما أصاب مدينتهم، فلما رآهم عثمان خجا - وكان متكئا على أريكة - لم يتحرك للقائهم وبادرهم قائلا: لقد سئمت هذه اللعبة ومجتها نفسي كلما هممت بعمل في هذه المدينة رأيتكم تتصدون لمعارضتي، وتقفون في طريقي، حتى لم يبق علي إلا أن أستشيركم في كل خطوة أخطوها، فتقدم إليه الشيخ صديق - وكانت إليه زعامة البلد - وهو عالم تقي زاهد، ذرب اللسان قوي العارضة، يجبه الناس بالحق ولا يخاف في سبيله أحدا، فقال: يا حضرة الأغا: كان يجب عليك أولا أن تقوم إجلالا للعلماء وتكريما لهم، والعلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الأثر الشريف، فالذي لا يبجل العلماء لا يبجل الأنبياء والعياذ بالله، وإذا رضيت لنفسك بهذا فإننا لا نرضى أن يقيم بمدينتنا من يتصف بهذا الوصف. ثم انفجر صائحا: قم للعلماء أولا، ثم تكلم بما شئت، فإن لكل كلام كلاما.
فأحس الأغا بما يحيط به من خطر، ورأى أن الشيخ جاءه من ناحية الدين، وأن أية كلمة يقولها ستنقلب عليه وبالا، فتعلثم وقال: يا مولانا، إن العلماء سادة الناس جميعا، وإني أول من يتقرب إلى الله بإرضائهم، غير أن صياح هؤلاء العوام وما تجرءوا عليه من قذف الديوان بالطوب والأحجار، سلبني صوابي وقلب ميزان تفكيري، ثم أخذ يصافح العلماء في أدب ورعب، فابتدره الشيخ قائلا: قلت يا حضرة الأغا: إنك سئمت هذه اللعبة، فسميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه الدين على كل مسلم ومسلمة: لعبة، وهذا تعد على الشرع الشريف، واستهزاء بأحكامه، واعلم يا حضرة الأغا أننا سنستمر فيما تسميه: لعبة، ما دمت مستمرا فيما نسميه ظلما وإرهاقا، ثم قلت مستنكرا: إنه لم يبق عليك إلا أن تستشيرنا في كل خطوة تخطوها، وقد أمر الله أشرف الخلق وسيدهم محمد بن عبد الله، أن يستشير قومه وأين أنت من هذا المقام الأسمى؟ وإذا كنت تأنف أن تتشبه بالنبي الكريم، فتلك مسألة أنت تعرف سوء مغبتها.
إنك لم تدع في المدينة رطبا ولا يابسا، لقد عصرت كل شيء حتى الأحجار والخشب، ولم يبق في الناس إلا رمق خافت تريد اليوم أن تأتي عليه، إن العلماء قرروا وقف الدروس في المسجد وإغلاقه، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ثم هم الشيخ والعلماء بالخروج فتشبث بهم عثمان خجا، وهو يقول في تلعثم الخبيث اللئيم، الذي يريد أن يؤجل الضربة إلى فرصة قريبة: هذا أمر مراد بك الكبير وليس لي فيه يد، وسأرسل إلى القاهرة اليوم رسولا لأرى رأيه في الأمر.
فأجابه الشيخ صديق: ترسل أو لا ترسل، إننا سنذهب إلى بيوتنا وسنغلق أبوابها، وسنلتجئ إلى الله مستغيثين داعين أن يكشف عنا وعن أهل المدينة تلك الغاشية، وبينما العلماء نازلون من السلم؛ إذ هدأ الجمع المحتشد حول الديوان، وإذا صوت يجلجل في الفضاء خشنا مرعبا وهو يصيح: خراب يا بيت خجا خراب، خراب يا بيت خجا خراب!
كان ذلك صوت الشيخ علي سريط ، وهو شيخ كان أول أمره طالبا ذكيا نابغا، بمسجد زغلول، ثم تجرد لكتب التصوف وأكثر من قراءتها، فاختلط عقله وأدركته جذبة، فكان يقضي ليله ونهاره ماشيا في طرق المدينة وهو عاري الجسم، إلا خرقة يلفها حول وسطه، وكان للناس فيه اعتقاد راسخ ينقلون عنه كثيرا من الكرامات، ويرون أنه من أهل الله المقربين، وأنه له لمحات يكشف بها ما خلف ستار الغيب، فلما سمع الجمع نداءه انطلق يردد ما يقول كما يقصف الرعد: خراب يا بيت خجا خراب!
الفصل الثالث
نامعلوم صفحہ
كانت لورا تخطو إلى الثالثة والعشرين من سنها، يزينها جمال فاتن وطلعة مشرقة، وهي شقراء أميل إلى الطول منها إلى القصر، معتدلة القد خفيفة الروح والحركات، لها شعر ذهبي لماع كأنه إكليل من نضار توجها به الجمال، وعينان زرقاوان فيهما السحر وفيهما الفتنة، وفيهما الوداعة وكرم الخلق وصفاء الضمير، وكان لها جسم بض كأنه البلور المذاب، يكاد لصفائه تنعكس عليه الأشباح والصور، ولدت لورا في مدينة «بليموث» من مقاطعة «ديفنشير» بإنجلترا، حيث كان يقيم أبوها وأمها، وكانت أمها من أسرة ميسورة تشتغل بصناعة السفن، وما مر على ولادتها أربعة أعوام حتى مرضت أمها ولم ينجع في علاجها دواء، فماتت، وحزن عليها نيكلسون حزنا أوشك أن يقضي عيه، وأقسم ألا يتزوج بعدها، وأصابه شيء من الذهول كاد يكون خبلا، فأشار عليه أبو زوجته أن يرحل من إنجلترا، فغادرها إلى مصر، وأخذ يتجر في الصوف والحرير، وترك لورا بإنجلترا عند جدتها لأمها، فرأت فيها جدتها صورة من بنتها فشغفت بها وبذلت أقصى جهودها في تهذيبها وتعليمها، وبعثت بها إلى المدرسة في سن السادسة، فبرزت مواهبها وفاقت أتبرابها، واشتهرت بين التلميذات بالذكاء والأدب الجم وحسن المعاشرة، ولما بلغت الخامسة عشرة أتمت الدراسة وألمت بكل ما يجب أن تعرفه البنت من نظام البيت وشئونه، وسافر أبوها من مصر إلى إنجلترا في صيف سنة 1790م فوجد ابنته وقد نضجت ثمرتها، وبدت فيها صورة ناطقة من أمها، ورأى أن بعده عنها في بلاد الغربة قد كدر عليه صفو حياته، وجعله عرضة للسأم والحنين والهواجس، فعاد بها إلى رشيد، وأخذ يلقنها العربية ويعمل على اتصالها ببنات الأسر العريقة بالمدينة، فالتقطت اللهجة الرشيدية صحيحة واضحة بعد سنة أو أكثر، وأصبحت تتكلم بها في طلاقة ويسر، وأغرم بها نساء المدينة وبناتها، فكانت قبلة أنظارهن وسمر مجالسهن، وطابت للورا الحياة في هذا المجتمع، وطبعت نفسها بكثير من عاداته وآدابه، وكانت إذا خرجت لزيارة صديقاتها تلبس الحبرة السوداء والبرقع الكثيف، الذي ليس به إلا ثقبان صغيران للعينين فلا يكاد يميزها أحد من بنات المدينة.
وكانت تختلط بمحمود العسال لكثرة زياراته لأبيها للمسامرة والحديث في التجارة، ولأنها كثيرا ما كانت تراه عند زياراتها الكثيرة لأمه أو لزبيدة بنت البواب، وكان محمود على ما وصفنا من وسامة ورجولة وخلق عظيم، فأحسست نحوه أول الأمر بشيء من الإكبار، كما يعجب الأطفال بأبطال القصص التي تروى لهم، ثم زاد هذا الإحساس قليلا فصار رغبة في مقابلته ومجالسته والحديث معه، ثم نما فصار شغفا بالتحدث عنه والإكثار من ذكره، حتى كادت تسئم خادمتها الحاجة مبروكة، ثم انقلب هذا الإحساس ولوعا وحبا بالغت في كتمانه، واستعانت بكل ما تستطيع المرأة من رياء لكبته ودفنه في صدرها، فلم يره أحد، ولم يشعر به أحد، وبقي سرا غامضا في سويدائها لا تبوح به إلا لأحلامها، ولا تهمس به إلا لوسادتها، حينما تتقلب على سريرها قلقة تتمنى الأماني وتتوجس العقبات: لم تسمع أن مسيحية تزوجت بمسلم، وهي لا يمكن أن تفرط في دينها من أجل حب، وإذا كان قاتلا، ثم إذا جاز في الإسلام أن يتزوج المسلم بمسيحية، فمن أين لها أن تعلم أن أباها سيرضى عن هذا الزواج ويباركه؟ وإذا رضي أبوها فهل يحبها محمود كما تحبه؟ وهل يطغي على المأثور من العادات في سبيل ضمها بين ذراعيه؟ إنه لم ينظر إليها نظرة مريبة، ولم تظفر منه كلمة فيها أقل تورية أو تلميح، وكل ما في أمره أنه يختلط بالأسرة اختلاط الصديق الوفي الطاهر القلب، الذي يجري على سجيته ولا يبدو في كلماته أو لمحاته أو أعماله إلا اللطف والحنان، إنه لم يعرف الحب، ولم تهتز له أوتار قلبه، إنه ملك كريم، والملائكة لا يعشقون.
شغفت لورا بمحمود وكتمت غرامها، وأصبحت تعلل نفسها برؤيته بين الحين والحين، فطلبت إلى أبيها أن يدعوه لوليمة عيد ميلادها، واجتهدت في أن تجعلها حافلة بالألوان متقنة الطهو، فقضت النهار كله مع مبروكة وخادمها عبد الدايم في إعدادها، وأكثرت من أنواع الكعك، وتأنقت في عمل «البودنج» حتى إذا جاء وقت العصر تفرغت لزينتها ولبست أجمل ما لديها من الحلل، ونظرت في مرآتها، فرأت صورة للجمال الإنجليزي الفاتن، ثم نظرت في مرآة خيالها فبدا لها محمود العسال وهو صورة للجمال المصري الرائع، فتمنت لو اجتمع الشرق والغرب، وودت لو تدانى البعيدان، وتعانقت الصورتان!
أذن مؤذن جامع «الإدفيني» للمغرب، واتجه «نيكلسون» إلى داره حزينا مفكرا، حتى إذا قابلته لورا أخفى ما في نفسه وغمرها بالعناق والقبل، وقال باسما: ماذا صنعت لنا سيدة الدار في هذه الليلة؟ إني أشم روائح مشهية لألوان مختلفة، وأكاد من السرور والجوع ألتهم السيدة الطاهية قبل أن ألتهم ما طهته من أصناف الطعام. - إن السيدة الطاهية تحكمت اليوم في مال أبيها، وبذرت فيه تبذيرا. - إن الأب والمال لك يا فتاتي الحلوة، فافعلي بهما ما شئت. - نحن هنا يا أبي في الشرق موطن الكرم وحسن الضيافة، وقد أردت أن أحاكي زبيدة فيما تصنع من ولائم، فأكثرت من الألوان وخاصة بعد أن دعونا محمودا العسال، أوعدك بالحضور يا أبي؟ - إنه أجاب مغتبطا مسرورا، هذا الشاب أحبه كما أحبك يا لورا، لم أر فيه منقصة ولم أقع له على زلة، وله أخلاق تقرب كثيرا من أخلاقنا: فيه الشهامة والصراحة، والصدق والغضب للحق، ونصرة الضعيف، إنه شهم يا لورا، وطالما تمنيت لو يكون لي ولد مثله. - لو كان ذلك لفزت بأخ كريم! وهنا سمعت دقات على الباب ودخل محمود فحياهما، وهنأ لورا فابتسمت له ابتسامة مشرقة، وصاحت بخادميها أن يعدا المائدة، وكان نيكلسون بادي السرور والمرح ، كثير النوادر والنكات، مسرفا في الضحك، أما محمود: فقد استولى عليه وجوم عجز عن إخفائه، وحاول كثيرا أن يندمج في الحديث والضحك فظهر تكلفه، وبان تصنعه، فمال عليه نيكلسون قائلا: ما بال بطلنا الليلة منقبض الأسارير على غير عادته؟ - هذه الحوادث التي جرت اليوم أزعجتني. - حوادث شغب العوام وقذفهم ديوان الوالي بالأحجار؟
هذا يا بني يحدث في كل يوم حتى اعتادته النفس، ولو حزنا لكل ما نراه لقضينا العمر غما وأسفا، لا يا بني! أظن أن شيئا آخر يحزنك، فإني ما رأيتك إلا باسما مستبشرا، وهذه ليلة لورا فكان عليك أن تكون فيها على أحسن ما تكون. - الحق أن هناك مسألة تنغص علي حياتي كلها، ولست بغريب مني يا نيكلسون، ولا أعد لورا إلا أختا لي لا يكتم دونها حديث، لقد برح بي حب بنت خالتي زبيدة، وكثيرا ما كاشفتها بهذا الحب وهي تروغ مني وتلتمس المعاذير، حتى إذا كدت أيأس منها وأيأس من نفسي ذهبت إليها في هذا الصباح لأظفر منها بوعد أو خيال من وعد، فلم أنل منها إلا المماطلة والتسويف، والإحالة إلى الأقدار.
