في بيتي
في بيتي
في بيتي
في بيتي
تأليف
عباس محمود العقاد
«في بيته»، نظرة إلى تمثالين للبومة التي كان العقاد يتحدي عن طريقها التشاؤم.
في بيتي
قلت لك يا صاحبي: إنني أحب مدينة الشمس؛ لأنني أحب النور.
أحبه صافيا وأحبه مزيجا، وأحبه مجتمعا وأحبه موزعا، وأحبه مخزونا كما يخزن في الجواهر، وأحبه مباحا كما يباح إلى العيون على الأزاهر، وأحبه في العيون وأحبه من العيون وأحبه إلى العيون.
نامعلوم صفحہ
ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني أفتحها فلا أرى منها إلا النور والفضاء.
والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.
وكيف يكون فضاء، ما يملأ العينين، ويملأ الروح ويصل الأرض بالسماء؟
قلت لك يا صاحبي: إنني أحببت النور، فسكنت في مدينة النور!
وأود أن تفهمني حين أقول لك: إنني أحب النور.
فإنني لا أحبه لأنه يريني الدنيا وما فيها، أو لأنه هو واسطة الرؤية وأداتها، ولكنني أحبه لأراه ولو لم أر شيئا من الأشياء.
وقديما كنت أقول: إن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنما هي تسبح فيه وتطفو عليه. «في حجرة المكتبة» العقاد في جلسة أمام قسم الأدب الإنجليزي في بيته.
وكنت أقول:
النور سر الحياة
النور سر النجاة
نامعلوم صفحہ
ألمحه بالروح لا
لمح العيون الخواة
ما تبصر العين من
معناه إلا أداة
وكنت أحسبه «روحانية» ترى العين و...
أرى الأرض روحانية في جمالها
وإلا فما بال النفوس بها تسمو
إذا فاض منها النور هزت قلوبنا
سعادة روح ليس يعرفها الجسم
ولو أنها من لذة الحس عفتها
نامعلوم صفحہ
كما قد يعاف اللمح والسمع والشم
كرهت من الدهر الكثير ولم يزل
بقلبي من شمس النهار هوى جم
ترى كل يوم وهي عندي كأنها
غريب عرا لم يدر وصف له واسم
عجبت لأرض تخطر الشمس فوقها
وتشرق فيها، كيف يطرقها الغم
فلا أتكلم بالمجاز حين أقول لك يا صاحبي: إنني أراه من عالم الروحانيات، وإنني أشبع منه الروح والعين ولا أشبع منه العين وكفى، وإنه شيء يرى ويرى ويرى ولا تمل رؤيته ولا يشبع من النظر إليه، وليس هو الشيء الذي غاية ما يكفيك منه أنه يريك الأشياء.
قال صاحبي: هذا من عمل النشأة الأولى، هذا من عمل أسوان! قلت: أوتظن ذلك؟ ولم لا تظن أن النشأة الأولى تزهدنا فيما هو مبذول لدينا، بل فيما هو مسلط علينا؟
هل رأيت شاعرا من شعراء الصحراء يتغنى بالشمس المجيدة، أو الشمس الفاخرة أو الشمس الباهرة كما يتغنى بها أبناء الفيوم أو أبناء الشمال؟
نامعلوم صفحہ
لست معك يا صاحبي فيما قدرت، ولعلي كنت أقدر معك هذا التقدير لو أنني نشأت في أسوان أحب الظلال، وأكره سطوة النور وأحسبه من قضاء الله الذي يطاق، ولو في بعض المواسم الساعات.
في حجرة المكتبة.
ولكنني - على ما رأيت - أستطيع أن أقول لك: بل إنني لأحب النور على الرغم من النشأة في أسوان، وإنني أحبه حين أنظره وأحبه حين أنظر به، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصر، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصيرة؛ لأنني أحسبه سر الأسرار، أو أحسبه سبيل الهداية إلى سر الأسرار أوشكت أن أؤمن بهذا الحسبان كل الإيمان.
قال صاحبي: ما أعجب أن يكون أظهر الأشياء هو أخفى الأشياء!
قلت: يا صاحبي لا عجب أن يكون أظهر الأشياء هو المظهر للخفاء في كل معانيه، ولا أحسب أن حجابا من الحجب الكونية سيرتفع في مجال العلم، أو مجال الحكمة من طريق غير طريق النور، مهما يطل الزمان.
وكنا نتحدث في المكتبة، فتناولت بعض الكتب التي تبحث في الروح والمادة، وقلت لصاحبي: أعرفت حجة السياسي الفيلسوف «أرثر بلفور» في نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح؟ إنه يقول: إن الروح لن تؤثر في الأجساد إلا بجسد مثلها، فكيف يكون هذا التأثير؟ إن الروح تخالف الجسم في تكوينه، فكيف تعمل فيه عملها! وما هي الأداة الجسدية التي تتلقى عنها دوافعها! فإما أنهما شيئان منفصلان فلا تتأتى بينهما صلة على وجه من الوجوه، وإما أنهما شيئان متشابهان فلا اختلاف إذن بين تكوين الأرواح ، وتكوين الأجساد!
قال صاحبي: إخاله قوي الحجة في مقاله.
قلت: وكذلك إخاله، ولكننا إذا شككنا في أحد العنصرين عنصر المادة وعنصر الروح - فأيهما أولى بالشك فيما تراه؟
قال: على كل حال لا أستطيع الشك في المادة، وهي تحيط بي وتصدني وتصدمني، إذا أنا غالطت نفسي فيها.
قلت: بل في المادة تستطيع أن تشك وتفرط في الشك، قبل أن تواتيك دواعي الشك في عالم الروح.
نامعلوم صفحہ
وإنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك، إذ وضعوهما موضع النقيضين، وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها، وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها.
فهل المادة كذلك؟
هل هذه الكثافة التي تصدمها بقدمك، وتضربها بيدك هي الحقيقة التي لا تستطيع إنكارها؟
أقول لك: كلا، إنك حين تضرب الأرض بقدمك، فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء، إنما تصدم شيئا غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار، فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى، فتصدم الحواس.
هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في أطوائها. وإن شئت مصداقا لذلك، فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف، ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة، فهل تقف عندها؟ كلا، إنها لا تقف عندها بل تعبرها كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء.
أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية، فادفع الماء بقوة من بعض العيون؛ إنك إذن لتضربه بالسيف القاطع فلا يمضي فيه ويرتد إليك، وادفع الهواء بقوة من بعض الفوهات؛ إنك إذن لا تثبت أمامه على قدميك.
فليست الكثافة المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها، بل القوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة، وفي كل مادة ملموسة ومحسوسة.
قال صاحبي: مهلا، مهلا، وأين هذا من النور؟ وأين هذا من سر الأسرار؟
قلت: صبرا يا صاح، إن كل جسم من الأجسام يتألف من الذرات، وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب، ثم من الحركة أو من طاقة الإشعاع والنور، تملصت كثافة المادة كلها ووصلنا إلى الشعاع والإشعاع؛ وصلنا إلى النور، واقتربنا ولا نزال نقترب كثيرا من عالم الحركة التي لا كثافة فيها، وابتعدنا ولا نزال نبتعد كثيرا من عالم الكثافة التي لا حركة فيها، إننا هبطنا بالكثافة المادية إلى أدناها، إننا نظرناها بالأحداق ثم دقت حتى عن النظر بالأحداق. نعم، إننا لم نصل إلى طرف الروح الأقصى، ولكننا وصلنا إلى طرف المادة الأقصى، أو لعلنا قد عرفنا طريق القنطرة بين العدوتين إن لم يكن قد أقمناها، وشرعنا في العبور عليها، ماذا بقي من المادة الغليظة الجاسية؟ ماذا بقي من الجرم الجاثم الذي يناقض الروحانية؟ إننا نقترب، إننا نقترب، إننا نقترب، إننا مع النور نصل إلى الملتقى الموعود، ولعلنا لا نصل إليه - إن وصلنا - من طريق غير هذه الطريق.
قل: إن الكون حركة لا مادة فيه، ذلك أيسر لك من أن تقول: إن الكون جرم لا روح فيه!
