مقدمة المحقق
الحمد للَّه رب العالمين بالغ الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على نبيّه الأمين محمد بن عبد الله خيرة الأخيار من بني عدنان، المرسل رحمة للعالمين، وبعد فقد من الله تعالى على عبده الفقير إلى كرمه وعفوه صاحب التحقيق فهداه إلى كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» ليخرج به من ظلمات القدم والغمرة إلى أنوار الحداثة والشهرة وهو من مقتتيات مكتبتي المتواضعة مذ كنت طالبا من طلاب كلية الآداب بالجامعة السورية بدمشق عام/ ١٩٥٥/ م، وظلّ غائبا عن النظر حاضرا في الوجدان والفكر إلى أن برز لي فجأة كالصديق الموافي في ساعة الشدّة وأنا مشغول بالتصنيفات العديدة التي أصدرتها دار القلم العربيّ بحلب، واقترحت على صاحب الدار أن ننفض عن هذا المؤلف الجليل غبار الزمن فوافق في الحال لدى رؤية النسخة التي أملكها من الكتاب وتقع في مائتين وتسع وسبعين صفحة وليس بها من تاريخ ولا دليل على المحقّق سوى عبارة ذيّلت الغلاف بعد العنوان، وتقول العبارة التي هدفها التجارة: [يطلب من مكتب عزّ للتوريدات- مكتبة قومسيون- ميدان الأزهر بمصر] .
وقد بادرت منذ اضطلاعي بعبء تحقيق الكتاب إلى التماس طبعاته المختلفة في كلّ ما يقع تحت يدي ولكنني آثرت مؤخرا النموذج الّذي توفر بحوزتي لأنه قديم ولأنه بخلوه من الضبط والتشكيل والفهرسة والهوامش المضيئة، يسمح لي بالمزيد من التدخّل والاجتهاد في ترجيح وجوه الكلام بعضها على بعض فيكون لي دور المحقّق وإن لم أعتمد على الأصل المخطوط. وقد كان لي بتوفيق من الله وبإخلاص النية فضل ضبط النص التاريخي بالشكل وشرح غريب مفرداته بالإضافة إلى ترجمة الأعلام ترجمة موجزة كافية وبذلك المجهود ألحقت النص التاريخي بالنص الأدبي فائدة وأثرا متداولا. وما يهمني أن يعرفه القارئ لهذا الكتاب أن اعتمادي كان على أربع طبعات من طبعات الفخري بالرموز والتواريخ الآتية:
أوّلا: (عزّ) وهي المتوفّرة لدى المحقّق بلا تاريخ.
ثانيا: (ألما) وهي الطبعة الأولى بألمانيا عام/ ١٨٥٨/ م.
1 / 5
ثالثا: (رحما) وهي الصادرة عن المطبعة الرحمانية بمصر/ ١٣٤٠/ هـ و/ ١٩٢١/ م.
رابعا: (بيروت) وهي الصادرة عن دار بيروت للطباعة والنشر/ ١٣٨٥/ هـ و/ ١٩٦٦/ م.
تقع طبعة (عزّ) كما ذكرنا في (٢٧٩) صفحة من القطع المتوسط بورق أصفر.
وتقع طبعة (ألما) في (٣٩٠) صفحة من القطع المتوسط، يقابلها تقديم ودراسة باللغة الألمانية بقلم المستشرق W.Ahlwardt. وتقع طبعة (رحما) في (٢٥٣) صفحة من القطع فوق المتوسط مع مقدمة قصيرة للناشر محمود توفيق الكتبي.
وتقع طبعة بيروت في (٣٤٠) صفحة عدا الفهارس بورق أبيض صقيل وهي الطبعة الأكثر حداثة وإتقانا.
وقبل استعراض الأوراق المذكورة يهمنا الإلمام بترجمة لحياة المؤلف: ابن طباطبا مع ملمح كلّي وموجز جدّا لكتاب الفخري ليكون ذلك عونا للقارئ في قطع المسافة بين أول الكتاب وآخره في ألفة ومحبّة للمادّة التاريخيّة وهي الغنيّة غنى غزيرا بالحكايا والطرائف.
أمّا المؤلّف فهو:
محمّد بن عليّ بن محمّد بن طباطبا العلويّ. كنيته أبو جعفر، وشهرته بابن الطّقطقيّ [١] على خلاف في ضبطها، وختامها بالياء أو الألف المقصورة.
كان أبوه نقيب الأشراف العلويّة بالحلّة والنجف وكربلاء، وقد خلف أباه في تلك
_________
[١] هكذا ضبطت في كتاب الأعلام للزركلي. انظر المجلد السادس ص ٢٨٣.
1 / 6
الرتبة.
تزوج بامرأة فارسية من خراسان وأقام بالموصل، وتقرّب إلى واليها فخر الدين عيسى بن إبراهيم بإهدائه كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» الّذي فرغ من تأليفه عام/ ٧٠١/ هـ، وجعل نسبته إليه باسم «الفخريّ» .
وقد عقد جلال الدين السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» فصلا في دولة بني طباطبا العلويّة الحسنيّة فقال: «وقام منهم بالخلافة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم طباطبا في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة [١]» . ويبدو أن المذكور هو الجدّ الّذي نسب إليه ابن طباطبا المؤرّخ، وله خبر مفصّل في كتاب الأعلام للزركلي ج ٥ ص ٢٩٣. ولم تمدّنا المراجع بتفصيلات عن حياة صاحب الفخري سوى أنه تزوج من فارسية وزار مراغة بأذربيجان واستقر بالموصل وتوفي فيها عام/ ٧٠٩/ هـ. وقد أبدى انحيازا للمغول وتهيبا لسلطانهم ولمن حكموا تحت رايتهم بالإضافة إلى علوّيته.