سمعت لورا ذلك فأحست بقذيفة تنفجر في قلبها فتذهب به بددا، فشخصت عيناها في ذهول، وأوشكت أن يغمى عليها، لولا عزيمة جبارة انتشلتها من يد العواطف الثائرة، ثم نظرت إلى محمود في شغف وألم وحسرة، وقد طارت آمالها مع الرياح، ودك ما بنته من الآمال والأحلام دكا، ورأت أن قلب حبيبها قد شغل عنها بسواها، وأنه لم يبق به زاوية صغيرة يلجأ إليها غرامها العنيف القاتل، وأن من عجائب القدر أن يشغف محمود بزبيدة أحب صديقاتها إليها، وأقربهن إلى هواها وعطفها وحنانها، إن حبها له يحملها على صرفه عن زبيدة والضن به عن أية امرأة كيفما كانت، ثم إن هذا الحب نفسه وما فيه من حنان، يفرض عليها أن تبذل كل ما في قدرتها لإسعاده وهناءته، ولن يسعده إلا أن ينال يد زبيدة، فهل يدفعها حبها إلى التضحية بآمال حبها؟ وهل يستطيع ذلك الحب أن يبلغ ذروة الشرف فيكتم ناره في قلبه، ويقضي على الغيرة الطبيعية التي تمزقه، ويقنع بأن يرى حبيبه هانئا سعيدا؟ إن اجتذاب الحبيب بالإغراء وسيلة رخيصة لا تليق بحبها الطاهر، والحب الذي لا ينال إلا بغمز العيون ومضغ الكلام، قليلا ما يدوم، وهناك مسألة أخرى: تلك أن تكون زبيدة مرائية ختالة، وأن فرط حبها به يحملها على فرط الإدلال عليه، فإذا عملت لورا على اجتذابه إليها فرقت بين عاشقين هما أحب الناس إليها، وأقربهم إلى قلبها.
نظرت لورا إلى محمود وهذه العواطف الجامحة تعتلج في نفسها، ولكن عزيمتها الإنجليزية أبت أن يظهر منها أي أثر على وجهها، وقالت: مسكين يا محمود!! لم أعرف أنك متعلق بزبيدة، ولكني أعرف أنها تهتم بذكرك، وتكيل لك الثناء والمديح كيلا. - يظهر أن الثناء غير الحب، ويظهر أن شيطانا عنيدا يتحكم في رأس زبيدة، ويحذرها من التزوج بي. - هذا عجيب! إن مثلك يا محمود تتمناه وتشرف به أية فتاة رشيدية. - الذي يهمني أن أعرف هذا السر الذي يحول بينها وبيني. - مسكين يا محمود! ثم قالت وقلبها يكاد يتقطع حسرة وألما: سأكون سفيرتك في هذا الأمر يا محمود، وسأبذل جهد الأخت الشقيقة حتى تفوز بأمنيتك، دع الأمر لي فإننا في هذا المجال أمهر من الرجال وأشد تأثيرا. - جزاك الله خيرا يا لورا، وأرجو أن توفقي حيث خبت وتقطعت حبائلي وأشراكي.
وهنا أطل نيكلسون من النافذة، فرأى في الشارع طوائف من الناس يلغطون، فظن أنهم يتحدثون في شأن عثمان خجا، ولكنه سمع أحدهم يقول: «إنه جاء من الإسكندرية، ويقال: إن السيد محمد كريم هو الذي أرسله» فظهر عليه الاضطراب، وبرقت عيناه واصفر وجهه، وقال لمحمود: يظهر أن الواقعة وقعت، وأن شيئا جللا حدث بالإسكندرية، هلم يا محمود لنعرف جلية الخبر، في وديعة الله يا لورا، وسأعود بعد ساعة.
ارتبكت لورا وظهر عليها الخوف، وألحت على أبيها أن يكشف لها عن حقيقة الأمر، ولكنه أسكتها بقبلتين، وأثار شكوكها بدمعتين سقطتا على خديها، وانصرف مع محمود مسرعين.
أخذ محمود يسأل المجتمعين عن سبب ضجيجهم، فقال له أحدهم: إن صديقا أكد له أن الإفرنج نزلوا الإسكندرية وامتلكوها، وأن رسولا أرسله السيد محمد كريم محافظ الإسكندرية إلى عثمان خجا ليخبره بالأمر، وأن الناس يذهبون أفواجا إلى الديوان.
نامعلوم صفحہ
فأسرع محمود ونيكلسون إلى الديوان - وكان الزحام حوله شديدا - فاخترقا الصفوف حتى دخلا، فرأيا عثمان خجا ومعه الأعيان والتجار - لأن العلماء أبوا أن يستجيبوا لدعوته - وقد جلسوا وهم صموت يبدو عليهم الذعر والحيرة، ورأيا رسول السيد محمد كريم واقفا أمامهم، فاتجه عثمان خجا، وقد جف ريقه وارتعدت أوصاله وقال للرسول: نبئنا بخبر هذه الداهية مفصلا.
فقال: وصلت بالأمس إلى مياه الإسكندرية عمارة فرنسية عند مطلع الفجر، فلما ارتفع النهار رآها أهل الثغر وقد غطت سفنها مياه البحر، ولكنها لم تقف بالميناء بل اتجهت إلى ناحية العجمي، فأرسل السيد محمد كريم طوائف العربان إلى هذه الجهة، فرأوا أنها أخذت تنزل الجنود بالزوارق عند المكس بعد منتصف الليل، حتى إذا تجمع الجيش سار في ثلاث فرق نحو الإسكندرية، وحاول بعض عربان الهنادي مناوشة الجنود فلم يفلحوا إلا قليلا، وجمع السيد محمد كريم كل رجاله وجنوده فانهزموا لقلة عددهم وسلاحهم، وقدم مدافعهم وتهدم حصونهم، ودخل الإفرنج المدينة في صباح اليوم بعد أن قاومهم الأهالي فمزقوهم بقذائفهم. أما رئيسهم: فيدعى: نابليون، وهو شاب صغير السن نحيف الجسم، ولكن جميع قواده يبجلونه ويخضعون له خضوع العبيد للسيد، وهو يدعي أنه صديق الدولة العثمانية، وحبيب الإسلام والمسلمين، وأنه لم يأت إلى مصر إلا لإنقاذ أهلها من ظلم المماليك، ويبلغ جيشه نحو الثلاثين ألفا، ومعهم من آلات الحرب ما لا عهد لنا به، وقد أظهر السيد كريم الخضوع لنابليون وشرع يساعده في الظاهر في جمع الخيل والجمال، ودعوة العربان إلى مناصرته، وأرسلني إليكم سرا لتأخذوا حذركم وأسلحتكم وتحصنوا المدينة، وتجمعوا الجنود والأهلين للقاء هذا الطاغية، فقد يسقط جيشه على رشيد في أي يوم، فقال عثمان خجا: لا بد من المقاومة والاستماتة في الدفاع، وربما استطعنا أن نلقن هؤلاء الإفرنج درسا لا ينسى.
فقال السيد محمد البواب، وكان شيخا في الخمسين فارع الطول متين بناء الجسم، جريئا شجاعا: إن حصون المدينة ضعيفة وأسوارها مهدمة، ومحال أن يستطاع تقويتها في زمن قصير.
فقال خجا غاضبا: هذا دأبكم دائما يا أبناء العرب، لا تثبتون على الشدائد. - نحن أثبت على الشدائد من الجبال، ولكنا نحمل الآن أوزار ظلمكم وعبثكم بشئون البلد، أتظن يا أغا أن في المدينة رجلا واحدا يرضى أن يشد أزرك في قتال؟ لقد زهدتهم في الحياة، وأخمدت في نفوسهم البطولة وحب الوطن، حتى أصبحوا يؤثرون في قرارة نفوسهم أن يحكمهم مجوسي أو وثني، لقد زرعتم الحنظل واليوم تجنون ثماره، وقتلتم كل نازعة للرجولة في كل نفس، ثم جئتم تستنهضون الهمم بعد أن ماتت الهمم، إنما يدافع عن وطنه من يشعر أنه ملهى صباه ومصدر مجده، ومقر سعادته وموئل حريته، وأن ما فيه من أرض وماء وهواء ملك له ولسلالته من بعده، أما من يعذب في وطنه ويحرم خيراته، ويساق إلى العمل كما تساق البهائم لينعم غيره وهو جائع، فلن يعرف معنى للوطن، أو معنى للدفاع عن الوطن.
فبهت عثمان أغا والتفت إلى التجار، وقال: أهذا رأيكم في رجال مدينتكم؟ فانبرى إليه الحاج أحمد شهاب وقال: إن هذا ليس عارا على أهل المدينة، إنما العار على من يطلب من المذبوح أن يدفع عن نفسه، وهنا قام السيد محمد البواب وقام الأعيان منصرفين خلفه، وتركوا عثمان خجا يتحرق غيظا، ولو استطاع أن يقبض عليهم ويذيقهم صنوف النكال لفعل، ولكن اضطراب المدينة واقتراب الأعداء لم يدعا له سبيلا لشفاء نفسه، ومال نيكلسون في الطريق على أذن محمود يقول في صوت خافت: سأرحل الليلة فقد أعددت كل شيء، ثم أسرعا إلى الدار وأحضرا من يحمل المتاع إلى السفينة، وغير نيكلسون ملابسه وتزيا بزي المغاربة، وحمل في منطقته مسدسين وأكياسا بها من الذهب ما يزيد على ألف محبوب، ولبست لورا حبرتها والدموع تتساقط من عينيها، وسارت معهما إلى السفينة، وهناك ودع نيكلسون صديقه وداع الأب الشفيق للولد البار، وهمس في أذنه: إذا قدمت القاهرة فسل عن الحاج محمد السوسي بسوق المغاربة. وتقدمت لورا نحو محمود باكية الطرف دامية القلب وهي تقول: إلى اللقاء القريب يا محمود! ثم أقلعت السفينة وهبت الريح شمالية فدفعتها إلى الجنوب، ووقف محمود حزينا يقلب كفيه أسفا، وقد أحس أنه كان له جناحان فرماه الدهر فيهما، ثم نظر فرأى السفينة وقد التقمها اليم وطواها الظلام.
الفصل الرابع
في يوم الثلاثاء الثالث من شهر يولية سنة 1798م كانت رشيد كالبحر المائج المضطرب، عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، فكنت تسمع جلبة في كل مكان، وترى أفواجا من الأهلين تساق بالسياط، وجنودا من الفرسان تعدو بخيولها هنا وهناك، والبنادق في أيديهم يهددون بها كل من لاذ بداره أو حاول الفرار، فقد أصدر عثمان خجا أوامر قاسية، بأن يقوم كل رشيدي بالمعاونة في تجديد الأسوار وتقوية الأبواب والحصون، وأن يعد كل رشيدي سلاحا كيفما كان نوعه لقتال الغزاة الغاصبين، ولم تستثن أوامره طفلا ولا شيخا هما ولا مريضا زمنا، وكان سليم بك رئيس العسكر، وعلي جاويش مساعده، يمران على الجند لحثهم على بذل أقصى الجهد في حشد الناس، واتخاذ كل وسائل الشدة والعسف في سوقهم إلى العمل، فوثبوا على المنازل واستباحوا حرمتها، وقبضوا على النساء لدفع أزواجهن أو آبائهن إلى الظهور، وقتلوا كثيرا ونهبوا من مدخرات البيوت كثيرا، كانت رشيد في هذا اليوم وما تلاه من أيام جحيما أججها الظلم وأشعلها الغباء، فكنت لا تسمع فيها إلا رنات السياط على الظهور، وقصف المدافع والبنادق ممتزجا بصراخ الأطفال وولولة النساء.
وفي صبيحة يوم الجمعة السادس من شهر يولية، رأى الناس من المآذن - وكانوا يصعدون إليها في كل يوم - جيشا يبلغ عدده نحو ألفي مقاتل يزحف على رشيد بعد أن غادر أدكو، وهنا أعد عثمان خجا جنوده، وكانوا لا يزيدون على مائة من الإنكشارية وبعض الباشبوزق، وانضم إلى هؤلاء بعض الأهلين كارهين، وقد سلحوا بالعصي والسكاكين، وهجم الجنرال «دوجا» بجيوشه وآلاته الحديثة على رشيد عند الظهيرة، وما كان أشد دهشته حين رأى جيش المماليك يفر من غير أن يجرد سلاحا، وحين رأى الأهلين يرحبون بقدومه ويحيونه تحية الفارس المنقذ الذي أرسله الله لخلاصهم من ظلم المماليك، أما عثمان خجا وسليم بك: فقد كانا في الفرار أسرع من جنودهما، فركبا النيل إلى دمياط.