نامعلوم صفحہ
قل: إن الكون نور، قل: إن الله نور السموات والأرض، فإذا قصر بك الحس عن نور الله فثق أن هذا الضياء الذي يملأ الفضاء هو النور الإلهي، الذي كتب لابن الفناء أن يراه. •••
وكان النهار بساما مدلا بشمسه، مزهوا بنوره، كأنما يحس روعته في الأنظار وبهجته في الأرواح، وكأنما يتوهج من نظر العيون إليه كما تتوهج الوجنة الصبوح تحت لمحات الأحداق، كان نهارا مبتكرا عليه جدة لا تحسبها قد مضت عليها سويعة من يوم! خلقا مبتكرا يخيل إليك أنه يتلألأ في فضائه الأول للمرة الأولى، وهل هنالك من فارق بين نور نهارنا هذا وبين النور في أبعد مكان من الفضاء، وفي أبعد فترة من الزمان؟ ها هنا شيء على الأقل تستطيع أن تقول: إنه لم يفتك أن تراه قبل ألف ألف من السنين، وأنك تذهب معه إلى أبعد من مذهب أبي العلاء حين سأل الفرقدين:
واسأل الفرقدين عمن أحسا
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على بياض نهار
وأنارا لمدلج في سواد
العقاد يستمع إلى المذياع في حجرة الصالون.
إن الفرقدين وأخواتهما في السماء لأطفال تلعب في حجر هذا الشيخ السرمدي، يلوح لك من جدته اليوم كأنه لم تنقض عليه ساعة من نهار!
قال صاحبي وهو يرسل الطرف في السماء، ولا نهاية لمد البصر تصعيدا ولا تصويبا ولا من يمين ولا شمال: قصرت عين تحسب وهي تنظر إلى هذا النور أنها تنظر إلى شيء مكشوف لا عمق فيه، ولا طوية وراءه: كاشف الخفاء هذا هو ينبوع الخفاء!
وشاء أن يتكلم بلغة المكان، لغة المكتبة، لغة المجازيين والبلغاء، فقال:
نامعلوم صفحہ
ونحن إذن في برزخ الأنوار، وراء الجدران نور الشمس في مدينة الشمس الخالدة، وبين الجدران نور القرائح ونور الحكمة ونور البيان!
قلت: مجاز حسن وإن طال به عهد أصحاب المجاز، الكتب علم، والعلم نور، ولكنني لا أحسبه مجازا يجري في النفس كما يجري في لفظ اللسان. فهل من الحق أننا نواجه المكتبة كما نواجه النور؟ وهل خطر لك قط أن تسأل نفسك: كيف تبده الكتب الكثيرة - مجتمعة في مكان واحد - من يدخل عليها لأول مرة؟ كيف يقع ألف كتاب أو عشرة آلاف كتاب موقعها ممن يفجأ بها ويعرف ما هي، وإن لم يعرف معناها؟ إننا في هذه الحضارة قد تعودنا منظر الكتب متجمعات بالمئات والألوف، ولكننا خلقاء أن نتجرد من فعل العادة ولو لحظة عابرة لننظر إلى هذه الظاهرة من جانب غرابتها لا من جانب ألفتها، فكيف تبدهنا رؤية الكتب لمئات من أصحاب القرائح والعقول محشوة في بضعة رفوف؟
إنني لا أسأل عن أولئك القراء والدارسين الذين ألفوا عشرات الكتب بالليل والنهار، إن هؤلاء ينظرون إلى كتبهم كما ينظر الجوهري إلى الثروات المخزونة عنده في صناديق البلور من نوادر الفصوص والأحجار الكريمة، أو كما ينظر البستاني إلى أحواض الزهر، وهي تترعرع أو تذبل بين يديه، أو كما ينظر صاحب القصر إلى أسراب الحسان المقصورات فيه، أو كما ينظر المهندس إلى الأزرار التي في لوحته وقد ينطلق كل زر منها بما يحرك مدينة بأسرها، وكلهم يملكون زمامهم، أو زمام تلك المرئيات وهم يحسون بها، وكلهم يحضرون منها ما ألفوه وتعودوه وكرروه، وقد يغيب عنهم منها جانب المفاجأة والغرابة، ولكنني أحب من حين إلى حين أن أستغرب ما آلف وأن آلف ما أستغرب، ويثير هذا الشوق في خاطري أن أشهد وقع هذه الغرابة مرتجلا في بعض النفوس، ولا سيما النفوس التي تقارب الكتب من بعيد.
قال صاحبي: وماذا وقع من صورتها في نفسك كلما استغربت ما ألفت منها؟
قلت: لا أحدثك بهذا الآن، وإنما أحدثك بما شهدت وعاينت، ثم أحدثك بما استدرجني إليه الخيال كلما ألقيت بمقادتي إليه.
لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضا في بعض الأيام.
كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها، يا سلام، كتب، كتب كتب، كل هذا كتب، شيء يدوخ! ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء.
ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب فلم تعرفها جلودا وأوراقا وألوانا تشوق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟
لقد عجبت يومئذ من هذه الوهلة؛ لأنني أعلم على التحقيق أن الفتاة شاهدت المكتبات في المدرسة وشاهدتها في السوق. فسألتها: أهذه أول مكتبة رأيتها في حياتك؟
تعجبت هي أيضا معي من هذه الوهلة، ولم تزد على أن تقول: رأيت غيرها كثيرا، ولكني لا أدري لماذا «دخت» وأنا أنظر إليها هنا.
نامعلوم صفحہ
ثم راجعت نفسي في تفسير ذلك، فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق حاستها، أو من مبادرة هذه الحاسة إلى التفرقة بين الأشياء المتشابهة حين يتفرق بها المكان.
فإنما تختلف الأشياء عندنا بما يقترن بها من تداعي الخواطر، وما توحيه من اللوازم والملابسات، فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة بين أيدي الأساتذة والطلاب، ولعلهم مئات ولعلهم ألوف، فلا توحي إلى الخاطر تلك «الزحمة» التي ترهق الرءوس. أما الكتب في حجرة واحدة في بيت رجل واحد فللفتاة العذر إذا أجفلت منها تلك الجفلة، وخافت منها على رأسها الدوار.
إننا نمر بالمائدة في الفندق العامر فلا نستغربها وإن امتلأت بطعام جيش، ولكننا إذا رأينا هذه المائدة بعينها أمام ضيف واحد خطرت لنا التخمة أو خطر لنا الغثيان، ولنا المعذرة في هذه التفرقة بين المائدتين! •••
واحتجنا يوما إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها، ريثما نصلحها ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيا أميا يزور قريبه أو يزور «آل البيت» على التعبير الصحيح، أو لعلها أول زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء، ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الإفرنجية، فإذا رأى كتابا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرأه المطهرون.
البيت الذي سكنه العقاد طوال حياته، وهو يحمل رقم 13 شارع السلطان سليم بضاحية مصر الجديدة.
فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه كما قال لم يكن على وضوء!
أليس لهذا الريفي الأمي منطق صادق فيما فعل على البداهة؟ إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟!
لقد أكبرت تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله؛ لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام.
ولا أخال هذه «الهيبة» للكتاب بعيدة جدا من هيبة «المكتوب» عند القبائل الفطرية ، كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الأفريقية، فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بما فيها دون أن يكون فيها روح مرصد أو طائف من الجان. وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الأسود إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته، فكتب له ورقة وأمره أن يأتيه بجوابها، فحمل الورقة مطمئنا ولم يلق إليها كبير اكترث، ولكنه لما رأى السيدة تقرأها وتراجعها كلما أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك، وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار، فلما أسلمته السيدة تلك الأدوات تقبلها وحملها ولم يوجس منها، ولكنه تردد وأوجس حين أسلمته الورقة بالجواب! وحملها كمن يحمل ثعبانا يخاف أذاه أو شيطانا يخاف سخطه وغضبه، وأدى الأمانة بتمامها؛ لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره ويخفيه.
قال صاحبي: ويح الأسود المسكين لو انطلق عليه روح من وراء كل كلمة مخزونة في هذه الرفوف! إن عفاريت الآجام جميعها لتصبحن عنده من ملائكة الرحمة بالقياس إلى هذه العفاريت، وإن سحرة أفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من وبال هذا السحر المخيف!