أما كتاب «الفخري» فقد حوى جزأين هامّين: الأوّل، موضوعة الآداب العامة للسلاطين ومعاشريهم، وثانيهما التأريخ لثلاث من الدول: هي: دولة الخلفاء الراشدين، ودولة بني أميّة، والدولة العبّاسية، وقد تعرّض بذكر وجيز للدول العارضة على الكيان العبّاسي كالدولة العلوية المعروفة بالفاطمية مثلا.
وكانت خطته أن يذكر الخلفاء والسلاطين وأعمالهم ثم يثنّي بذكر من استوزره من الوزراء، ملمّا بطرائف الوقائع من الحكايات على وجه الاستطراد لدفع الملل عن القارئ.. وهذا ما يجعل كتاب «الفخري» أهلا للمطالعة من جهتين، جهة التاريخ، وجهة الطرائف والحكايات العجيبة. فهو كتاب تاريخ وكتاب أدب ومسامرة في آن معا، وقد تقلّد بقلادة الأشعار في كثير من صفحاته، وكأنّ الناثر العربيّ سواء أكان مؤرخا أو عالما أم فيلسوفا، لا يستغني عن الاغتراف من معين الشعر
_________
[١] انظر تاريخ الخلفاء، طبعة دار القلم العربيّ بحلب ص ٤٦٧.
1 / 7
الّذي هو ديوان العرب.
ويذكر الأستاذ عبد الوهاب الصابوني في كتابه «عيون المؤلفات» أنّ عنده من كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» طبعتين الأولى تامّة ولكنها غير محققة طبعت في مصر/ ١٩٢٧/ م، والثانية منقحة مصححة تاريخها/ ١٩٣٨/ م وقد راجعها ونقّحها محمد عوض إبراهيم بك وعليّ الجارم بك، ولولا أنني قد اطلعت على هذه الحقيقة بعد فراغي من تحقيق طبعة (عزّ) المتوفرة لديّ لنظرت بشكل أو بآخر في هاتين الطبعتين. على أنني كنت قد بيّنت حرصي على الانفراد بالجهد في الطبعة غير المنقحة ليكون لي فضل الجدّة والابتكار في إخراج العمل شكلا ومضمونا.
ومهما يكن، فللقارئ العربيّ أن يغتنم في كتاب «الفخري» مرجعا مختصرا ومفيدا بين المراجع التاريخية الأخرى المستفيضة مثل «تاريخ الأمم والملوك» لمحمد بن جرير الطبري، أو «الكامل في التاريخ» لعليّ بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري وغيرهما.. ورغم انحياز صاحب الفخري إلى علويّته وحملته على عديد من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية يجد القارئ في الكتاب مرجعا هامّا في تاريخ العرب والإسلام وها هو الآن نصّ محقق من نصوص الأدب والطرائف..
اسأل الله تعالى أن يجعل لي فيه ذخرا ليوم الدين، وأن يجعل فيه مددا لطلاب المعرفة والعبرة التاريخية، وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
حلب ١٠/ ٢/ ١٤١٨ هـ ١٦/ ٦/ ١٩٩٧ م عبد القادر محمد مايو الحلبي القسطلي
1 / 8
الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية
1 / 9
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرّحمن الرّحيم ١ الحمد للَّه مسبّب الأسباب، ومفتّح الأبواب. مقدّر الأمور، ومدبّر الدهور.
واجب الوجود، وخالق الأخلاق والجود. مفيض العقل. وواهب الكلّ. أقرّ أنه المالك وأنّ الوجود مملوك لعظمته. وأشهد أنه الفاطر. وأن الغيب غير مستور لحكمته. وأعوذ بجلال عزّه من ذلّ الحجاب، وبفضل جوده من نقاش الحساب، وبخافي علمه ممّا في الكتاب من العذاب، وأصلي على النّفوس العلويّة المطهّرة من الأدناس، وعلى الأجسام الأرضيّة المنزّهة عن الأرجاس. وأخصّ من بينهم بأفضل الصلوات الزاكيات، وأكمل التحيّات الناميات، من نادى والألسن حداد، وأرشد والأكباد غلاظ والقلوب جلاد- محمّدا النبيّ الأميّ ذا التأييدات الإلهيّة، والتأكيدات الجلاليّة، وآله الطيّبين وأصحابه الصالحين، الذين كانوا صدّقوه وقد أرسل، ونصروه وقد خذل، ما سمح جواد ووري زناد.
وبعد، فإن أفضل ما نظر فيه خواصّ الملوك، وسلكوا إليه أفضل السّلوك بعد نظرهم في أمر الأمّة، وقيامهم فيما استودعوه بالحجّة، هو النظر في العلوم، والإقبال على الكتب التي صدرت عن شرائف الفهوم، فأمّا فضيلة العلم فظاهرة ظهور الشمس عريّة من الشّكّ واللّبس، فمما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ٣٩: ٩ [١]، وممّا جاء في الحديث- صلوات الله وسلامه على من نسب إليه-: «إن الملائكة لتضع [٢] أجنحتها لطالب العلم» . وأما فضيلة الكتب فقد قالوا: إن الكتاب هو الجليس الّذي لا ينافق، ولا يملّ ولا يعاتبك إذا جفوته، ولا يفشي سرّك. وقال المهلّب [٣] لبنيه: يا بنيّ: إذا
_________
[١] سورة الزّمر، الآية/ ٩/.
[٢] تضع: تخفض، وتضع أجنحتها: كناية عن التواضع إكراما لطالب العلم.
[٣] هو المهلّب بن أبي صفرة كان أميرا على البصرة لمصعب بن الزبير. حارب الخوارج.