دخل «دوجا» رشيد دخول الفاتحين، وبقي بها يومين أو ثلاثة حتى قدم الجنرال «جاك فرنسوا مينو» الذي عينه نابليون حاكما لرشيد، فهرع الأعيان وعظماء المدينة إلى استقباله، وأظهروا البشر والسرور، وتلقوه بالزمر والطبول، وأطلت النساء من النوافذ ومن فوق سطوح الدور، يحيينه بالأغاريد، وسلم إليه علي جاويش مفاتيح المدينة في حفل حافل، وقف فيه مينو فألقى خطبة مسهبة لخصها ترجمانه «إلياس فخر» فقال: إن جناب الجنرال لن يتدخل في الحكم الداخلي للمدينة، ويطلب من الأعيان وكبار البلد أن يؤلفوا منهم ديوانا للنظر في شئون الناس، ثم إنه يؤكد أن كل ما يشترى للجيش يصرف ثمنه للتجار ذهبا، ويعلن ميله وميل دولته الشديد للإسلام، وأنه سيكون أول من يذهب إلى المساجد للصلاة، وأن حكم الجمهورية الفرنسية مؤسس على الإخاء والمساواة، وأنه جاء لينشر العدل ويبدد ظلام الجهل والظلم.
كان مينو في نحو الثامنة والأربعين من عمره، ربعة في الرجال غليظ الوجه ثقيل الملامح، أشقر الشعر دب الشيب إلى فوديه قليلا، وكان سريع التأثر، يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، سريع الغضب والرضا ومعتدا بنفسه كثير الزهو بذكائه، يعتقد أن حكمة الدنيا وفلسفتها أنزلت عليه وحيا، وأن محجبات الغيب دانت لعبقريته طوعا، وقد أدى به ذلك الاعتقاد إلى الصلف واحتقار آراء غيره، ودعاه إلى العجلة وسرعة البت في الأمور الخطيرة بلا أناة أو تفكير أو مشاورة، فجر عليه ذلك بغض زملائه ومرءوسيه، وسخطهم عليه والسخرية منه، وكان من أسرة نبيلة بفرنسا، وربما زاد هذا النسب في كبريائه على أنداده من رجال الحملة، وربما أبطره عطف نابليون عليه عطفا حار في تعليله المؤرخون.
نامعلوم صفحہ
اجتمع العلماء والتجار وأعيان المدينة بمنزل السيد محمد البواب، لينظروا في هذا الحادث الجلل، بعد أن صرح مينو بسياسته ، فقال الحاج أحمد شهاب: يظهر أن الله أراد الخير لهذا البلد المسكين، فأرسل هؤلاء الفرنسيين لإنقاذه،
فقال الشيخ الخضري: أفتى بعض العلماء تيمور لنك بأن الحاكم الكافر إذا كان عادلا، خير من الحاكم المسلم إذا كان ظالما، وهنا زفر الشيخ صديق: صدق الله العظيم:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
فاتجه إليه الشيخ الخضري وقال: يا مولانا لقد سمعناه اليوم يقول: إنه سيترك الحكم لأهل البلد، وإنه يحب الإسلام، وإنه سيؤدي الصلوات، فتنحنح الحاج عبد الله البربير وقال:
قد بلينا بأمير
ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فينا
يذكر الله ويذبح
وهل يصلي بهذا السروال المقمط، وهذه القبعة التي تشبه زنبيل الأرز!!
فوقف محمود العسال وقال: إني لشديد العجب من أن أرى قوما يرحبون بغاز لبلادهم، مغير على وطنهم كيفما كان جنسه أو دينه أو خلقه، إن الرجل منكم إذا غالطه جاره في حد من حدود أرضه، أو فتح نافذة على أرض خربة يملكها، أقام الدنيا وأقعدها، وراح يثير عليه الحكام ويصب عليه صنوف الانتقام، ولكني أراكم وقد ضاع الوطن العزيز واستبيح حماه، وديس عرينه وتمكن من رقبته عدو جبار، تسرون وتفرحون ويهنئ بعضكم بعضا بهذا الفتح المبين والنصر المؤزر، إننا نبغض المماليك ونضج من ظلمهم وطغيانهم، فهل معنى هذا أن نترك الدفاع عن البلد لنستريح منهم بدخول عدو جديد؟ عار أيها الناس وأي عار أن يقال: إن رشيد لم تدفع عن حوزتها دفاع الأسود، وإنها قابلت فاتحيها بالطبل والزمور! عار وأي عار أن يقال: إن شرذمة قليلة من الفرنسيين لا تزيد على الألفين، فتحت مدينة حصينة آهلة بسكانها، وإن هذه المدينة التي سيسخر منها التاريخ قابلت أعداءها بنثر الأزهار والرياحين، كما يقابل الغزاة الفاتحون، نحن نبغض المماليك حقا، فهل كانت تقصر همتنا - ونحن نستطيع أن نجمع عشرين ألفا من أشداء الرجال - عن القضاء على المماليك والفرنسيين معا، وأن نقتنص هذه الفرصة الطائرة لنغسل عار رشيد بدمائهم جميعا؟ كان علينا ألا نقبع في دورنا حتى يصلوا إلينا، فقد قال ابن أبي طالب: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، بل كان يجب أن نقابلهم في الرمال المحرقة فنبيد جموعهم في الصحراء بين رشيد والإسكندرية، ولكن لن يصلح قوم لا قائد لهم! والأمم إباء وكبرياء، فإذا مات الإباء وذلت الكبرياء بادت الأمم، قال هذا وخرج مسرعا وقد عصف به الحزن والغضب، وترك القوم واجمين ذاهلين، وإذا صوت الشيخ علي سريط يملأ جوانب الفضاء وهو يصيح: إذا ذهب الذئب وجاء الأسد، فيا ضيعة المال والولد!!
نامعلوم صفحہ
وبعد أيام أنشأ مينو ديوانا للأحكام عين به بعض العلماء والأعيان، والفرنسيين والمترجمين، وأظهر في أول عهده العدل والتسامح، وبالغ في الاختلاط بالأهلين، فكان بيته في كل ليلة مثابة للعظماء والعلماء، وكان يتحدث في هذه السهرات في عظمة فرنسا وقوتها، وأنها اجتاحت الممالك وقهرت الأمم، وكثيرا ما كان يمازح الشيخ البربير ويبادله النكات، وكان من بين المتزاحمين على مودته والتقرب إليه السيد علي الحمامي أخو زبيدة من أمها، فإنه بعد أن عين عضوا في الديوان أخذ يملأ الدنيا ثناء على الفرنسيين، ويضع «الجوكار» وهو شعار الجمهورية على صدره فخورا تياها، حتى سماه بعض خبثاء المدينة «الأوفيسيال علي»، أما محمود العسال: فكان يرأس جماعة الساخطين من شبان المدينة، وكان يجهر برأيه في حكم الفرنسيين غير هياب حتى لقد شكاه الضابط «لوي أوجست» نائب الحاكم العام إلى مينو مرات، فكان يشفع له علي الحمامي، والسيد محمد البواب.
وكانت زبيدة في هذا الحين مريضة طريح فراشها، فإنها منذ رفضت مكرهة خطبة محمود ضاقت نفسها عن احتمال ما هي فيه من حب ورياء، وأمل كاذب، فتوالت عليها الأوهام وتزاحمت الآلام، ومضت الأيام والأسابيع، وهي لا تزيد إلا سقما، ولا تجد إلى الشفاء من سبيل، وكانت تنتعش قليلا لزيارة محمود ويعود إلى وجهها شيء من نضارة الحياة، حتى إن أمها كانت ترجوه أن يزورها في كل يوم ، وما كان في حاجة إلى رجاء، ولم تبق أمها دواء ولا بخورا ولا حجابا ولا تميمة، إلا بذلت فيه المال الكثير طامعة راضية، ولكن المرض كان يطغى بزبيدة ويعصف بشبابها، زارها يوما محمود وقد كاد يبلغ بها الوصب غايته، فأطفأ بريق العيون ومحا نضارة الخدود، ولم يبق منها إلا هيكلا من جمال قديم، فنظرت إليه في شغف ويأس، وقالت: مسكين يا محمود! إن الزهرة التي سقيتها بدمعك، وأدفأتها بزفراتك، وغرستها في سويداء قلبك، وكنت تغار من النسيم أن يمسها، ومن الطل أن يلثمها، ومن الشمس الضاحكة أن تداعب أوراقها، وكنت تباهي بها الأزهار وتتحدى البساتين قد هبت عليها عاصفة هوجاء فتركتها هشيما، واصطلحت عليها الأنواء فغادرتها حطاما، انظر إلي يا محمود فهل تراني كما كنت أكون، أو كما كنت تحب أن أكون! الشباب والصحة جمال الجمال، والشباب والصحة جمال الروح، والشباب والصحة جمال الحياة، إني أحس وأنا راقدة في فراشي أن هذا السرير يعدو بي إلى الموت عدوا، وأود أن أملأ عيني من كل شيء في الحياة، قبل أن أفارق الحياة!!
كان محمود حزينا مطرقا، يغالب دموع عينيه ويكبت زفرات صدره، فالتفت إليها وقد تكلف الابتسام قائلا: أنت تفارقين الحياة؟ هذا مستحيل! إن الله أرحم بعباده من أن يفجعهم بهذه الفجيعة، إن روحك يا زبيدة متصل بكل روح، وقلبك يرسل الحياة والأمل إلى كل قلب، فهل تظنين أن الله سيطفئ روحا بها حياة الأرواح وأمل القلوب؟ إن زهرتي إن ذبلت اليوم فإن في جمالها الكامن ما يتحدى العواصف والأنواء، وسنراها غدا، وهي تتخايل فوق غصنها ناضرة فتانة، إن الشمس يا زبيدة لا تموت، ولكنها إذا جاء الأصيل درجت إلى سريرها فنامت الليل كما تنامين فوق هذا السرير، ثم بزغت في الصباح متلألئة باسمة.
وهنا ألقت بيدها النحيلة بين يديه، وقالت: هذا كلام لطيف يا محمود ولكني أشعر بما لا تشعر به، وكثيرا ما سررت وأنا في غمرة أحزاني من أني لم أسرع إلى إجابة خطبتك، حتى لكأني كنت أقرأ ما دونه القدر، فما كان أعظم الكارثة علينا لو دهمني الموت بعد زواجنا، فشرقنا بكأس النعيم، وذهبت الحياة ونحن في أول نشوة من خمر الحياة!
وماذا يكون من أمرك حين تدفن العروس بثوب جلائها، ويسلبك القدر ريحانة لم تنعم طويلا بشذاها؟ وحين يكاد يختلط بسمعك لقرب ما بينهما عزف الراقصات بلطم النادبات، وضحكات المغنيات بولولة الناعيات؟!
فقاطعها قائلا: رفقا بي يا زبيدة ولا تسترسلي في هذه الناحية المظلمة القاتمة، ارحميني يا حبيبتي، ودعي ذكر الموت والنادبات، أتذكرين حين خرجنا يوم شم النسيم الماضي وقضينا يوما سعيدا ضاحكا مع أمك وأخيك علي ولورا، إني لن أنسى هذا اليوم، وأشعر واثقا أننا سنعيد ذكراه معا وأنت في أنضر ما تكونين صحة ومرحا وشبابا، فانتعشت زبيدة وقالت: ما كان أجمله يا محمود! خرجنا في ذلك اليوم في غبش الفجر، وقد كنا أعددنا كل شيء، وكان أبي نائما، فكانت أمي تمشي على أطراف أصابعها خشية إيقاظه كما تمشي الناقة العرجاء، ثم طافت بوجهها ابتسامة خفيفة واستمرت تقول: وقد أدرك أمي سعال فكانت تكتمه بيديها، وأخي يلطم خده ويقول: ضعنا والله، لو استيقظ ما سمح بخروج النساء. - وقد مشينا في هذا اليوم على شاطئ النيل والنسيم يهب خفيفا بليلا كأنه هبات الأمل في نفوس البائسين، حتى إذا اجتزنا دوائر الأرز ذهبنا جنوبا بين تلك الحدائق الزهر الباسمة، وأشجار الفاكهة التي أحست بالربيع فتفتحت أنوارها لتقبيله، وامتدت غصونها لعناقه. - وقد نظرت حينئذ فلم أجد أحدا، فخلعت ملاءتي أنا ولورا وذهبنا نمرح بين الأغصان كأننا طفلتان صانتهما الطفولة من خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتذكر حين تسلقت لورا شجرة الجميز ثم قبضت بيديها على أحد فروعها، وأخذت تتأرجح به ضاحكة لاهية، وأمي تحت الشجرة تصرخ وتستحلفها أن تكف، وتضرب بيدها على صدرها خوفا وذعرا؟
لقد كان ذلك منظرا بديعا حقا، حتى إذا جاوزنا الحدائق ظهر لنا (كوم الأفراح). - ما أجمل هذا التل العالي يا زبيدة، وما أنقى رماله، وما أروع أن تشاهدي من فوقه النيل وهو يلتف حول الرمال كما يلتف السوار؟! - لقد غاصت رجلي في الرمل يومئذ فحاولت إخراجها فتهورت من أعلى التل إلى سفحه، وكنت أصرخ وأضحك في آن، وأعجبت لورا هذه اللعبة فتدحرجت خلفي، ثم وصلنا إلى مسجد «أبي منظور» ونحن أشد ما نكون جوعا فكنا نتخاطف الطعام في عبث ولهو ومجون. - ثم صعدنا في المئذنة فرأينا مدينة رشيد تحتنا بمآذنها وقبابها ومنازلها السعيدة الهانئة، والنخيل تحيط بها كأنها حراس من جنود الله، يدفعون عنها كل سوء. - أذكر كل هذا يا محمود كأنه مثال أمامي، ما أجمل الحياة وما أجمل أن يشعر المرء بجمالها! ثم انتقلنا إلى قارب يمخر بنا في النيل جيئة وذهابا كأنه الحوت الضخم ضل مكان أليفته، فجال يبحث عنها هائما مضطربا، وكان المراكبي شيخا هرما فلم يمنعه هرمه من أن يرسل إلي وإلى لورا عينين جائعتين كادتا تلتهماننا التهاما، إن شباب القلوب وضعف الأجسام كارثة الشيوخ يا محمود، وجلست لورا في القارب وأخذت تصف لنا جمال بلادها وأخلاق أهليها، واطمئنان نفوس الناس لحكامها، وأن النساء هناك سافرات يخالطن الرجال ويقضين شئونهن بأنفسهن، إنه كان يوما سعيدا يا محمود، لم نرجع منه إلا بعد أن غابت الشمس، وكان أبي حازما فلم يسأل سؤالا واحدا؛ لأنه رأى من صون كرامته أن يغضي إغضاء المتجاهل، إن ذكرى ذلك اليوم جددت الحياة في نفسي وجعلتني أحس أن كتاب حياتي لم ينفد بعد، وأنه لا يزال به صحف كثيرة من بيض وسود، أين لورا؟ إنها لم تعدني؟ - لقد سافرت مع أبيها منذ دخول الفرنسيين، ولا أعلم أين استقرت بهما النوى. - إنها أجمل فتاة رأيتها خلقا وخلقا، ولو أنها كانت مسلمة لكانت خير زوجة، إنها الحنان والعقل لفا في أبدع صورة من صور الجمال، فهل نراها مرة أخرى؟! - إن سفن الحياة تفترق وتلتقي في بحر العمر المائج، والحب كفيل بألا يطيل الفرقة بين الشتيتين.
