لست معك يا صاحبي فيما قدرت، ولعلي كنت أقدر معك هذا التقدير لو أنني نشأت في أسوان أحب الظلال، وأكره سطوة النور وأحسبه من قضاء الله الذي يطاق، ولو في بعض المواسم الساعات.
في حجرة المكتبة.
ولكنني - على ما رأيت - أستطيع أن أقول لك: بل إنني لأحب النور على الرغم من النشأة في أسوان، وإنني أحبه حين أنظره وأحبه حين أنظر به، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصر، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصيرة؛ لأنني أحسبه سر الأسرار، أو أحسبه سبيل الهداية إلى سر الأسرار أوشكت أن أؤمن بهذا الحسبان كل الإيمان.
قال صاحبي: ما أعجب أن يكون أظهر الأشياء هو أخفى الأشياء!
قلت: يا صاحبي لا عجب أن يكون أظهر الأشياء هو المظهر للخفاء في كل معانيه، ولا أحسب أن حجابا من الحجب الكونية سيرتفع في مجال العلم، أو مجال الحكمة من طريق غير طريق النور، مهما يطل الزمان.
وكنا نتحدث في المكتبة، فتناولت بعض الكتب التي تبحث في الروح والمادة، وقلت لصاحبي: أعرفت حجة السياسي الفيلسوف «أرثر بلفور» في نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح؟ إنه يقول: إن الروح لن تؤثر في الأجساد إلا بجسد مثلها، فكيف يكون هذا التأثير؟ إن الروح تخالف الجسم في تكوينه، فكيف تعمل فيه عملها! وما هي الأداة الجسدية التي تتلقى عنها دوافعها! فإما أنهما شيئان منفصلان فلا تتأتى بينهما صلة على وجه من الوجوه، وإما أنهما شيئان متشابهان فلا اختلاف إذن بين تكوين الأرواح ، وتكوين الأجساد!
قال صاحبي: إخاله قوي الحجة في مقاله.
قلت: وكذلك إخاله، ولكننا إذا شككنا في أحد العنصرين عنصر المادة وعنصر الروح - فأيهما أولى بالشك فيما تراه؟
قال: على كل حال لا أستطيع الشك في المادة، وهي تحيط بي وتصدني وتصدمني، إذا أنا غالطت نفسي فيها.
قلت: بل في المادة تستطيع أن تشك وتفرط في الشك، قبل أن تواتيك دواعي الشك في عالم الروح.
نامعلوم صفحہ