نامعلوم صفحہ
قلت: أو لم يحصل؟ بلى قد حصل وفرغنا من محصوله! وقد انهزم السحرة المساكين في وجه هذه الأرواح، وهربت عفاريت الآجام من سطوة هذه العفاريت، وهل المعركة بين القارة السوداء وبين الواغلين عليها إلا المعركة بين الكتاب وتعويذة السحر القديم؟
والتفت صاحبي إلى الرفوف يتصفح عناوينها، ويسألني: ولا يزعجك بعض الأحيان أن تخلع على الكتب هذه الصورة، وأن تراها حاضرة الأرواح جياشة الحركة بحياة مؤلفيها؟
قلت: بل أنا لا أراها إلا على هذه الصورة كلما أعرضت عن صورتها الممثلة في الجلود والأوراق: أرواح في انتظار الطلسم، أو مردة في قماقم سليمان، وأين برج بابل من لهجات رف واحد ها هنا لو تحركت له ألسنة وتفتحت له أفواه؟ وأين الجحيم كلها لو انبعثت المردة من أرصادها، وتمردت على الطلسم الأعظم الذي يحبسها في قماقمها؟
قال صاحبي: خير للكتب وأولى، نعم، خير للكتب ألف مرة أن تكون أرصادا للأرواح، أو قماقم للمردة من أن تكون على تلك الصورة التي يصورها لنا أصحاب المائدة وصحاف الطعام! ولست أدري لم يحضرني خاطر الطعام المخزون في العلب كلما تحدثوا عن الكتب وما فيها من طعام العقول؟ فما القول في رأس فيلسوف مجفف لساعة الحاجة إليه؟ وما القول في هذه الأغذية المحنطة على الرفوف لطول البقاء واجتناب الفساد؟ هي ولا ريب أفضل ما اخترع الإنسان من صناعات الخزن والتجفيف، وأحسن ما استودع من وسائل الصيانة والتعقيم، ليت الثمرات كلها تصان وتظفر بالتعقيم والتجفيف على هذا المنوال، ولكننا لا نشتهي طعام العقول للعقول حين نعرض لها الرءوس المجففة، والثمرات المحنطة ليوم القراءة، أو ليوم التغذية المشتهاة، لا، لا، إننا لا نود أن نشتهي الكتب هكذا لنأكلها برءوسنا وأدمغتنا، وإنما نؤثرها مردة في قماقم وأرواحا في أرصاد، فعلى بركة الله فلنمض معها في سياحتنا إلى حيث تلقي بنا في آماد المكان والزمان؛ ولنطلقها فرادى إن عز علينا أن نطلقها أسرابا وجماعات، على بركة الله!
قلت: نطلق ماذا يرحمك الله؟ وإلى أين المنتهى إذا ابتدأنا معها واحدا واحدا أو سربا سربا إلى حيث تستطيع المسير؟ هذا يا صاحبي مارد يحملنا إلى قطب الشمال، وبجانبه مارد مثله يحملنا إلى قطب الجنوب! وها هنا مارد ثالث يتعدى بنا أقطاب الأرض إلى الشعري اليمانية، وما وراء السديم، فمع أيها نسير ومتى المعاد إن سرنا مع هذا أو ذاك؟ وإنك لتعلم أنها قديرة على السفر في رحاب الزمان قدرتها على السفر في رحاب المكان، فهذا يحملك إلى القرن الأول للهجرة، وهذا يحملك إلى القرن الأول للميلاد، وغير هذا وذاك يحملك إلى ما قبل الهجرة والميلاد من أزمنة يضل فيها التاريخ، وقلما يهتدي فيها الخيال، وخطوة من هنا تلاقيك بهوميروس وخطوة من هناك تلاقيك بامرئ القيس، وخطوة أخرى تجمعك بآدم وأبنائه الأولين، فأين المنتهى بعد هذا ومتى القرار؟ لا يا صاحبي يرحمك الله، لا نهاية لانطلاق هذه المردة في مداها فرادى ولا مجتمعات، فدعها في قماقمها وانظر إليها ومعك أرصادها، فليس هذا أوانها وليست سياحتنا هذه بالسياحة السرمدية التي لا نرقب نهايتها، فعلينا بالأفق الذي نحن فيه نلزمه ولا نتعداه، وحذار أن تفتح القماقم مجتمعات ولا متفرقات، ولك عندها بعد ذلك ما تشاء.
فالتفت صاحبي إلى القماقم يتصفح عناوينها، ونظر هنا ونظر هناك على غير اطراد كأنه يرتجح ولا يملك الانبعاث في طريقه دون أن يرجع إلى حيث كان، ثم هتف بي سائلا: ما هذه المفارقات؟ بل ما هذه المقارنات؟ شعر وتاريخ وفن ودين وسير وطبائع حشرات تصاحبها طبائع عظماء، وخليط من المطالب لا تعرف لها وحدة ولا يطرد لها نظام، فهل هي مكتبة قارئ واحد أو هي مكتبات شتى أعددتها لمن يشاء؟
قلت: بل هي مكتبة واحدة أعددتها لقارئ واحد، ولا أحسب أن مكتبة القارئ الواحد تتفق على غير هذا النظام؛ لأنك تعد الكتب في مطلب واحد لمئات القراء الذين يشتغلون به ويرجعون إلى مصادره، ولكنك لا تحصر القارئ في مكتبة واحدة إلا إذا نوعتها له وأغنيته بها عن غيرها، ولا بد للقارئ الواحد على الأقل من مطلبين مختلفين: أحدهما للصناعة والعمل، والآخر للمتعة والتسلية، فإن كانت صناعته الكتابة فقد تعدد ما يقرأ للعمل والصناعة وتعدد ما يقرأ للمتعة والتسلية، وكثيرا ما يكون التعدد مع ذلك في العناوين لا في بواعث القراءة، فإن القارئ قد ينظر في خمسة موضوعات أو ستة أو سبعة لباعث واحد ونزعة واحدة، وليس أقرب من بواعث القراءة في بعض الأحايين، مع تباعد الموضوعات والعناوين.
خذ لذلك مثلا هذين الموضوعين الغريبين: طبائع الحشرات وما وراء الطبيعة، أيبتعد عنوانان قط أبعد من هذا الابتعاد؟ أيفترق شيئان في ظاهر الأمر كما يفترق البحث في الكون والسماء والخلود، والبحث في جحور النمال ومباءة الجراثيم؟ ومع هذا يتقاربان جد الاقتراب حين يهديك كلاهما إلى بداية الحياة أو نهاية الحياة، وربما فسرت لك طبائع الحشرات «تصميم» بناء الحياة تفسيرا تعجز عنه عقول الفلاسفة والحكماء، وربما عرفت من دوافعها وجواذبها وأنت ترقب الحشرة الضئيلة في أطوارها المتعاقبة ما لست تعرفه من مقاييس المنطق وتقديرات البديهة، ودراسة المذاهب والتأويلات.
وخذ مثلا آخر هذين الموضوعين الغريبين: الشعر والدين! إنهما ليبدوان في الغرابة كما يبدو لك منظر الناسك في الصومعة، وإلى جانبه منظر الشاعر في مجال الأنس والسرور، ولكنهما يلتقيان أقرب لقاء حين يعبر الشاعر عن نفسه ويريك جمال الخالق في خلقه، وحين يبرز لك الإنسان من وراء مسوح الزهاد، فإذا هو شاعر مستتر أو شاعر موثق بسلاسل العبادة، وإذا العبادة لا تخرج به من نطاق الشعور، ولا تنكر له فتنة الحياة بل تمثلها له قوية مخيفة يتقيها بالمجانبة، فيشعر بها كما يشعر بها من يواقعها ولا يتقيها، وإذا الفراش الذي يقع في النار والفراش الذي يهرب من النار؛ كلاهما فراش!
ولقد سألت نفسي عن البواعث المتوافقة وراء هذه النقائص المفترقة، فأجابتني عنها جوابا أرتضيه ولعلك ترتضيه، ولخصته لي في كلمات معدودة: هي «الاستزادة من الحياة.»
نامعلوم صفحہ
ولك أن تستزيد من الحياة بتعميقها أو بتوسيعها أو بتفسيرها، ولك أن تتوسل إلى ذلك كله بقصيدة من عيون الشعر، أو بنظرة في عجائب حشرة ضئيلة تخالها من أسرار الصناعة المكتومة، بل من «مسودات» الخلق الأولى، أو باستقصاء آماد الحياة فيما وراء الغيب، وفيما بعد الموت وقبل الميلاد، أو بالمقابلة بين سير العظماء على ضروب شتى من العظمة، وبين سير الصغراء على ضروب شتى من الصغار، فكل أولئك بباعث واحد مختلف العناوين، وكله صحاف تعطيك ألوانا شتى من الطعم والمذاق، ولكنها لا تعطيك في النهاية غير دم واحد ينبض في العروق. ومعذرة بعد من هذه اللفتة إلى الطعام وأنت لا تحب ذكر الطعام في هذا المقام. •••
قال: لا عليك من المعذرة بعد هذه الفترة، فقد أوشكت الساعة أن أستطيب التشبيه الذي كنت أعافه منذ برهة، وأوشكت مع هذا أن أؤمن بأن الثبات على الرأي في البلاغة غير الثبات على الرأي في الأخلاق، فقديما قيل لنا: إن الثبات فضيلة، وأخشى أن أكون اليوم قد أخللت بهذه الفضيلة، لولا باب من الرحمة في هذا الخلاف بين شرعة البلاغة وشرعة الأخلاق، وليست هي مسألة فكرة تقاس بالرأي بل هي شيء أحسه الساعة، ولا أبالي أن أفكر فيه، فما أرتضيه من البلاغة، وأنا شبعان مكظوظ لا أرتضيه منها وأنا جائع أتلمس الطعام، وأنت لا تشهي الكتب إلي حين تشبهها بالمائدة، وأنا من الكظة أعاف المائدة وأحاديثها، ولكنك تشهيها إلي حين تصفها بهذه الصفة، وأنا متفتح المعدة والرأس لكل غذاء.