وهنا دخلت أمها فرأتها باشة مستبشرة، فانصبت على خدي محمود تقبلهما كالمجنونة وهي تقول: أنت شفاء ابنتي يا محمود، وكأن فيك سحرا يبعث في جسمها العافية.
فالتفت إليها محمود قائلا: تعالي يا خالتي نتحدث في الأمر حديث جد وصراحة، هذه الأحجبة وهذا البخور لا تفيد شيئا، إن زبيدة لا تشكو إلا من وعكة تزول إن شاء الله، إذا اتخذت الوسائل الصحيحة لعلاجها، أتمانعين في أن يراها الطبيب «شوفور» الفرنسي؟ - أيجوز يا بني أن يرى الطبيب الإفرنجي بنتي، وأن يكشف عن جسمها كما يفعل بالرجال؟ - كان يقول لنا شيخنا الخضري: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وسلامة زبيدة من أشد ضرورات الدنيا، أنا ذاهب لأدعوه، ثم انطلق كما ينطلق السهم وعاد بعد ساعة ومعه الطبيب «شوفور» وهو رجل قضى برشيد أكثر من عشر سنوات، وعرف أهلها واختلط بأسرها، فلما فحص زبيدة اتجه إلى محمود وقال: إن حال زبيدة لا تقضي الانزعاج بتاتا، إن كل أجهزتها سليمة طبيعية، ويغلب على ظني أنها مصابة بمرض الأعصاب، وهي تحتاج إلى الهدوء وإلى كل ما يبعث السرور في النفس: وسأرسل لها دواء أرجو أن يكون شافيا، ثم ضحك وقال: لا تخافوا شيئا إنها بخير، وبعد أن أطرق إطراق المفكر قال: أظن أن تغيير الجو الذي هي فيه، والسفر إلى مدينة أخرى سيكون لها أشفى من ألف دواء، فقالت أمها: إن خالتها زوج السيد أحمد المحروقي بالقاهرة قد أرسلت منذ يومين رسالة تتشوق فيها إليها وتلح في طلبها. - هذا خير ما يكون، وبالقاهرة من أشهر أطباء الحملة الطبيب «ديجنت» فلو توصلتم إلى أن يراها لشفاها في أقرب وقت.
ثم انصرف الطبيب بعد أن ترك وراءه في الدار روحا من الأمل والابتهاج، ورأت نفيسة ووافقها محمود وجوب سفر زبيدة إلى القاهرة، وأقنعت الأم السيد محمدا البواب بذلك فاقتنع، وكانت سفينة عظيمة محملة بالأرز على وشك السفر، فأعدت بها غرفتان، وسافرت بها زبيدة وأخوها علي الحمامي، وبعد سفرها أحس محمود بالوحشة والقلق، وضايقه جواسيس الفرنسيين، فوطد العزم على الرحيل إلى القاهرة، فسافر إليها بعد عشرة أيام.
نامعلوم صفحہ
الفصل الخامس
حينما جاوزت السفينة بنيكلسون وابنته لورا معالم رشيد، أحست لورا بكثير من الحزن على فراق وطنها الثاني، وموطن حبيبها الأول، وذكرت أيام سرورها ومجالس البهجة والأنس بين صديقاتها، وتفتت قلبها حسرة على فراق محمود؛ لأنها رأت في لحظة أن صروح آمالها قد تهدمت مرتين: مرة بانصراف هواه إلى زبيدة، ومرة بتلك الضربة القاسية التي قضت بتفريقهما وحرمانها أن تتمتع بمشاهدة وجهه الوضاح، وسماع حديثه الساحر. وجلس نيكلسون مهموما مفكرا كثير القلق، وأخذ يستحث النوتي على الإسراع ونشر جميع القلوع، ويمنيه الأماني إذا سابق الرياح ولم يعوق؛ لأنه كان يريد أن يصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة إليها. وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق بعد سبعة أيام، فنزل نيكلسون ولورا واستأجرا حميرا لحملهما وحمل أمتعتهما إلى خان بالقرب من مشهد سيدنا الحسين، حتى إذا استقرا فيه يومين، كان نيكلسون قد اهتدى إلى دكان صغير بسوق المغاربة وضع فيه قليلا من البضائع، واستأجر دارا صغيرة بالكحكيين فانتقلا إليهما. وكانت تخدمهما صاحبة الدار، وهي أرملة عجوز ورهاء غاب وحيدها منذ سنوات ولم تقف له على أثر، فأصابها مس من الجنون خيل إليها أن السيدة عديلة بنت إبراهيم بك هامت بحبه، فاختطفته واحتجزته بقصرها. وحينما وضع نيكلسون قدمه بالقاهرة رآها في هرج واضطراب وذعر، فقد وصل إليها الرسل الذين بعث بهم السيد محمد كريم إلى مراد بك، وعقد اجتماع بقصر إبراهيم بك حضره مراد بك وأبو بكر باشا والي العثمانيين، وقواد المماليك، وكبار العلماء وهم المشايخ: الشيخ عبد الله الشرقاوي، وسليمان الفيومي، ومصطفى الصاوي، ومحمد المهدي، وخليل البكري، والسيد عمر مكرم وغيرهم، وفي هذا المجلس أظهر المماليك الغرور والاعتداد بالقوة، فقرروا سجن قنصل فرنسا وجميع التجار الفرنسيين بقلعة الجبل، وأن يستعد مراد بك للسفر لمقاومة الفرنسيين ودحرهم قبل أن يصلوا إلى القاهرة، وفي اليوم التاسع من شهر يولية زحف مراد بك من الجيزة، وكان بالجيش كثير من المدافع والبرود، وقد بلغ عدد جنوده من فرسان المماليك ومشاة الإنكشارية ما يزيد على ثمانية آلاف، وصحبه في النيل نحو خمس وعشرين سفينة مسلحة، يقودها علي باشا الطرابلسي، ونحو خمس وثلاثين من السفن التي تحمل الجنود والذخائر والمئونة، وبقي إبراهيم بك الكبير معسكرا في بولاق في ألفين أو أكثر من المماليك، ينضم إليهم بعض الجنود المرتزقة والعربان والأهلين المتحمسين، ووصلت الأخبار بعد أيام بهزيمة مراد بك في موقعة شبراخيت، واحتراق ذخائره بقذيفة ألقتها العمارة الفرنسية على إحدى سفنه، وعلم أهل القاهرة أن طلائع التمرد بدت في جنود نابليون، لطول الشقة وقلة الغذاء، وشدة الحر وقحول الأرض، حتى وصلوا بعد جهد إلى قرية أم دينار في اليوم التاسع عشر من يولية، ورأوا الأهرام شامخة متحدية، وفي اليوم التالي رأوا جيش المماليك على ضفة النيل اليسرى، وقد امتدت صفوفهم بين إمبابة وسفح الأهرام، وكانوا في نحو أربعين ألفا، وكان الفرنسيون في نحو ثلاثين ألفا، وهنا وقف نابليون يستحث جنوده، ويشير إلى قمم الأهرام وهو يقول قولته المشهورة: «إن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم».
ولكن الأهرام التي سمعته أرسلت إليه نظرة ساخرة من مؤخر عينيها، ثم ابتسمت في ازدراء وأنفة لهذا المخلوق الذي توهم إنه يستطيع أن يخرق الأرض، وأن يبلغ الجبال طولا. ولو أن إنسانا استطاع أن يسمع الحديث الصامت لسمعها تقول لنابليون: ومن تكون أيها المعتز بقوتك؟ وما هذه الشراذم التي ضللت بها في سبيل غنم كاذب ومجد موهوم؟ وما هذا الذي مسك فقذفت بخيرة رجالك في شرك لا خلاص لهم منه؟ نعم إن أربعين قرنا مني تنظر إليكم، ولكنها تنظر دهشة مبهوتة؛ لأنها ترى أن حب العظمة والسلطان لا يزال ينقلب في الناس هوسا وجنونا، إنك لو نظرت في سفحي وكان في استطاعتك أن تميز الأجناس البشرية من جماجمها، لرأيت جماجم الفرس مبعثرة يعفرها التراب بين جماجم الهكسوس واليونان، والرومان والعرب، والفاطميين والأيوبيين.
ذهبوا جميعا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ من أنت إلى جانب هؤلاء؟! وماذا يكون جيشك بين هذه الجيوش! تريد أن تكون خليفة الإسكندر الذي بكى كما يبكي الطفل المدلل؛ لأنه يريد أن يلعب بكرة الأرض فلعبت به، وكان كل نصيبه منها في النهاية حفرة لا تزيد على أربع أذرع في ذراعين! إن مصر يا هذا بلاد الفراعنة والسحر، وموطن الرسل والأنبياء، يرد الله عنها كل سهم، ويقصم كل من أرادها بسوء، وهي مقبرة الجبارين وقاصمة العتاة الطاغين.
خرج نيكلسون صباح اليوم الحادي والعشرين إلى معسكر إبراهيم بك ببولاق مع طائفة من المغاربة، فرأى الطرق وقد ازدحمت بالذاهبين إليها؛ لأن جميع المتاجر والحوانيت بالقاهرة أغلقت في هذا اليوم، ولم يبق منها إلا النساء والأطفال والشيوخ، وبدأت المعركة بين الفرنسيين وجيش مراد بك عند الظهيرة، وفتك الفرنسيون بالمماليك، وتم لهم الغلب عند الغروب، وفر مراد بك إلى الجنوب، وتقدم نابليون ببعض قواده حتى وصل إلى قصر مراد بك بالجيزة، وكان قصرا فخما رفيع البنيان، ثمين الأثاث والرياش به كثير من مخازن الزاد والذخيرة، ولما وقعت الواقعة رجع نيكلسون مع الراجعين والهموم والأحزان تخيم على الجموع، والذعر يعصف بالقوم عصفا، فلا تسمع إلا نادبا أو محوقلا، أو ساخطا على المماليك، أو ضاربا بكف على كف، أو مستنجدا بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين.
ذهب نيكلسون إلى داره فطرق الباب، فأسرعت لورا ففتحته وهي ترتعد من الخوف، وقد طار الدم من وجهها، فلما رأت أباها رمت بنفسها بين ذراعيه، ولم تستطيع أن تحبس عاصفة من البكاء كانت قد كبحتها طول يومها فضمها أبوها إلى صدره في رفق وحنان وتركها تبكي لتروح عن نفسها وتخفف من أعباء أحزانها، ثم أخذت تضحك كالمحموم، وتملأ وجه أبيها قبلا، حتى إذا هدأت النوبة التفتت إلى أبيها كالمتفرسة وقالت: أنت بخير يا أبي؟ - بكل خير أيتها الفتاة المحبوبة المعربدة، الباكية الضاحكة. - إن أفواجا من الناس مروا منذ لحظة من الحارة وهم يلطمون وجوههم ويصيحون يا لطيف ... يا لطيف ...