تولّى على خراسان لعبد الملك كان حكيما ورجل قيادة وسياسة وفضل. توفي ٨٣ هـ.
1 / 11
وقفتم في الأسواق فلا تقفوا إلا على من يبيع السلاح، أو يبيع الكتب.
وكان الفتح بن خاقان [١] إذا كان جالسا في حضرة المتوكّل، وأراد أن يقوم إلى المتوضّأ، أخرج من ساق موزته كتابا لطيفا، فلا يزال يطالعه في ممرّه وعوده فإذا وصل إلى الحضرة أعاده إلى ساق موزته.
أرسل بعض الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره، فلما جاء الخادم إليه وجده جالسا وحواليه كتب، وهو يطالع فيها: فقال له: إن أمير المؤمنين يستدعيك قال: قل له: عندي قوم من الحكماء أحادثهم، فإذا فرغت منهم حضرت. فلمّا عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره بذلك، قال له: ويحك! من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد! قال: فأحضره الساعة كيف كان. فلما حضر ذلك العالم، قال له الخليفة: من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين:
لنا جلساء ما نملّ حديثهم ... أمينون مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأيا وتأديبا ومجدا وسؤددا
فإن قلت: أموات. فلم تعد أمرهم ... وإن قلت: أحياء. فلست مفندا
(طويل) فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب، ولم ينكر عليه تأخره.
وقال الجاحظ: دخلت على محمّد بن إسحاق [٢] أمير بغداد، في أيام ولايته وهو جالس في الديوان، والناس مثول بين يديه كأن على رءوسهم الطير، ثم دخلت إليه بعد مدّة وهو معزول، وهو جالس في خزانة كتبه، وحواليه الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. فما رأيته أهيب منه في تلك الحال!.
وقال المتنبي:
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزّمان كتاب
(طويل)
_________
[١] أديب وشاعر كان صاحبا ونديما ووزيرا للخليفة المتوكّل، وقتل معه ٢٤٧ هـ.
[٢] هو محمد بن إسحاق الصيمريّ نديم الخليفة المتوكّل، كان أديبا وشاعرا ظريفا، توفّي ٢٧٥ هـ.
1 / 12
والعلم يزيّن الملوك أكثر ممّا يزين السّوقة، وإذا كان الملك عالما صار العالم ملكا وأصلح ما نظر فيه الملوك ما اشتمل على الآداب السلطانيّة، والسّير التاريخية المطويّة على ظرائف الأخبار، وعجائب الآثار، على أنّ الوزراء كانوا قديما يكرهون أنّ الملوك يقفون على شيء من السّير والتواريخ، خوفا أن يتفطّن الملوك إلى أشياء لا يحبّ الوزراء أن يتفطّن لها الملوك.
طلب المكتفي [١] من وزيره كتبا يلهو بها؟ ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النوّاب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة، فحصلوا شيئا من كتب التاريخ، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء ومعرفة التحيّل في استخراج الأموال، فلمّا رآه الوزير، قال لنوّابه والله إنكم أشدّ الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصّلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عنّي وعن غيري فقد حصّلتم له ما يعرّفه مصارع الوزراء، ويوجده الطريق إلى استخراج المال، ويعرّفه خراب البلاد من عمارتها! ردّوها، وحصّلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه.
وكانوا يكرهون أيضا أن يكون في الخلفاء والملوك فطانة ومعرفة بالأمور ولما مات المكتفي، عزم وزيره على مبايعة عبد الله بن المعتزّ [٢]، وكان عبد الله فاضلا لبيبا محصلا، فخلا به بعض عقلاء الكتاب وقال له: أيّهذا الوزير: هذا الرأي الّذي قد رأيته في مبايعة ابن المعتز ليس بصواب، قال الوزير: كيف ذلك؟
قال: أيّ حاجة لك أن تجلس على سرير الخلافة من يعرف الذّراع والميزان والأسعار، ويفهم الأمور، ويعرف القبيح من الحسن، ويعرف دارك وبستانك وضيعتك؟ الرأي أن تجلس صبيّا صغيرا فيكون اسم الخلافة له، ومعناها لك، فتربّيه إلى أن يكبر، فإذا كبر عرف لك حقّ التربية، وتكون أنت قد قضيت أوطارك
_________
[١] هو علي أبو محمّد بن المعتضد، الخليفة السابع عشر من خلفاء بني العبّاس، بويع بالخلافة سنة/ ٢٨٩/ هـ.
[٢] عبد الله بن المعتزّ: أمير عباسيّ شاعر وأديب صاحب كتاب «البديع» ولي الخلافة يوما وليلة ومات خنقا سنة/ ٢٩٦/ هـ.
1 / 13
مدّة صغره، فشكره الوزير على ذلك، وعدل عن عبد الله بن المعتزّ إلى المقتدر، وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة.
وكان بدر الدين لؤلؤ [١] صاحب الموصل- ﵀ أكثر ما يجري في مجلس أنسه إيراد الأشعار المطربة، والحكايات الملهية، فإذا دخل شهر رمضان أحضرت له كتب التواريخ والسّير، وجلس الزّين الكاتب وعزّ الدين المحدّث يقرءان عليه أحوال العالم.