قلت: هو ما قالوه قديما وأصابوا فيه أكثر مما أرادوا، فالبلاغة هي «مراعاة مقتضى الحال»، ولقد كنت بليغا في إشارتك هذه، فلك عندي من المكافأة عليها مائدة غير مائدة أفلاطون وأشباه مائدة أفلاطون!
وعدنا نستطيب القماقم والأرصاد بعد هنيهة، ولكن على أن نتركها بسلام، فلا نطلقها فرادى ولا جماعات، وحسبنا منها العناوين والرفوف.
ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
قلت: نعم، وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول. قال: كيف؟ أليس في الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين في الشعر وسائر فنون الآداب؟
قلت: بلى، ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة، وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور، والمثل هنا أقرب إلى الإيضاح من سوق القضية بغير تمثيل: إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح، وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه.
ونحن نقرأ القصص التي تجود بها قرائح العباقرة من أمثال ديكنز وتولستوي ودستيفسكي وبوجريه وبروست وبراندلو، فتؤمن بتلك العبقريات التي لا تجارى في هذا المضمار، ولكن إيماننا بها لا يلزمنا أن نضع القصة في الذروة العليا من أبواب الآداب، ولا يمنعنا أن نقدم عليها غيرها في التقدير والتمييز.
قال: وما المقياس الذي نرتب به هذه الرتب يا ترى؟
قلت: لعله مقاييس شتى لا مقياس واحد، ولعل الناس يختلفون فيها كاختلافهم في كل شيء يرجع إلى المشرب والتعبير، غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.
نامعلوم صفحہ
فكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف.
وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول، الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ بعدت
عني الطلول تلفت القلب
أو هذا البيت:
كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
أو هذا البيت:
ليس يدرى أصنع أنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس
نامعلوم صفحہ
أو هذا البيت:
أعيا الهوى كل ذي عقل فلست ترى
إلا صحيحا له حالات مجنون
أو هذا البيت:
وقد تعوضت عن كل بمشبهه
فما وجدت لأيام الصبا عوضا
لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، وكذلك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه فيما زعم الرواة: إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة! أما مقياس الطبقة التي يشيع بينها الفن، فهو أقرب من هذا المقياس إلى أحكام الترتيب والتمييز، ولا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من فنون الأدب، سواء نظرنا إلى منزلة الفكر أو منزلة الذوق، أو منزلة السن أو منزلة الأخلاق، فليس أشيع من ذوق القصة، ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة، وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة، ولا أصعب من تحصيل الذوق الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين.
قال صاحبي: على أنهم قد أثاروا في أوائل هذا القرن ضجة حول القصة بالغوا فيها أيما مبالغة، وخيلوا إلى الناس أن فنون الأدب كلها عالة عليها، وأنه لا كتابة لمن ليست له قصة.
قلت: لقد فعلوها حقا، وكان ذلك على أثر ضجة أخرى هي ضجة الكلام الكثير في الدراسات النفسية و«السيكولوجية» بأنواعها، فبدا لبعضهم أن القصة هي المعرض الوحيد لتطبيق هذه الدراسات في الكتابة الأدبية، وأنها هي الوسيلة القريبة لفهم العلاقات بين النفوس البشرية، وتفسير المواقف والمشكلات التي تنجم عن غرائب الطباع، ولم تخل ضجة القصة من أسباب قوية غير «السيكولوجية» وكثرة الكلام فيها، فإن شيوع القراءة بين الدهماء قد أشاع معها القصة التي تفهمها الدهماء، وتؤثرها على غيرها من الفنون الأدبية، وجاء شيوع الصور المتحركة بعد شيوع القراءة، فأملى للدهماء في هذه النزعة، أو هذه «الهواية» حتى غلبت عليهم وسرت منهم إلى النقاد الذين يتبعون الجماهير، ويسمون نزواتها بروح العصر، وهي نزوات بغير روح! وجاء بعد شيوع القراءة، وشيوع الصور المتحركة شيوع آخر هو شيوع الدعوة الشيوعية بين طائفة من طلاب الهدم والانقلاب، فعند هؤلاء أن القصة أشرف أبواب الأدب؛ لأنها تكتب للجهلاء وتصلح لبث الدعاية الشيوعية. وعندهم أنها لا ينبغي أن تدار على موضوع غير موضوع القضايا الاجتماعية، كأنهم يضربون الجهل على الفقير ضربة لازب، أو كأنما هذا الفقير لا يكفيه الضنك الذي يضنيه في ساعات العمل أو في طلاب العيش، فلا يزال في ضنكه حين يفتح الكتاب، وحين يقرأ الصحيفة وحين يحلم وحين يناجي ضميره، وحين يحب أن يعرف له من خصائص الإنسانية شيئا غير المعدة والزاد.
قال صاحبي: هان ذلك كله لو أنهم دبروا الزاد للفقير.
نامعلوم صفحہ
قلت: كلا يا صاح، لا هان ذلك ولا جعله الله يهون على الفقراء ولا على الأغنياء، فليس من البر بالفقير أن يسلب الكرامة الإنسانية، أو يسلب الحرية الفردية كأنها حلية يزدان بها الغني وحده، ولا يحفل بها الفقير، وليس بالصحيح على كل فرض من الفروض، وكل ظن من الظنون أن الشيوعية تدبر الزاد للفقير بفضل ما تقوم عليه من الأسس، وما تشتمل عليه من الآراء ، فكل مذهب يدعو إليه الدعاة الاجتماعيون يستطيع أن يدبر الزاد للعاملين في سنوات معدودات إذا صرف النظر عن الغايات البعيدة، وانحصر همه فيما بين يديه، لقد دبرته النازية حين حصرت همها في صنع السلاح، وأدارت المصانع على العدد الحربية والمطالب العسكرية، وقد دبرته الفاشية في إيطاليا على قلة مواردها حين حصرت همها في هذا المطلب العاجل، وهذه السياسة الوبيلة، فلم يبق في إيطاليا ولا في ألمانيا عامل بغير عمل موقوت، ولم تبق فيها مشكلة للمتعطلين، وكان ثراثرة الاجتماع ينظرون إلى ذلك، فينعونه على الديمقراطية، ويؤكدون به ما يعيبونه عليها من بطء الوسائل وتردد العزائم وطول المطال، ولكن الديمقراطية أيضا قد سبقت النازية والفاشية معا في المضمار، فخلقت الأعمال لعشرات الملايين في بلادها وغير بلادها، حين أدارت مصانعها على الذخيرة والسلاح، وظهر أنها حيلة لا تعيي أحدا يقبلها على علاتها ويأخذها بتبعاتها، وما تبعاتها إلا الخراب والفساد، وغشيان الأرض كلها بطائف من الفزع والحسرة تهون معه مشكلة البطالة، وكل مشكلة مثلها من مشكلات الاجتماع، ويخطئ كل الخطأ من يحسب وعود الشيوعية في هذا المطلب بشارة جديدة من داع جديد، فليس أقدم من هذه البشارة، ولا أسبق من هذا الداعي في تاريخ الدعايات.
وشك صاحبي غير قليل ثم تمتم سائلا كأنه يسأل نفسه: أو ليست هي بشارة «علمية» كما يقول كارل ماركس وأتباعه حين يميزون بين دعوات الإصلاح، التي يسمونها بالدعوات العاطفية والخلقية وبين دعوتهم «الجديدة» التي يسمونها بالدعوة العلمية؟ إنهم يزعمون أنهم قدروا عواقبها، وقاسوا مراحلها كما يفعل الفلكي حين يرصد مدار السيارات، ويحسب مواعيد الشروق والغروب وساعات الكسوف والخسوف!
قلت: هذه هي الخرافة التي لا ينبغي أن نصدقها أيها الرفيق، فليس أقدم في هذا العالم الإنساني من الدعوة إلى إنصاف الضعفاء، ولا من الوعد بأمنية النعيم المقيم، ولا من إثارة النفوس على الشيطان الرجيم، ولا من تثبيت العقائد بالحماسة والكفاح، وهذه الدعوة التي يزعمونها «علمية» هي تبشير لا يعوزه شبح الشيطان، ولا الفردوس ولا العقيدة العمياء، وغاية الفرق بينها وبين سابقاتها أن الشيطان هنا هو «الرأسمالية» التي ترجع إليها جميع الخبائث والشرور، وأن الفردوس هو العصر الموعود الذي يسود فيه الصعاليك، وأن حماسة العقيدة هنا هي حماسة المعدات والأحقاد، وليس أكذب ممن يزعم أنه يخاطب العقل، وهو يخاطب المعدة ويخاطب الحسد والحفيظة، فلا إقناع هنا ولا إقناع في غير هذا من ضروب الحماسة والبغضاء، وليس الإقناع بالمعدة بعد الإقناع بالروح تقدما نغبط عليه.