ومن أحوج منهم إلى الاستغاثة بالله يا فتاتي، بعد أن قضي الأمر وامتلك الفرنسيون مصر؟! - انهزم المماليك؟! - شر هزيمة! فقد هجم مراد بك بنحو خمسة آلاف من فرسانه على فرقة «دوجا» فصدته مدافعها، ثم هجم على فرقة «ديزيه» وكان هجوما شديدا، فحصد ديزيه المماليك حصدا، فانقلبوا إلى فرقة «رينييه» فقابلتهم بنار حامية، وهنا ثبت المماليك وزلزل الفرنسيون زلزالا شديدا، وكانت المدافع تقصف كالرعد، ودخانها يسد الأفق، ولكن الفرنسيين صبروا وصابروا حتى حصروا المماليك بين فرقتي «ديزيه» و«رينييه» فأخذهم الموت من كل جانب، وقذف كثير منهم بأنفسهم في النيل واستطاعت شرذمة قليلة أن تفر مع مراد بك إلى الجنوب، بعد أن أحرقوا سفنهم، فسقط في يد الجيش كله، واستولى الفرنسيون على مدافعه وأسلحته ومئونته، وكانت النكبة ماحقة، أما إبراهيم بك ومماليكه بالشاطئ الشرقي: فقد فروا بأموالهم وذخائرهم إلى بلبيس ثم إلى الشام، عندما تبينت لهم الهزيمة، ولا أدري لم فرق المماليك جيوشهم على الشاطئين؟ ولم تهاونوا فلم يدهموا نابليون في طريقه بين الإسكندرية ودمنهور، حينما كان الجوع والظمأ والقيظ قد فك عزائم الجنود وأوهن قواهم؟! - يا للخيبة؟ لقد كان مراد يظن أن ضربة من سوطه تكفي لسوقهم إلى بلادهم! - إن المماليك متنافروا القلوب مفككو العزائم، وقد استناموا إلى الراحة منذ عهد بعيد وأهملوا الاستعداد لكل مفاجأة، ثم إنهم اعتادوا الحرب على نمط قديم، فلم يستطيعوا الوقوف أمام فنون أوربا وآلاتها الحديثة. - وأين نابليون الآن؟ - نائم يا حبيبتي ملء جفنيه، على سرير مراد بك بعد أن ملأ بطنه من شهي طعامه وشرابه، وسيدخل القاهرة غدا فاتحا منصورا. - مساكين هؤلاء المصريين! لقد أصبحوا نهبة لكل ناهب، ولم جاء نابليون إلى مصر يا أبي؟ - جاء ليسد على إنجلترا طريق الهند أو ليفتح الهند كما يزعم، ثم ابتسم ابتسامة حزينة وقال: عجيب شأن هذا الرجل المغامر! كيف يترك أوربا الآن ومراجلها تغلي بالثورات والفتن والحروب، ليطوح بجيشه في بلاد بعيدة، بينها وبين فرنسا بحر يتحكم فيه الإنجليز بأساطيلهم؟ والأدهى والأمر أنه ضمن الخلود في مصر قبل الوصول إليها، فأحضر معه طوائف من العلماء والفنانين في أكثر شعب العلوم والفنون. - وهل تغضي عنه إنجلترا، يا أبي، وتترك له الحبل على الغارب، يتحكم في بلاد الله كما أراد؟ - سنرى أيتها السياسية الخطيرة، ثم قرص خدها في حنان وقال: ولو كنت في كرسي «وليم بت» فماذا كنت تصنعين؟ - لا تسخر مني يا أبت، فلو كنت في كرسي وليم بت لدرست الموضوع من جميع أطرافه، وقررت ما يهديني إليه رأيي، بعد استشارة رجال الجيش والأسطول. - وإذا هداك رأيك بعد كل ذلك إلى ترك نابليون، أتتركينه؟ - أتركه ولا أدع عيني تفارقه حتى يحين حينه، وحتى يفتل لنفسه حبلا ليشنق به رقبته. - حقا إنك إنجليزية إلى أطراف بنانك! إن إنجلترا لن تغضي طويلا على رجل يريد أن يعبث بسيطرتها على البحار. - والمصريون! أينامون على الضيم؟ - إن المصريين سيكونون أشد ويلا على الفاتح من الإنجليز؛ لأن دخول الفرنسيين في نظرهم ليس مشكلا وطنيا فحسب، وإنما هو مشكل ديني قبل كل شيء، وقد ظن نابليون أنه يستطيع أن يضحك من ذقونهم بالمنشورات التي يعلن فيها أنه يحب الإسلام ويبغض المسيحية، ويدين بالاحترام والطاعة للدولة العثمانية، رأيت اليوم طالبا من الأزهر يقرأ منشورا من هذه بين جمع حافل من إخوانه، فلما انتهى من قراءته قال ساخرا: ما شاء الله! إن الشيخ الشرقاوي سيجد له منافسا في مشيخة الأزهر. وقال ثان: ما أحقرها حيلة! إنه يبيع دينه ليلتهم مصر، ثم يظن أننا نصدقه. وقال ثالث: هنيئا للمسيحية حين نقصت واحدا، ويا ويلتا للإسلام بزيادة هذا الواحد!
هذه يا حبيبتي نفسية هذه الأمة الهادئة الوادعة، إن فيها ذكاء مكبوتا، وفيها بطولة مدفونة، وهي كالنار تحت الرماد تضطرم وتستشري إذا مستها جائحة في دين أو عرض أو وطن، فاصبري قليلا فتري كثيرا. - كيف حال محمود العسال يا ترى في وسط هذه العواصف؟ - إني لشديد الخوف عليه، فإنه عظيم الأنفة قوي الشكيمة، مخاطر في حب وطنه، وقد سبق هذا الشاب أوانه، فظهر فيه كثير من صفات البطولة التي تعز في سواه، وتفتح ذهنه عن لمحات بعيدة المرمى قل أن ترى في أنداده. - لا تخف عليه يا أبي، فإنه إلى ذلك حازم حذر، لا يضع قدمه إلا حيث ترى عيناه. آه، لقد كانت أيام رشيد هانئة سعيدة، ولقد لقينا فيها أهلا بأهل ، وأوطانا بأوطان. - إن نظام الكون مؤسس على الإعادة والتكرار، فالشمس تعود، والقمر يعود، وفصول السنة تعود، فهل من البعيد أن نعود كما كنا إلى رشيد؟ - وماذا ستعمل الآن يا أبي حيال هذه الكارثة المصرية الإنجليزية؟ - سأخدم وطني، وسأخدم مصر بكل ما في مكنتي من فكر وقوة وحيلة، وسأنتظر ما تجيء به الأيام.
قضى نيكلسون وابنته لورا هذه الفترة في القاهرة، في درس الحوادث وتتبع ما يجول في نفوس المصريين من اضطراب وغضب، وفي أثناء هذه المدة دخل نابليون القاهرة واستقبله علماؤها وأعيانها بما يستقبل المغلوب الضعيف غالبه القوي الظافر، ونزل بيت محمد الألفي الكبير، وكان قد تم بناؤه وتأثيثه قبل الحملة بأيام، وأظهر البشر والمجاملة والعطف على المصريين، ورأى أن يجتذب إليه العلماء وكبار البلد، فألف منهم ديوانا للأحكام، وأغدق عليهم، مدعيا أنه يدع للأمة حكم نفسها بنفسها، ثم عين من قواده حكاما لأقاليم الوجه البحري، وترك «دوجا» يتعقب مراد بك بالصعيد، وكان نيكلسون يختلف في كل يوم إلى قهوة مجاورة للأزهر، ليلتقط الأحاديث، ويتعرف نفوس الشعب، فكان لا يسمع إلا سخطا على الفرنسيين، وسخرية من وعودهم، وحنقا على العلماء وعلى كل من يمد يدا لمعونتهم، وفي ذات يوم دخل القهوة حشد من طلاب الأزهر، يتقدمهم الشيخ إسماعيل البراوي، وهو عالم أزهري ضخم الجثة، عرف بالجرأة والسلاطة وبغض الفرنسيين، فما جلس الشيخ حتى صاح: أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة، أسمعتم الأخبار اليوم؟ إنها كارثة الكوارث، وقاصمة الظهر لهؤلاء الفرنسيين! لقد سمع بعض الناس اليوم من أحمد الزرو التاجر بوكالة الصابون، أن عمارة إنجليزية حطمت أسطول الفرنسيين بأبي قير في الثامن عشر من شهر صفر وقتلت قائده وكثيرا من بحارته، حتى لم يبق منه إلا أربع سفن صغيرة، فشمل الفرح كل مكان، وهبت رياح الثورة في كل إقليم، والآن ماذا بقي لهؤلاء الفرنسيين إلا أن نصيدهم كما تصاد الفيران؟
فقال أحد الحاضرين: إنني سمعت أن رئيسهم ذهب مع جيشه لمحاربة إبراهيم بك في الصالحية.
نامعلوم صفحہ
فقال الشيخ البراوي: لا بد أن يسرع إلى القاهرة، وإذا كان بالقاهرة رجال حقا يحبون دينهم ووطنهم، فإنه لن يبقى بها يوما أو بعض يوم.
فتهللت وجوه الحاضرين: وصاحوا: نحن معك يا شيخ إسماعيل، ولا بد من استئصال شأفة هؤلاء الغزاة.
وهنا أسرع نيكلسون ليبلغ لورا الخبر السار، وبعد أيام قدم نابليون من الغزو، فبهت حين ألقي إليه خبر دمار الأسطول، ثم عاد إلى جلده واستخفافه بالشدائد، وأراد أن يهون الكارثة على الجنود، فخطب في قواده خطبة حماسية جاء فيها: «إذا قضي علينا أن ننشئ مملكة في الشرق، فلننشئها أشداء فاتحين، وإذا فصلت البحار بيننا وبين بلادنا، فإنه ليس ثمة بحار بيننا وبين إفريقية وآسية، ولا نزال في عدد وعدة، وفي استطاعتنا أن نتخذ من أبناء هذه البلاد جنودا أقوياء، وفي استطاعة «شامبي» و«كونتيه» أن يمدانا بما شئنا من ذخائر وعدة، فلنكن عظماء، ولنعمل العظائم، ولنرفع رءوسنا، ولنصعد فوق الموجة، ولنهزأ بالزعازع، فقد يكون القدر قد كتب لنا أن نغير صحيفة الشرق، وأن نضم أسماءنا إلى أسماء عظماء الرجال الذين خلد التاريخ ذكراهم»، ثم أراد أن يظهر أمام المصريين بمظهر القوي الذي لا تنال منه الخطوب، فاحتفل بفتح الخليج احتفالا باهرا، ثم بالمولد النبوي، ثم بعيد الجمهورية الفرنسية.
الفصل السادس
وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق مقلة زبيدة وأخاها عليا الحمامي، ولم تمض ساعة حتى بلغا بيت السيد أحمد المحروقي، بالقرب من الفحامين، وكان المحروقي في ذلك الحين رئيس التجار، وكان عظيم الثروة والجاه، سخي الكف نهاضا بالأعباء، عالي الهمة، ذكي الفؤاد واسع الحيلة، ولما دخل الفرنسيون القاهرة فر مع إبراهيم بك، ولكنه عاد إليها واستطاع بدهائه وماله أن يجتذب إليه قلوب الفاتحين، وأن يستعبدهم بإحسانه وإغداقه.
مدت أمينة خالة زبيدة إليها ذراعيها في شوق وشغف، فطوقتها بهما وهي تقول: أهلا بزهرة رشيد الناضرة، التي لم تتحل بمثلها بساتين القاهرة، إن نسيم البحر الأبيض إذا تزاوج بنسيم النيل الهفاف، ولدا ذلك الجمال البارع الذي يتحدى ريشة كل رسام، فضحك السيد أحمد المحروقي وقال عابثا : إنها يا زبيدة امرأة لعوب فاحذريها، إنها تتخذ منك وسيلة لإطراء نفسها، والمباهاة بحسنها، ألم تري أنها بحركة لولبية سريعة حصرت الجمال كله في رشيد؟ فابتسمت أمينة ابتسامة خفيفة ونظرت في المرآة بحركة لا تحس، وقالت: هذا دأبك دائما، تسيء التأويل، وتوجه الكلام إلى غير وجهه، وهل لامرأة عجوز مثلي في السابعة والثلاثين - ثم لمحت المرآة ثانية - أن تتحدث عن جمالها؟ ولكني أعتقد أن رشيد وهي ميناء أقطار الشرق والغرب، توافد عليها النزلاء من كل صوب: بين تركي وجركسي وشامي ومغربي، وامتزجوا بأهلها وأصهروا فيهم، فأخرجوا نسلا قويا جميلا، إن السلالات البشرية تضعف وتتضاءل إذا لم تختلط بها العناصر والأجناس، وشتان بين الوردة يتيمة منعزلة، والوردة في طاقة تجمع فواتن الورود والأزهار! - دعينا من هذه الفلسفة أيتها العجوز الفاتنة، وحدثينا يا زبيدة عن رشيد وأحوالها، فقاطعته زوجه متعجلة واتجهت إلى زبيدة: لقد هدت رسالة أمك قواي حين قالت: إنك مريضة. ولكني لا أرى للمرض عليك أثرا، فما حقيقة الأمر؟ - لقد كنت مريضة أشد المرض، ولكن الطبيب «شوفور» وصف لي علاجا وأشار علي بالرحلة إلى القاهرة، فما كدت أقضي بالسفينة أياما حتى أحسست دبيب العافية. - حماك الله من كل مكروه يا حبيبتي، وكيف حال أمك وأبيك؟ - أما أمي فبخير، وأما أبي فإنه كثير الوجوم والحزن منذ دخول الفرنسيين.
