مِنْهَا. فَمِنْهَا: أَن فِي (منهاج الْحَلِيمِيّ) و(شعب الْبَيْهَقِيّ) و(ابتهاج القونوي) حِكَايَة قَول إِن الْمَلَائِكَة من الْجِنّ وَأَنَّهُمْ خيارهم لقَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] أَي قَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات الله: (تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوًّا كَبِيرا) وَقَوله تَعَالَى: ﴿خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ﴾ [الْحجر: ٢٦] الْآيَة، فَلم يذكر قسما ثَالِثا، ويردّ بِأَن الْمَلَائِكَة قد يسمون جنَّة لاستتارهم، وَمِمَّا يُصَرح بتغايرهم قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الْكَهْف: ٥٠] وَلم يذكر فِي آيَة الرَّحِمان لِأَنَّهَا لبَيَان مَا ركب من خَلْق متقدِّم، وَالْمَلَائِكَة لَيْسُوا كَذَلِك لأَنهم مُخْتَرعون قَالَ الله تَعَالَى لَهُم: كونُوا فَكَانُوا كَمَا قَالَ للْأَصْل الَّذِي خلق مِنْهُ الْجِنّ وَالْأَصْل الَّذِي خلق مِنْهُ الْإِنْس وَهُوَ التُّرَاب وَالْمَاء وَالنَّار والهواء كُنْ فَكَانَ فالملائكة فِي الاختراع كأصول الْإِنْس وَالْجِنّ لَا كأعيانهما، فَلِذَا لم يذكرُوا مَعَهم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأبين من هَذَا كُله فِي أَن الْمَلَائِكَة صنف غير صنف الْجِنّ. حَدِيث مُسلم: (خُلقتْ الْمَلَائِكَة من نور وخُلقت الجان من مارج من نَار وخُلق آدم مِمَّا وصف لكم) . قَالَ: فَفِي فَصله بَينهمَا فِي الذّكر دَلِيل على أَنه أَرَادَ نورا آخر غير نور النَّار، وَاسْتدلَّ الثَّلَاثَة المذكورون على تباينهما بقوله تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠ / ٤١] . وَمِنْهَا: قَالَ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَيْضا الْمَلَائِكَة يسمون الروحانيين بِضَم الرَّاء وَفتحهَا، فالضم لأَنهم أَرْوَاح لَيْسَ مَعهَا مَاء وَلَا نَار وَلَا تُرَاب، وَمن قَالَ هَذَا قَالَ: الرّوح جَوْهَر، وَقد يجوز أَن يؤلف الله أرواحًا فيجسمها ويخلق مِنْهَا خلقا ناطقًا عَاقِلا فَتكون الرّوح مخترعًا، والتجسم وَضم النُّطْق وَالْعقل إِلَيْهِ حَادِثا من بعد فَيجوز أَن تكون أَجْسَادهم على مَا هِيَ عَلَيْهِ مخترعة كَمَا اخترع عِيسَى وناقة صَالح، وَأما الْفَتْح فبمعنى أَنهم لَيْسُوا مَحْصُورين فِي الْأَبْنِيَة والظلل وَإِنَّمَا هم فِي فسحة وبساطة. وَمِنْهَا: قَالَ الْحسن وَجُمْهُور الفلاسفة وَكثير من الجبريين: هم مَجْبُورُونَ على الْإِيمَان وَلَا يتصوّر مِنْهُم كفر. وَقَالَ عَامَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة: إِنَّهُم مختارون عارفون قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الْأَنْبِيَاء: ٢٩] فَلَو لم تتَصَوَّر مِنْهُم مُخَالفَة لم يؤاخذوا بذلك. وَمِنْهَا: أجمع الْمُسلمُونَ أَنهم مُؤمنُونَ فضلاء، وَاتفقَ أَئِمَّة الْمُسلمين أَن الرُّسُل مِنْهُم إِلَى الْأَنْبِيَاء معصومون