وهذا التقرير يستدعي شرح حال: وذلك أنّي حين أحلّني حكم القضاء بالموصل الحدباء، حللتها غير متعرض لوبلها أو طلّها، ودخلتها كما قال عزّ من قائل: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها ٢٨: ١٥ [٢]، وكنت بنيت عزمي على المقام فيها بقدر ما ينكسر البرد، ثم التوجّه بعد ذلك إلى تبريز، فحين استقررت بالموصل، بلغني من عدّة جهات مختلفة، ومن ذوي آراء غير مؤتلفة، غزارة فضل صاحبها الأعظم المولى المخدوم الملك المعظّم، أفضل الملوك وأعظمهم، وأكرم الحكماء وأحلمهم، فخر الملّة والدين، الممنوح بخصائص لو كانت للدهر لما شكا صرفه حر ولما مسّ أحدا منه ضرّ، ولو كانت للبحر لما كان ماؤه ملحا أجاجا، ولا خاف راكبه منه أمواجا، ولو ظفرت بها الأقمار، لما لحقها السّرار، عيسى [٣] الّذي أحيا ميت الفضائل، ونشر طيّ الفواضل، وأقام سوق المكارم في عصر كسدت فيه سوقها وأنهض مقعدات المحاسن بعد ما عجزت عن حمل أجسامها سوقها، وذبّ عن الأحرار في زمان هم فيه أقلّ من القليل، وملأ أيديهم من عطائه بأياد واضحة الغرّة والتّحجيل وأفاء عليهم ظلّ رأفة لا ينتقل، وخفض لهم جناح رحمة فما بيني يتفضّل عليهم ويتطوّل، كلّما ازداد دولة وتمكينا
_________
[١] بدر الدين لؤلؤ: أتابك الموصل زمن المستعصم قبل واليها عيسى بن إبراهيم، الّذي لازمه ابن طباطبا.
[٢] سورة القصص، الآية ١٥.
[٣] عيسى بن إبراهيم والي الموصل، قدّم إليه ابن طباطبا كتابه هذا، «الفخري في الآداب السلطانية» الّذي فرغ منه عام/ ٧٠١/ هـ. وسرار الشهر: آخر ليلة فيه.
1 / 14
زاد تواضعا ولينا، وكلّما بلغ من الملك غاية، رفع للكرم راية ابن إبراهيم أعزّ الله نصره، وأنفذ نهيه وأمره، الّذي أنسى ذكر الأجواد، ورزانة الأطواد وشجاعة الآساد:
للشّمس فيه وللرّياح وللسحاب ... وللبحار وللأسود شمائل
(كامل) الّذي هو في جبهة هذا الدهر غرّة، وفي قلادته درّة لا تدانيها في الدنيا درّة الّذي صدّق أخبار الماضين، وحقق ما نسخ من مآثر الأوّلين.
وقد قال ابن الرومي:
أظنّ بأنّ الدهر ما زال هكذا ... وأنّ حديث الجود ليس له أصل
وهب أنّه كان الكرام كما حكوا ... أما كان فيهم واحد وله نسل؟!
(طويل) فلو شاهد لصدّق ما سمع من أخبار أهل الكرم، ولما اختلجت بين جنبيه عوارض التّهم، الحاكم الّذي إذا سلّط ذهنه الشريف، وفكره اللطيف، على القضايا الديوانيّة، والأمور السلطانية ذلّت له الصعاب، ولانت له الصّم الصّلاب، وظهرت له الخفايا، وتعذّر أن يقال: في الزوايا خبايا.
أما قوّة العدل عنده فسليمة، قواعدها لديه قويمة، فلا تجزعنّك هيبته المرهوبة فإنّ وراءها رأفة بالضعيف، ورقة على الفقير، وجبرا للكسير.
وله من الصّفح الجميل عوائد ... أسر الطليق بها، وفكّ العاني [١]
(كامل) ولقد حضرت يوما مجلسه الرفيع وكان يوم غيث، وقد تقدم بصيانة الباب فلما كثر الغيث، قال للحجّاب: من حضر الباب وله حاجة فعرّفونا بها، ثم قال:
إن أحدا لا يحضر في مثل هذا الوقت إلّا لضرورة، ولا يجوز أن يردّ خائبا، فباللَّه هل يأتي في هذا الكتاب الّذي يريد أن يكون مشتملا على محاسن الآثار، إلا ما هو
_________
[١] العاني: الأسير المعنّى.
1 / 15
من جنس هذه الحكاية؟.
وأما قوة السّياسة عنده فعظيمة، لم تعترضها هضيمة [١]، فلا تغرنكم رقته وابتسامه، فإنّ وراء ذلك صرامة يخضع لها الأسود، وشهامة يحذرها السيّد والمسود.
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدّرّ، واحذره إذا كان مزبدا
(طويل) وأما قوّة الذكاء والتيقّظ فهو فيها كما قال المتنبّي:
تعرف في عينه حقيقته ... كأنه بالذكاء مكتحل
أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها، أخاف يشتعل
(منسرح) وأمّا قوّة العقل الغزير، والتمييز الصحيح، فإنّي لأظنّ أنّ عقلاء الملوك الماضين لو عاشوا وشاهدوه لتعلّموا منه كيف يساس الجمهور، وكيف تدبّر الأمور وأما قوّة الكرم الّذي تجاوز الحدّ وخرج، فحدّث عن البحر ولا حرج، فلو عاش الكرام الذين ضربت بهم الأمثال وعدمت لهم النظراء والأمثال، لتعلّموا منه غوامض الكرم ولتلقّفوا منه محاسن الشيم، ولو أنصفت لتركت وصف هذه القوّة من قواه عجزا عن الإحاطة بكنه وصفها، وقصورا عن القيام بواجب وصفها، ولكنّي أقول بحسب الجهد والطاقة: إن احتقاره للدنيا احتقار الأولياء، واستصغاره لها استصغار الزّهاد:
فلو جاد بالدنيا وثنّى بضعفها ... لظنّ من استصغاره أنّه ضنّا
(طويل) يعطي عطاء من يبقى الذّكر ويحييه، وينفد المال ويفنيه.