وهنا قال المحروقي: أظنهم لا يظفرون بحب أهل رشيد. - لا أدري، لقد كنت مريضة عند دخولهم، وأظن أنهم لا يبلغون في الظلم مبلغ المماليك، وهنا دخل ابن خالتها محمد المحروقي، وكان فتى وسيما في التاسعة عشرة من عمره، فحيا زبيدة وجلس وهو يلقي إليها نظرات طويلة، فيها ذهول وفيها إعجاب، وفيها نهم الشباب، والتفتت أمينة إلى الفتى، ثم همست في أذن زوجها فهز رأسه وقال: نعم الفكرة نرجو الله أن يهيئ لنا الخير. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا بني، فقد آن أن نراجع دفاتر حساب اليوم.
وانفردت أمينة ببنت أختها كالمشغوفة الوالهة؛ لأنها أثارت في نفسها ذكريات عزيزة عندها، أثيرة لديها ، فقد شاهدت في زبيدة صورة شبابها الغض، الذي كان فتنة العيون، وشرك القلوب، وعادت بخيالها إلى الماضي منذ أكثر من عشرين عاما، فرأت نفسها في بيت أبيها بشارع البحر برشيد، وهي تنظر إلى النيل من خلال مشربية أدق الصانع صنعها، وكان النهار قد أخذ يولي؛ لأن شمس الأصيل ألقت بشعاعها على زجاج المنازل ذهبيا هادئ الوميض، ثم ترى نفسها وهي تتجه بعينيها إلى اليسار فترى أباها في طلاقته وبشاشته وجميل زيه، يحادث رجلا غريبا قد يكون تخطى الثلاثين، تظهر عليه دلائل النعمة والجاه، وهو إلى ذلك جميل القسمات حلو اللفتات، يصغي إلى الحديث ويبتسم، وربما زاد بين الكلام كلمة أو كلمتين، ليدل على العناية وحسن الإضغاء، ثم تتخيل نفسها وقد أسرعت دقات قلبها، ودبت في جسمها نشوة عجيبة لم تعرف لها كنها، ولم تدر لها تأويلا، وشعرت بحافز عنيف لا تستطيع صده، يدفعها إلى إطالة النظر إلى هذا الرجل الغريب وملء عينيها منه، فتنظر ثانية فترى أباها وقد دخل به إلى الدار، وتسمع حركة الخدم والجواري التي اعتادت أن تسمعها كلما زارهم ضيف عظيم، ثم ترى «زهرة» الجارية وهي تدخل على سيدتها لاهثة، بعد أن قطعت السلم وثبا وهي تقول: لقد بعث سيدي يخبرك بأن ضيفه الليلة السيد أحمد المحروقي أكبر تجار القاهرة وأعظمهم جاها، فيجب ألا يدخر جهد في أن يكون العشاء لائقا بمثله ومثل سيدي، ثم ترى الدار بمن فيها وقد نهضت نهضة واحدة لإعداد العشاء، وتستمر أمينة في هذه الذكريات ساهمة تقلب صفحة من كتاب خيالها وتنظر في أخرى، فتتراءى لها تلك الليلة التي باتت فيها على سريرها، وهي تفكر في الضيف، وتدهش لم تطيل فيه تفكيرها، وتحاول أن تختار من ماضيها صورة تمحو بها صورته، فإذا بها تعود إليه قوية شديدة، فتمحوا ما جهدت في تذكره من صور، ثم تنظر في صفحة ثالثة، فيتجلى لها ذلك الصباح المشرق الذي زاده انعكاس أشعته على النيل بريقا ولألاء، وقد دخلت عليها أمها باسمة مشرقة الوجه كالصباح، وهي تقول : مبارك يا أمينة ، لا تنسي أن تقرئي لنا الفاتحة في السيدة زينب، ثم تتخيل ما أصابها من الوجوم والذهول، وتذكر ما كان يهمس به قلبها وهي تبكي أمام أمها حين قالت لها: لقد عرفت كل شيء من النظرة الأولى أيتها الماكرة المتجاهلة، إنه الحب ... إنه الحب ... إن للحب إلهاما لا يكذب فلم توارين؟ ابكي كما شئت أمام أمك، فهذا دأبكن يا بنات حواء، تتخذن من البكاء لغة مبهمة لكل ما يجول في نفوسكن حتى لا تفهمن، وحتى تبقين سرا في البشرية غامضا.
تخيلت أمينة كل هذه الصور في ثوان، ثم اتجهت إلى زبيدة وقالت: علمت من أمك أن محمودا العسال يلح في زواجك وأنك تأبين، إن محمودا شاب تطمح إليه عيون الفتيات، ولكن للقلوب أسرارا لا تدرك، ولهواها سرائر لا تعلم، ولعل لك آمالا تسمو بك عن رشيد وأهلها، ولعلك تودين أن تكوني بالقاهرة كخالتك، جليسة نساء الأمراء والكبراء وأرباب الدولة، إنني أرحب بك يا زبيدة في هذه الدار سيدة مسيطرة، وأقصى أماني أن أراك زوجا لابني محمد، وهو شاب كريم الخلق، رفيع المنزلة، يمهد له أبوه السبيل من بعده، ويمد له أسباب الشهرة مدا، ألا تحبين أن أكون أما لك ثانية؟! إن شمسك في رشيد لا يتسع لها الأفق، أما هنا فستنفذ أشعتها بعيدة وضاءة، وسيتحدث كل بيت من بيوت الأمراء والأعيان، وكبار الفرنسيين أنفسهم عن زبيدة وجمال زبيدة.
أطرقت زبيدة وطال إطراقها، وجال بخاطرها سريعا أن العرض مقبول، وأن زواجها بابن المحروقي سيكون من ورائه الثروة والشهرة، والجاه العظيم ما في ذلك شك. ولكن أين هو من محمود العسال كيفما أطنبوا في وسامته وكريم خلقه؟! لا شيء. إن في محمود تلك الرجولة الخشنة التي تشتهيها كل فتاة، لتكمل بها ما في أنوثتها الناعمة من نقص، لا ... شتان ما بين الرجلين! ثم ما لها ولمحمود وغير محمود، إن للعرافة نبوءة يجب أن تتحقق، وهي واقعة لا محالة إذا أطالت لها عنان الصبر، فرفعت رأسها إلى خالتها وقالت: يجب يا خالتي أن ننسى الحديث في الزواج الآن، حتى تزول تلك الغمة التي أطبقت على مصر، وحتى نرى آخر سفينة وهي تحمل الفرنسيين إلى بلادهم، إن زواجي بابن خالتي شرف لا يناله مثلي، ولكن الزواج الآن أشبه بالضحك في المآتم، والرقص في بيت يحترق، فنظرت إليها أمينة نظرة الخبيرة الطبة بالنساء وخداعهن، ثم تنهدت وقالت: كثيرا ما يرغب الإنسان عن الثمرة الدانية ويأبى إلا أن يتسلق لغيرها! ومن يدري؟ ثم ضحكت وقالت: تعالي أيتها الفتاة المقدرة المدبرة فقد أعد الطعام.
نامعلوم صفحہ
مرت أيام فسافر علي الحمامي إلى رشيد، وبقيت زبيدة في بيت خالتها، تلاقي فيه صنوف الكرامة والعطف، وتزور بها خالتها سيدات القاهرة وكرائم أسرها، فزارت السيدة نفيسة المرادية زوج مراد بك ورأت في قصرها من الفخامة وأبهة الملك ما يقصر دونه البيان، وشاهدت في السيدة نفسها صورة بارزة للعظمة غير المتكلفة، التي لم يستطع زوال الملك أن يغض منها، وزارت بيت الشيخ خليل البكري، وهفت نفسها إلى زينب البكرية، التي كان لها من الجمال والإدلال وحسن الحديث وسحر الأنوثة، ما يفتن ويغري، فأحبتها وأكثرت من ازديارها.
وبينما هي جالسة ذات صباح مع خالتها إذا إحدى الخادمات تقول: إن سيدي محمودا العسال قد حضر وهو يصعد في السلم، فأسرعت زبيدة إلى شعرها تسويه، وإلى ثوبها تصلح من غضونه، وقد دق قلبها واحمر وجهها، ولمحتها خالتها فتنهدت، ثم دخل محمود مشرقا بساما، فحيا زبيدة وقبل يد خالته أمينة، التي أخذت تصب عليه وابلا من عبارات الترحيب ومختلف الأسئلة، فقص عليهما كل ما لديه من أخبار رشيد، وهنأ زبيدة بسلامتها، ثم اتجه إلى السيدة أمينة قائلا: لقد أدهشني اليوم أن أرى حوانيت المدينة مقفلة، وأن أرى الناس في الشوارع جماعات يتهامسون كأنما حزبهم أمر، أو حلت بهم كارثة. - لقد توالت عليهم المظالم يا محمود، وكانت قاصمة الظهر تلك الضريبة الأخيرة التي لم تترك فقيرا ولم تبق على غني، فالذي رأيته اليوم مظهر من مظاهر سخطهم، فإنهم إذا فدحهم ظلم أغلقوا متاجرهم والتجئوا إلى الأزهر يستغيثون برجاله.
فهز محمود رأسه في حزن وألم وقال: وبمن يستغيث رجال الأزهر يا ترى؟
ثم أحس أن المجلس طال به، فتحفز للانصراف، وودعته خالته وذهبت معه زبيدة خطوتين أو ثلاثا، فنظر إليها نظرة طويلة وقال: متى يا زبيدة؟ فأسرع إلى نجدتها عذرها التي خدعت به خالتها، فمست كتفه في رفق وقالت: حتى يخرج الفرنسيون يا محمود.
الفصل السابع
ذهب محمود إلى سوق المغاربة غاضبا آسفا، يفكر في هذا العذر الجديد الذي سدت به عليه زبيدة طريق الأمل، وسأل عن الحاج محمد السوسي فأرشد إلى دكانه، فرآه مغلقا، ثم سأل عن داره فوصفت له، فطرق بابها ففتحت له العجوز خائفة مرتابة، فقد تكرر في هذه الأيام تطفل الجند على المنازل. ولما سمعت لورا صوته كاد يجن جنونها ويضطرب ميزانها، وشعرت بنار مشتعلة تدب في أوصالها، وودت لو أنها قطعت السلم بوثبة واحدة، لتقع بين ذراعي حبيبها، وتغمر وجهه بالقبل، ولكنها كبحت جماحها جهد ما تستطيع، واستنجدت بالطبيعة الإنجليزية الرزينة، وقالت دون أن ينم صوتها عن شيء: أبي! إني أسمع صوت محمود العسال بالسلم. فنهض نيكلسون فرحا وصاح: أهلا بولدي، أية ريح سعيدة طوحت بك إلينا؟ لن أحس بعد اليوم ألم الغربة والنفي. ثم عانقه طويلا وشد على يديه في محبة وشوق وتقدمت إليه لورا تتكلف الابتسام وتجاهد عينيها ألا تهتكا لها سترا، وقالت في تلعثم: مرحبا يا محمود، إنك صورة من رشيد التي أحبها، فاليوم أراها كما هي ولا أشعر بلوعة نحو أهلها. ثم جلسوا إلى القهوة بعد أن أعدتها لورا، وبدأ نيكلسون الحديث فقال: كيف حال الفرنسيين في رشيد؟ فأجاب محمود وقد زاد سخطه عليهم وعزم على أن يبذل نفسه في مقاومتهم، بعد أن سمع من زبيدة اليوم أنهم الحائل بينه وبين التزوج بها: لقد أرسلوا إلينا بحاكم مضطرب الرأي، يلين مرة حتى تظنه ماء زلالا، ويقسو أخرى حتى تحسبه نار الجحيم، لم يف بوعد واحد من تلك الوعود التي ملأ بها خطبه وأحاديثه، والرشيديون في جمهرتهم لا يثقون به ولا يلقون إليه بقياد، وهم كتلة مخيفة من العصيان والتمرد، فقد فرض على الأهلين - ولم يكد يستقر في كرسي الحكم - ضريبة فادحة، قوبلت بثورة صاخبة وعصيان جامح، ولولا هذه المدافع الجديدة ما استقر لهؤلاء الغزاة أمر، وفي مساء يوم رأى أحد العلماء الذين قدموا مع الحملة - ويسمونه دينون - من برج أبي منظور العمارة الإنجليزية وهي تهجم على العمارة الفرنسية بأبي قير، وتصليها نارا حامية، وسمع أهل المدينة الضرب عنيفا متواصلا، وطارت إليهم الأخبار بأن الإنجليز دمروا جميع سفن الفرنسيين، فوثبوا من الفرح، وطاشت عقولهم، ومشوا في جماعات يصيحون ويهللون ويكبرون، ولم يستطع مينو أن يعمل شيئا فأغضى إغضاء الذئب الضغن الحقود. - حقا إنه كان نصرا مبينا يا محمود، فإن هذه الموقعة ستسد الطريق بين نابليون وبلاده، وستقضي على آماله في ضرب إنجلترا وإنشاء دولة شرقية فرنسية، وستشد من عضد المماليك الضعيفة بأوربا وتدفعها إلى محاربة فرنسا وتحديها. - لله الحمد والشكر: ثم قام أهل رشيد بثورة عنيفة، حينما وصلت السفينة التي تحمل السيد محمد كريم مصفدا ليشنق بالقاهرة. - إن هذا السيد بطل من أبطال التاريخ يا محمود، وكل جريمته عند الفرنسيين أنه جاهد في سبيل وطنه، وكتب سرا إلى مراد بك يدعوه إلى صدهم ومحاربتهم، ولقد علمت أنه لقي الموت شهما كريما، وأن الفرنسيين راودوه على أن يفتدي نفسه بثلاثين ألف ريال، فأبى في ازدراء وشمم، وأجاب فانتور كبير تراجمة الحملة وهو يلح عليه في قبول الفدية، ويلحف: «إذا كان مقدرا علي أن أموت فلن يعصمنى من الموت المال، وإذا كان في الكتاب أن أعيش كان بذل المال عبثا»، ثم ضرب بالرصاص في ميدان الرميلة فلقي ربه شهيدا، فلمعت عينا محمود وقال: إن البطولة لن تموت، وهذا معني قوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون . - هذا صحيح يا محمود، أعندكم هذا في كتابكم؟ - نعم، وكم في القرآن من أدب وتشريع وحكمة وهداية، ثم إن الذي يزيد في سروري ويبعث في نفسي نشوة الأمل، أن مينو قلق به مكانه في رشيد وأحس بالحرج، فقد قبض أحد العربان على رسول له إلى كليبر حاكم الإسكندرية، فرأى معه رسالة ترجمها لنا أورلندو، يلح فيها على كليبر في إمداده بالرجال؛ لأن حاميته لا تزيد على أربعمائة رجل، ويخبره فيها أن العرب يزعجونه ليلا ونهارا، وأن الأهلين يثورون عليه لأقل سبب، وأنهم استخفوا بسلطة الفرنسيين بعد نكبة أسطولهم، ثم يقول: لقد تحرج مقامي هنا، فإنني ما جئت من فرنسا لأدفن في هذه المدينة، أو لأقوم فيها بجمع الضرائب. - سمعنا أنه أحرق قرية السالمية. - نعم، فقد قتل بعض رجالها ثمانية من جنده، فأمر بقتل كل من يحمل السلاح فيها، وصادر جميع ما بها من الماشية، ثم أضرم النيران في القرية. - هذا أمر له ما بعده يا بني، وسيف الظلم مفلول دائما، هلم لنشهد اليوم اجتماع الناس بالأزهر، فقد أخبرني الشيخ إسماعيل البراوي أن مرجل الثورة يغلي بالقاهرة، من أجل هذه الضريبة الجديدة الفادحة، التي ستأتي على كل ما بقي عند الناس من صامت وناطق.