كالأنبياء، وَالأَصَح بل الصَّوَاب عصمَة بَقِيَّتهمْ. وَأما مَا وَقع لهاروت وماروت كَمَا صَحَّ عَنهُ ﷺ فِي شَأْنهمَا أَنَّهُمَا كَانَا من الْمَلَائِكَة وأنهما افتتنا بالزهرة، وَكَانَت أجمل نسَاء زَمَنهَا حَتَّى زَنَيَا بهَا وشربا الْخمر، وقتلا فمسخت كوكبًا لِأَنَّهُمَا علماها الِاسْم الْأَعْظَم الَّذِي كَانَا يرقيان بِهِ إِلَى السَّمَاء فرقيت إِلَيْهَا فمسختْ هَذَا الْكَوْكَب المضيء الْمَعْرُوفَة، فَذَلِك أَمر خارق للْعَادَة أوجده الله تَعَالَى تأديبًا للْمَلَائكَة فِي قَوْلهم. كَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث أَيْضا عِنْد خلق آدم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [الْبَقَرَة: ٣٠] الْآيَة، فَبين لَهُم تَعَالَى أَنه لَو ركب فيهم مَا ركب فِي الْإِنْسَان لأفسدوا أَيْضا فتعجبوا، فَأَمرهمْ أَن يختاروا ثَلَاثَة مِنْهُم فَفَعَلُوا فاستقال وَاحِد مِنْهُم فأقيل، وَنزل هاروت وماروت، فَوَقع لَهما مَا وَقع تأديبًا لبَقيَّة الْمَلَائِكَة وزجرًا لَهُم عَن أَن يخوضوا فِيمَا لَا علم لَهُم بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذكرته من الْجَواب عَن هَذِه الْقِصَّة من أَنَّهَا أَمر خارق للْعَادَة، وبهذه الْحِكْمَة الَّتِي ذكرتها يتَبَيَّن بِهِ الردّ على من أَطَالَ فِي إِنْكَار قصتهما حَتَّى بَالغ بَعضهم وَقَالَ: إِن من اعْتقد ذَلِك فيهمَا كفر، وَلَيْسَ كَمَا زعم لما علمت من صِحَة الْأَحَادِيث بهَا، وَأَن ذَلِك الْوُقُوع لتِلْك الْحِكْمَة لَا يخل بعصمة الْمَلَائِكَة من حَيْثُ هِيَ وَلَا يُنَافِيهِ شَيْء من الْأَدِلَّة وَلَا من الْقَوَاعِد، فاحفظ مَا قَرّرته وتأمله فَإِن الْكَلَام قد كثر فِي هَذَا الْمحل وتعارضت فِيهِ الآراء والظنون وَمَا ذكرته فِيهِ هُوَ الأوفق بِالسنةِ وَغير منَاف للقواعد وَإِن لم أر من سبقني إِلَيْهِ، وَقيل لم يَكُونُوا ملكَيْنِ بل هما جنيان وَإِن كَانَا بَين الْمَلَائِكَة فَإِن صَحَّ هَذَا لم يحْتَج للجواب عَن قصتهما كَمَا أَن إِبْلِيس لم يكن من الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا كَانَ بَينهم وَهُوَ من الْجِنّ. وَمِنْهَا: قَالَ جمَاعَة: من ينتقص ملكا أجمع على أَنه من الْمَلَائِكَة أَو تَوَاتر بِهِ الْخَبَر قتل، كأنْ قَالَ: هَذَا أقسى قلبًا من مَالك خَازِن النَّار، أَو أوْحشّ من مُنكر وَنَكِير إِذا قَالَه فِي معرض النَّقْص بالوحاشة والقساوة. وَمِنْهَا: قَالَ جمَاعَة: إِن نَبينَا ﷺ مَبْعُوث إِلَى الْمَلَائِكَة أَيْضا، وَقد بسطت الْكَلَام على ذَلِك وَأَنه الْأَصَح فِي فَتْوَى غير هَذِه. وَمِنْهَا: مَا ذكره السُّبْكِيّ فِي حلبياته أَن الْجَمَاعَة تحصل بهم كالآدميين وَنَقله عَن فتاوي الحناطي وَبسطت الْكَلَام فِيهِ فِي (شرح الْإِرْشَاد) . وَمِنْهَا: قَالَ ابْن الصّلاح فِي (فَتَاوِيهِ): ورد أَن الْمَلَائِكَة لم يُعْطوا فَضِيلَة قِرَاءَة الْقُرْآن فَهِيَ حريصة لذَلِك على استماعه من
1 / 45