إن صاحبهم كارل ماركس ليزعم أنه يتنبأ عن مصير الأحياء الإنسانية، وهو لم يحي في زمانه قط حياة إنسان، ولم يشعر قط إلا بشعور الجداول والأرقام حيثما كان يجمعها في المتحف البريطاني صباح مساء؛ ولهذا حسب أن الآدميين آلات تقاس حركاتها بالأرقام كما تقاس حركات السكك الحديدية والسيارات، فلا يزال أصحاب الأموال يزدادون ثروة، ولا يزال العمال يزدادون جوعا حتى يصبح العامل، وما في يديه غير القيود وما في جوفه غير الجوع، فيثور ويجازف بالحياة؛ لأن الموت أحب إليه من هذه الحال، ولكن ما القول إذا كان العامل إنسانا حيا ولم يكن آلة جامدة تدار بالحساب؟ ما القول إذا كان هذا العامل يحس بالظلم قبل أن يبلغ مداه، ويحس بالقدرة على دفع الظلم قبل أن يقتله الجوع؟ ما القول إذا كان العمال في الأمم الصناعية يزدادون أجرا، ولا ينقصون منذ مائة عام، وكان في البلاد الأميريكية اليوم عمال يطلبون العلاوة في اليوم الواحد ثلاثة ريالات؟ القول إذن أن النبوءات عن مصير اللحم والدم تحتاج إلى عامل آخر غير عامل الحساب، وتسبقنا إلى نتيجة أخرى غير نتيجة الجمع والطرح والقسمة على القرطاس، وهذا الذي قد حدث فانقطعت بحدوثه تلك السلسلة «العلمية» التي وصل صاحبنا كارل ماركس حلقاتها، فتراجع من أجر قليل إلى أجر أقل منه إلى حرمان ملازم إلى جوع كافر لا يعبأ بشيء، ولا يدفعه إلى الحركة غير اليأس والقنوط!
وهذه الحركة التي قيل: إنها لا تأتي من غير اليأس والقنوط من ذا الذي يقول: إنها حكمة العقل، وإنها مفتاح النعيم المقيم، وأنها خير ما تهتدي إليه الإنسانية، وتتجه إليه العقول؟
هب يا صاحبي أن النتيجة المزعومة - وهي الثورة الشيوعية - هي المصير المحتوم الذي يهدينا إليه الحساب العلمي الصحيح، فمن ذا الذي يقول: إنه إذن هو المصير السعيد الذي نسعى إليه؟ ألا يجوز أن أعرف خط القطار، وأن أحسب حركاته فإذا هي تنتهي إلى هاوية ليس لها قرار؟ أإذا جمعت المسافة، وقسمتها على تلك السرعة، وأرضيت «التقدير العلمي» بهذا فانتهى بنا إلى تلك الهاوية كان حتما لزاما علي أن أسوق القطار إليها، وأن أستعجل دواليبه للنزول بها قبل فوات الفرصة الغراء؟
فقال صاحبي: أليست الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الماضية كانت على كل حال نبوءة من هذه النبوءات «العلمية»؟
فبادرته قائلا: بل حماك الله وحمانا أن نغتر بهذه اللجاجة التي أوضع فيها بعض الفارغين ممن لا يعقلون ما يقولون، فما كانت تلك الثورة الروسية إلا ثورة كسائر الثورات التي سبقتها منذ آلاف السنين! ظلم يثور عليه مظلومون وتمالئهم قوة عسكرية، فينتصرون على الظالمين، كذلك ثار الناس منذ عرفت الثورة في التاريخ، فإن كان للنبوءات الماركسية فضل بعد هذا في ثورة الروس، فذلك هو الفضل المعكوس؛ لأن المؤمنين بها حاولوا تطبيقها كما آمنوا بها، فضيعوا عشرين سنة في هذه التجارب المخيبة، وضاعت معها ملايين الأرواح التي فنيت بالسلاح أو فنيت بالقحط والوباء، ثم آل بهم الأمر إلى إقرار ما أنكروه وحاربوه وقتلوا الملايين من أجله، وهو اقتناء الملك وإيداع المال في المصارف وتوريث الأبناء وإباحة الفروق في المعاش، وإعلان العصبية الوطنية، ولو لم يؤمنوا ذلك الإيمان بالنبوءات الماركسية لبلغوا هذا المطلب في سنة واحدة، وعافوا أنفسهم وعافوا الناس معهم من شرور تلك «التجارب»، وخطوب تلك المحاولات.
قال صاحبي: وأنت على مقتك هذا للماركسية لا إخالك تبرئ نظام رأس المال، كما نراه من عيوب وآثام يمقتها كل من يحب الخير لبني الإنسان.
قلت: إن الماركسيين لا يستطيعون أن يمقتوا تلك العيوب كما أمقتها؛ لأنهم يؤمنون بالمادة ولا يؤمنون بغيرها، ومن آمن بالمادة هذا الإيمان لم يستطع أن يلوم عشاقها كل اللوم، أو يعذرهم في عشقها بعض المعذرة، غير أنني بعد هذا كله أقول: إن جشع المستغلين شر ولكن الشيوعية ليست بخير، وإن رأس المال محنة للأخلاق، ولكن الشيوعية محو للأخلاق لا تقوم لها فيه قائمة، وسيأتي يوم يزدري فيه الناس المستغلين في المجتمع الإنساني كما كانوا يزدرون قطاع الطريق، بعد أن كانوا في بعض الأزمان عنوان الشرف ومناط الحمد والثناء، فإذا بلغوا تلك المرتبة كان بلوغهم إياها نموا ورشدا يستحقان كل ثمن تفرضه عليهم سنة الارتقاء، ولم يكن ضرورة من ضرورات العجز والحرمان. أما الشيوعية فما سبيلها إلى إبطال السرقة، وإبطال القسوة في تجميع المال؟ إن بلغت ما تريده، وصح لها ما تزعم وامتنعت السرقة في ظلها على ما ترجوه؛ فإنما تمتنع لأن الناس لا ينتفعون بالمال إذا سرقوه، فلا يملكون به أرضا ولا يودعونه في مصرف، ولا يتركونه بعدهم لوريث، فهم يكفون عن سرقته؛ لأنهم عاجزون عن الانتفاع به؛ لا لأنهم عفوا عن الظلم أو تنزهت ضمائرهم عن العدوان أو ارتقوا قليلا أو كثيرا في سلم المروءة والأخلاق، وتلك فضيلة المسجون أو فضيلة المضطر إلى العفاف، وليست هي بخير من محنة الأخلاق التي تمحصها التجارب، ويتعفف عنها الناس وهم قادرون.
نامعلوم صفحہ
قال صاحبي: وهل يرتقي الناس يوما هذا المرتقى؟ وهل يرتفعون إليه في مئات السنين بل في ألوف السنين؟
قلت: إننا لم نستكثر على طبيعة الحياة أن تنقل الكلب من وحش لئيم يفترس الأطفال والغنم إلى حارس أمين يفتدي الأطفال والغنم بحياته، فلماذا تستكثر عليها أن تنقل الإنسان من حال إلى حال، وقد نقلته كما رأينا وعلمنا بين شتى الأحوال؟ أما طول العلاج يا صاحبي فهو خير من علاج سريع يتبعه موت سريع. أنسيت علاج العاطلين في مستشفى الأطباء المشعوذين؟ أنسيت علاج النازيين والفاشيين للمتبطلين؟ أعطوهم القوت أياما ليسلبوهم ويسلبوا من يعولونهم الحرية، ثم يسلبوهم جميعا أنفاس الحياة، وقد كان الجوع حينا بعد حين خيرا من الموت والفزع والاستعباد، ومهما يكن من الشك في طب النفوس، فأحق الأطباء بالشك في طبهم أولئك الذين ينشئون مذهبهم من اليأس وقلة الحيلة، ويعلمون فضائلهم باليأس وقلة الحيلة، ويحسبون أن الشر قد زال؛ لأنه محبوس وراء الأقفاص والسدود.
وكانت في صاحبي على ما يظهر عادة كثير من الناس بل عادة أكثر الناس، وهي أنهم يكرهون المرض الذي جربوه ولا يكرهون المرض الذي لم يجربوه حتى يجربوه! فيسمعون ذم الدمل الذي يقض مضاجعهم، ويعرضون عن ذم السرطان وهو بعيد منهم. فقد كان يوازن بين مساوئ الجشع والاستغلال، ومساوئ الشيوعية والحكم المطلق كما يوازن بين الوقائع والفروض. وليس السرطان الذي لم يصب به الإنسان فرضا من الفروض!