ثم سارا صوب الجامع الأزهر فسمعا المؤذنين وهم يؤذنون لصلاة الظهر، ويتبعون أذانهم بدعوة ملتهبة إلى الثورة والجهاد، فدخلا المسجد فإذا هو يدوي بمن فيه من الحشد العظيم، وقد ارتفعت أصوات الغضب، وبسرت الوجوه، وأخذ كل شخص يتكلم ويسمع في آن، وجلس إلى جانب القبلة الشيخ السادات، والمشايخ: يوسف المصيلحي، وإسماعيل البراوي، وعبد الوهاب الشبراوي، وسليمان الجوسقي، وأحمد الشرقاوي، وهم مساعير الثورة ومؤججوها، ثم وقف الشيخ يوسف المصيلحي، وكان ذرب اللسان ملتهب الوطنية قوي التأثير وقال: «يظن الفرنسيون أن مصر أقفرت من الرجال، وانحلت فيها العزائم وكلت الهمم، وأنها شعب من نساء لا يميز فيه الرجل من المرأة إلا عمامة ولحية، وأن أهلها قطيع من الغنم نام عنه رعاته وتركوه نهبا للذئاب، وهم يتندرون في مجالس مجونهم وعلى كئوس شرابهم، بجبن المصري وهلعه من السيف والمدفع، وأنه إذا رأى جنديا فرنسيا في الطريق أقعى له في ذلة وخنوع كما يقعي الكلب، فهل هذا صحيح ؟».
فهزت أصوات جوانب المسجد صائحة في غيظ وغضب!
كلا. كلا. - «نعم، كلا، وكذب ما يظنون، فإنني أرى في هذه الوجوه غضبة الأسود لعرينها، وحمية الشجاع الباسل لعرضه ودينه، أنتم أبناء الفاتحين، ولأجدادكم سجل من المجد والجهاد لا ينقصه إلا أن تنقشوا تحته أسماءكم بسلاحكم، فهلموا إلى المجد والشرف هلموا، هلموا إلى الجنة والشهادة هلموا، فلا نامت أعين الجبناء، ولا هدأت قلوب المعوقين والمنافقين! لقد طال بكم أمد الصبر فماذا بقي لكم أن تصبروا عليه؟ لقد ألزموكم حمل شارة الفرنسيين، وافتنوا في فرض الضرائب، وهدموا أبواب الحارات حتى لا يعوقهم عن الهجوم عليكم في ظلمة الليل عائق، هل نحن أمة محمدية؟ هل نحن أمة جعل الله الجهاد في مقدمة فروضها؟ أيها الشجعان البسلاء: ثوروا لكرامتكم ثوروا لوطنكم، ثم ثوروا لتاريخكم»! وهنا انفجرت حماسة محمود العسال ونفدت طاقته العصبية فصاح: كفى كفى بالله عليك يا مولانا، فلن ترى منا مصر بعد اليوم إلا رجالا أرواحهم في أسنة رماحهم، ثم اتجه إلى الناس ونادى: هلموا معي إلى الجهاد، فرددت الجموع الزاخرة صوته: إلى الجهاد! إلى الجهاد! وتزاحموا إلى أبواب الجامع يتقدمهم محمود ووراءه نيكلسون، وما كان يشك من رأى هذه الأمواج المتدفقة من الناس في أن أيام الفرنسيين بمصر أصبحت تعد على أصابع اليدين.
نامعلوم صفحہ
اشتعلت الثورة بالقاهرة وتقدم محمود الثوار، فأخذوا سمتهم إلى مخافر الجنود الفرنسية فقبضوا عليهم، وازدحمت بالناس شوارع الموسكي والغورية والنحاسين وغيرها، وجاء الجنرال «ديبوي» حاكم القاهرة ليصد الثوار مع طائفة من فرسانه، فأطبقوا عليه، وأصابه أحدهم بطعنة من رمحه فخر صريعا مجدلا، فزادت بذلك حميتهم، وتكاثر عددهم بمن انضم إليهم من أرباض القاهرة، واستولوا على المواقع الحصينة: كباب الفتوح، وباب النصر، والبرقية، وباب زويلة، وباب الشعرية وأخذوا يحفرون الخنادق وينشئون الحصون، ويطلقون منها النار على الفرنسيين.
وأدرك الفرنسيون الخطر المحدق بهم، فجمعوا جموعهم وعزموا على استئصال الثورة بالحديد والنار، وقضى أهل القاهرة الليل في تأهب وإصرار، وكان محمود يمر على من بالخنادق والمتارس حافزا للعزائم، مثيرا للهمم، حتى إذا بزغت شمس اليوم الثاني كان الفرنسيون قد احتلوا جميع المرتفعات خارج المدينة، ونقلوا إليها مدافعهم وذخيرتهم، فأرسلوا منها القذائف متتالية مرهبة على نواحي الأزهر والصنادقية، والغورية والفحامين، حتى أوشك الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب وأن يسقط على الجماهير الحاشدة به، وصارت الأحياء المجاورة صورة من الخراب والدمار، فتهدمت البيوت، ومات تحت أنقاضها آلاف من السكان البائسين، وطال الهول واشتد، وبددت قذائف المدافع قوة العزائم، ويئست الحماسة الوطنية من أن تقاوم جهنميات العلم الحديث، وعجز الإيمان الأعزل أن يقف أمام الطغيان المسلح، فسقط في أيدي المصريين ودارت عليهم الدائرة، واستشفعوا بالمشايخ عند نابليون أن يرفع عنهم سخطه وغضبه، ولكنه بعد أن أسكت عنهم أصوات المدافع أطلق جنوده تعيث في القاهرة كما تشاء، وتتحكم في الناس كما تشاء، فدخلوا الأزهر بخيولهم وعبثوا بما فيه من كتب وخزائن.
إن نابليون كسب المعركة وقضى على الثورة، ولكنه قضى معها على كل أمل له في اجتذاب المصريين، وعلى كل عاطفة تنبض بها قلوبهم.
وخرج محمود من الثورة كالسيف المحطم: تحطم جسمه، وتحطمت روحه، وتحطمت آماله، فأسرع إلى بيت ابن عمه يائسا حزينا، وانطلقت شياطين الجواسيس من عقالها تقبض على كل من كان له ضلع في الثورة، واعتنقت آلة الإعدام كل من حامت حوله شبهة فقضت عليه، ومل الفرنسيون تكلفهم المودة للمصريين فصارحوهم العداء ومشوا لهم الضراء، وعرف المصريون بعد هذه الكارثة أن الخطب والمؤامرات شيء، والسيف والمدفع شيء آخر.
وذهب نيكلسون إلى بيته يحمل لابنته لورا حوادث الثورة، وما رآه من جرأة محمود وبطولته، وقذفه بنفسه بين براثن الموت، ثم زفر وقال: لقد كان بطلا حقا، ولكن ماذا تفعل العصا أمام السيف الحسام؟ - لقد كنت أتوجس خيفة عليكما، وكلما سقطت القذائف من القلعة وقمم المقطم، كنت أدخل تحت السرير فأسجد وأصلي لكما، أهو بخير يا أبي؟ - بخير وعافية، ولكن شعوره بالهزيمة يكاد يقضي عليه. - هذه طبيعة الشرقيين، فمتى يعرفون أن الهزيمة دائما أول حافز إلى الظفر؟ أتصدق يا أبي أني مسرورة بنتائج هذه الثورة ، إنها لم تنجح في مرآى العين، ولكنني أعتقد أنها بلغت غاية النجاح، وأن الفرنسيين لن يتم لهم أمر بعدها في مصر؛ لأنك إذا وضعت هذه الثورة إلى جانب تحطيم نلسون لأسطولهم، رأيتهم في مصر كأنهم في بيت يحترق، وقد حرموا كل وسائل النجاة.
وتوالت الأيام، وخرج محمود من مخبئه، وأكثر من زيارة نيكلسون، ورأى من لورا عطفا سحريا شفى مريض نفسه، وبعث فيها أملا جديدا، فحديثها حلو، وخلقها كريم، ومعدنها ذهب نضار، ثم هو إذا رفع إليها عينه رأى الجمال الهادئ المطمئن، الذي لم يحاول مرة أن يكون جميلا فبز كل صنوف الجمال، كان ينصت إليها فيسمع أدبا وحكمة، ويتعلم كثيرا عن الدنيا وأحوالها، والدول وسياساتها، وكانت تنظر إليه نظرة حنانة حالمة، فتلتقي بها نظرته فيحس بأريحية يكاد ينتفض لها جسمه، سمه ميلا، أو سمه حبا أخويا، أو سمه ما شئت فإنه شيء لذيذ وكفى، أكثر محمود من زيارة لورا واصطحبها لزيارة زبيدة كثيرا، وكانت زبيدة تسر بلورا وتأنس بها، حتى لقد كانت تلزمها البقاء معها ببيت خالتها أياما.
وفي صبيحة يوم قدم السيد علي الحمامي من رشيد، وأخبر زبيدة بأن أمها في شوق إليها، وأنها مريضة منذ حين، وأنها ألحت عليه أن يسافر إلى القاهرة ليعود بها، فلم تجد زبيدة بدا من السفر، فنزلت في سفينة إلى رشيد، فودعها محمود العسال ولورا بين الزفرات والتنهدات، ومال محمود على أذنها، فأجابته في ضحكة متكلفة: لم يبق إلا القليل.
الفصل الثامن
جلس مينو في صدر إيوان بيته في رشيد تحفه تلك العظمة الحبيبة إلى نفسه، والأبهة التي تميل إليها غرائزه، والجنود والديدبانات الفرنسية تحيط بأسوار الدار شاكي السلاح، في أزهى ملابسهم وأروع ما به يظهرون، والخدم والأغوات يذهبون ويجيئون في اهتمام وخشية، يدلان على جلالة شأو المخدوم وشدة صرامته، واحتفاله بصغائر الأمور، جلس مينو في صدر الإيوان جلسة الأمير المدلل، الذي يشعر أن الدنيا في يده، والخلائق طوع أمره، والقضاء والقدر من جنده، وقد قوى عنده هذا الخيال ما كان يراه في حاشيته من رءوس خاضعة، وظهور منحنية، وتسليم وإعجاب بكل ما يقول، كأنه وحي من السماء، وكان في مجلسه ذلك اليوم الجنرال «مارمون» و«دينون» الأديب الكاتب الفرنسي، و«دولوميو» الرسام، وهما من أعضاء لجنة العلوم والفنون، والطبيب «شوفور».
بدأ مينو الحديث في شيء من التضجر والسأم عما يحيط برشيد من الثورات التي لا ينطفئ أوارها، ثم هز كتفيه وقال: عجيب أمر هذه الثورات، إنها مع حقارتها وهوان خطرها، تشغل منا وقتا كان أولى بنا أن نصرفه في عظائم الأمور.