أعاذل، إنّ الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لومها [٢]
وتذكر أخلاق الفتى، وعظامه ... مغيّبة في التّرب بال رميمها
(طويل)
_________
[١] الهضيمة: المظلمة.
[٢] اللّوم: اللّؤم، بتليين الهمزة جوازا، وهو ضدّ الكرم.
1 / 16
بهمة نالت السماء، وجاوزت الجوزاء، ومن هناك حصل له الأنس بعلم النجوم فإنه أخذ علمها بالارتقاء إليها والاقتراب، لا بالحساب والأصطرلاب [١]، بلغ السماء علوّا فشافهته بأسرارها كواكبها، وفرع [٢] الأفلاك سموّا فحدثته بأخبارها، مشارقها ومغاربها:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر
(طويل) لا تستقرّ في خزائنه نفائس أمواله، وليس لها بيت يحفظها سوى بيوت سؤّاله [٣]:
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ... ظلّت إلى طرق العلياء تستبق
لا يألف الدّرهم المنقوش صرّتنا ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق
(بسيط) لا يفعل السّكر في كرمه إلا كما يفعل الصّحو في إمطار ديمه [٤]
يعيد عطايا سكره عند صحوه ... ليعلم أنّ الجود منه على علم
ويسلم في الإحسان من قول قائل ... تكرّم لمّا خامرته [٥] ابنة الكرم
(طويل) ومن أسرار كرمه أنّه منزّه عن التّبذير، وإن كان أكثر من الكثير لأنه موضوع في أجلّ مواضعه، وواقع في أفضل مواقعة، فمتى تعرّض آمل أو عنّ سائل [٦]، بادر إلى إرفاده (٧) مبادرة السيل إلى وهاده.
_________
[١] الأصطرلاب: آلة فلكية اخترعها العرب لرصد النجوم والأفلاك.
[٢] فرع الأفلاك: صعد إليها وارتقاها.
[٣] السؤال: جمع سائل، وهو طالب المعروف والإحسان.
[٤] الدّيم: جمع ديمة، وهي السحابة الماطرة.
[٥] خامرته: خالطت عقله، ابنة الكرم: كناية عن الخمرة.
[٦] عنّ سائل: طرق محتاج.
1 / 17
عشق المكارم فاستهام بذكرها ... والمكرمات قليلة العشّاق
وأقام سوقا للثناء، ولم تكن ... سوق الثناء تعدّ في الأسواق
فاذكر صنائعه فلسن صنائعا ... لكنهنّ قلائد الأعناق
والثم أنامله فلسن أناملا ... لكنّهن مفاتح الأرزاق
(كامل) وكأني بك أيها الناظر في هذا الكتاب قد استعظمت ما سمعت، فإن عرض لك الشّكّ فانظر أعيان هذا العصر، تجدهم يناقشون على الذرّة [١]، وتجده لا يلتفت إلى الدّرّة، وتجدهم يحرصون على اقتناء الذّخائر، وتجده لا يحرص إلّا على الذكر السّائر والصيّت الطائر، وتجدهم قد شغفتهم محبّة الأولاد، وتجده قد شغفته محبّة السؤّال والقصّاد، وتجدهم يهربون من المغارم [٢] وتجده يعدّها من أفضل المغانم ثمّ ارجع البصر تجد المدائح عندهم كاسدة، وتجدها عنده نافقة، وتأمّل تبصر المكارم لديهم جامدة وتبصرها لديه دافقة، وانظر بابه تجده عامرا بوفود الثناء غاصّا بالأدباء والشّعراء والفضلاء والفصحاء.
يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء [٣]
(خفيف) وتاللَّه ما الدنيا إلا دنياه، ولا العيش إلا عيشه الّذي أعطاه الله.
ما العيش أنّ يمسي الفتى ... متشبّعا ضخم الجزاره
العيش أنّ يشجي الفتى ... أعداءه، ويعزّ جاره
حتى يخاض [٤] ويرتجى ... ويرى له نشب وإ
ويروح إمّا للكتابة ... سعيه، أو للإماره
_________
[١] يناقشون على الذّرة: كناية عن البخل حتّى بالقليل كالذرّة.
[٢] المغارم: التكاليف والخسائر. وهنا: الإنفاق.
[٣] البيت لبشّار بن برد في مدح عقبة بن سلم بن قتيبة، ورواية الديوان:
يسقط الطير حيث ينتشر الحبس ... ب وتغشى منازل الكرماء
[٤] يخاض: يؤتى إليه ويقصد.
1 / 18
رجعنا إلى حكاية الحال، وإتمام المقال: فلفقت المقادير أن جرى ذكري بين يديه وعرض شيء من أمري عليه فلمح بذكاء قلبه، وصحّة حدسه من تلك الأنباء حقيقة حالي قبل اللّقاء، وتقدّم بالحضور في خدمته، فلما حضرت راعني ما شاهدت من كمال هيئته وراقني ما عاينت من جمال صورته، وشريف سيرته فكان أوّل ما أنشدته قول المتنبي:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كلّ ركب له ذكر
وأستعظم الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر [١]
(طويل) ثمّ تابع من ألطافه ما غرس به ودّا، وجنى منه ثناء وحمدا، فرأيت أن أخدم حضرته بتأليف هذا الكتاب، ليكون تذكرة له، وتذكرة لي عنده، يذكرني به إذا غبت عن عالي جنابه، وانفصلت عن فسيح رحابه.
وهذا كتاب تكلّمت فيه على أحوال الدّول وأمور الملك، وذكرت فيه ما استظرفته من أحوال الملوك الفضلاء، واستقريته من سير الخلفاء والوزراء وبنيته على فصلين [٢]:
فالفصل الأول تكلّمت فيه على الأمور السلطانية والسّياسات الملكيّة وخواص الملك التي يتميّز بها عن السّوقة [٣]، والتي تجب أن تكون موجودة أو معدومة فيه وما يجب له على رعيته وما يجب لهم عليه، ورصعت الكلام فيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، والحكايات المستطرفة والأشعار المستحسنة.