قال: ألا يجوز أن تكون عيوب الشيوعية عيوب المجال الضيق والحوض المحدود؟ ألا يمكن أن تنصلح فيها هذه العيوب إذا عمت أجزاء العالم، وشملت جميع أوطانه وشعوبه؟
قلت: بل إخال يا صاحبي أن الشيوعية في وطن واحد، أو بضعة أوطان شيء يجوز في الحسبان، أما الشيء الذي لا يجوز في حسباني فهو الشيوعية عامة شاملة بلا أوطان وبلا حدود، إذ ما العمل في تنظيم خطوط المواصلات بين أنحاء العالم؟ وما العمل في تنظيم صادراته ووارداته؟ وما العمل في تنظيم الزراعة والصناعة بين أقطاره؟ وأي حكومة هي تلك الحكومة العالمية التي تحمل وطنا من الأوطان على أن يزرع، أو يصنع لوطن غيره، وهي قد أبطلت من النفوس حوافز المصلحة الشخصية، وحوافز المصلحة الوطنية على السواء؟ وإن بقيت الحكومات المتعددة في أنحاء العالم، فعلى أي أساس تقوم الحدود والفوارق بين الأوطان؟ وعلى أي أساس من الأسس يقوم توزيع المصالح وتقسيم الأعمال؟ فربما كانت الشيوعية في الوطن الواحد حقيقة ممكنة بما فيها من العيوب والآفات، ولكنها في العالم بأسره هي ولا ريب أسطورة الأساطير.
ولو انتظمت للعالم حكومة واحدة تسوس أعماله، وتقرر منها المفيد وغير المفيد لكان هذا هو البلاء فوق كل بلاء؛ لأن هذه الحكومة قد تشل دوافع الحياة في النفوس، وهي تزعم أنها تقتلع منها الحماقة والغرور، ولو أننا رجعنا إلى تواريخ بني الإنسان لننزع منها آثار الحماقة والغرور كلها لانتزعنا نصف الحضارة الإنسانية، وذهب النصف الآخر بذهابه كما يذهب البيت كله إذا انهار نصف الجدران!
ما الولع ببناء القصور وفي الكوخ سعة لساكنيه؟ إنه حماقة وغرور.
ولكن أين كان يذهب العلم بالهندسة والعلم بمسالك البحار والأرضين، والبصر بطبائع القبائل والشعوب لولا طواف الناس في طلب الحجارة والأخشاب لبناء تلك القصور؟
ما الولع بالثناء يكذب فيه الشاعر كما كذب شاعرنا حين قال:
لو تعقل الشجر التي لاقيتها
نامعلوم صفحہ
مدت محيية إليك الأغصنا؟
إنه حماقة وغرور!
ولكن أين يذهب الأدب والشعر وبليغ الكلام، وبديع القرائح لولا هذه الحماقة، وهذا الغرور في ذلك الممدوح؟ ومتى كان للأدب في تلك الأزمنة عائل غير هؤلاء الحمقى والمغرورين من أشباه ذلك الممدوح؟
ما التوابل والأفاوية التي كانت تشق من أجلها البحار، وتقتحم من أجلها مخاطر الأسفار؟
إنها حماقة وغرور! وفي سبيل هذه الحماقة والغرور كشفت القارة الأمريكية، واتصلت جوانب الكرة الأرضية، وخرج كولمبس بسفينته لينتهي إلى الهند من غياهب بحر الظلمات، فلم يكن هذا الخاطر كله إلا حماقة وغرورا تنبعث من حماقة وغرور.
ومع هذا يهون على بني الإنسان أن يعصف الزمن بكل ما كان في عصر كولمبس من الرشد؛ ليبقى لهم ضلال هذه الحماقة وذلك الغرور.
اذكر هذا يا صاحبي واذكر ما كان يلقاه كولمبس لو أنه مثل في «مكتب شيوعي»؛ ليستأذن في السفر بمن معه من النواتية والعمال، أكان بعيدا أن يدور بين كولمبس ورئيس المكتب المسئول حوار كهذا الحوار، وأن يكون مصيره بعد ذلك إلى لهب النار أو جوف البحار؟ - إلى أين تذهب يا هذا؟ - إلى الهند من طريق المغرب! - وهل ترجو الوصول حقا من هذا الطريق؟ - لي في ذلك عظيم الرجاء! - وهبك في حل من أن تغرر بنفسك، فهل يحل لك أن تغرر بهؤلاء النواتية المساكين وهؤلاء الأجراء المرهقين؟ في أي سبيل يحل كل هذا التغرير؟
في سبيل الحرائر والأبازير التي انقطع ورودها من طريق المشرق، وعز انقطاعها على الموسرين والأغنياء!
لو نجا كولمبس من هذا الحوار بكلمة «مرفوض» دون غيرها لعددناه من السعداء، وكيف كان ينجو بها دون غيرها وهو ذلك الشيطان الرجيم، الذي يغرر بحياة النواتية والأجراء؛ ليستطيب الحمقى والمغرورون لبس الحرير، وأكل الأبازير!
حذار يا صاحبي أن تسلم دوافع الحياة إلى مسيطر عادل أو جائر، وأن تقيدها بحكمة حكيم أو شهوة شهوان، إنك على أمن حين تمنع الجريمة والعدوان وتسلم زمامهما إلى القانون، ولكنك ترى كيف تكون العاقبة حين نسلم ما نسميه بحماقة الحمقى إلى ما نسميه بحكمة الحكماء، أو صلاح العلماء، فكيف تكون الحال لو سيطر الغباء على الذكاء، أو تصرف الضلال بالرشاد؟ •••
نامعلوم صفحہ
وأخذ صاحبي يقلب في كتب الشيوعية والشيوعيين، فتوقف بعد قليل، وسألني مستغربا: ما هذا؟ خطب هتلر إلى جانب رسائل لنين، وكتاب عن تاريخ الشيوعية يجاور كتابا عن العنصر المختار من الآريين؟ ألا تتوخى ترتيبا لهذه الكتب أو هذه الرفوف؟
قلت: بلى، ترتيب ولا ترتيب، فأما الترتيب المفصل فلم أقصده ولم أشعر بالحاجة إليه، وأما المجمل فالذي تراه مثال لما أتوخاه.
دع هذه الرفوف مثلا وانظر إلى هذه الرفوف التي تليك، مؤلف صيني حديث معه مؤلف قديم، وشاعر من بني اليونان يصحبه ناقد من أبناء العالم الحديث، والجامعة بينهم كلهم أنهم شعراء، أو ينقدون الشعر، أو يتكلمون عن الشعراء.
ودع هذه الرفوف وانظر ناحية منها إلى الرف الذي يليه: لعله أعجب وأبعد في المقاربة - أو في المباعدة - بين الجيران والخلطاء، فهذا سفر عن بيتهوفن، تجاوره موسوعة عن الموسيقى، وينزل معهما سجل عن الطير ومجلد تفتحه، فلا تقرأ فيه كله صفحات مطبوعة، وإنما تسمع من بعض صفحاته أصوات الأحياء في المواسم المختلفة، وفي حالات الغضب والرضى والنفرة والحنين؛ لأنها صفحات من قوالب الحاكي لا من سطور الكتاب والشعراء، وعلى مقربة منها جميعا عالم يتكلم عن الرياضة والطبيعة والأوزان، وكلها من عالم واحد هو عالم الأصوات والأنساق والألحان، وما أنا بقادر على ترتيب لها يهديني إليها أقرب ولا أوفق من هذا الترتيب.
أما الجوار بين الشيوعية والنازية فيا له من جوار؛ هو جوار لو انتقل إلى عالم المحسوس لانبعث من هذه الرفوف القليلة فرقعة، لا تسمعها من ألف طربيد ولا من ألف غيمة تومض بالبروق والرعود، ولكنها لو انتقلت إلى عالم المعنى لكان الحوار بينها أقرب جوار وأوفق جوار.
قال صاحبي كالمستنكر: أجوار الشيوعيين والنازيين أقرب جوار وأوفق جوار!
قلت: نعم؛ لأن الفارق بين المذاهب الاجتماعية أو المذاهب السياسية - إن شئت أن تسميها بالسياسية - هو فارق واحد يهديك بينها جميعا، ولو بلغت المئات والألوف: هو الفارق في الحرية الفردية، أو هو الفارق في التبعة التي يحملها الفرد في علاقته بأمته، وبعالم الإنسان على اتساعه، فاحسبها مائة مذهب أو ألف مذهب أو ما فوق هذا أو ما دون ذاك، فإنما هي في النهاية مذهبان اثنان: مذهب يقدس الحرية الفردية ومذهب يستخف بها تقديسا لسلطان الدولة أو سيادة الزعيم، ولا عبرة باختلاف الأسماء والعناوين.