نامعلوم صفحہ
فهز «مارمون» رأسه وقال: إننا نكاد نكون قد أخطأنا الطريق في سياسة هؤلاء المصريين، وقد كان عدد الجنود الذين فتحنا بهم مصر يمكن أن يكفي، لو أن الطريق بيننا وبين فرنسا بقيت مفتوحة آمنة، أما الآن، فقد اضطررنا إلى تشتيت هذه القوة الصغيرة في الصعيد لمحاربة مراد بك، ثم في جميع أنحاء مصر السفلى؛ لأن الثورات لا تكاد تنقطع فيها، وبذلك تمزق الجيش وقتل من الجنود عدد عظيم.
وهنا قال دينون: ومن العجيب أن يترك نابليون هذا الأتون الملتهب بالثورة والعصيان، ويقتطع من هذا الجيش الضئيل ثلاثة عشر ألف جندي مع كبار قوادهم، ليذهب لغزو سورية! كأن مصر قد استقر بها كل شيء، واستقام بها كل شيء، واستقام بها كل أمر.
فنظر مينو إلى دينون نظرة المغضب وقال: أنت لا تعرف نابليون: إن سر عبقريته إنما هي في تحدي الأقدار والسخرية من الكوارث، إنه ليس رجلا مثلك أيها الفنان الأديب، إن العقول تستطيع أن تعلل الأشياء في مدى محدود، أما أعمال العباقرة ففوق منال العقول.
وهنا أطرق مارمون وقال: إن المقامر قد يلقي بما بقي له من مال ليكسب الدست، فقال مينو: لا يا مارمون، إن المقامر ليست له بصيرة نابليون التي تكشف الغيب، ثم إنكم تبالغون في شأن هذه الثورات، ولو كنت على رأس خمسمائة جندي لأطفأتها جميعا، ولكن هذه الدنيا تعطي السيف دائما لصاحب المحراث! ثم زفر وقال: عجيب ألا يختارني نابليون وكيلا له بالقاهرة بدل «دوجا» ولكن يظهر أن حماية الثغر أهم وأعظم.
فأجاب دولوميو: من غير شك.
ثم انصرف القوم عدا الطبيب شوفور، وبقي مينو مطرقا، وطال إطراقه، فقال شوفور: إن سيدي يكثر التفكير ويبدو عليه القلق، وقد لحظت منذ أيام أن صحته ليست على ما أحب له.
فرفع مينو رأسه وقال: إنني أعيش هنا يا شوفور عيشة الأسير، وهذا الجو المحدود أضيق من أن يتسع لآمالي، وكلما أطلت التفكير في أمري برح بي الحزن واشتملني عارض يشبه الخيال، إنني خلقت للعظمة والمرح، أما العظمة: فقد لقيتها هنا في صورة ضئيلة لا تكاد تتعدى حدود رشيد، ولو أنني ملكت فرنسا كلها ما قنعت بها نفسي، وأما المرح: فقد تركت ورائي منه في باريس ما لا يمكن أن يعود. - لا بد للنفس الكبيرة والعقل الدائب المفكر من المرح واللهو، ولو لم يغسل عبث الليل ولهوه آلام كدح النهار وكده، لتبلد العقل وقتله الإعياء. - وأين منا السبيل إلى اللهو في مدينة نصفها مساجد، ولأهلها عيشة الرهبان والراهبات في الصوامع؟ - السبيل الزواج يا مولاي. - الزواج؟ وهل لرجل مثلي من أعرق الأسر الشريفة بفرنسا، أن يتزوج بفتاة إفريقية شوهاء، ليس لها قدم في المجد، ولا لآبائها ذكر في التاريخ؟! - أما الفتاة الإفريقية الشوهاء فلا وجود لها في رشيد، إن بهذه الدور التي يمر بها مولاي فوق جواده لآلئ بشرية لم تقذف بمثلها كنوز البحار، وإن فيها من الجمال النادر ما يعجز عن تحديه أفخم القصور بباريس وفلورنسا وروما، إن الحسن الرشيدي يا مولاي صورة في هذه الأرض لجمال الجنة وما فيها من نعيم، ورب فتاة ملففة مختبلة في ملاءتها، لو أسفرت لفضحت جميع ما تخيله روفائيل من فنون الجمال، أنا طبيب يا سيدي وتقتضيني صناعتي أن أرى الوجوه، وقد رأيت من حسنها هنا ما زهدني فيما بالغ فيه الشعراء وأبدع فيه المثالون، وأما الشرف: فإن في رشيد منه ما في فرنسا، إن الشرف هنا لا يكون بالانتماء إلى بطل، وإنما يكون باتصال النسب بالنبي الكريم، وهذا خير ضروب الشرف والنبل . - في رشيد من الأسر من ينتمي إلى النبي محمد؟ - كثيرا جدا؛ لأن أهلها من قريش نزحوا إلى رشيد بعد فتح العرب بقليل، ولكننا نريد شيئين: الشرف والجمال، وهذان لا يجتمعان في رأيي إلا في أسرتين: أسرة الشيخ الجارم، وأسرة السيد محمد البواب فاتجه إليه مينو في شغف وقد أعجبه الحديث وقال: حدثني عنهما يا شوفور حدثني ... - أما رقية وآمنة بنتا الشيخ إبراهيم الجارم: فجمالهما فوق وصف الواصف، وأما زبيدة بنت السيد محمد البواب فإنها في الحق ساحرة فاتنة.
فجحظت عينا مينو وقال: هذا بديع جدا، ولكن ماذا أفعل بخليلاتي اللاتي يخطئهن العد بفرنسا وإيطاليا، إن أظافرهن لن تقنع بتمزيق جلدي! - وأين هن منك اليوم وبينك وبينهن المهامه الفيح والبحار الخضر؟ إن الفرنسيين سيؤسسون بمصر مملكة شرقية واسعة الأطراف، وسيكون لك فيها الشأن الأول والملك العظيم. - هذا ما تحدثني به نفسي، وإذا لا بد من الزواج، وبمن أتزوج؟ سأختار بنت الشيخ الجارم؛ لأنه فوق شرفه النبوي من أكبر علماء المدينة. - غير أن في الأمر عقبة يجب أن تذلل، تلك أن الإسلام يحظر تزوج المسيحي بمسلمة. - ألست مسلما؟ ألم يشهدني أهل رشيد في مسجد المحلي وأنا أقوم وأقعد حتى كدت ألهث من التعب في صلاة التراويح؟ - أظن أن هذا لا يكفي، فإن عقد الزواج في مثل هذه الحال يجب أن تسبقه وثيقة مسجلة بالإسلام، على أننا نستطيع أن نسأل مفتي المدينة في هذا الأمر.
فوثب مينو يصفق بيديه يدعو مملوكه الخاص «إينال» فلما مثل بين يديه، أمره أن يدعو إليه الشيخ أحمد الخضري.
حضر الشيخ الخضري بعد قليل، وهو خائف يرتعد لهذه الدعوة التي فاجأته في جوف الليل، وأخذت شفتاه تتمتمان بالأدعية وضروب الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، فسلم على الجنرال، وجلس بعد أن جمع ثيابه وتكور في عباءته كأنه صوان ضخم للثياب، وبعد أن هدأت نفسه قليلا اتجه إليه مينو سائلا: ما قول مولانا المفتي في مسيحي أسلم، أيجوز أن يتزوج بمسلمة؟ - نعم يجوز شرعا إذا ثبت إسلامه لدى مسجل العقود بالطرق الشرعية . - وما الطرق الشرعية ؟
نامعلوم صفحہ
الإقرار والبينة، وأقوم السبل أن يقدم هذا الرجل إلى المسجل وثيقة شرعية بإسلامه. - إننا في فرنسا لا نتشدد هذا التشدد، فالناس أحرار في عقائدهم وتصرفاتهم. - إن الإسلام أيها الجنرال يدعو إلى الحرية، ولكنه يحيطها بسياج حتى لا يضر بعض الناس بعضا بتصرفاتهم، والله جل شأنه يقول في كتابه الكريم:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . - هذه حكمة يجب أن تكون أساسا لجميع القوانين، لقد أفدتنا كثيرا يا مولانا، وقد دعوتكم لأن جدلا قام بيني وبين شوفور فيما سألتك عنه، يا إينال مر بعض الجند أن يكون في خدمة الشيخ حتى يصل إلى داره.
مضى بعد ذلك يومان قضاهما مينو في التفكير وتقليب وجوه الرأي، وذهب في أثنائهما الشيخ الخضري إلى الشيخ إبراهيم الجارم ليقضي السهرة بداره على عادته، وجاء ذكر الفرنسيين وأعاجيب أفعالهم، كما كان يجيء في كل ليلة، فقال الشيخ الحضري: دعاني الجنرال ليلة أمس بعد أن ذهبت إلى فراشي، فلما كنت عنده سألني سؤالا عجيبا، فقال الشيخ الجارم: عن أي شيء سألك؟ - سألني عن صحة زواج المسيحي الذي أعلن إسلامه بمسلمة. - ما شأنه بهذا؟ - لا أدري يا شيخ إبراهيم.
فأحس الشيخ الجارم - وكان بعيد النظر نافذ البصيرة - أن وراء هذا السؤال داهية دهماء، توشك أن تسقط على المدينة، ودفعته غريزة الحذر أن يكتم عن الشيخ اهتمامه فقال: إن هذا الرجل أخطأته عمامة الفلاسفة، وقد خرف القدر فسماه جنرالا، ولعل اهتمامه بسؤالك عن الزواج وغيره خطرات من وساوسة التي لا يفيق منها.
وانقضت السهرة وودع الشيخ ضيفه، وجلس واجما وقد حمل رأسه براحتيه، وتواردت عليه الأفكار والهواجس، وأخذ يحدث نفسه: هذا المينو يريد أن يتزوج ما في ذلك من شك، ثم هو يريد أن يتزوج بمسلمة، وهذا بديهي أيضا، وما شأني أنا بهذا؟ فليتزوج فلن أستطيع دفعه! ولكنها مصيبة ستحل بأسرة في رشيد، وبأي الأسر تنزل؟ بأكبر الأسر وأرفعهن شأنا، لقد قرب الخطر مني، وأخذت النار تمتد إلى ثيابي، إن لي بنتين فيا للكارثة ! كيف أدفع هذا العار عني، إن كلمة «لا» أصبحت في عرف الفرنسيين لا تفيد النفي، وإذا استطاع شجاع أن يقولها فلن تكون نهايته إلا الذل والدمار، إن هذا الجنرال سيظن أن زواجه بأكرم بنت في المدينة تنزل منه وتواضع، وشرف عظيم وتفضل واسع على من يصاهره، فالويل كل الويل لمن يرد هذا الشرف المزعوم في وجهه، أو تبدو منه أية رغبة عن هذا الفضل العظيم! أليس من مفر؟ أليس من حيلة؟ ليتني زوجتهما منذ حين، وليتني لم أذد عنهما الخطاب كما يذود حارس البستان الطيور عن ثمره! إنني واثق أن إسلام الجنرال رياء، ولو كان مسلما حقا، وأخلاقه أخلاقه التي أعرفها، ما رضيته زوجا لأية فتاة تتصل بي من بعد أو من قرب، لا، لا، لا، إن هذا لن يكون، ثم رفع رأسه وبدا في عينه بريق الظفر، وهدأت نفسه هدوء من يهتدي إلى حل أمر عسير، فنادى بخادمه وقال: اذهب الآن مسرعا وادع إلي الشيخ عثمان شبايك، والشيخ حسنا أبا السعود، أتعرفهما؟ إنهما الطالبان اللذان يجيئان هنا في عصر كل يوم لتلقي الدروس، واذهب بعد أن تدعوهما إلى بيت الشيخ محمد غرا، واطلب منه أن يعجل إلي.
وأقبل الطالبان بعد قليل فحياهما الشيخ وقال: إنما دعوتكما في هذه الساعة لأعرض عليكما زواج بنتي، فقد أدركني الهرم وخشيت إن أنا مت أن يزوجهما أخوهما من غير العلماء، وقد تعجبان من هذا العرض المفاجئ، ولكن لو علمتما ما أحاط بي من الوساوس والهموم لزال عجبكما، فنظر الطالبان إليه في ذهول، وقال أولهما: هذا شرف كبير يا مولانا يطير اللب ويثير العجب، وإنما نحن خادماك اللذان يتنافسان في حمل نعليك، فإذا تفضلت علينا بهذه الكرامة، فليس لنا إلا أن نشعر بأن ما أصبناه من خير إنما هو بركة من بركاتك، ونفحة من نفحاتك، ثم انقضا على يديه لثما وتقبيلا، وهنا دخل الشيخ محمد غرا، فطلب منه الشيخ أن يدون عقدي زواج؛ لأنه زوج الشيخ شبايك برقية بنته، والشيخ أبا السعود بآمنة، فانزعج الشيخ غرا وشرع يتلعثم، ولكن الشيخ صوب إليه عينين غاضبتين، فاستل قلمه وكتب.
وفي بكرة النهار أقبل أعوان مينو يتواثبون إلى دار الشيخ الجارم حتى ملئوا رحبتها، وهم يتعجلونه إلى مقابلة الجنرال، فخلل الشيخ لحيته بأصابعه - وقد كانت تلك عادته إذا أحس بظفر أو كتم شماتة في عدو - ثم وجد نفسه وهو ينشد:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الأصابع!
وركب الشيخ بغلته وسار معهم وهو يردد في همس خافت استغاثته التي أغرم بترديدها:
نامعلوم صفحہ