وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فترصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قول النبي وأشاعها. قال القاضي: وهذا أحسن الوجوه، واستحسنه ابن العربي أيضا، وسبق إليه الطبري فصوبه. قلت: ومع ذلك فهو باطل أيضا، إذ لو كان للشيطان قدرة على ذلك لالتبس الحق بالباطل، وتشبه الشيطان بالنبي، واختلط على الناس أمر دينهم. فإن قيل: إن ذلك كله ينتفي بقوله: { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} لأنه تعالى أخبر بأن ذلك لا يبقى. قلنا: عدم بقائه غير رافع لما ذكرنا في التلبيس، وأقل ذلك: جواز الشك في المسموع، هل هو النبي، أم الشيطان؟ فإنه متى جوزنا أن تكون للشيطان تلك القدرة في التشبه بصوته _عليه الصلاة والسلام_ لزم في ذلك تجويز الشك في المسموع حتى يأتي ما يزيله، ومن المعلوم أن الشك في ذلك باطل وكفر، فلو جوزناه لجوزنا الكفر في بعض الأحوال، فذلك باطل، فبطل هذا الوجه الذي استحسنه هؤلاء الرجال.
وإذا ظهر لك ما في هذه الاحتمالات كلها علمت أن الصواب إنكار القصة من أصلها، وإذن نرجع في تفسير معنى الآية وهي قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}.
اعلم أن حقيقة التمني: طلب ما ليس معك، والأمنية: ما بولغ في تمنيه، كأحدوثة للحديث المستحسن جدا، ويطلق مجازا على القراءة. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعرفون الكتاب إلا أماني}(12) أي: إلا قراءة، لأن الأمي لا يعلم الكتاب من المصحف، وإنما يعلمه قراءة.
وقال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل: إنها سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها، فهذان وجهان في معنى التمني والأمنية.
صفحہ 41