وإن شئت أن تعلم لأيهما الرجحان ولأيهما الغلب على طول الزمان، فالموازين التي توزن بها هذه المذاهب لا تحصى، وليس بينهما ما هو أصدق من ميزان التاريخ وميزان الأخلاق.
قال: وما ميزان التاريخ أو ميزان الأخلاق في هذه القضية؟
قلت: إن التاريخ لم يستقم قط في اتجاه واحد كما استقام في اتجاه الحرية الفردية، أو في اتجاه النهوض بالتبعة، وكذلك الأخلاق، فمنذ آمن الإنسان بروحه وعلم أنه مثاب على عمله لم يكن له تقدم قط إلا في هذا الاتجاه، ولم تقم على غير هذا الطريق قائمة من الأديان والأخلاق، والحركات الاجتماعية في كل زمان وبين كل قبيلة، فما تفاضل عصران ولا امتاز شعبان ولا فردان ولا خلقان إلا استطعت أن تحكم بينهما بميزان التبعة أو الحرية الفردية، ولن يكون الراجح منهما إلا أوفر الطرفين نصيبا من تلك التبعة أو من تلك الحرية؛ من أفضل الفريقين الطفل أو الرجل؟ العبد أو السيد؟ الجاهل أو العالم؟ المجنون أو العاقل؟ الهمجي أو المتحضر؟ الغالب أو المغلوب؟ الحيوان أو الإنسان؟ لا اختلاف في جواب هذه الأسئلة جمعاء، ولا اختلاف كذلك في أن الحرية أو التبعة تكونان حيث يكون الراجح المفضل من الفريقين.
نامعلوم صفحہ
قال صاحبي: إنه لميزان عادل، ولكنه يزن بين النازية والشيوعية من جهة وبين غيرهما من المذاهب الاجتماعية من جهة أخرى، فكيف يكون وزنه بين النازية والشيوعية يا ترى؟
قلت يا صاحبي: كلاهما شر وفي الشر خيار، وإنما المقابلة بينهما تعلو بهذه مرة وتهبط بتلك مرة، كما يكون العلو والهبوط في المقابلة بين الحسد والغرور.
فالنازية في لبابها قائمة على خليقة الغرور؛ لأنها لن تقوم إن لم يقم معها غرور الزعيم بتفوقه على سائر الناس، وغرور العنصر بتفوقه على سائر العناصر، وغرور الأتباع بما يتاح لهم من مظاهر الزهو والخيلاء.
والشيوعية في لبابها قائمة على خليقة الحسد؛ لأنك لا ترى شيوعيا إلا رأيته حاسدا للممتازين من خلق الله كيفما كان سبيل الامتياز، وليس منهم من يشعر بالعطف على الضعيف أو الفقير، ولكنهم جميعا يحقدون على القوي والغني وعلى كل صاحب فضل يشيد به الآخرون، وليست التفرقة عندهم بين الناس تفرقة بين من يحمد أو يذم، ولا تفرقة بين من يحب أو يكره، ولا تفرقة بين من يكرم أو يلؤم؛ وإنما هي على الجملة تفرقة بين من يحسد أو لا يحسد كائنا ما كان مثار الحسد عليه، وإنك لتستطيع أن تعلم مع من الخصمين يكون الشيوعي كلما علمت من منهما الراجح، ومن منهما المرجوح؛ فهم في صف المرأة إذا نازعت الرجل، وفي صف الولد إذا نازع الوالد، وفي صف الجاهل إذا نازع العالم، وفي صف الخامل إذا نازع المشهور، وفي صف الدهماء إذا نازعوا أبطال التاريخ، ولن ترى شيوعيا يسلم من الحسد بحال من الأحوال، وبهذا وحده تفسر كل لغز يعرض لك من ألغازهم حين ترى فيهم من تظنه غريبا عنهم، وفيهم أصحاب الأموال والأحساب.
قال: والله لقد وددت حقا أن أعرف لم يكون صاحبنا فلان من الشيوعيين، وهو سليل بيت قديم وصاحب مال موفور؟
قلت: تعرف ذلك حين تعرف أنه يحسد أمثاله وينقم على الدنيا؛ لأنه لا يحسب منهم حين يحسب ذوو الكلمة أو ذوو الرأي أو ذوو المنصب والجاه، وعلى قدر طمعه في ذلك، وتوافر وسائله عنده يكون حقده وحسده، واشتياقه إلى التقويض والتخريب.
وقس على ذلك إخوانه ممن تستغرب نخوتهم الشيوعية، وهم موسرون أو مرابون يمتصون دماء الضعفاء قبل الأقوياء: أرأيت إلى المرابي فلان وثروته كلها مجموعة ممن يقترض الجنيه والجنيهين، ويؤدي الفائدة ضعفين أو فوق الضعفين؟
استمع إليه - أتسمعه يوما يذكر إنسانا من الأقدمين أو المحدثين بحمد أو ثناء، فما له لا يكون شيوعيا والشيوعية تمكنه من شتم «أكبر عدد مستطاع» من خلق الله؟ يشتم الرسل؛ لأن الشيوعية تنكر الأديان؛ ويشتم الأبطال لأن الشيوعية تنكر الأوطان، ويشتم دعاة الحرية؛ لأنهم «برجوازيون» يخدمون رءوس الأموال من وراء الستار، ويشتم حتى «غاندي» المسكين؛ لأنه يخدر أعصاب المساكين، ويعلمهم ترك العدوان ولا قيام للشيوعية بغير الثورة وسفك الدماء. ثروة من الشتائم يستمتع بها لسانه في ظل المذهب «المظلوم»، وثروة من الأحقاد تخيل إليه أنه يمتص دماء الضعفاء؛ لأنهم لا يستحقون الرحمة، وليس لما فيه من لؤم وكنود.
قال صاحبي: أوكلهم ذلك الرجل؟ أوليس فيهم من رجل رشيد!
قلت: إلا من عصم ربك، وهم القليل، أو هم الاستثناء في هذه القاعدة، والأغلب أن يكون هؤلاء من الشبان الذين تنبض قلوبهم بحماسة الفتوة وحب النخوة، ويسمعون وعود الماركسيين فيصدقونها ولا يدركون عقباها، أو يفطنون إلى محظوراتها، فمن لم يكن من هؤلاء فهم السيئون المتعجلون؛ لأنهم يتعجلون الصعود ويعجزون عنه فيودون لو يهبط الصاعدون، ويحبون إلغاء الفروق بين الناس ليصبح الأعلياء كالأدنياء، لا ليصبح الأدنياء كالأعلياء.
نامعلوم صفحہ
قال لي العالم الحكيم الدكتور يعقوب صروف منشئ «المقتطف» مرة: إنه شهد الصبية يلعبون كرة اليد، فرأى منهم من يعدو ليلقف الكرة، ومن يعدو ليجذب الأول من قفاه ويرده إلى الوراء، فلا هو يلقف الكرة ولا يطيب له أن يلقفها غيره! وهاتان الطائفتان من الخلق موجودتان في كل ميدان من ميادين الجد، ولا تقصران على هذا الميدان الصغير من ميادين اللعب، فإن رأيت فتى في مقتبل عمره يهوي الشيوعية، غير مخدوع في وعودها، فهو بعض هؤلاء الذين لا يلقفون الكرة ولا يسرهم أن يلقفها السابقون.
وأود يا صاحبي أن نعطي هذه البواعث النفسية حقها في تفسير إقبال الناس على المذاهب أو إعراضهم عنها؛ لأن تفسيرهما بدرجات الفهم أو بأحوال المعيشة لن يغنينا عن تفسيرهما بتلك البواعث النفسية في وجهتها الكبرى، ويزعم الماركسيون أن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء في تفسير حركات التاريخ ومذاهب الدعاة، ولكنهم لا يذكرون حركة واحدة من تلك الحركات المعروفة، إلا كان الأمر فيها موقوفا على مسألة شعور قبل كل شيء وبعد كل شيء.
وخذ لذلك مثلا هجرة الناس إلى القارة الأمريكية بعد كشفها فرارا من الفاقة، أو من الحجر على ضمائر المعتقدين، فلماذا هاجر أناس وبقي أناس لو لم يكن فرق الشعور هو الفرق الأكبر بين الباقين وبين المهاجرين؟ ولماذا رضيت طائفة بالذل والحجر، فسكنت واستكانت، ولم ترض طائفة أخرى فودعت الديار، واقتحمت مجاهل البحار ومخاطر الأسفار؟ وما تعليل «المادة» لهذا الفارق في الشعور والمهاجرون ينتمون إلى كل طبقة وحالة الضيق شاملة لهؤلاء وهؤلاء؟ إن آفة هذا المذهب البغيض أنه لا يرى أكرم العلتين للحادث الواحد إلا حاد عنها إلى أحقر العلتين، وأنه لو وضع لعالم من الحيوان لما احتاج إلى تضييق ولا تقصير، ولا إعادة تفصيل أو تحرير؛ لأنه لا يفهم من الإنسان إلا جانب الحيوان.