والفصل الثاني: تكلّمت فيه على دولة من مشاهير الدول التي كانت طاعتها عامّة، ومحاسنها تامّة، ابتدأت فيه بدولة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان
_________
[١] صغر الخبر الخبر: كذّب الواقع ما يروى من الكلام، والتجربة أصدق.
[٢] بعض الطبعات لم تلتزم بتقسيم المؤلف كتابه إلى فصلين، ومنها هذه الطبعة التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب وسنحاول التزام خطّة المؤلّف وتسمية أجزاء الفصل الثاني بأسماء الدّول التي تناولها المؤلّف بالتأريخ. ع. م م.
[٣] السّوقة: عوامّ الناس وأخلاطهم، ونقيضهم الملوك والأمراء.
1 / 19
وعليّ- ﵃ على الترتيب الّذي وقع، ثمّ بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأمويّة، ثم بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأموية، ثم بالدولة التي تسلمت الملك منها، وهي الدولة العبّاسيّة ثمّ بالدول التي وقعت في أثناء الدّول الكبار، كدولة بني بويه، وكدولة بني سلجوق وكدولة الفاطميين بمصر على وجه الإيجاز، فإنّها دول وقعت في أثناء دولة بني العبّاس ولكنها لم تكن طاعتها عامة، فأتكلّم على دولة دولة بمجموع ما حصل في ذهني من الهيئة الاجتماعية التي أفادتنيها مطالعة السّير والتواريخ، فأذكر كيف كان ابتداؤها وانتهاؤها، وطرفا ممتعا من محاسن ملوكها، وأخبار سلاطينها، فإن شذّ شيء من أحوالها عن ذهني، واحتجت إلى إثباته: من حكاية ظريفة، أو بيت شعر نادر، أو آية أو حديث نبوي، أخذته من مظانّه، ثم إذا ذكرت دولة فدولة تكلّمت على كلّيات أمورها، ثم ذكرت واحدا واحدا من ملوكها، وما جرى في أيّامه من الوقائع المشهورة والحوادث المأثورة، فإذا انقضت أيّام ذلك الملك، ذكرت وزراءه واحدا واحدا وظرائف ما جرى لهم، فإذا انقضت أيام الملك ووزرائه ابتدأت بالملك الّذي بعده وبما جرى في أيّامه، وبسير وزرائه كذلك، إلى آخر الدّولة العبّاسية.
والتزمت فيه أمرين: أحدهما: ألّا أميل فيه إلّا مع الحقّ، ولا أنطق فيه إلّا بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوى، وأخرج من حكم المنشأ والمربى، وأفرض نفسي غريبا منهم، وأجنبيّا بينهم. وثانيهما: أن أعبّر عن المعاني بعبارات واضحة تقرب من الأفهام لينتفع بها كلّ أحد، عادلا عن العبارات المستصعبة التي يقصد فيها إظهار الفصاحة، وإثبات البلاغة، فطالما رأيت مصنّفي الكتب قد اعترضتهم محبّة إظهار الفصاحة والبلاغة فخفيت أغراضهم، واعتاصت معانيهم، فقلّت الفائدة بمصنّفاتهم من ذلك كتاب القانون في الطبّ لأبي عليّ الحسين [١] بن سينا البخاريّ، فإنّه حشاه بالعبارات الغامضة، والتّراكيب المستغلقة، فبطل غرضه من
_________
[١] هو الحسين بن عبد الله أبو علي بن سينا، نشأ وتعلّم في بخارى وإليها نسب، له حوالي مائة تصنيف أشهرها القانون في الطبّ، وهو عالم وفيلسوف وطبيب وشاعر متعدّد الجوانب. توفي/ ٤٢٩/ هـ.
1 / 20
الانتفاع بكتابه، ولذلك ترى عامّة الأطباء قد عدلوا عن كتابه إلى «الملكي» السّهل العبارة، المفهم الإشارة.
وهذا كتاب يحتاج إليه من يسوس الجمهور، ويدبّر الأمور، وإن أنصفه النّاس أخذوا أولادهم بتحفظه، وتدبّر معانيه، بعد أن يتدبّروه هم، فما الصغير بأحوج إليه من الكبير، ولا الملك العامّ الطاعة، بأحوج إليه من ملك مدينة ولا ذوو الملك بأحوج إليه من ذوي الأدب، فإنّ من ينصّب نفسه لمفاوضة الملوك، ومجالستهم ومذاكرتهم، يحتاج إلى أكثر ممّا في هذا الكتاب، فعلى أقلّ الأقسام لا يسعه تركه.
