ومن الحقوق الواجبة للرعية على الملك: الرّفق بهم، والصّبر على صادرات هفواتهم، قال صلوات الله عليه وسلامه: «ما كان الرّفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق [١] في شيء إلا شانه» وقد روي عنه- صلوات الله عليه وسلامه: «من الرّفق أشياء لا تليق إلا بمنصب النبوّة» كان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشأم، كثير الرّفق موصوفا به. دخل مرّة الحمام عقيب مرضة طويلة أضعفته وانتهكت قوته فأدخل الحمّام وهو في غاية من الضّعف، فطلب من مملوك كان واقفا على رأسه ماء حارا فأحضر له في طاسة ماء شديد الحرارة، فلما قرب منه اضطربت يد المملوك فوقعت الطاسة عليه فأحرق الماء جسده، فلم يؤاخذه ولا بكلام. ثم طلب منه بعد ذلك بساعة ماء باردا. فأحضر له في تلك الطاسة ماء شديد البرد، فحين قرب منه اتفق له ما اتفق في المرّة الأولى، من اضطراب يده ووقوع الطاسة عليه، بذلك المساء الشديد البرد فغشي عليه وكاد يموت، فلما أفاق قال للملوك إن كنت تريد قتلي فعرّفني. ولم يزد على هذه الكلمة ﵁ . قيل: تقدّم رجل أبخر [٢] إلى بعض الرؤساء يشاوره فقال له تنحّ عنّي فقد آذيتني. قال الرجل: لا كرامة لا عزازة. ما رأسناك وقمنا بين يديك إلا حتى تحتمل منا ما هو أشدّ من هذا وتصبر منّا على ما هو أعظم منه. وممّا يجب للرعيّة على الملك: ردع قويّهم عن ضعيفهم، وإنصاف ذليلهم من عزيزهم وإقامة الحدود [٣] فيهم، وإقرار حقوقهم مقارها، وإغاثة ملهوفهم، وإجابة مستصرخهم، والتسوية في حكمه بين الأبعد منهم والأقرب، والأذلّ والأعزّ. قال عمر بن الخطّاب لرجل: إني لا أحبك قال: فتنقصني من حقّي شيئا؟ قال عمر:
لا. قال الرجل: فما يفرح بالحبّ بعد هذا إلا النساء!.
ويجب للملك أن يعرف نعمة الله عليه بأن اصطفاه لهذه المرتبة العلية دون سائر الخلق، وبأن جعله يفزع منه كلّ أحد ولم يجعله يفزع من أحد، فلا يزال لها
_________
[١] الخرق: ضدّ الرّفق، الغلظة والطيش.
[٢] الأبخر: كريه رائحة الفم، أو النّفس.
[٣] إقامة الحدود: إيقاع العقوبات الشرعيّة على المذنبين.
1 / 40