وكان صاحبي من أولئك الذين يعلقون أحكامهم على الخطأ حتى يتبين لهم وجه الصواب فيه، وكأنه لا يعرف أن هذا الوجه دميم إلا إذا عرف أن ذلك الوجه وسيم، ولا يصدق أن هذا العلاج قاتل إلا إذا صدق أن ذلك الدواء محقق الشفاء. فشك طويلا بعد ما سمع من مساوئ الشيوعية والنازية ثم عاد يسأل: ولكن ما العمل؟ إن شيئا لا بد أن يعمل ولا أحسبك إلا قد خرجت من هذا التيه المتراكب بزاوية تنفذ إلى طريق، ولو لم يفض بنا الطريق إلى الغاية المأمولة إلا بعد حين، فالشيوعية حسد والنازية غرور، فأين يكون سواء الأخلاق وصلاح الأمور؟
قلت: وهبنا لم نعرف طريق الصلاح ، أفيمنعنا هذا أن نحذر طريق الفساد؟ على أنني أعتقد يا صاحبي أن الطريق الوحيد الذي فتح لنا بين هذه المتاهات، هو طريق كتبت عليه كلمة واحدة لا تتبدل في مشكلة من المشكلات: وهي كلمة «التعاون».
فلا خلاص للعالم بعد اليوم إلا بهذا الترياق الوحيد، حيثما أعضلت عليه مشكلة في السياسة أو في المعيشة، أو في الحكومة أو في الأخلاق.
التعاون بين الأمم كبارها وصغارها، والتعاون بين الطبقات غنيها وفقيرها، والتعاون بين السلطات، والتعاون بين الأفراد ولا اختيار للناس في تعاطي هذا «الترياق»؛ لأنهم مدفوعون إليه مقسورون عليه، بعد نزاع بين الأمم، ونزاع بين الطبقات، ونزاع بين الحكماء والمحكومين.
قال: وماذا يجدي التعاون في مشكلات الفقر والغنى؟
قلت: يجدي ما ليس يجديه حل آخر من الحلول التي جرت قبل الآن أو ستجري بعد الآن.
خذوا الضرائب من الأثرياء وزيدوا الأجور للعاملين، فإذا بكم قد حققتم غرض الشيوعية ولم تمسخوا الطبيعة الإنسانية؛ لأن المالك الذي يؤخذ منه معظم ربحه ضريبة للدولة إنما هو موظف في ملكها لا يتقاضى من الربح أكبر من أجر الوكيل المؤتمن على مصلحة غيره، وكأنما ملكت الدولة مرافق البلاد كلها، ولم تحرم المالكين ذلك الحافز «الفردي» الذي يحث المرء على العمل لغيره، كأنه يعمل لنفسه ولأبنائه، وما من شيء يستنهض الهمم للتجويد والافتنان، كما تستنهضها هذه الحوافز التي تخلو الحياة من كل طعم إذا خلت منها.
نامعلوم صفحہ
وانشروا سنة التعاون في التجارة وتدبير أسباب المعيشة، فإذا بكم قد أعدتم على الشاري فوائد الرخص والغلاء، ووقفتم الاستغلال عند حده الذي يرضاه المنتفعون بالبيع والشراء.
ولا أعزم لك أن هذا «التعاون» سيبطل كل شكاية، ويوفر كل مطلب وينصف كل محروم، فإن نظاما من النظم لن يكفل هذا «الفردوس» لبني الإنسان أبد الأبيد وآخر الزمان، ولو أنه كفله لكان وبالا عليهم؛ لأن الأمان من كل قلق مدعاة للتواكل والقنوع، ولأن الناس ما عملوا قط إلا وفي جوانحهم بعض الخوف وبعض النزوع إلى التغيير، وهب أن بعض القلق لا يفيد هذه الفائدة في حياة الأفراد والجماعات، فهل يكون القلق اليسير ثمنا كبيرا لحرية الفرد، وإطلاق المجال لسباق الهمم والآمال؟ ففي السجون يأمن السجناء على المأكل والمسكن والكساء والدواء، ولكنهم شر من الطلقاء الذين يشبعون ويجوعون، ويلبسون ويعرون، ويدبرون لأنفسهم أمر المسكن والصحة إذا احتاجوا إليها.
قال صاحبي: وهل يقبل المستغلون من ذوي الجشع وطلاب التخمة سنة التعاون!
قلت: إن سنة التعاون لا تنتظم في هذه الدنيا؛ لأن المستغنين يقبلونها أو لا يقبلونها، ولكنها تنتظم على مقدار الحاجة إليها والإيمان بها، وغلبة المصالح التي توافقها على المصالح التي تناقضها وتقف في طريقها.
وربما تهيأت في وطن ولم تتهيأ في غيره، وربما أسرعت هنا وأبطأت هناك، وربما تعرضت دونها الصعوبات حينا ولم تتعرض في حين آخر، على أنها إذا انتظمت بعد ذلك، فإنما تنتظم للدوام والتمكن والهداية كما تنتظم فضائل الرشد بعد فضائل القصور، أو أدب الرجولة الناضجة بعد أدب الطفولة الفجة، وإنك لتمنع الطفل أن يمرض وتحميه أن يؤذي نفسه بيديه، ولكنه لا يمتنع عن المرض باختياره ولا يحتمي من الأذى بنفسه إلا بعد خبرة عسيرة وتجربة طويلة، من يحرمه منها يحرمه صفوة وجوده وقوام كيانه، ولا يقال: إنه رءوف به عامل لخيره متعجل لنموه ورشاده، ولو أن الثورة الشيوعية قضت عشرين سنة في طلب التعاون والإيمان بلزومه لبلغته، ونهجت به منهجا يتقدم العمل فيه ولكان ذلك خيرا من تلك السنين العشرين، التي قضتها في المحاولة وإهدار الجهود والدماء، ثم ختمت المطاف بالعدول عنها وإقزار ما كانت تنكره وتأباه! وعلى أي شيء ختمت المطاف؟ على إقرار الملكية والاعتراف بالدين والوطنية، والسماح بالميراث وخزن الأموال وتفاوت الأجر والمعيشة، وسلب العامل حريته في الانتقال من مصنع إلى مصنع، وتحريم الاحتجاج والإضراب عليه، وقد كان يحتج ويضرب في عهد القيصرية الجائرة، فأما اليوم فلا احتجاج ولا إضراب، ولا غنى له عن بطاقة الخروج من المصنع إذا ضاق به وتحول عنه، فإن لم تكن بيده هذه البطاقة، فلا حق في بطاقة السكن، ولا بطاقة الطعام ولا بطاقة الحقوق المدنية في شيء، أو حضور جلسات! وهو حر كما يقال؛ ومن أجل حريته هذه فاضت دماء، وتقوضت مدن وضاعت أيام وأعوام!
وإنني لأوكد لك أنني لو ملكت الفصل قولا وعملا في قضية المذاهب الاجتماعية لأوجزت الحكم، وحسمت الخلاف من أوجز طريق: ألف عامل في بلاد الشيوعية وألف عامل في بلاد الديمقراطية الصناعية يتبادلون المكان خمسة أعوام، وليس يخامرني الشك طرفة عين أيهما يسرع إلى الصريخ والعويل، ويلحف بعد قليل في التبديل والتحويل.
قال صاحبي وهو يتلفت كأنما يتعوذ من شيطان يسمع ما يقول: ويح هذه القماقم الهوجاء، لقد شغلتنا وهي مغلولة مسجاة، فكيف لو انطلقت من عقالها؟
قلت: وحسنا صنعت، فما أعلم أن موضوعا في هذا العصر هو أولى بأن يشغلنا في موضوعها، وما أحسب أن الإنسانية قد احتاجت إلى التفرقة بينها وبين البهيمية منذ فارقت الغابة والكهف للمرة الأولى، كما احتاجت إليها في هذه الآونة.
ونظرت إلى صاحبي فإذا هو يضم ما بين الخنصر والبنصر، ويقول: ها نحن أولاء نقلب صفحة جديدة أو نفتح كتابا جديدا، وها نحن أولاء نتكلم بالقول الصريح وبالقول المستعار في وقت واحد، فما أبعد النقلة ما بين الخنصر والبنصر في عالم الكتب، ما أبعد النقلة بين الأرض والسماء وبين المعاش والمعاد، وبين فلسفة كارل ماركس وفلسفة ما وراء الطبيعة!
قلت: كلاهما يتصدى لعمل واحد، وهو تفسير الكون وترتيب المعاش في هذه الدنيا على هذا التفسير.
نامعلوم صفحہ