وهذا الكتاب إن نظر بعين الإنصاف رئي أنفع من «الحماسة» التي لهج الناس بها، وأخذوا أولادهم بحفظها فإنّ «الحماسة» [١] لا يستفاد منها أكثر من الترغيب في الشّجاعة والضّيافة وشيء يسير من الأخلاق في الباب المسمّى بباب الأدب، والتأنّس بالمذاهب الشّعرية. وهذا الكتاب يستفاد منه هذه الخصال المذكورة ويستفاد منه قواعد السياسة، وأدوات الرّئاسة. فهذا فيه ما في «الحماسة»، وليس في الحماسة، ما فيه. وإنّه ليفيد العقل قوّة، والذّهن حدّة، والبصيرة نورا، وهو للخاطر الذكيّ بمنزلة المسنّ الجيّد للفولاذ، وهو أيضا أنفع من «المقامات» [٢] التي الناس فيها معتقدون، وفي تحفّظها راغبون، إذ «المقامات» لا يستفاد منها سوى التمرّن على الإنشاء، والوقوف على مذاهب النظم والنثر. نعم، وفيها حكم وحيل وتجارب، إلّا أنّ ذلك ممّا يصغّر الهمّة، إذ هو مبنيّ على السّؤال والاستجداء والتحيّل القبيح على النّزر الطفيف، فإن نفعت من جانب، ضرت من جانب وبعض الناس تنبهوا على هذا من المقامات الحريرية والبديعيّة، فعدل ناس إلى «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- ﵇
_________
[١] كتاب «الحماسة» لأبي تمّام الطائي الشاعر العبّاسي المشهور المتوفى ترجيحا/ ٢٣١/ هـ، قيل عنه: إنّه في حماسته أشعر منه في شعره، إذ كان جيّد الاختيار من أشعار العرب.
[٢] المقامات: شكل قديم من أشكال الأدب له شهرته، ومخترعه الأوّل بديع الزمان الهمذاني واسمه أحمد بن الحسين وكنيته أبو الفضل. توفي عام/ ٣٩٨/ هـ.
1 / 21
فإنه الكتاب الّذي يتعلّم منه الحكم والمواعظ، والخطب والتوحيد والشجاعة والزهد وعلوّ الهمّة، وأدنى فوائده الفصاحة والبلاغة، وعدل الناس إلى «اليمني» للعتبي [١]، وهو كتاب صنفه مؤلفه ليمين الدولة محمود بن سبكتكين [٢] يشتمل على سير جماعة من الملوك بالبلاد الشرقية، عبر فيه بعبارات حظها من الفصاحة وافر وصاحبها إن لم يكن ساحرا فهو كاتب ماهر، والعجم مشغوفون به مجدّون في طلبه وهو لعمري كتاب يشتمل على ظرائف حكم، وبدائع سير، مع ما فيه من فنون البلاغة، وأنواع الفصاحة، ولعلّ قائلا أن يقول: لقد بالغ في وصف كتابه، وحشا ما شاء في جرابه، والمرء مفتون بابنه وشعره، فإن اعتراه ريب فليتأمّل الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، فلعله لا يرى فيها كتابا أجمع للمعنى الّذي قصد به من هذا الكتاب.
وهو أعزّ الله نصره [٣]، وسر بدوام السعادة سرّه، قد أغناه الله بالذّهن القاهر والفضل الباهر، عن هذا الكتاب وعن أمثاله، ولكنّ مهامّه الشّريفة ربّما أضجرته وأنسته، فإذا روّح فكره الشريف بالنظر فيه دفع به الملال، وتذكّر به ما أنسته الأشغال.
ومن ألطاف الله تعالى أسأل ألّا يخلي هذا الكتاب من فائدتين، إحداهما تخصّني: وهي أن يقع عنده بموقع الاستصواب، فأبرأ من عهدة الخجل، والأخرى تخصّه: وهي ألا يعدمه الانتفاع به في القول والعمل، إنه ولي كلّ نعمة ومسدي [٤] كلّ عارفة.
_________
[١] أبو نصر العتبيّ: مؤرخ عاش في خراسان له كتاب (اليمنيّ) في تاريخ محمود بن سبكتكين الغزنويّ. توفي/ ١٠٣٦/ م.
[٢] محمود بن سبكتكين الغزنويّ لقبه يمين الدولة هو ثالث ملوك الغزنويين وأشهرهم، كتب سيرته المؤرخ العتبي المذكور آنفا، توفي/ ١٠٣٠/ م.
[٣] المقصود بالدعاء عيسى بن إبراهيم أمير الموصل الّذي قدّم إليه المؤلف ابن طباطبا كتابه «الفخري في الآداب السلطانيّة» عام/ ٧٠١/ هـ.
[٤] أسدى العارفة أو المعروف: قدّم المعروف إلى غيره.
1 / 22
الفصل الأول في الأمور السّلطانيّة والسّياسات الملكيّة
أمّا الكلام على أصل الملك وحقيقته، وانقسامه إلى رياسات دينية ودنيوية، من خلافة وسلطنة، وإمارة وولاية، وما كان من ذلك على وجه الشرع وما لم يكن ومذاهب أصحاب الآراء في الإمامة، فليس هذا الكتاب موضوعا للبحث عنه، وإنّما هو موضوع للسّياسات والآداب التي ينتفع بها في الحوادث الواقعة، والوقائع الحادثة، وفي سياسة الرعيّة وتحصين المملكة، وفي إصلاح الأخلاق والسّيرة.
فأوّل ما يقال: إن الملك الفاضل هو الّذي اجتمعت فيه خصال وعدمت فيه خصال، فأمّا الخصال التي يستحبّ أن توجد فيه: فمنها العقل: وهو أصلها وأفضلها وبه تساس الدّول بالملك، وفي هذا الوصف كفاية.
ومنها العدل: وهو الّذي تستغزر به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرّجال:
ولما فتح السّلطان «هولاكو» [١] بغداد في سنة ستّ وخمسين وستّمائة، أمر أن يستفتي العلماء، أيّهما أفضل، السلطان الكافر العادل، أم السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع العلماء بالمستنصريّة [٢] لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضيّ الدين عليّ بن طاووس [٣] حاضرا هذا المجلس، وكان مقدّما، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر فوضع الناس خطوطهم بعده.
ومنها العلم: وهو ثمرة العقل، وبه يستبصر الملك فيما يأتيه ويذره ويأمن الزلل في قضاياه وأحكامه، وبه يتزيّن الملك في عيون العامّة ويصير به معدودا في خواص الملوك.
_________
[١] هولاكو: فاتح مغولي، حفيد جنكيزخان، قضى على الخلافة العباسيّة في بغداد سنة/ ٦٥٦/ هـ. كسر وأباد جيشه المماليك في عين جالوت سنة/ ٦٥٨/ هـ. مات عام/ ٦٦٣/ هـ.
[٢] المستنصريّة: ضاحية معمورة أنشأها الخليفة المستنصر، واحتلها هولاكو سنة/ ٦٥٦/ هـ.
[٣] عليّ بن طاووس: من فقهاء بغداد في عهد المستعصم العباسي ولم نعثر له على ترجمة وافية
1 / 23
قال بعض الحكماء: الملك إذا كان خلوا من العلم كان كالفيل الهائج، لا يمرّ بشيء إلا خبطه، ليس له زاجر من عقل، ولا رادع من علم.
واعلم أنّه ليس المراد بالعلم في الملوك هو تصوّر المسائل المشكلة، والتبحّر في غوامض العلوم، والإغراق في طلبها، قال معاوية: ما أقبح بالملك أن يبالغ في تحصيل علم من العلوم! وإنّما المراد من العلوم في الملك، هو ألا يكون له أنس بها إلا بحيث يمكنه أن يفاوض أربابها فيها، مفاوضة يندفع بها الحال الحاضر ولا ضرورة في ذلك إلى التدقيق.
كان مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ وزير المستعصم [١]- وهو آخر وزراء الدّولة العبّاسية- يفاوض كلّ من يدخل عليه من العلماء مفاوضة عاقل لبيب محصّل ولم يكن له بالعلوم ملكة، ولا كان مرتاضا بها رياضة طائلة.
كان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، لكثرة مجالسة الأفاضل وخوضه في الأشعار والحكايات، يستنبط المعاني الحسنة على النّكت اللطيفة، مع أنه كان أمّيا لا يكتب ولا يقرأ.
وكان عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النّيسابوريّ [٢]﵁ لمجالسة أهل الفضل، ولكثرة معاشرتهم له، يتنبّه على معان حسنة، ويحلّ الألغاز المشكلة أسرع منهم، ولم يكن له حظّ من علم، وما كان يظهر للناس إلا أنّه رجل فاضل وخفي ذلك حتّى على الصّاحب علاء الدين، فإن ابن الكبّوش الشاعر البصري عمل بيتين في الصاحب ونسبهما إلى عبد العزيز وهما:
عطا ملك عطاؤك ملك مصر ... وبعض عبيد دولتك العزيز
تجازي كلّ ذي ذنب بعفو ... ومثلك من يجازي أو يجيز
(وافر)
_________
[١] هو محمّد بن أحمد بن العلقميّ، لقبه مؤيّد الدّين، وزير أديب أريب فاضل لآخر خلفاء العباسيين المستعصم. وثق به هولاكو بعد قتل الخليفة. توفي بعد شهور من سقوط بغداد عام/ ٦٥٦/ هـ.
[٢] عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النيسابورىّ، والصاحب علاء الدين، وابن الكبّوش ممّن لم تترجم لهم كتب الأعلام ويبدو أنهم من معارف المؤلف والمعاصرين له أو الملازمين لذاكرته.
1 / 24
فأنشدهما عبد العزيز بحضرة الصاحب وادّعاهما، وخفي الأمر على الصّاحب وما أدري من أيّهما أعجب؟! أمن الصّاحب كيف خفي عنه حال عبد العزيز مع أنه السنين الطويلة يعاشره في سفر وحضر، وجدّ وهزل؟ أم من عبد العزيز كيف رضي لنفسه مثل هذه الرّذيلة، وأقدم على مثل هذا مع الصاحب وما خاف من تنبّه الصاحب واسترذاله لفعله.
وتختلف علوم الملوك باختلاف آرائهم، فأمّا ملوك الفرس: فكانت علومهم حكما ووصايا، وآدابا وتواريخ، وهندسة وما أشبه ذلك. وأما علوم ملوك الإسلام فكانت علوم اللسان، كالنّحو واللّغة، والشّعر والتواريخ، حتّى إنّ اللحن كان عندهم من أفحش عيوب الملك، وكانت منزلة الإنسان تعلو عندهم بالحكاية الواحدة وبالبيت الواحد من الشّعر، بل باللفظة الواحدة من اللغة. وأما في الدولة المغوليّة:
فرفضت تلك العلوم كلّها، ونفقت فيها علوم أخر: وهي علم السياقة والحساب لضبط المملكة وحصر الدّخل والخرج، والطّب لحفظ الأبدان والأمزجة، والنجوم لاختيار الأوقات وما عدا ذلك من العلوم والآداب فكاسد عندهم، وما رأيته نافقا إلا بالموصل في أيام ملكها المشار إليه، مدّ الله ظلّه ونشر فضله.
ومنها الخوف من الله تعالى، وهذه الخصلة هي أصل كلّ بركة، فإن الملك متى خاف الله أمنه عباد الله روي أن عليّا أمير المؤمنين- ﵇ استدعى بصوته بعض عبيده فلم يجبه، فدعاه مرارا فلم يجبه، فدخل عليه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين إنّه بالباب واقف، وهو يسمع صوتك ولا يكلّمك! فلمّا حضر العبد عنده، قال: أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما منعك من إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك، قال عليّ ﵇: الحمد للَّه الّذي خلقني ممّن يأمنه خلقه. وما أحسن قول أبي نواس [١] لهارون الرشيد:
_________
[١] أبو نواس: الحسن بن هانئ الشاعر العبّاسي الأشهر ونديم الخليفة الرشيد. توفّي عام/ ١٩٥/ هـ.
1 / 25